تتكشف للناظر في القرآن الكريم آفاق عجيبة من التناسق والتناسب بين السور والآيات، والمعاني التي تهدف إليها السور والآيات. لكن ذلك لا يتم إلا من خلال النظر والتأمل الصادق، فللقرآن آفاق متعددة في الإعجاز، وللوقوف على أي منها لابد من تدبر القرآن الكريم عند قراءته. قال - تعالى -: ((أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً))، وقال: ((كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب)) [سورة ص: 29]. تكلمنا في الموضوع السابق (التناسب في أسلوب القرآن الكريم)[1]، عن أحد أنواع التناسب في القرآن الكريم، التناسب بين السور أي المناسبة بين السورة والسورة التي تليها، وذكرنا أمثلة لذلك من مواضع مختلفة من سور القرآن الكريم. ونذكر في هذا الموضوع بقية أنواع التناسب ليكون التقويم الصحيح لبيان وجه من وجوه إعجاز هذا الكتاب الكريم الذي: ((لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد))، ((قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون)) [الزمر 28]. التناسب بين مطالع السور وخواتيمها: التأنق في بداية الكلام هو أحسن أنواع البلاغة عند البيانيين؛ لأن البداية هي السبب في إقبال السامع على الكلام أو إعراضه عنه، فينبغي على الخطيب أو المتكلم أن يأتي بأحسن الألفاظ نظماً وسبكاً، وأوضحها معنى وأصحها دلالة وأقواها تأثيراً. وأخص أنواع البدايات الحسنة في الكلام هو براعة الاستهلال، وذلك بأن يشتمل الكلام على ما يناسب الحال التي يتكلم فيها[2]. ومطالع سور القرآن الكريم وخواتيمها جاءت على أحسن الوجوه وأكملها، فقد استهل الرب - سبحانه وتعالى - بعض السور بما كان العرب يبدأون به أقوالهم في المهمات كقولهم ((يا أيها الناس))، ((يا قوم)) وفي هذا تنبيه للسامعين إلى ما سيلقى عليهم من الأقوال الهامة كما جاء في سورة النساء: ((يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة))، وفي الحج: ((يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم))، وفي الحجرات: ((يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)). واستهل بعضها بحمده وتسبيحه كما في الأنعام: ((الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور))، والكهف: ((الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا))، وسبأ: ((الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض))، وفاطر: ((الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلا)). واستهل - سبحانه - بعض السور ببيان الغرض المقصود من التنزيل كما في قوله: ((تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم))، ((سورة أنزلناها وفرضناها)). واستهل بعضها من غير تمهيد أو عنوان كقوله: ((إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله))، ((قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها)). هكذا كانت أساليب العرب في الرسائل والخطب[3]. إلا أن بعض السور بدأت بما بعد عن أساليب خطباء العرب ولا عهد لهم بمثله، فبعض السور بدأت بالحروف المقطعة: ((الم)) ((الر))، ((المص))، ((كهيعص))، ((طسم))، ((حم)). هذا الأسلوب مبتكر في القرآن لم يسبق إليه قط، وفيه تنبيه للقوم إلى ما سيتلو عليهم النبي محمد - صلى الله عليه و سلم - [4]. وأما خواتيم السور فهي مثل الفواتح في حسن البيان، فقد ختمت بجوامع الكلم ومنابع الحكم والتأكيد البليغ والتهديد العظيم ما بين أدعية ووصايا وفرائض وتحميد وتهليل ومواعظ ووعد ووعيد. قبل البدء بذكر أمثلة على مطالع السور وخواتيمها، يجدر بنا أن نتحدث عن الإطار العام للقرآن الكريم مطلعه وختامه لنرى ما فيه من براعة الاستهلال وحسن الخاتمة. فسورة الفاتحة هي مطلع القرآن الكريم، وقد اشتملت على جميع مقاصد القرآن العظيم باختيار الألفاظ الحسنة والمقاطع الموجزة المستحسنة. هذه السورة على إيجازها احتوت باختصار على جميع علوم القرآن، إذ تضمنت أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية يُؤخذ من قوله ((رب العالمين)) وتوحيد الألوهية أي إفراد الله بالعبادة يُؤخذ من الاسم الجليل ((الله)) ومن قوله ((إياك نعبد وإياك نستعين)) وتوحيد الأسماء والصفات إثبات صفات الكمال لله - عز وجل - ودل عليه كلمة ((الحمد)) وفي قوله - تعالى - ((اهدنا الصراط المستقيم)) إثبات النبوة لأن الهداية إلى الصراط المستقيم تمتنع من دون الرسالة، وفي قوله - تعالى - ((مالك يوم الدين)) إثبات الجزاء بالعدل على الأعمال، وفي قوله - تعالى - ((اهدنا الصراط المستقيم)) إثبات القدر، لأن الصراط المستقيم يعني معرفة الحق والعمل به، وكل مخالف لذلك فهو مبتدع ضال. وفي قوله - تعالى -: ((إياك نعبد وإياك نستعين)) يتضمن إخلاص الدين لله في العبادة والدعاء وفي قوله - تعالى -: ((غير المغضوب عليهم ولا الضالين)) إثبات علم القصص والتاريخ لأن فيه الإطلاع على أخبار الأمم السابقة ومنهم اليهود والنصارى المغضوب عليهم والضالون. ولذلك فقد احتوت سورة الفاتحة على جميع مقاصد القرآن الحكيم[5]. وختم القرآن الكريم بالمعوذتين والحكمة في ذلك أن القرآن من أعظم نعم الله على عباده والنعمة مظنة الحسد، فختم بما يطفئ الحسد وهو الاستعاذة بالله العظيم من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس[6]. فابتدأ بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم وبالاستعانة بالله وانتهى بالاستعاذة به - سبحانه - من شر كل ذي شر، ليكون العبد مستعيناً بالله - عز وجل - ملتجئاً إليه في أول أمره وفي آخره. ذكر الأمثلة على مطالع السور وخواتيمها: بدئت سورة البقرة بذكر أوصاف المتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقهم الله ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل الله من الكتب ويؤمنون باليوم الآخر، ثم ختمت السورة بما يثبت لهم الأوصاف المذكورة في مطلع السورة تأكيداً على أن هؤلاء هم المفلحون، ثم دعائهم لله - عز وجل - أن يتقبل منهم إيمانهم وأعمالهم الصالحة، فتناسب المطلع والختام. افتتحت سورة النساء بدعوة الناس جميعاً إلى عبادة الله - عز وجل - وتقواه والوصية بالأرحام ثم بيان الحقوق والفروض الواجبة للورثة والوصية باليتامى والمساكين، وختمت السورة مؤكدة ما ورد في مطلعها من بيان حقوق الورثة والضعفاء وأن هذا التقسيم الذي ذكر تفصيله في ثنايا السورة بيانه من عند الله - عز وجل - الذي هو بكل شيء عليم. افتتحت سورة المائدة بالأمر بالوفاء بالعقود، وتحليل ما أحله الله وتحريم ما حرم - سبحانه - فإن الله يحكم ما يريد ولا معقب لحكمه، ثم ختمت ببيان مصير الذين يوفون بعقودهم والذين لا يوفون يوم القيامة ((قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم))، ((لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير))، ولكونه مالك السموات والأرض وهو على كل شيء قدير، فهو يحكم ما يريد، ألا له الخلق والأمر فتدبر كيف ارتبط المطلع بالختام. بدئت سورة الأنعام بقوله - تعالى -: ((الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون)) ثم ختمت بقوله - تعالى -: ((وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم)). تأمل كيف جاء الفعل (جعل) في مطلع السورة وختامها، فالذي جعل الظلمات والنور هو الذي جعل الناس خلائف الأرض وفرق بينهم في الدرجات فمنهم الغني ومنهم الفقير ومنهم المؤمن ومنهم الكافر، فلا إله إلا هو ولا معبود سواه، هو الذي يغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين فهل يستحق الحمد إلا هو؟ وهل يصح أن يعبد سواه؟ - تعالى - الله عن شرك المشركين الذين بربهم يعدلون. افتتحت سورة يوسف بقوله - تعالى -: ((الر تلك آيات الكتاب المبين، إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون، نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن)) ثم ذكر قصة يوسف التي هي من أحسن القصص، ثم ختم السورة بقوله: ((لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون))، إذ لم يجمع تفصيل قصة واحدة في موضع واحد في القرآن الكريم مثل قصة يوسف، وفي مطلع السورة قوله: ((لعلكم تعقلون)) وفي ختامها ((عبرة لأولي الألباب)). بدئت سورة الرعد بقوله - تعالى -: ((المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون)) ثم ختمت بقوله - تعالى -: ((ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب))، فلو سأل سائل من هم أكثر الناس الذين لا يؤمنون؟ فالجواب هم الذين كفروا بالله وجحدوا رسالة النبي - صلى الله عليه و سلم - فختمت السورة بالتوضيح والتأكيد. بدئت سورة الإسراء بتسبيح الله - عز وجل - ((سبحان الذي أسرى بعبده)) وختمت بقوله - تعالى -: ((وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً))، فقد شملت أفضل أنواع الذكر (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، فتأمل براعة الاستهلال وحسن الختام. بدأت سورة الكهف بـ ((الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب)) بشارة للمؤمنين وإنذاراً للكافرين، وختمت ببشارة من يثبت ويسلّم بوحدانية الله - عز وجل - ولا يشرك بعبادة ربه أحداً، فهذا هو الذي يرجو لقاء الله. افتتحت سورة الحج بالأمر بتقوى الله - عز وجل - والترهيب من هول الساعة، ثم ختمت بقوله - تعالى -: ((فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير)) إذ النجاة من هول ذلك اليوم العظيم هو بتقوى الله والاعتصام به - سبحانه وتعالى -. افتتحت سورة المؤمنون بذكر أوصاف المؤمنين المفلحين فقال - تعالى -: ((قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون)) وختمت ببيان عاقبة الكافرين ((إنه لا يفلح الكافرون)) ولكن ((قد أفلح المؤمنون))، فتدبر هذا التناسق العجيب الذي يزيل الوهم والشك، فالمؤمنون هم المفلحون، والكافرون هم الخاسرون، فلا يغرنك ما آتاهم الله من متاع في الحياة الدنيا. افتتحت سورة القصص بذكر موسى وفرعون، فرعون المتأله المتجبر وجنوده، وموسى ومن معه من المستضعفين، وما حصل لهم من أذى فرعون، ولكن عاقبة الأمر أن أهلكه الله، ثم ختمت السورة بذكر ما حصل للنبي - صلى الله عليه و سلم - من أذى قومه وإخراجهم له من بلده، والعاقبة تكون لمحمد - صلى الله عليه و سلم - كما كانت لموسى بنصره على فرعون، فاثبت وداوم على توحيد الله فالذي أهلك فرعون سيهلك كل جبار عنيد ((ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون)). افتتحت سورة العنكبوت بذكر الابتلاء ((أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون)) وختمت بما يكون به الابتلاء وهو الجهاد فقال - سبحانه -: ((والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين)). افتتحت سورة الروم بذكر ما يفرح له المؤمنون وهو نصر الروم أهل الكتاب على الفرس الوثنيين وأن ذلك سيكون في بضع سنين، ثم ختمت بالوصية بالصبر حتى يتحقق ذلك النصر فقال - سبحانه -: ((فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون))، فتدبر كيف كان التناسق بين المطلع والختام. افتتحت سورة محمد بقوله - تعالى -: ((الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم)) واستعمل في هذه الآية ضمير الغائب (هم) للتحذير من الكفر ومجانبته لأن الكافر عمله بَوار وخَسار، ثم ختمت السورة باستعمال ضمير المخاطب ((وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم))، ففي المطلع تحذير وفي الخاتمة تأكيد لهذا التحذير وبيان للحكم والمصير. افتتحت سورة الممتحنة بالنهي عن موالاة الكافرين ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم)) وختمت بتأكيد هذا النهي عن موالاة الكافرين، ليبقى هذا الأمر المهم آخر ما يطرق سمع المؤمنين، ثم استعمل ألفاظاً أخرى ولكنها في نفس المعنى تجنباً للتكرار ((يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم)). فتأمل كيف تناسب المطلع والختام. المناسبة بين الآيات: قد علمت أن القرآن نزل في مدة تجاوزت العشرين عاماً نزل نجوماً، الآية والآيتان والعشر، وفي مناسبات مختلفة، إما جواباً عن سؤال أو بياناً لواقعة أو إصداراً لحكم شرعي إثر حادثة، أو غير ذلك. فمثل هذه الأمور من البداهة في حدود الطاقة والتفكير البشريين ألا تكون مترابطة ولا منسجمة، إذ أن أحوال البشر لا تلبث مستمرة على وتيرة واحدة ولا تدوم على شأن، فمرة في حالة سرور وفرح، ومرة في حالة حزن أو غضب، ومرة تصرف وكلام الجهلاء، ومرة فصاحة وحلم العقلاء، فمن كانت هذه حاله هل يعقل أن يكون كلامه وتصرفه مستمراً على وتيرة واحدة؟