البارقة الأولى: مع استعدادك للسفر أَضْرِمْ نارَ الشوق في القلب، واصْطَنِعِ القلق والوجل والخوف اصطناعا من سبق الأجل قبل بدء العمل. ويحصل ذلك بمعرفة ثواب العمرة والحج والصلاة في الحرمين والطاعة فيهما، واستحضار احتمال حلول الأجل، وفوات الأجر أصلا، ويُنَمَّى هذا الشوق باستحضار أذان الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام وترديد التلبية في القلب، ويستمر هذا الشوق بدوام الذكر الآتي: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [سورة طه: 84]، وليكن هذا شعارك في هذه العمرة . البارقة الثانية: وأنت تستعد بالزاد والراحلة، أَعِدَّ زاد الإيمان واليقين والاحتسـاب، وراحلة العمل والإخلاص، ومَطِيَّةَ الصدق والانقياد إلى مَحَطِّ القبول. ولا تغفل عن زاد الروح وراحلتها، وهما: الذكر وقصر الأمل، فالروح لا تقوى إلا بالذكر، ولا تسير إلى بقصر الأمل، فمع قلة الذكر تضعف، ومع طول الأمل تكسل وتتوانى عن السير. البارقة الثالثة: رَطِّبْ قلبك بنية جليلة يهتز لها كيانك، وتضطرب لها أوصالك، وتظل مع هذه النية مشفقا قلقا آملا متحفزا، وأقترح عليك النية الآتية: أن تنوى العمرة تطهيرا للنفس من السخائم، وتبيضا للصحيفة من السيئات استعدادا للقاء الله وحلول الأجل بعد آخر خطوة تخطوها في طواف الوداع. ويتحقق ذلك بتقصير الأمل، وتوديع الأهل والأصحاب مع قطع تعلق القلب بالعودة. البارقة الرابعة: وأنت تسير في طريق السفر عبر البحر أو البر أو الجو وفي كل وسيلة سير وسفر، فاستحضر طريق الآخرة والجنة، وسبيل النجاة يوم الدين وأن كل خطوة تخطوها في أداء الحج والعمرة رمز لخطوات حياتك في طريق الآخرة، وكذلك نداء إبراهيـم، وتلبية هذا النداء، فكل خطوة تخطوها في تلبية النداء هي رمز لخطوك المتوثب استجابة لأوامر ربك ورسوله صلى الله عليه وسلم، وفي كل خطوة تخطوها اغتنم مضاعفة الأجر بدوام التذكر والاتعاظ. ويحصل كل ذلك بأن تحافظ على الوضوء، وبمصاحبة الصالحين ورؤية أفعالهم، وبِغَضِّ البصر عن كل زينة الدنيا حتى ما كان منها مباحا، والمعنى: أن تتخلى عن كل فضـول، من بصر أو طعام أو مخالطة أو نوم أو كلام. البارقة الخامسة: عند الإحرام من الميقات استحضر الكفن والتجهز للقاء الله، والموت والحساب، وعند التلبية استحضر احتمال عدم الإجابة، وإمكانية الرد وعدم القبول، وأن لحظة الإحرام من أهم الأوقات، لأنها البداية، وفساد النهاية من فساد البداية، فَتَحَرَّ الإخلاص بأقصى ما تستطيع من جهد، ونَقِّ القلب من أيِّ مُرَادٍ سوى الله. وقد كان من السلف رحمهم الله من يخشى لحظة الإحرام والبدء فيها، وروي عن بعضهم أنه عند إحرامه تلعثم وتقهقر، فسئل عن ذلك فقال: "أخشى إن قلت لبيك؛ أن يقال: لا لبيك ولا سعديك". واستحضر وأنت تحرم من الميقات أن الله عز وجل قد حد حدودا وشرع شرائع وأمر الناس بالتزامها، ووقوفك في الميقات للإحرام منه مظهر من مظاهر بيعتك السرمدية لأحكم الحاكمين أن تخضع لشرعه وتلزم حدوده وتحترم جناب ما أمر فتأتيه، وما نهى عنه فتجتنبه. والميقات فاصل مكاني بين الأرض التي تكون فيها حلالا غير متلبس بنسك، وبين الأرض التي تصير بعدها حراما متلبسا بالنسك والعبادة، فلتذكر في ذلك المكان الميقات الكوني الذي نعيشه وهي الدنيا وما