د. أيسر ياسين تعد المديونية من المشاكل الاقتصادية التي أسهب الاقتصاديون كثيرا في دراستها في العقدين الأخيرين خاصة في أعقاب أزمة المديونية التي شهدها العالم في عقد الثمانينيات التي اجتاحت العديد من البلدان مثل روسيا والإكوادور والأرجنتين في حين لم تتجنبها بلدان أخرى الا بالكاد ومن خلال برامج اعادة هيكلية مديونياتها كما في أوكرانيا والباكستان وأوروغواي، في ذات الوقت الذي لم تتمكن بلدان أخرى من تجنب أزمة المديونية ألا من خلال دعم مالي (وبالضرورة سياسي) كبير من لدن صندوق النقد الدولي كما في المكسيك والبرازيل وتركيا. بالرغم من هذه الحقائق كلها ، الا أن مسالة المديونية في العراق لم تجد مداها الكامل في الدراسة الا في السنوات السبع الماضية وهو الأمر الذي يعود بالأساس إلى أن هذه المسألة لم تشكل ذلك الشأن المهم الا في أعقاب الحرب العراقية- الإيرانية عام 1980 والتي استنزفت كماً هائلاً من ثروات العراق التي سبق تراكمت في عقد السبعينيات من القرن الماضي بعد تأميم النفط العراقي عام 1973 من الشركات الأجنبية والفورة النفطية وما رافقها من سياسات تنموية متعاقبة ولدت تراكمات تقدر بـ (37) مليار دولار من الاحتياطيات النقدية للعملات الأجنبية. بالرغم من ظهور العديد من المؤشرات على وجود مشكلة المديونية في العراق خلال الثمانينيات الا أن الدراسة الحقيقية لها لم تبدأ الا في أعقاب الاحتلال الأمريكي للعراق في عام 2003 بعد أن كان هذا الموضوع يعد من القضايا الحساسة في مجال السياسة الخارجية والتي يتجنبها الكثير من الباحثين والاقتصاديين لمحدودية الجهات التي يمكنها أن تزود البيانات حول مثل هذه المشكلة ولكونها من القضايا التي كانت معلقة إلى اشعار آخر بموجب قرارات مجلس الأمن وبخاصة القرار (661) في آب 1990 والذي منع البلدان الأخرى من اجراء أية تعاملات مالية مع العراق أو الكويت حتى وان كان لغرض خدمة ديونه وهو الأمر الذي أدى إلى تراكم تلك هذه الديون مع فوائدها . هنالك تباين كبير في تقدير التزامات العراق الخارجية كنتيجة للاختلاف في طرق احتساب الديون العراقية للبلدان المختلفة وكيفية حساب الفوائد المتراكمة على العراق واختلاف أقيام تلك الفوائد مع اختلاف البلدان المقرضة له وفيما إذا كان ينبغي حساب تلك الفوائد أصلاً أو الغرامات التأخيرية في ضوء قرارات مجلس الأمن لعامي 1990 و1991 التي حرمت أية تعاملات مالية مع العراق. يشير احد تقديرات مجموعة نادي لندن الى أن حجم الديون الخارجية العراقية تبلغ 131.8 مليار دولار وتصنفها الى 38.9 مليار ديون لبلدان باريس و 67.4 مليار لبلدان خارج نادي باريس و 25 مليار دولار للمؤسسات الخاصة و 0.5 مليار دولار متعددة الأطراف في ذات الوقت الذي قدر وزير التخطيط العراقي السابق د. مهدي الحافظ في محاضرة له عقدت في دبي خلال شهر أيلول 2003 جملة التزامات العراق الخارجية بـ (450) مليار دولار موزعة على 350 مليار دولار تعويضات من جراء حربي الخليج الأولى والثانية و 130 مليار دولار الدين الخارجي منها فوائد بقيمة 47 مليار دولار . في وقت قدرت دراسة أخرى حجم الالتزامات الخارجية للعراق بـ (383) مليار دولار منها (127) مليار من القروض