هذا الأمر غير ممكن في طبيعة البشر. أما تنزيل العزيز الحكيم فقد وجد على وتيرة واحدة من الفصاحة والبلاغة وحسن السبك والتناسق بين سوره وآياته، مما يؤكد أنه ليس من قول البشر، فالتناسق الموجود في القرآن هو أحد وجوه إعجازه، وسر من أسرار هذا الكلام الإلهي الذي ((لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه)) إذاً هو كلام الله - تعالى -: ((ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً)) ولكن ((قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً)). فكيف يمكننا أن نقف على هذه الحقيقة من وجوه الإعجاز بوجود التناسق والارتباط بين الآيات مع أنها كما أسلفنا أنزلت في مناسبات مختلفات ووقائع وأحوال متفاوتات؟ إن ذلك يمكن إدراكه بالتدبر والتفكر في آيات الكتاب العزيز ((أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً))، ((كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب)). وإليك أمثلة من مواضع مختلفة من سور القرآن الكريم. في سورة البقرة قال - تعالى -: ((يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين، ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون))، الخ الآيات من (153157). هذه الآيات شرعت في بيان موضوع الجهاد مع أن الآيات التي قبلها من بداية السورة ذكرت موضوع التوحيد والرسالة ومواقف اليهود والمشركين. فلما ظهرت مواقف المشركين واليهود وبان الاختلاف بين المؤمنين وبين الكافرين وانتهى الاختلاف إلى أقصى مداه، بحيث لا مفر من الجهاد في سبيل الله، شرع في الكلام عنه[7]. وقال - تعالى -: ((إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم)). وجه الترابط والتناسب بين هذه الآية والآيات السابقة لها أن هذه الآية جاءت للرد على شبهة قد ترد وهي أن المسلمين يجاهدون الكفار لكسر الأصنام وتحطيمها، وهم لا يتحاشون عنها، فإنهم يطوفون بين الصفا والمروة وقد وضعت عليها الأصنام فجاءت الآية لإبطال الشبهة التي قد ترد للتشكيك في جهاد المسلمين وعبادتهم فبين أن الصفا والمروة هي من شعائر الله وليست من العادات الجاهلية[8]. ثم تدبر الآيات من (190 195) (وقاتلوا في سبيل الله …) إلى قوله: (وأنفقوا في سبيل الله…) ثم جاءت الآيات بعدها تذكر حكم الحج وأقسام الحجاج، فما وجه التناسب والارتباط بين هذه الآيات التي تتكلم عن الحج والآيات التي تتكلم عن الجهاد؟ والجواب: لما كان الحج والعمرة من أصناف الجهاد إذ فيهما جميع ما في الجهاد من مفارقة الأوطان والأحبة والإخوان وتجشم صعوبات السفر والهجران ذكر مسألتهما بأكمل وجه، ثم ذكر الأقسام الأربعة للحجاج وهم: 1 ((فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق)). 2 ((ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)). 3 ((ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام)). 4 ((ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد)). ثم تدبر الآيات (261 276) ((مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله)) إلى قوله: ((يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم)). فقد ورد في القرآن الكريم أكثر من مرة أن تذكر مسألة الإنفاق في سبيل الله ثم يتبعها ذكر حرمة الربا، هذا النوع من الترابط يسمى ربط التضاد، والمناسبة بينهما أن كلاً من المنفقين ينفق اليسير طمعاً بالكثير، المنفق في سبيل الله طمعاً ورغبة بثواب الله - عز وجل - الذي يربي الصدقات، والمرابي طمعاً بما عند الإنسان الفقير المدين. وأكثر ما يؤخذ الربا في معاملات المداينة ولذا أتبعه بذكر آية الدين التي هي أطول آيات القرآن الكريم، لأن معاملات الدين تطول بالتسويف والمماطلة، فتأمل هذا التناسق العجيب[9]. وفي سورة آل عمران تدبر الآيات (26 28) ((قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء)) إلى قوله ((لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء)). يتضح لك وجه الربط إذا علمت بأن الله - تعالى - مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير - سبحانه - وهو الذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو الذي يرزق من يشاء بغير حساب. فإذا كانت هذه الأمور كلها بيد الله - عز وجل - فلا حاجة لموالاة الكافرين. وفي سورة النساء تدبر الآيات (100 102) ((ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة)) إلى قوله - تعالى -: ((وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهيناً))، فالآيات تذكر فضل الموت في ديار الهجرة وبعدها القصر في الصلاة وبعدها صلاة الخوف، فما وجه الربط بين هذه الأمور؟ جوابه أن الجهاد والهجرة يلزمان السفر فذكر صلاة السفر، ولأن الخوف يقع في الجهاد ذكر صلاة الخوف(10)، فبان التناسب والارتباط. وفي هذه السورة (النساء) يذكر أحكام الجهاد، ثم يذكر أحكاماً أخرى تتعلق بالنساء والأيتام والضعفاء ((ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن))، ((يستفتونك قل الله يفتيكم)). فإذا سألت ما وجه الربط بين الكلام عن أحكام الجهاد والكلام عن حقوق النساء واليتامى والضعفاء وبيان نصيب الورثة من هؤلاء وغيرهم؟ فالجواب: أن الجهاد ذروة سنام الإسلام ولا يتحقق معنى الجهاد الصحيح الذي أراده الله - تعالى - إلا إذا كنتم مقسطين منصفين مخلصين لله - عز وجل - ملتزمين بحدوده ومطبقين لأحكامه وشرائعه التي شرعها لكم، لا بد لتحقيق أهداف الجهاد السامية من الروابط الوثيقة بين أفراد المجتمع فلا يظلم الضعيف والفقير والمسكين ولا تهضم حقوق اليتامى والنساء ولا يبغي أحد على أحد ولا يأكل أحد مال أحد بغير حق إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم. فهل تدبرت آيات القرآن الحكيم وتأملت في واقع الأمة الإسلامية اليوم خصوصاً المناطق التي رفع فيها علم الجهاد، وينتشر في أهلها الظلم والفساد، فهم لم يكونوا مؤهلين لنيل كرامة المجاهدين في سبيل الله أعني الذين لم يتمكن الإيمان في قلوبهم ولم يتفقهوا في الدين، أرأيت كيف تحولت بلادهم إلى ساحات بغي فحملوا السلاح وتحولوا إلى عصابات سفكت الدماء واستباحت الأعراض والأموال والحرمات، إن شرف الجهاد يناله أناس جعلوا الدنيا في أيديهم لا في قلوبهم، ويجعلون همهم رضا الله، في قلوبهم رحمة وشفقة على الخلق يرجون لهم النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة. 1 وفي سورة المائدة قال - تعالى -: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين، فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين)). ((ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين)) ((يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم)). فتدبر الآيات ليتضح لك معنى لطيف من خلال التناسب والربط بينها ذلك بأن الله - عز وجل - نهى عن موالاة اليهود والنصارى. ثم بين أن المنافقين يحرصون على إرضائهم، إلى أن قال - سبحانه - ((يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه)). فالربط بين الآيات يوضح أن موالاة الكفار سبب في الردة عن الإسلام. 2 وفي سورة المائدة أيضاً تدبر الآيات (59 67) ((قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا)). إلى قوله: ((يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم))، فالآيات من (59 66) تتكلم عن أقوال اليهود وأخلاقهم ومسارعتهم في الإثم والعدوان وأكلهم السحت، وقولهم يد الله مغلولة ولعنوا بما قالوا وما حصل من إلقاء العداوة والبغضاء بينهم إلى يوم القيامة…إلخ، ثم جاءت الآية (67) تأمر الرسول - صلى الله عليه و سلم - أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه، فما وجه الربط والمناسبة بين هذه الموضوعات؟ فالجواب: إنه بالرغم من كون اليهود معتدين آثمين ويتجرؤون على الله - عز وجل - بقولهم يد الله مغلولة إلى آخر ما هم عليه من أوصاف ذميمة، فتبليغهم عسير وصعب جداً ولكن بالرغم من ذلك ((يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك))[10] فبان الارتباط. 3 وفي سورة العنكبوت: اتل قوله - تعالى -: ((يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون، كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون)) إلى قوله - تعالى -: ((وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم)) [الآيات: 56 60]. يتجلى المعنى بتدبر الآيات من جهة الربط والتناسب، فيكون معناها: إن الله - تعالى - يدعو عباده المؤمنين أن إذا وقع بكم أذى من الكفار في قطعة من الأرض وأرادوا إكراهكم على الكفر، فلا تطيعوهم فأرض الله واسعة، فهاجروا إلى قطعة أخرى، ولا تبالوا أن في الهجرة مفارقة الأوطان والأقرباء والإخوان إذ ((كل نفس ذائقة الموت)) فإن لم يحصل الفراق بالهجرة فيحصل بالموت، فالمفارقة لا مناص منها، وإن جال في نفوسكم أن لكم في أوطانكم ما يشق عليكم فراقه ويشغل بالكم من الأرزاق والمزارع والتجارات والبيوت، فقد يرد في أذهانكم سؤال هو: إن هاجرنا وتركنا البيوت والمزارع والأراضي والتجارات والصنائع التي نمتلكها فمن يأتينا بالرزق؟ فجاءت الآية لتزيل شبهة السؤال الذي يشغل عن الهجرة في سبيل الله فقال - تعالى -: ((وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم))[11]. 4 وفي سورة الأحزاب تدبر الآيات (25 29) قال - تعالى -: ((ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال)).. إلى قوله - تعالى -: ((يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً)). هذه الآيات تكلمت عن طائفة من أهل الكتاب وهم يهود بنو قريظة الذين ساعدوا الأحزاب في غزوة الخندق ضد النبي - صلى الله عليه و سلم -، ونقضوا العهد معه، فلما كتب الله النصر للنبي - صلى الله عليه و سلم - ومن معه من المؤمنين توجهوا لغزو بني قريظة فحاصروهم، ثم نزلوا على حكم سعد بن معاذ فيهم، فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم وتكون أموالهم غنيمة للمسلمين. ولما وقعت أموال بني قريظة غنيمة في أيدي المسلمين ووسع الله عليهم، طلبت أزواج النبي - صلى الله عليه و سلم - أن يوسع عليهن في النفقة[12]، فخيرهن الرسول - صلى الله عليه و سلم - بين أن يمتعهن ويفارقهن، وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال ولهن في ذلك عند الله الثواب الجزيل، فاخترن الله ورسوله والدار الأخرة، فجمع لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة. فمن خلال تدبر الآيات والبحث عن التناسب يظهر وجه الارتباط وتناسق السياق، وإن لم نهتم بموضوع الأرتباط بين الآيات فإنها ستظهر مقطعة الأوصال مشتتة لا رابط بينها. فمن الكلام عن بني قريظة إلى الكلام عن تخيير نساء النبي - صلى الله عليه و سلم -!! قال - تعالى -: ((وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون)) [الأعراف: 204]، وقال - تعالى -: ((قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون)) [الزمر: 28]. __________________________ [1] انظر معترك الأقران للسيوطي [1/58]. [2] انظر الفوز الكبير للدهلوي [ص 86]. [3] انظر التعريف بالقرآن والحديث ص 117 لمحمد الزفزاف. [4] أنظر تيسير الكريم المنان للسعدي، تفسير سورة الفاتحة. [5] انظر معترك الأقران (1/ 60). [6] انظر أنوار التبيان في أسرارا القرآن ص 31 للقاضي شمس الدين بن شير محمد [7] انظر المصدر السابق ص 32 [8] انظر المصدر السابق ص 40. [9] انظر أنوار التبيان في أسرار القرآن ص 55 للقاضي شمس الدين بن شير محمد. [10] انظر المصدر السابق ص 63. [11] انظر أنوار التبيان ص 158، 159. [12] انظر المصدر السابق ص 167.