فيها من نصب وتعب ومحرمات ومحظورات وحدود، وأنها معبر ومزدلف لميقات الحل الذي أحل الله فيه لعباده الطائعين ما قد حرم عليهم في دار الفناء، وأباح لهم من صنوف اللذات ما كان ممنوعا محظورا. واجهد في التلبية بعد الإحرام مع التعمق في معانيها العظيمة، وأعظم معنى تستحضره هو استجابة النداء الإلهي، وأن هذه التلبية هي رمز استجابتك الكاملة، وصورة لمادة الإسلام الذي هو الاستسلام لكل ما أتى به الشرع المطهر. وعند رؤية مكة تجهز لرؤية الكعبة، وعند رؤيتها... احسب نفسك في مقام الله وأمام حضرته وفي بيته المبجل المقدس، وأنك تستأذنه في الدخول، فذلك هو مهوى أفئدة اصطفاها الله من الناس إلى لحج هذا البيت المعمور. وعند رؤية البيت المطهر والكعبة المشرفة استجلب لقلبك معاني الحب ولقاء الحبيب، وحصول الشرف ببلوغ الأَرَب، وحصول المنى بنوال رؤية بيت الله والتشرف بالوقوف فيه وحصول المكانة السامية بالكون في رحابه. ولك أن تستحضر يوم القيامة وهوله، ومجيء الرب تبارك وتعالى مجيئا يليق بجلاله وعظمته والعرش يحمله فوقهم يومئذ ثمانية من الملائكة العظام، فتأمل ذلك المشهد الذي أنت فيه، وتذكر كيف سيكون حالك في ذاك المقام الهائل، وهل ستكون من أصحاب المنابر الرفيعة أم ستكون من المحشورين مع الطغام وهوام المخلوقات الدنيئة. البارقة السادسة: عند الطواف والسعي اعتصر في قلبك كل معاني الخوف والاحترام والتبجيل لأنك في الحضرة القدسية، والله ينظر إليك، وقلبك مرأي، وعملك مشهود، سعيك معدود، وطوافك مرقوب، ففي كل خطوة اجعل لك فيها ذكرى، فقصّر الخطو، تغنم بمزيد الأجر، واجعل كل رفعة قدم ووضعة ذات معنى ودلالة. وأنت تترحل في تلك الأماكن وتنتقل استحضر أنها حوت أحداثا في التاريخ كان أبطالها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، فعلى الصفا رقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلن أنه النذير بين يدي عذاب شديد، وبجانب هذه الكعبة دارت أحداث الدعوة الأولى بمراحلها المختلفة (السرية والجهرية) وصراع الحق مع الباطل. واستحضر هذا المعنى في كل مكان حللت من البقاع المقدسة كالمدينة. وعند استلامك الحجر الأسود أو تقبيلك له أو إشارتك إليه أو إشارتك ثم تقبيل يدك (كل ذلك ورد) استحضر بيعتك الجازمة لله حين شهدت شهادة التوحيد، وعقدت عزم الإفراد له والتمجيد، وأن هذا التقبيل والاستلام للحجر بمثابة الطاعة الخالصة إذ تعظم حجرا لا يضر ولا ينفع ولكن لأجل أمر الله لك امتثلت دون أن تجعل لعقلك في أمر الله سلطانا وفهما، فأوامر الله تعالى تُتلقى بكل التسليم والانقياد والإذعان، وهذا هو شأن البيعة بالطاعة التي تستحضرها وأنت تستلم أو تقبل الحجر الأسود. ومن أنفع ما يستحضر في هذا المقام أن تعتبر نفسك مردود العمل، وأن الخلق قد قبلوا دونك، وأن كل من يطوفون حولك قد بلغوا كمال الفعل دونك، وأنك قد تكون شؤما عليهم فتكون سببا في رد أعمالهم وطاعاتهم. وينفع أيضا في هذا المقام استحضار صورة البيت المعمور ومن يدخله ويطوف حوله من الملائكة حتى يوم القيامة، وأن الطواف الأرضي للبشر نموذج مصغر لطواف المخلوقات حول القيومية الإلهية وافتقارها إلى المدد الرباني. وفي الأذكار والأدعية، يفضل الإكثار من الدعاء، وقد أجاز العلماء قراءة القرآن