مداخلات لغوية مصيدة المشترك اللغوي أبو أوس إبراهيم الشمسان الأصل في استعمال اللغة أن يكون للمعنى لفظ لا يشاركه فيه معنى آخر مختلف عنه كل الاختلاف؛ ولكن اللغة ليست عقلاً بل لها من المنطق ما يخالف المنطق الرياضي فقد تجري استعمالاتها على خلاف الأصول المفترضة لأسباب مختلفة، ومن أمثلة المعنيين يشتركان بلفظ واحد دلالة الفعل (قال) الدال على القول والدال على القيلولة ظهرًا، وأما (الخال) فهو أخ الأم وهو نقطة سوداء في الوجه. وربما استغلت إمكانية الاشتراك اللغوي في الألغاز والطرائف، ومن هذه الألغاز: إنَّ هندُ المليحةُ الحسناءَ وأْيَ مَنْ أضْمرَتْ لخِلّ وفاءا فالسامع يعجب كيف ترفع (إنَّ) الاسم بعدها (هندُ) فإذا عرف اللغز تبين له الاشتراك اللغوي بين (إنَّ) الحرف و(إنَّ) الذي هو فعل أمر مؤكد بنون التوكيد من المصدر (وأي) أي وعد، فالمضارع منه (يئي) والأمر للمخاطبة (إي) والمؤكد بالنون تحذف منه الياء فيكون (إنَّ)، وأما هند فضم للنداء والمليحة رفع متابعة للفظ المنادى والحسناء نصب لأنه نعت للمنادى فنصب رعاية لموقع النصب. ومن الطرائف أن أم كلثوم قالت للسنباطي: إنتَ ليش ما بتلحن لفريد الأطرش؟ فقال: أنا ما بتلاءمش معاه، فقالت: هوّ أنت لازم تتلائم مع كل الناس. والمصريون بعامة ذوو بديهة وخاطرة سريعة وعجيبة فكأنهم مجبولون على الفكاهة وربما يسمون هذا بالأفية أي القافية أي ما يلحق اللفظ من طرفة منتهزة لاذعة أحيانًا. ويقال إن أهل عيون الجواء في القصيم أهل طرفة تعتمد على الاشتراك اللغوي، من ذلك أن أحدهم جلب بعيرًا إلى بريدة فوقف أحدهم عنده وهو لا يريد الشراء بل الثرثرة وصاحب البعير يدرك ذلك، فلما سأله: البعير كم هو عليه؟ (أي كم ثمنه) قال: على أربع. (أي أربع قوائم)، فرد الرجل: أقول لك وشوّ عليه؟، فقال: على الأرض. فغضب الرجل من سخريته وشك أنه من أهل العيون فسأله: أنت عيوني؟ فقال: لا، عيونك في راسك. والتورية باب بلاغي يستغل المشترك اللفظي، ومن ذلك ما قاله شوقي معرضًا بحافظ إبراهيم: وأودعت إنسانًا وكلبًا أمانة فضيعها الإنسان والكلب حافظ وقال حافظ في شوقي: يقولون إن الشوق نار ولوعة فما بال شوقي أصبح اليوم باردا وكنت كتبت في هذه المجلة مداخلة عن (ليت شعري) وكان مما جاء فيها، (والطريف أن يستعمل عنوانًا لكتاب (ليت نثري: كلمات لها قضية تربوية وما أتت من فراغ كتبه: علي محمد العيسى، نشر في (1417هـ/1996م).)، والشاعر له (ليت شعري) وهو ديوان رائع كله حكمة ويمتاز بأن الشاعر يختمه ببيت صدره تفاعيل، فقصيدة (حديث الصمت) ختمها بقوله: مستفعلن مستفعلن مستفعلن بك يا رفيقي حالة مما بي فهل يريد الشاعر أن يقول إن الشعر الذي صار فعله ونفعه متعذرًا مستحيلاً حتى أدخل في الرجاء (ليت شعري) قد فُرّغت ألفاظه من مضموناتها فلم يبق سوى صورة اللحن المتمثل في التفاعيل وحدها. إن الشاعر الفحل الذي يجترح المعاني ويبتكر الدلالات لم يقل مقالة الفرزدق علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا؛ فحين قرأ شاعرنا ما كتبته كان من كرمه أن بحث عن هاتفي وتلطف بالسلام وبدأ بمناقشتي في ما كتبت، وكنت كتبت ما كتبت دون اطلاع على أعماله، وهو تقصير مني لست أدفعه، ثم بين لي أن (ليت شعري) التي أرادها تختلف عن استعمال القدماء وإن شاركتها اللفظ، وعند ذلك أدركت أني وقعت في مصيدة المشترك اللفظي، والحق أن ما أشار إليه كان قد عنّ على خاطري ولكني دافعته مأخوذًا بسَورة التصحيح. شرح الشاعر في بداية ديوانه جملة (ليت شعري)، فبين أن الشعراء ربما بلغت بهم الأزمة مبلغًا يقصر الشعر عن وصفها (قالوا بحرقة وألم واستنجاد: ليت شعري. ليته يسعفني لأقول، وليوصل المراد إلى المتلقي كما أريد بكل معناه ومغزاه ومرماه... ف...ليت شعري، ليت شعري ليته يُجدي ويُثْري ليته يلقى صداه ليته يُغري فيُسْري (ديوان ليت شعري، ص8 - 9) نعم قد تتزاحم في النفس المعاني حتى تعجز الآلة عن ترجمتها لفظًا مؤثرًا ولا عجب أن يستعين الشاعر أو المتحدث بكل جوارحه ليوصل رسالته، ولعل ما يصاب به الإنسان من حبسة أو لجلجة إنما مردها إحساس تعاظم الفكرة وتخاذل الآلة المترجمة عن تلك الفكرة، فإن بلغ اليأس منه مبلغه قال ليت شعري وليت نثري، وإن من حق المحْدث أن يُفرغ في اللفظ معنى جديدًا يخدم غرضه، وهو أمر تزخر به اللغة عبر عصورها المختلفة. ***** الجزيرة الثقافيه