بالأمس أطلعني السيد العماد أول مصطفى طلاس نائب القائد العام للجيش والقوات المسلحة، نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الدفاع في الجمهورية العربية السورية على رسالة جاءته، وتلطّف فكلّفني الإجابة والتعليق على ما جاء فيها، ففعلت.
ورأيتُها تشتمل على أمور يُكثِر الناسُ الأخذَ والردّ فيها، فاستأذنتُه فأذِن في نشرها وبثِّها، فأرجو أن يكون من ذلك فائدة يستفيدها بعض من يطلعون عليها.
تقول الرسالة في مطلعها: "اشتُهر عن علماء القرآن قولُهم: في القرآن أربعة مواضع فيها لحن، وواحد وعشرون موضعاً فيها نسْخ" وهاهنا -كما ترى- صنفان من الأسئلة، ولنقلْ صنفان من الملاحظات، مركوزان فيما يراه (بعضُهم!!) موضع نظر وأخطاءً في القرآن:
الصنف الأول: ما يسمى في علوم القرآن "الناسخ والمنسوخ".
والصنف الثاني: مسائل لغوية، أو نحوية إعرابية.
وقبل معالجة أيٍّ من الصنفين، والإجابة عنه، رأينا في صِيَغ الأسئلة، ما يستحق أن يوقَف عنده ويُتأمّل، ونبيّن ذلك فيما يلي:
جاء في نصّ السؤال عن الناسخ والمنسوخ: "اشتهر عن علماء القرآن قولهم …" ولم نرَ مِن قبلُ مَن قال: في الإفراد: "عالم القرآن" أو قال في الجمع: "علماء القرآن" نعم! هناك علوم القرآن، ومفسّروا القرآن، ومُعْربو القرآن، وقرّاءٌ وقراءات الخ … وأما قول السؤال: "علماء القرآن" فغير وارد، ولا يقولُه من لَه أدنى علاقة بالقرآن وعلومه، فإما أن يكون صاحب السؤال جاهلاً في هذا الباب، أوْ ليست لَه صلة بما يَسأل عنه، أو أنه لا يبتغي الاستعلام والاستفهام، بل يريد أن يناصب خصمه العداوة.
يضاف إلى ذلك أنّ عبارةَ: "اشتهر عن علماء القرآن قولهم: في القرآن أربعة مواضع فيها لحن، وواحد وعشرون موضعاً فيها نسْخ"، هي عبارةٌ لا حقيقة لها، ولم يقلها من قَبْلُ عالِم، فالقضية إذاً ليست مركوزة في أن هذه العبارة، اشتهرت أو لم تشتهر، بل هي في أنها لم تُقَلْ، ولا تقال أصلاً، وإنّما قرأ صاحب السؤال هنا أو هناك أو هنالك أنّ (عثمان قال) و (أبان ابن عثمان قال) و (سُئِلتْ عائشة فقالت) الخ… ثم لما أراد أن يغمز ويلمز قال من عندِ نفسه: "اشتهر عن علماء القرآن قولهم"، ثم تكلّف العدّ والإحصاء فقال: أربعة مواضع، وواحد وعشرون موضعاً!! وإلاّ فمَن هم (علماء القرآن!!) أولئك، الذين عدّوا وأحصَوا؟!
إنّ استعمال عبارةِ "اشتُهر عن علماء القرآن" إنما جيء بها للتهويل، وإرعاب من يقرؤها أو يسمعها، وسلبِه ((معنوياته)) من قَبل أن تبدأ الأسئلة، شأنها شأن قنابل الصوت في المعارك الحربية.