والذكر المطلق، وعندي أن أفضل ما يفعل هو الدعاء والتضرع ، لأن الثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بين الركنين قائلا : ربنا آتنا في الدنيا … ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما عدا ذلك شيء فدل على أن الدعاء مرغوب ومتأكد ويؤيد هذا الترجيح قوله صلى الله عليه وسلم: الدعاء هو العبادة . فاجتهد أخي الحبيب في الدعاء والضراعة والتذلل، وأكثر من طواف النفل، واستحضر أنك طائف حول العرش ترجو الرحمة، وترجو نوال الرضا والقبول، واستحضر احتفاف الملائكة حول العرش يوم القيامة والخلق أجمعون حوله سكوت، ومشهد الطواف لا شك قريب منه. وما أروع المشهد لو أبصرته بعين الإيمان، وأصخ سمعك لهذا الهدير الذي لن تخطئه أذنك وأنت تطوف بالبيت، والمقبول من الناس قد يسمع هذا الهدير كأنه ترنيمة تقديس تنطق بها كل الكائنات، فتفكر كيف لو أتيح لك أن تسمع على الحقيقة تسبيح كل المخلوقات لله، قال تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [سورة الإسراء: 44]. البارقة السابعة: عند شرب زمزم اجتهد في تحصيل النيات، وتضلع منها كما السنة، وأهدي إليك هذه النية: اللهم إني أشرب ماء زمزم لتغسل عن قلبي كل ران، وتزيل عن فهمي كل حجاب يحول دون فهم مرادك ومراد رسولك صلى الله عليه وسلم في القرآن والسـنة. اللهم قو حفظي، وسدد فهمي، وارزقني الإصابة في اجتهادي، وأعل همتي وأمض عزمي، وسهل علي العبادة وحببها إلى قلبي يا أرحم الراحمين. البارقة الثامنة: إذا رقيت الصفا فتذكر رقي الرسول صلى الله عليه وسلم وقل: نبدأ بما بدأ الله به، مستحضرا الالتزام التام بما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، واستحضر رقي هاجر وسعيها بين الصفا والمروة وسعيها في البحث عن الماء لابنها إسماعيل عليه السلام، وأثناء طوافك بين الصفا والمروة تذكر أن سعيك بين الجبلين شبيه بسعي الإنسان في أمري الدنيا والآخرة، أو أنه شبيه بترداده بين الجنة التي أخرج منها والتي يرغب أن يعود إليها، فالموفق للجنة من أتم سعيه على التمام فبدأ بالصفا وانتهى إلى المرة في سبعة أشواط كأنها مراحل عمره، ما بين رضاع في المهد وطفولة في متقلبة بين حر وبرد وفتوة في جهالة وعِند وشباب في جهد وكهولة في سُهد وشيخوخة في سرد وجرد وجيفة في لحد، ثم إلى جنة أو إلى نار، ونسأل الله حسن الختام وجمال المآل. البارقة التاسعة: عند الحلق أو التقصير استحضر الذلة والانكسار بين يدي الله، وياله من موقف لو كان لصاحبه قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، أعني موقف الحلق والتقصير، إن بكل شعرة تخرج لابد أن تعقد لله عهدا وولاء بالعبودية والانقياد، وأنك طأطأت الرأس لتحلق شعرك معلنا أنك راض بفعل كل شيء يرضي المليك، وأنك أسلمت الناصية لمن بيده أمرها، والله الموفق والمعين. البارقة العاشرة: فإذا أفضت محرما بالحج في يوم التروية فاستحضر معنى الاستزادة بالماء لسفر الآخرة، فقد كان العرب يملئون مزاداتهم في ذلك اليوم ويرتون ليوم عرفات إذ لم يكن فيها يومئذ ماء، فاعترف بعطشك لزاد التقوى، وحاجتك لري الإيمان، وأنك ساع في رحلة طويلة وسفر مديد، وزادك لا شك قليل فادخر ليوم العطش في مزادة إيمانك ما استطعت من ماء التقوى ذلك خير. فإن