حدد الله عز وجل حين خلق الثقلين أنه خلقهم لغاية عظيمة، وهدف سامٍ فقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (سورة الذاريات:56)، وكيف لا تمتثل هاتين الفئتين ما في الآية الكريمة، وذلك الهدف النبيل؛ وكل ما في الكون ممتثل لهما {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} (سورة الإسراء:44).
فالعبادة تجعل العبد على دوام صلة بربه تبارك وتعالى، وتحقق في النفس البشرية التقوى على مدار اليوم، وفي مواسم الخير التي تمر على العبد، فهذه الصلاة مثلاً هي صلة المخلوق بالخالق، والزكاة نماء وبركة، والصوم مطهرة للعبد من الذنوب والآثام، والحج إتمام الفرائض التي افترضها الله عز وجل.
إلا أن للحج ميزة خاصة، ولون مختلف، فحين يصل المرء إلى البلد الحرام يشعر بمشاعر الحب، والشوق، والانجذاب إلى هذا البلد، بل يشعر بسعادة لا تضاهيها سعادة حين يصل إلى حرم الله الذي فيه الكعبة المشرفة، والحجر الأسود، ومقام إبراهيم، وبئر زمزم، والمسعى ...إلخ، وفوق هذا كله يرى أصنافاً من الناس أتت إلى هذا البيت ملبية مستجيبة، يعلوها الخشوع، نفوسهم هائمة، وقلوبهم مشتاقة، وعيونهم فائضة من الدمع؛ حباً لله، واشتياقاً للقرب منه في بلده الحرام، وجوار البيت العتيق الذي شرَّفه الله عز وجل، وأعلى قدره، وجعله مهوى قلوب وأفئدة المسلمين أجمعين، ومنع كل من تسول نفسه من أن يمسه بسوء، فقال تعالى يضرب لنا مثالاً على ذلك: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} (سورة الفيل)، وأرشد إلى أن هذا البيت معمور بطيِّب فلا يخالطه غث الأموال المشبوهة، ولذا فإن قريش حين اجتمعت لبنيان الكعبة، وإعادة بنائها بعد أن تهدمت جدرانها، واحتاجت للترميم؛ "قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم فتناول من الكعبة حجراً؛ فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش: لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيباً، لا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس"
[1].
وهذا الحفظ من المولى تبارك وتعالى، مع الأمر بالتوجه إليه عند العبادة؛ يجعل حياة المسلم كلها موصولة بهذا البيت، فهو على مدار يومه وليلته متوجه إليه، ليعني فيما يعني ذلك أن يتخلَّص العبد من كل ما هو معبود من دون الله عز وجل، ومن كل المغريات المادية والمعنوية، وينطلق إلى أداء الرسالة التي بُنِيَ عليها البيت من أول يوم وضع للناس.
وهنا في رحاب البيت الحرام، وعلى مقربة منه؛ تنزل الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم، بآيات بينات: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (سورة العلق:1)؛ فيعود المرء بمخيلته إلى تلك اللحظة التي سطع فيها هذا النور، فيدرك أن الإسلام كان المرحلة الفاصلة بين العلم والجهل، وبين الضلال والضياع، وبين الإيمان واليقين، ويدرك أيضاً أن العلم مفتاح هذا الدين، فيعتصر قلبه أسى وحسرة بسبب نسبة الجهل والأمية في عالم المسلمين اليوم؛ إذ هي الأعلى في العالم، ذلك أن أمة اقرأ أصبحت اليوم لا تقرأ.
وإذا نظر المسلم إلى الكعبة التي جُعلت مثابة للناس وأمناً؛ لمح فيها تاريخ النبوة، وأدرك من خلالها الآيات البينات، وأبصر السيرة الشريفة، وكيف أن هذا البيت الذي بني على التوحيد؛ ترجمت النبوة الخاتمة فيه معاني التوحيد إلى واقع الناس، وأعلنت وحدتهم العملية، ويتراءى له بلال رضي الله عنه يصعد الكعبة بساقيه السوداوين ليعلن نداء التوحيد والمساواة، وتتعاظم مكانته ليقف عزيزاً على سطح الكعبة، ويصبح سيداً، لأن المبدأ أن الإنسان المؤمن أكرم من كل شيء.
