فقه النوازل والواقعات نماذج من فقه الصحابة: وسأضرب لمنهج الصحابة رضي الله عنهم في فقه النوازل والواقعات أربعة أمثلة: المثال الأول في العبادات: الأذان يـوم الجمـعــة: فقد كان الأذان في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- أوله عندما يجلس الإمام على المـنبر ، وكذلك في عهد أبي بكر وعمر ، وفي عهد عثمان وعلي ، كثر الناس وزاد الأذان الـثـالـث عـلـى الـزوراء(1) ، الأذان الثالث كما ورد في النص باعتبار الأذان الذي عند جلوس الإمام على المنبر وباعتبار الإقامة فإنها تسمى أيضاً أذان ، فزاد الأذان الأول على الزوراء، وفي بعض الروايات أن الزوراء دار كانت في السوق ، وفي بعض الروايات أنه أمر بذلك ليعلم الناس بدخول أو بحضور وقت الجمعة قبل أن يخرج الإمام إلى المسجد أو إلى المنبر. ما كان هذا الأذان على عـهـد الـنـبـي -صلى الله عليه وسلم- ولا على عهد الصاحبين ، وإنما هو سنّه الخليفة الراشد عثمان قـياسـاً على باقي الصلوات ، هذا أذان لإعلام الناس بدخول الوقت في أوله ، فقاس الجمعة على باقي الصلوات ، هذه نازلة وهذا ما واجهها به الصحابة من فقه ، والصحابة في عهد عثمان عملوا بفعله في سائر المدن والأمصار ، وقد كانوا منتشرين فيها. المثال الثاني في الـطـلاق: فقد روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عـنهـمـا أن الطلاق كان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وعهد أبي بكر وسنتين من خلافــة عـمـر ، أن طلاق الثلاث كانت توقع واحدة ، فقال عمر: »إن الناس قد استعجلوا في أمر لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم«(2) ، فأمضاه عليهم بمشاورة من الصحابة ، وحقيقة هذه المسألــة كما أفهم والله أعلم أن عمر أولاً كان يسأل المطلق الذي أوقع الثلاث دفعة واحدة عن قـصــده مــاذا يقصد هل يقصد إيقاعها ثلاثاً أو ما قصد إلا التأكيد وإيقاعها واحدة ، ثم لما تتابع الناس على ذلك ، وكثر منهم واستخفــوا به صار لا يسأل أحداً عن مقصده ، ولا يفرق بين من يقـصـد الـتـأكـيـد وإيـقـاعـهــا واحدة أو لا يقصد ذلك ، ويمضيه على الجميع ثلاثاً ردعاً للناس الذين كثر منهم هذا واستخفوا بحدود الله عز وجل. هذا مثال آخر لطريقة الصحابة في مواجهة النوازل ، فإن الحال في وقت عمر تغير عن الحال في وقت النبي صوأبي بكر. المثال الثالث في حـد الخمـر: وهو يشبه هذا المثال ، ولكنه في الحدود (حد الخمر) ، فشارب الخمر في عهد النبي -صلى الله عـلـيــه وسلم- كــــان يضرب بالجريد وبالنعال ويبكت (بمعنى أن يقال له أما تستحي أما تتقي الله.. ونحو ذلك) ، وفي عهد أبي بكر جلد أربعين ، وفي عهد عمر قال عمر رضي الله عنه : ويبدو أن شـــاربي الخمر قد كثروا في عهده فاستشار الصحابة ، فقال علي رضي الله عنه إنه إذا شربها سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى ، فجلده ثمانين مثل عقوبة القربة ، وفي رواية أن عبد الرحمن بن عوف قال له رضي الله عنه : إن أخف الحدود ثمانون جلده فأمضوا عـقـوبــة شارب الخمر ثمانين جلدة ، فاختلف الفقهاء في فهم ذلك: بعضهم قالوا إن حد الخمر ثمانون ، وبعضهم قالوا حدها أربعون وما زاد فهو تعزير ، وللإمام أن يزيد تعزيراً إذا كان ذلك اجتهاد من إمام عادل. المثال الرابع في المعاملات: وهو تضمين الصناع ، فالصانع إذا ادعى هلاك المتاع الذي بحوزته وليست له بينة على ذلك ، كان في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وعهد الخلفاء قبل علي يُصدّق ، وفي عهد علي ألزمهم بالضمان ، وقال لا يصلح الناس إلا ذلك. لماذا؟ لأن الناس في عهد علي رضي الله عنه اختلف حالهم عن حال الناس فـي عـهـد النبي -صلى الله عليه وسلم- وعهد أبي بكر وعثمان فإن التزامهم بالصدق وبالحق صار أخف مما سبق فاختلف حالهم عن ذي قبل ، ومن مثل هذا استنبط العلماء قاعدة اختلاف الفتوى بسبب فساد الناس ، كما تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من أحكام ، ففساد الناس وفساد الأحوال تتغير بموجبه الفتوى. هذه أربعة أمثلة تبين لنا منهج السلف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مواجهة ما يستجد من واقعات ونوازل ، ونستفيد من هذه الأمثلة دروساً عظيمة لواقعنا ولحالنا أصلح الله حالنا ، ومنها: 1- أن الاجتهاد لا يسوغ من كل أحد إنما يسوغ ممن له الأهلية فقط ، فإن أبا بكر أو عمر أو غيرهما من الخلفاء الراشدين ما كانوا يستشيرون كل أحد ، بل كانوا يستشيرون فقهاء الصحابة وأهل العلم والرأي منهم. 2- ومن هذه الدروس أن الاجتهاد ليس صلاحية مطلقة للـمـجـتـهد ، بل يجب أن يكون مقيداً بالقواعد الشرعية والمبادئ الكلية والأصول المعتبرة عند الفقهاء وعند العلماء ، والتي استنبطت من الكتاب والسنة. ولو تأمل الدارس المتفقه كل مثال من الأمثلة الآنفة الذكر وغـيـرهـــا من الأمثلة ، لوجد هذه الحقيقة فيها ، فإن الصحابة رضي الله عـنـهـم لا يخرجون في اجتهاداتهم هذه عن المبادئ الكلية التي دل عليها الكتاب والسنة. 3- ومن هذه الدروس أن مدار الشرع على المصلحة: على جلب المصالح المعتبرة ، وعلى درء المفاسد المحققة فحيث ما تكون المصلحة الشرعية فثم شرع الله كما يقول ابن القيم رحمه الله فلا أقول كما يقول بعض الكتاب المعاصرين: إن الشريعة الإسلامية مرنة!! فكلمة مرنـــة في عرفهم تحتها ما تحتها ، لكن أقول إن الشريعة الإسلامية ، والفقه الإسلامي صالح للتطبيق في كل زمان ومكان مهما اختلفت أحوال الناس ، ومهما استجد من متغيرات ومـــن تطـورات فالمصلحة معتبرة لكن أهواء الناس غير معتبرة ، وشهوات الحكام ورغبات السلاطين غير معتبرة في الشريعة الإسلامية ولا لدى الفقهاء الذين يتقون الله عز وجل في البيان ، وهذه القاعدة (دوران الشرع على المصلحة) لا يعرفها إلا الفقهاء ولا يقدر على تطبيقها إلا الفقهاء والعلماء الربانيون. 4- ومن هذه الدروس أيـضــاً أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إضافة إلى عملهم الغزير بكتاب الله عــــز وجل وبسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ، وبفهمهم العميق للأحكام الشرعية كـانـــوا كـمــا نوهت على بصيرة كاملة بالواقع وتتعجب من اخـتــلاف فتياهم ، فتجد الصحابي في المدينة له فتوى وفي العراق له فتوى أخرى ، وفي حالـة له فتوى وفي حالة أخرى له فتوى أخرى ، كما ضربتُ في هذه الأمثلة ، وهذا يدل عـلـى أنهم متبصرين بالواقع الذي يعايشونه مدركين تمام الإدراك للوقائع المستجدة التي يواجهونها ، وهكذا يجب أن يكون الفقيه. ومن أعجب الأمثلة على ذلك: ما رواه ابن أبي شيبة عن سعد بن عبيدة قال: جاء رجــل إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقال له: ألمن قتل مؤمنا توبة؟ قال: إلى الــنــار، فلما ذهب وانصرف قال له جلساؤه: ما هكذا كنت تفتينا فما شأن اليوم؟ قال: إني أحسبه مغضباً يريد أن يقتل مؤمناً فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك(3). فاختلاف الحالة لدى المفتي كالطبيب يصف لكل مريض ما يناسب حاله فلو أفتى هذا بأن له توبة كأنه حرّضه على أن ينفذ ما فـي قــرارة نفـســـه ، وفي رواية أنه سئل يعني أن سـائـلـين سألاه فسـأله سـائل هل لمن قتل توبة؟ قال: لا وســأله سائل آخر في مرة أخرى فـقـال: نعم. فلما سئل عن هذا الاختلاف في الفتوى قال: رأيت في عيني الأول أنه يقصد القتل فقمعته ، وأما الثاني فكان صاحب واقعة يطلب المخرج. هل تريدون مثالاً أوضح من هذا على عظم أهمية أن يكون الفقيه متبصراً بالواقع، عالـمــاً بأحوال الناس ، عالماً بملابسات الوقائع التي تطرأ عليه والنوازل التي تستجد؟! 5- ومن أعظم الدروس المستفادة من هذه الأمثلة آنفة الذكرأن فـي منهج السلف أصحاب رسـول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يمكن أن نسميه بالشورى العلمية فقد كان أبو بكر الصديق إذا نرلت به نازلة ، ولم يجد فيها فيما يعلم سنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخرج إلى الناس فيسألهم ، أخرج البغوي عن ميمون بن مهران رحمه الله قال: كان أبـو بكر إذا ورد عليـه الخصوم نظر في كتاب اللـه فإن وجد فيه ما يقضي به بينهم قضى به ، فإن لم يكن في الكتاب ، وعلم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك سنة قضى بها ، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين: أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله قضى في ذلك بقضاء ، فربما اجتمع النفر كلهم يذكر كل واحد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضاء ، فإن أعياه أن يجد فيه سنة جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم (لاحظ استفتاء ثم شورى أهل الفقه والحل والعقد) ، فإن أجمع رأيهم على شيء قضى به. وكان عمر رضي الله عنه يفعل ذلك إلا أنه إن أعياه أن يجد فـي القرآن والسنة نظر هل كان فيه لأبي بكر قضاء فإن وجد أبا بكر قضى به بقضاء قضى به وإلا دعا رؤوس الناس، فـإذا اجتمعوا على أمر قضى به ومع أن هؤلاء هم من هم ومع ذلك لا يغـتـرون برأيهم ولا يسـتــدلون باجتهادهم ، بل يشاورون الناس وتجد الواحد اليوم مـع قـلـة بضاعته وغلبة الهـوى عليه ينفرد بنفسه بين جدران أربعة ويخـرج علينا بآراء عجـيبة لا فـقـه فيها ولا بصـيـرة ولا يتـقـي الله فيها ، ويريد أن يحمل الناس عليها. استبداد عـلـمــي مع أنه لا استبداد في العلم فـي الإســلام ، كما أنه لا استبداد في السياسة ، والاسـتـبـداد السياسي والاستبداد العلمي كلاهما مذموم في الإسلام. معالم على طريق الاجتهاد: ثم إن الاجتهاد في المسائل الاجتهادية فيما فيه مجال للاجتهاد وإذا وقع من المجتهدين مهما كان الاجتهاد جزئياً أو كلياً على أنواعه التي يذكرها الفقهاء يجب أن لا يؤدي إلى التنازع والتناحر والتطاحن. انظرإلى الصحابة وخذ عمراً مثلاً وهو خليفة