أفضت إلى عرفات فاستحضر يوم العرفان الأكبر، وهو يوم القيامة حيث يعرف الناس وجوه بعض ولكن لا يملك بعضهم لبعض نفعا ولا ضرا، ذلك اليوم الذي: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [سورة عبس: 34-37]. ووقوفك في عرفات امتثال لنسك النبي صلى الله عليه وسلم ولنسك إبراهيم الخليل، فتشعر وأنت تؤدي المناسك أنك مديد الصلة بجذور التاريخ، وأنك لست مقطوع النسب في مشاعرك وعبادتك، فأداؤك للنسك الحنيفي الإبراهيمي ثم الإسلامي المحمدي إعلان بأن المسلمين هم أولى الناس بإبراهيم، ونحن أحق بميراث النبوة العظمى، التي حازها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم دون سائر الأنبياء، ثم حازها المؤمنون به من دون سائر المؤمنين بالأنبياء الآخرين. وفي موقف عرفات يجب أن تستحضر التجلي الإلهي، وافتخار الله بعباده الذين أتوه شعثا غبرا، ومباهاته تعالى بهم أمام الملائكة، فاحرص أن تكون على الهيئة المذكورة في الحديث، وقلل من الترفه في هذا اليوم الأغر، والهج بالذكر والتمجيد والتعظيم والتكبير حتى تستأهل أن تكون ممن يفتخر بهم الله، وأن تكون من الذين يشهد الله ملائكته أنه غفر لهم. ويا لها من لحظات عامرة تلك التي يرى فيها الإنسان جحافل البشر كل يلهج بدعائه على اختلاف حاجاتهم وتباين لغاتهم ولهجاتهم، فيالها من عظمة ربانية أن يسمع الله كل هذه الأصوات ويلبي كل الدعوات، ومن تأمل في هذا الجمع حق التأمل حصل له اليقين في ربوبية الله تعالى وقيوميته، وعاين اضطرار الخلق إليه وحاجتهم لمعونته ومدده. فإذا جاء وقت الإفاضة من عرفات فاستحضر ساعة الفراق بعد وقت التعريف، وأن هذا الفراق لا تدري هل سيكون إلى لقاء جديد أم إلى فراق أبدي وتيه سرمدي، وتعمق في فهم مقصود الإفاضة من عرفات إلى مزدلفة، وأنها مراحل في أداء المشاعر قريبة من مراحل خطوك إلى الله تعالى، ففي يوم التروية تزودت من زاد الإيمان والتقوى، وفي عرفات تعرفت على الله وعظمته، وفي مزدلفة سيحصل لك القرب والدنو من الحضرة القدسية، وفي منى ستنال المنى إن شاء الله تعالى وتمجد وتقدس. وأهدي إليك أخي الحبيب ما قاله الفضيل بن عياض وهو يفيض من عرفات، فقد رووا أنه في يوم عرفة ظل ساكتا واجما لا يتكلم، فما دنا وقت الإفاضة من عرفات وهرع الناس إلى رواحلهم يعدونها، ومضوا، صاح الفضيل: "واسَوْءَتَاهُ وَإِنْ عَفَوْت". فاجعلها الكلمة التي تسار بها ربك، وتدلي إليه بعظيم خجلك وحيائك منه ومن كثرة ذنوبك وإن عفى وصفح. والبصير بعيب نفسه والمعترف بذنبه وتقصيره مقر لا محالة بالخوف من الرد والإعراض، أو مستحي ولا بد من قبح ما قارفت جوارحه وعملت أركانه. فإذا وصلت إلى مزدلفة فاستحضر في هذا المنزل القصير قصير عمرك في الدنيا، وقصر أملك في البقاء فيها، واجعل رحلتك للآخرة شبيها بمنزلك في مزدلفة وبيتوتك في هذا المنزل شبيه ببيتوتة الجاد في سيره، وهذا حال الدنيا كما مثلها النبي صلى الله عليه وسلم أنها كشجرة قال في ظلها مسافر ثم راح وتركها. فإذا جئت المشعر الحرام فقدس هذا المكان الذي عظمه الله، واجتهد فيه من أصناف العبادة وخاصة التكبير والضراعة، حتى تسفر، وعند الإسفار لا بد أن يكون قد أسفر في قلبك نور التوبة والإيمان بعد ظلمة المعصية كما أسفر نور الشمس على الأرض