الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس
أجمع أهل العلم على أن من جمع في وقوفه بعرفة بين الليل والنهار ، وكان الجزء الذي وقفه في النهار بعد الزوال فوقوفه تام، واختلفوا في وجوب الجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة، وهل يجب على الواقف بعرفة أن يقف إلى غروب الشمس، أم يجوز له الدفع من عرفة قبل الغروب، وحاصل الخلاف في المسألة على النحو التالي:
القول الأول: أن ركن الوقوف بعرفة يحصل بالوقوف ليلاً، وهذا هو مذهب المالكية، فعلى هذا لو وقف بعرفة نهاراً ثم دفع منه قبل الغروب فلا حج له، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية1، قال ابن عبد البر: "ولا نعلم أحداً من فقهاء الأمصار قال بقول مالك إن من دفع قبل الغروب فلا حج له، وهو قد وقف بعد الزوال وبعد الصلاة، ولا روينا عن أحد من السلف والله أعلم، وقال سائر العلماء: كل من وقف بعرفة بعد الزوال، أو في ليلة النحر؛ فقد أدرك الحج"
2.
القول الثاني: أن الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس واجب لو تركه لزمه دم وهذا هو مذهب الأحناف3، ومذهب الحنابلة
4، واستدلوا بحديث جابر رضي الله عنه في صفة حجَّة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: "فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص" رواه مسلم (2137)، وقوله: ((لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)) رواه مسلم (1297).
"ولأنه لم يَرِدْ أن النبي صلى الله عليه وسلم رخَّص لأحد بالانصراف من عرفة قبل غروب الشمس، وقد ثبت أنه رخَّص للضعفة بالانصراف من مزدلفة في آخر ليلة النحر قبل انصرافه صلى الله عليه وسلم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف إلى الغروب، والفعل إذا خرج منه مخرج الامتثال والتفسير كان حكمه حكم الأمر5، وكذلك استدلوا "أن الدفع قبل الغروب فيه موافقة لهدي المشركين؛ لأن المشركين يدفعون من عرفة إذا صارت الشمس على الجبال كالعمائم على رؤوس الرجال أي: إذا قاربت الغروب مشوا"
6.
وأما لزوم الدم فلقول ابن عباس رضي الله عنهما: "من ترك نسكاً فعليه دم"7، وهو اختيار الشيخ ابن باز رحمه الله حيث قال: "من وقف بعد الزوال أجزأه، فإن انصرف قبل المغرب فعليه دم إن لم يعد إلى عرفة ليلاً أعني ليلة النحر"8، وقال أيضاً: "ومن وقف نهاراً وانصرف قبل الغروب فقد ترك واجباً فعليه دم عند جمهور أهل العلم"9، وهو ترجيح الشيخ ابن عثيمين رحمه الله أن عليه دم لأنه ترك واجباً.
10
القول الثالث: أنه سنَّة، فلو تركه لم يلزمه دم على الصحيح، وهذا مذهب الشافعية11، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم لعروة بن مضرس وكان قد وقف بعرفة ليلاً: ((من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع؛ وقد وقف بعرفة قبل ليلاً أو نهاراً؛ فقد أتم حجه، وقضى تفثه))12 قال الماوردي: "ولم يأمره بدم فدل أنه ليس بواجب؛ ولأن الليل والنهار وقت لإدراك الوقوف بعرفة، ثم ثبت أنه لو وقف بها ليلاً دون النهار لم يلزمه دم، كذلك إذا وقف بها نهاراً دون الليل لم يلزمه دم"
13.
مسألة: لو دفع قبل الغروب ثم عاد نهاراً فوقف حتى غربت الشمس فهل عليه دم؟
اختلف العلماء فيها على قولين:
القول الأول: أنه لا دم عليه وهو مذهب الحنابلة14 وقول مالك، والشافعية15، والأحناف16 "وذلك لأنه أتى بالواجب وهو الجمع بين الوقوف في الليل والنهار، فلم يجب عليه دم، كمن تجاوز الميقات غير محرم ثم رجع فأحرم منه؛ فإن لم يعد حتى غربت الشمس فعليه دم، لأن عليه الوقوف حال الغروب، وقد فاته بخروجه، فأشبه من تجاوز الميقات غير محرم فأحرم دونه، ثم عاد إليه"17 وبه قال سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله
18.
القول الثاني: أن عليه دم وبه قال زفر من الحنفية19، وأبو ثور20 "وذلك لأنه بالدفع لزمه الدم فلم يسقط برجوعه كما لو عاد بعد غروب الشمس"
21.
· مسألة: لو دفع من عرفة نهاراً ثم عاد إليها ليلاً هل يلزمه دم أو لا؟
قال الشيخ ابن باز رحمه الله:"من وقف بعد الزوال أجزأه فإن انصرف قبل المغرب فعليه دم إن لم يعد إلى عرفة ليلاً أعني ليلة النحر."
22
والحمد لله رب العالمين.
1 انظر: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (1/254) لمحمد بن أحمد بن محمد بن رشد القرطبي أبو الوليد، دار الفكر - بيروت.
2 التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد(10/21) لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي ومحمد عبد الكبير البكري، وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية - المغرب (1387).
3 البحر الرائق شرح كنز الدقائق (2/332) لزين الدين ابن نجيم الحنفي، دار المعرفة - بيروت، ط. الثانية.
4 الشرح الكبير (3/435)، والعدة (1/193).
5 مناسك الحج والعمرة (ص303).
6 لقاءات الباب المفتوح (90/6).
7 روي موقوفاً ومرفوعاً، والصحيح وقفه على ابن عباس . البدر المنير (6/91)، والتلخيص الحبير (2/502).
8 الاختيارات العلمية (ص12).
9 مجموع فتاوى ابن باز (16/174).
10 الشرح الممتع (7/300) والمنهج لمريد الحج والعمرة (ص27).
11 المجموع (8/104).
12 رواه الترمذي (891) وصححه الألباني.
13 الحاوي (4/174) دار الكتب العلمية، ط. الأولى (1414هـ-1994م).
14 المغني (3/211).
15 المجموع (8/102).
16 بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (2/127) علاء الدين الكاساني، دار الكتاب العربي (1982) بيروت.
17 المغني (3/211).
18 الاختيارات العلمية في مسائل الحج والعمرة(ص12).لابن باز، دار ابن الأثير- 1425ه
19 بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (2/127).
20 المغني (3/210).
21 المغني (3/210).
22 الاختيارات العلمية في مسائل الحج والعمرة(ص21).