يجدر بالمسلم حين يشعر برقة في قلبه أن يستغل الفرصة في اللجوء إلى الله تعالى، والانطراح بين يديه، علَّه سبحانه أن ينظر إليه فيرحمه، ويستجيب له فيقضي حاجته، وربما كانت تلك فرصته الوحيدة.
ورحلةٌ مثل رحلة الحج هي من جملة تلك الفرص التي يرقُّ فيها القلب، وتزكو فيها النفس، ويصلح فيها القلب، وتكثر فيها أوقات الإجابة.
إنها رحلة إلى بيت الله العتيق، رحلة الافتقار إلى الله، رحلة التوحيد والدعاء والعتق من النار.
كم بتنا نشتكي الذنوب؟ ونبكي الهموم والغموم؟
كم نعاني من الديون؟ والله جل في علاه من فوق سبع سماوات يقول: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ}(سورة النمل:62)، بل يخبر عباده أنه قريب من كل سائل، يتوب على كل تائب، ويجيب من دعاه، ويسمع من ناداه {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (سورة البقرة:186)؛ بل توعد من تكبر عن الخضوع له، واستكبر عن سؤاله ومناداته فقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (سورة غافر:60).
وما من عبد إلا له حاجة عند ربه، فهو في كل حين يرجو أن يستجيب دُعاءه، ويقضي مراده، فيتلبس بلباس الذل بين يدي ربه، ويتغطى بشعار الخضوع بين يدي خالقه، يشكو إليه همه، ويستغفره من ذنبه، وكله افتقار إلى مولاه الذي أمر عباده بالدعاء كي يصلح أحواله، وتزكو نفسه، وكأن لسان حاله يقول: إلهي
أزل عني الهموم وكل غـم وفرِّج كربة القلب الشجـي
ويسِّر ما تعسَّر من أمـوري وثبتني على الديـن السـوي
وسهِّل كل صعب لي وحقق مرادي في الصباح وفي العشي
وثبتني على التقـوى جهاراً وسراً طول عمري يا ولـيي
ورحلة الحج من أولها إلى آخرها فرصة للدعاء والابتهال إلى الله تعالى؛ إذ يجتمع للحاج من دواعي الإجابة ما لا يجتمع في غيرها من شرف الزمان والمكان، وحال الداعي وتلبسه بتلك الشعيرة العظيمة، مع كثرة المواضع التي يُشرع فيها الدعاء، وتُرجى فيها الإجابة: كالطواف، والسعي، والوقوف بعرفة، وعند المشعر الحرام، وبعد رمي الجمرة الصغرى، وبعد رمي الجمرة الوسطى؛ وكلها مواضع دعاء، ومظان إجابة.
ثم أن الحاج مسافر، والمسافر مستجاب الدعوة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث دعوات مستجابات: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده))[1]، بل خصَّ الحاج باستجابة الدعاء كما في الحديث: ((الغازي في سبيل الله، والحاج والمعتمر؛ وفد الله دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم))[2]..
إن الحاج عندما يرى نفسه قد ترك أهله وماله، وفارق الناس راحلاً إلى ربه سبحانه؛ لا يملك إلا أن يزداد قرباً من الله تعالى، وافتقاراً إليه، فيدعو ربه كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم، يدعوه عند الصفا والمروة، ويدعوه في موقف الحج الأكبر يوم عرفة حين يباهي الله بعباده ملائكته كما جاء في الحديث: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء)) رواه مسلم (2402).
فيدنو به الجبـار جل جلاله يباهي بهم أملاكه فهو أكرم
يقول عبادي قد أتوني محبـة وإني بهم بـرٌ أجود وأرحم
وأشهدكم أني غفرت ذنوبهم وأعطيتهم ما أمَّلـوه وأُنعم
فبشراكم يا أهل ذا الموقف الذي به يغفـر الله الذنوب ويرحمُ
ويستمر الدعاء عند المشعر الحرام في مزدلفة، وبعد رمي الجمرة الصغرى، والوسطى، وعند ماء زمزم، وغيرها من أوقات الإجابة الدائمة التي يعيشها الحاج كأوقات السحر، وبين الأذان والإقامة.
إنها حياة قلب يمنُّ الله بها على من يشاء من عباده، حياة كلها خشوع ودعاء، وخضوع وبكاء، والله يقبل توبة التائبين، ويسمع أنين المستغفرين، ويكشف كرب المكروبين، ويرفع البلاء عن المبتلين؛ ولا يضيع أجر المحسنين
إلهي لئن جلّـــت وجمّت خطيئتي فعفّوك عـن ذنّبي أجلّ وأوسعُ
إلهي ترى حـــالي وفقري وفاقتي وأنت منــاجاتي الخفّية تسّمعُ
إلهي أجــــرني من عذابك إنّني أسيـر ذليل خائف لك أخضعُ
إلهي ذنوبي جـازت الطـوُد واعتلت وصفحك عن ذنبي أجلُ وأوسعُ
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، والحمد لله رب العالمين.
[1] رواه الترمذي (3370)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (3/156).
[2] رواه ابن ماجه (2884)، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (2/149).