بعد ظلام الليل. فإذا أفضت من مزدلفة إلى منى فاعلم أنك على مقربة من تحصيل أمانيك والفوز بما يفرحك ويرضيك، فحسن ظنك بالله واجتهد في الضراعة والوسيلة، ومنِّ القلب بالفوز الربيح والعمل النجيح. فإذا وصلت إلى منى وهممت برمي الجمار فاستحضر أنك ترمي مع الجمار خصال شرك، وبقايا كدرك، معلنا طهارة بدنك وقلبك، وبراءتك من الشيطان وحزبه وعمله ووسواسه وهمزه ونفخه ونفثه. وعند الحلق أو التقصير استحضر ما ذكرناه لك عند حلق العمرة. وعند ذبح هديك أخلص قصد قلبك وتوجهك بهذا الذبح إلى خالق النَّعم وباريها، وأن دماءها ولحومها ليست مقصودة لله، بل ما في قلبك من الصدق والإخلاص والتجرد. أما بيتوتك في منى مع رمي الجمار فيها فاستحضر فيها انتظارك على باب الفرج وحصولك على خبر الفوز والقبول، ورميك للجمار في كل يوم من أيام منى بمثابة إصرارك على هجر الرجز وإقصاء الفجور من نظام عيشك ورمي أركان الهوى في جوانحك بجمرات العزم والهمة العالية. البارقة الحادية عشرة: في طواف الوداع، وما أدراك ما طواف الوداع، اشحن كل قواك لتوديع بيت الله، فإنها لحظة الحسم والحزم، وبها تعرف أمارات القبول، حيث تبدو لك بوجه من الوجوه، وستعرفها في حينها، فأجهد قلبك أيها الحبيب في تنسم عبير الأنس، وتلمس بوارق الأمل والقبول بين تلك البقاع، فقد تبدو في فتوح من المعارف واسعة، أو دمعات وعبرات غزيرة متوالية، أو في نداء تسمعه من ورائك يلقيه بشر، ولكن الموفِّق في خروجِ الكلامِ رَبُّهُ فَافْهَمْ، وقد تجد ذلك في أمارات أخرى: فكن على وجل وادأب إلى أجل واعزل عن الله سوء الظن والتهم. البارقة الثانية عشرة: جاهد النفس في عدم الاهتمام بأي شيء غير ما توجهت إليه، واترك ما لا يعنيك، فأدم الذكر تغنم، ولا تَشْكُ مِنْ أيِّ شيء، من بُطْأ راحلة أو قلة طعام، أو ازدحام الناس أو قلة أدب الحجيج أو أي شيء من هذا القبيل، واجتهد في المحاسبة للنفس، وأرجى ما يستعمل في هذه الآونة: ورد المحاسبة، وأنت وطاقتك، وهناك طريقة كان يفعلها بعض السلف حيث كان له كيس أو إناء، وكان اليوم الذي يصفو له من ذنب أو رياء أو لغو أو نقص يضع في الكيس حبة. فكان يرغب من وراء ذلك أن يُرِيَ نفسَه أنَّ أيام الدنيا التي تصفو لنا في العمل والطاعة قليلة لا يمكن أن نلقى الله تعالى بها. فهب أن أيام سفرك خمسة عشر يوما فجهز لنفسك خمس عشرة نواة، فما صفا لك من يوم فاصحب له نواة وضعها في كيس أو إناء، وما قارفت فيه ممن ذنب أو نقص أو أي شيء لا تطيب نفسك له في هذا الزمان والمكان حتى ولو كان نية وقصدا فنح نواة هذا اليوم واعلم أنك قد ضيعته، فاستأنف العمل والاجتهاد والاستغفار لعل الله أن يتدارك. وألزم قلبك خوف عدم القبول، وإذا رجعت الديار، فاجهد أخي ألا تتحدث كثيرا عن نسكك الذي أديت واستحضر قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام: 162]، وحاسب نفسك حسابا عسيرا على ما أتيت فيها. فإذا حططت رحالك في الديار ولاقيت الأهل والأحباب والأصدقاء والأصحاب فلا تطفيء شعلة الشوق إلى بيت الله تعالى، وألزم فؤاد هوى تلك البقاع، حتى تدخل فيمن دعا إبراهيم لك حين قال: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [سورة إبراهيم: 37]. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.