والفوائد المتراكمة عليها و57 مليار من المدفوعات المستحقة على عقود توريدات و199 مليار دولار من تعويضات الحرب المستحقة بشكل خاص للكويت وإيران. أما بالنسبة للبنك المركزي الذي لا يحتفظ سوى بأرقام الديون الرسمية المبرمة بموجب عقود فيشير الى ان ديون العراق الحالية الرسمية مع فوائدها لا تزيد عن 53 مليار دولار ، ومن الممكن ان تصل الى 65 مليار في حالة احتساب فوائد تأخيرية حتى نهاية عام 2003 وان قيمة أصل الديون لم تتجاوز (23) مليار دولار في عام 1990. لعل أكثر التقديرات التي أصبحت قبولاً في وقتنا الحاضر هي تلك التقديرات التي يعتمدها نادي باريس على موقعه الرسمي على شبكة المعلومات والتي تشير إلى أن ديون العراق لنادي باريس تبلغ (37.15) مليار دولار وديون ثنائية خارج نادي باريس (67.4) والديون التجارية تبلغ (20) مليار دولار وديون متعددة الأطراف والمنظمات الدولية بقيمة 0.5 مليار دولار. كما نلاحظ الزيادات التي شهدتها قيم مديونية العراق عند إضافة أقيام الفوائد والتي لم تتجاوز مجموع أقيامها ( 20.98) مليار دولار من اصل الدين لتصل إلى (34.33) مليار دولار عند اضافة الفوائد المتراكمة لادراك البعد الحقيقي لحجم المديونية يعتمد عادة على عدد من النسب والتي من أبرزها: أ – نسبة المديونية إلى الناتج المحلي الإجمالي : ) Debt-to-GDP Ratio ). تستخلص هذه النسبة من خلال قسمة حجم المديونية الخارجية على الناتج المحلي الإجمالي للبلد وهو ما يظهر لنا العبء الحالي للمديونية على الاقتصادي وبالتالي مقدار الناتج الوطني المطلوب توليده لتسديد المديونية . في الحالة العراقية نجد ان بداية اتجاه هذا المقياس إلى التراجع يعود لعامي 82- 1983 حيث ازدادت هذه النسبة باستمرار من 4.6% عام 1980 إلى 143% عام 1988 لتصل مستويات قياسية لها عام 1991 بنسبة 791% مع فرض الحصار الاقتصادي على العراق ليتوقف تصديره من النفط الخام والذي يشكل العصب الأساس للناتج الإجمالي المحلي للبلد ومن ثم إلى نسبة 257.78% في عام 2006 بناتج محلي أجمالي يقدر بـ ( 48.51 ) مليار دولار وحجم مديونية خارجية تبلغ 125.05مليار دولار، وهو ما يظهر نمو المديونية بمعدلات أسرع بكثير من النمو الاقتصادي ( فيما لو كان هناك نمو حقيقي أصلاً وليس مجرد ارتفاع لأسعار برميل النفط الخام في الأسواق الدولية) . ب- نسبة المديونية إلى الصادرات: تظهر لنا هذه النسبة في واقع الحال مدى قرب البلد المدين من الإفلاس لكون قيمة الصادرات تعكس قدرة البلد على توفير العملات الأجنبية لخدمة ديونه ، ويعتبر البنك الدولي البلد الذي يتجاوز حجم مديونيته الى الصادرات نسبة 200% هو في حالة حرجة . تظهر بيانات العراق ان هذه النسبة تزايدت بشكل ملحوظ خلال العقود الثلاث الماضية حيث ازدادت من 9.4% عام 1980 الى 1077% عام 1986 كنتيجة لانخفاض الأسعار النفط العالمية لتتراجع الى 582% عام 1989 قبل ان تقفز من جديد الى أرقام خيالية لتصل إلى 841% في عام 1991 كنتيجة لقرارات مجلس الأمن بحضر الصادرات العراقية ولتبلغ في عام 2006 نسبة 452 % . جـ - خدمة الديون إلى الصادرات: يعد الاقتصاد يواجه مشكلة مديونية إذا ما تجاوزت النسبة التي تشكلها خدمة الديون من صادراته 