والمسلم في رحلة الحج يهتز كيانه وهو يبكي على ما أسلفه من ذنوب وتفريط في جنب الله؛ وتعلو همته ومعنوياته ويعظم رجاؤه، وهو يتنقل بين المشاعر ، ويقف عند الملتزم باكياً راجياً، يرجو موعود ربه الذي بلغه نبيه ((من حج لله فلم يرفث ولم يفسق؛ رجع كيوم ولدته أمه)) رواه البخاري (1449).
في رحاب البيت الحرام ينظر ويتأمل، نظر عبادة وتفكّر؛ فيجول في خياله وذاكرته ذلك المشهد العجيب وكأنه يسمع قول قريش وهي حول الكعبة، جاء الأمين ، جاء الأمين . فيتذكر حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء إعادة بناء الكعبة، ووضع الحجر، وكذا يتذكر حكمته في الدعوة، وأخذ الناس بأحكام الإسلام شيئاً فشيئاً، ويستمع إلى حديثه العظيم في قولته لعائشة: ((لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لهدمت البيت، وأقمته على قواعد إبراهيم)) المستدرك (1764)، فيدرك كيف استطاع أن يتدثر بالحكمة في كل شأنه لأنه يعلم أن تغيير النفوس لا يكون بتحطيم الرؤوس، ولقد كان صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن، ويطوف البيت الحرام؛ والأصنام تملأ ساحاته لم يمسها بأذى، حتى انتهى الأمر بها إلى أن كسّرها عبّادها بأيديهم بعد أن آمنوا.
ويتأمل المسلم في الكعبة تأمل عبادة فيستثير في نفسه الكثير والكثير من المعاني الغائبة، ويتذكر ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم من الصبر والمصابرة، وما كان عليه المسلمون من الاستعجال، والرغبة في النصر السريع، والضيق بالمعاناة الشديدة، وكيف أنهم لم يدركوا تماماً أن مع العسر يسراً، وأن العسر والشدة هي مقدمات النصر.
فعند هذا المكان كان الرسول صلى الله عليه وسلم متوسداً بردته في ظلها، فجاءه المسلمون يقولون: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: ((قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)) رواه البخاري (6544) . فيتعلم المسلم من رحلة الحج فن الصبر، ويدرك أبعاده وآماده، وأعماله المطلوبة، ويدرك خطورة الاستعجال، وخطورة التحول من تغيير النفوس إلى محاولة الإطاحة بالخصوم.
يدرك المسلم في جنبات هذا البيت كيف أن البعض من الصحابة رضي الله عنهم سمعوا آيات الله تتلى وهم أهل الفصاحة والبيان، ومع ذلك لم يؤمنوا لسنوات من السماع طويلة، ثم ما لبثوا أن آمنوا، وكانوا عدة الإسلام، ورجاله العظام؛ فيعيد حساباته من جديد، ويدرك أن عملية التربية والتحويل الثقافي، وتغيير النفوس هي من الصناعات الثقيلة التي تقتضي الكثير من الصبر، والاحتساب، والمصابرة؛ حتى تنضج الثمار، وأي استنهاض للنبتة قبل أوانها يعني قطعها والقضاء عليها، فيتعلم من الحج فن الصبر، والاحتمال في سبيل الله، وأن لكل أجل كتاب
[2].
وفي رحاب البيت العتيق يصبح كل من فيه على مضمار سباق إلى الله عز وجل، الجميع يريد الوصول إلى الله، والجميع يرجو ربه تبارك وتعالى في دوحة الخير، وشجرة البركة، ومنزل المنح الربانية، إنها مشاهد جليلة، وحكم ربانية، وأسرار إلهية جعلها الله عز وجل لهذا المكان المبارك.
إنها أيام ممتعة، وأوقات مباركة، ومغفرة من الله عز وجل.
نسأل الله عز وجل أن يهدينا سواء السبيل إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
[1] تهذيب سيرة ابن هشام (1/52).
[2] بتصرف من كتاب في رحاب الحرم ، عمر عبيد حسنة .