أمـيــر المؤمنين كيف كان يناقشه الصحابة ويحتدون ويقولون له هذا ظلم »أتقف ما غنمناه بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا« ، ومع ذلك لا يغضب... نماذج رائعة من أدب الاختلاف. الاختلاف لدى السلف لا يفضي إلى التنازع والتطاحن ، ولا يفسد للود قضية كـمــا يقول العلماء ، فإن التناحر والتطاحن في الآراء وفي العلم ورمي المخالف في الاجتهادات بالتهم من علامات أهل البدع كالخوارج الذين يكفرون مخالفيهم ، فالمبادرة الى تكفير المخالف في مسائل للاجتهاد فيها مجال ، من علامات الخوارج ، وسب المخالفين ولعنهم والتشنيع عليهم من علامات الروافض ، فعلى كل مسـلم أن يتأدب بهذه الآداب ، على كل مجتهد ، على جميع أهل العلم أن يتأدبوا بهذا الأدب السلفي إن كانوا وقعوا في مسلك أهل البدع من التشنيع على المخالفين ورميهم بالتهم وتبديعهم وتكفيرهم وسبهم والتشنيع عـلـيـهـم، فعليهم أن يستغفروا الله ويتوبوا إلى الله ويعودوا إلى منهج السلف. أما أهل العلم والفقه والاجتهاد من علمائنا على مختلف مستوياتهم ودرجاتهم أكابرهم وأصاغرهم فإننا نطالبهم بأن يواجهوا النوازل التي وقعت بنا والواقعات التي استجدت علـيـنــا ، وما أكثرها وما أخطرها مثلاً ، نحن نواجه الآن في مجتمعنا هجمة علمانية ، هناك من يحاولون علمنة هذا المجتمع ومحاولة صبغه بصبغة العلمانية ، فيدعون للفـصل بين الدين والحياة وبين الفقه والمجتمع ، وهذه نازلة خطيرة جدت في الأمة فالمجـتـمـع المسلم يسير بخطى حثيثة إلى العلمانية بضغوط خارجية وجهود داخلية ، أناس يتكلـمـون بألسنتكم وهــم مــن جلدتكم وهم يبذلون النفس والنفيس في سبيل تخريب هذا المجتـمــع المسلم ، وهذا من أعظم النوازل ، فعلى علمائنا أن يواجهوا هذه النوازل بعقـلـيـة ناضجة كعقلية السلف ، عقلية الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، عقلية واعـيــة عميقة تتقي الله عز وجل ، فإن من أعظم ما يواجه به هذا المقام أن يـبـيـن العـلـمـاء الحكم الشرعي لا يخافون في الله لومة لائم ، والحمد لله أنه لاتزال في مجتمعنا بقية من علماء يقولون الحق ولا يخافون لومة لائم ، نسأل الله أن يثيتهم ويجزيهم عنا خير الجزاء. العالم أو المفتي الذي لا يتقي الله في بيان الحكم ، وينافق العـلـماء ، لا يصلح للاجتهاد ، وهو والجاهل سواء لأنه أخطر من الجاهل ، العالم يقتدى به فإذا لم يتق الله في بيان حكم الشرع يورد الأمة موارد الهلاك ، وهناك علماء للأسف ينافقون الحـكـام أو يخافون منهم ولا يبينون الأحكام على وجهها الصحيح ، ومـــن أعـجـب الأمثلة على ذلك مفت في بلد مسلم أفتى بإباحة الربا إذا مارسته الـدولــة وتحريمه إذا مارسه أفراد الشعب ، انظر إلى أي حد يصل النفاق ومداهنة الحـكــام ، هذا فقيه نعم ولكنه من فقهاء السلطان له سلف ، ذلك المنافق الذي رأى حـمــامـاً يلعب به الخليفة فكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فالحديث الصحيح لا سبق إلا في خف أو حافرأو نصل ، فزاد أو جناح هذا مثل ذاك فأمثال هؤلاء موجودون نسأل الله عز وجل أن يكفينا شرهم. هـوامـش: (1)الحديث بنصه البخاري ، ج1 ، ص219. (2)مسلم ، ج2 ، ص1099 ، كتاب الطلاق ، ح/1472. (3)المصنف لابن أبي شيبة ، ج9 ، ص362 ، ح/7803.