30 % . ويشير بعض الكتاب إلى ان الفوائد المتراكمة على أصل الدين الخارجي خلال العشرين سنة الأخيرة بلغت (50) مليار دولار من أجمالي مبلغ الدين الواجب على العراق سداده تمثل فوائد متأخرة تراكمية لخدمة الدين، وهذه القيمة تتجاوز بالتأكيد الثلاثين بالمائة المعتمدة كون النسبة للصادرات العراقية لعام 2006 بلغت نسبة 103 %. رغم الجهود التي بذلت على مدى السنوات السبع الماضية لمعالجة مشكلة المديونية العراقية، إلا ان العديد من الملاحظات برزت بشكل واضح في سُبل المعالجة والسياسات التي أًعتمدت ويمكن تحديدها في النقاط التالية: أحد متطلبات الإدارة الجيدة للمديونية الخارجية يتمثل في تخصيص جزء مكافئ من النمو المستقبلي المتوقع أو الناتج المحلي الإجمالي لتمويل خدمة المديونية الحالية أو بالحد الأدنى خدمتها، وكذلك وضع حدود قصوى لنمو المديونية بالشكل الذي يبقيها في حدود قابلة للخدمة . إلا ان ما نشهده في واقع الاقتصاد العراقي الآن هو الإدارة غير الكفؤة لبعض فقرات الاقتصاد من خلال اعتماد سياسات نقدية توسعية في ظل ظروف متدهورة من الفساد الإداري وهو ما يؤدي الى الحد من الأثر الايجابي الذي يمكن لمثل هذه السياسات التوسعية ان تحملها للاقتصاد. كان لاعتماد الحكومة والبنك المركزي لسعر صرف للدينار العراقي أعلى من مستواه التوازني من خلال التدخل في مزادات الدولار اثر كبير في تدهور ميزان المدفوعات كنتيجة لفقدان البضائع العراقية القليلة القابلة للتصدير لجزء من قدراتها التنافسية المحدودة أصلاً وبالتالي الحد من الصادرات العراقية وهي الطريق الطبيعي لخدمة الديون الخارجية. لابد من إدراك ان معظم الديون التي ترتبت بذمة العراق هي ديون ذهبت لتمويل الإنفاق العسكري الذي ارتبط بالحرب العراقية- الإيرانية والتي صبت بشكل تلقائي لمصالح العديد من بلدان المنطقة، وهذه الديون تسمى بالديون البغيضة (Odious Debts) وفقاً للمعايير والاصطلاحات الدولية المتعارف عليها في التعامل الاقتصادي وكان على الجانب العراقي من استخدام هذا البديل للضغط على البلدان المدينة التي لا زالت مترددة في تخفيض ديون العراق وبخاصة البلدان الخليجية التي استفادت أي استفادة من تراجع الصادرات النفطية خلال تلك الحرب وتوقفها الكامل على مدى ثلاث عشرة سنة من الحصار الاقتصادي والذي انعكس بارتفاع ملحوظ في أسعار النفط الخام بالسوق الدولية . لقد كان لإصرار بعض البلدان الأعضاء في مجلس الأمن (وبخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا) على الإبقاء وإطالة أمد الحصار الاقتصادي على العراق تحت ذريعة امتلاكه أسلحة دمار شامل (وهو الأمر الذي اعترف الأمريكان لاحقاً بعدم وجوده أصلاً)، أن أدى الى الإسراع في انهيار الاقتصاد العراقي وعمق من مشاكله المالية وهو الأمر الذي تضافر في تحويل مشكلة مديونية العراق من مشكلة سيولة قصيرة الأمد قابلة للسيطرة الى حالة من عدم الاستقرار المطلق، وتقدر خسائر العراق كنتيجة للحصار الاقتصادي بـ( 130) مليار دولار من عائدات النفط والتي نجد ان ذات الأطراف تتحمل مسؤولية مالية إزاء الاقتصاد العراقي. ارتبطت إعادة جدولة ديون العراق مع نادي باريس بالتزامه بشروط وتوصيات صندوق النقد الدولي لتطبيق وصفات الإصلاح الاقتصادي وعلى مراحل زمنية محددة والتي من بينها تخفيف عجز الموازنة الحكومية من خلال رفع أسعار المنتجات النفطية وتخفيض الدعم للبطاقة التموينية من (6) تريليون دينار عراقي عام 2005 الى (4.05) تريليون دينار حسب تخصيصات موازنة عام 2006 وصولاً إلى (3) تريليون دينار في الوقت الحالي ( بغية الابتعاد عن الدعم الشمولي ) أي الانتقال من الدعم المباشر الى المعونات الموجهة. كما ان من عناصر الوصفات تهيئة النشاط الاقتصادي ليكون ضمن آليات السوق بدلا عن التخطيط والإدارة المركزية وإعطاء القطاع الخاص الدور الأكبر ورفع الدعم الحكومي المطلق. لهذه السياسات المستعجلة اثر لا يمكن تجاهله على واقع الاقتصاد العراقي الذي لا يزال يترنح تحت وطأة الصدمات المتتالية التي تلقاها، حيث ان تنصل القطاع العام العراقي عن دوره في الاقتصاد مع فقدان الدور حقيقي لقطاع خاص كفء يعني إمكانية تعرض (192) مشروعا كبيراً مملوك للدولة يعمل فيها ما مجموعه ( 500000) فرد إلى فقدان وظائفهم، إضافة للدور الذي يلعبه القطاع العام في ايجاد فرص عمل جديدة في مناخ من البطالة تجاوزت نسبتها 60 % من القوى العاملة. كما انعكس تخفيض الدعم الحكومي عن أسعار المشتقات النفطية والبطاقة التموينية على الواقع الحياتي للمواطن العراقي الذي يعاني 10 % منهم من الفقر المدقع و 43 % من الفقر المطلق . حيث ان رفع أسعار المشتقات النفطية انعكس بصورة ارتفاع متتالي للرقم القياسي لمؤشرات اقتصادية مختلفة ( المؤشرات التسع للرقم القياسي للأسعار) في سلسلة من الزيادات المتتالية على شكل مضاعف تضخمي ينعكس على مختلف القطاعات الاقتصادية لما للوقود دور يلعبه في حياة المواطن العراقي في العديد من الأصعدة. يشير البعض الى حقيقة أن نادي باريس لم يقم بشطب حقيقي للديون كون ان ديون العراق كانت معروضة أصلاً في السوق المالية العالمية بـ (8) سنتات للدولار الواحد في أيلول عام 2004 أي قبل شهرين فقط من اجتماع نادي باريس ليرتفع بعد الاتفاق مع نادي باريس الى (25) سنتا للدولار الواحد، وهو الأمر الذي يمكن احتسابه بصورة بسيطة فإذا كان أصل الدين العراقي الخارجي هو (127) مليار دولار الديون المستحقة لبلدان نادي باريس هي (37.15) مليار دولار فان ديون نادي باريس ستخفض بنسبة 80% مع نهاية المراحل الثلاث وعلى افتراض نجاح العراق في تنفيذ التزاماته الدولية لتبلغ (7.43) مليار دولار ليبقى بذمة العراق مبلغ (97.28) مليار دولار وبسعر (25) سنت للدولار ليصل قيمتها في أسواق المال (24.32) مليار دولار قيمة الديون العراقية الخارجية للعراق . في حين ان قيمة ديون العراق الخارجية والبالغة (127) مليار وبسعر معروض كما كان في أيلول 2004 بـ( 0.08) سنت لكل دولار واحد سيكون قيمة الديون العراقية الخارجية (10.16) مليار دولار أي ان قيمة ديون العراق قد ازدادت بعد اتفاق العراق مع بلدان نادي باريس.
د. أيسر ياسين تعد المديونية من المشاكل الاقتصادية التي أسهب الاقتصاديون كثيرا في دراستها في العقدين الأخيرين خاصة في أعقاب أزمة المديونية التي شهدها العالم في عقد الثمانينيات التي اجتاحت العديد من البلدان مثل روسيا والإكوادور والأرجنتين