ومِن المعجن نفسه قولُ صاحب السؤال: "حرّرها الإمام السيوطي في الإتقان"، فهاهنا إمام مشهور هو السيوطي، وكتاب تراثي اسمه الإتقان، وقبل هذا وذاك عبارةٌ "دِعائية" لا تجدي على المسألة شيئاً هي "حرّرها الإمام السيوطيّ"، ويكفي لبيان جدواها وقيمتها قولُ السيوطيّ نفسه بعد أن ذكر صنوفاً مختلفة من الناسخ والمنسوخ: "وبقي مما يصلح لذلك عددٌ يسير، وقد أفردته بأدلّته في تأليف لطيف، وها أنا أورده هنا محرّراً الخ…"، فماذا يجدي على المسألة هاهنا أن يقول السيوطي: (أنا أورده هنا محرّراً)؟ لا يجدي شيئاً كما ترى!!
وإنما أوردَ ذلك صاحبُ السؤال للاستقواء باسم السيوطي وكتابه "الإتقان"!!
هذا، على أنّ المرء يستنتج مما تقدّم: أنّ صاحب السؤال ليس لَه صلة علمية بما سأل، وأنه من منكري وجودِ ناسخٍ ومنسوخ في القرآن!! وأنه أدنى إلى تصيُّد ما يظنه عيباً فيه.
وصحيحٌ أنّ هذه الملاحظات ليس لها علاقة مباشرة بما طُرِح من الأسئلة، ولكنّ للحجّة نصيبها من البيان!!
وبعد:
فإنّ الأئمة وقفوا عند مسألة (الناسخ والمنسوخ)، وألّفوا فيها كتباً، حتى لقد قال السيوطيّ: "أفرده بالتصنيف خلائق لا يُحْصَون…"، ومِن منطق الأشياء أن يقال: إنهم لم يفعلوا ذلك لينكروا اشتمال القرآن على ناسخ ومنسوخ، وإنما فعلوه؛ لما يرتبط به من أحكام الشريعة، وتنظيم المجتمع، وإقرار الحقوق والواجبات الخ… ومن منطق الأشياء أيضاً، أنّ السؤال الذي نحن بصدد الإجابة عنه، ينبغي أن يُصنَّف في إضبارة (معاداة القرآن).
وليس عند عدوّ القرآن وهو يَعرض على الناس مواضع من القرآن فيها ناسخ ومنسوخ إلاّ دعوى واحدة، كان القرآن الكريم نصَّ عليها وأعلنها يومَ نزل، فقال: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) [البقرة: 106] فيكون عرْضُها على الناس في أيامنا هذه، والقولُ بأنّ السيوطي حرّرها، أقربَ إلى اللغو!!
يدلّ على ذلك ويُثبته: أنّ صاحب الأسئلة أتى بنماذج من الناسخ والمنسوخ، ولم يسأل عن تفسير شيء منها ولا عن تعليله الخ…!! وقد تأمّلتُ ما جاء في السؤال فلم أر استفتاءً في مسألة، ولا استفهاماً عن مسألة، ومن الطرائف حقّاً، أن يورد امرؤٌ إحدى وعشرين قضية، يعرضها ولا يسأل عن شيء فيها!!
ولو قال قائل: إنّ عرْضها على النظّارة، صنفٌ من صنوف التعبير عن العداوة، والتشنيع على الخصم، لما كان متزيّداً.
وأما الصنف الثاني -وهو المسائل اللغوية أو النحوية الإعرابية- فنتناوله فيما يلي:
أولاً: مسألة "اللحن" من المفروغ منه أنّ العربية لغة قديمة، وما كان مِن لغةٍ قديمةٍ، فإنّ التطوّر يلابسه بالضرورة، عن طريق الحقيقة أو المجاز أو اللفظ أو المعنى، ولقد يبلغ ذلك بالكلمة أن تلبس ضدَّ معناها، أو لباساً شديد البعد عن أصل معناها!! أو تَغْمُض الصِّلةُ بينها وبين جذرها، فتبقى كالجزيرة في المحيط الخ… وليس هذا مقصوراً على العربية، بل يشمل كلّ لغة. ومن شاء أن يستحضر الأمثلة من اللغات الأخرى استحضرها، وما أمْر (صيغة je suis) في الفرنسية وغموض أصلها وتطورها على الزمان ببعيد.
والمسألة هاهنا، أنّ كلمة "اللحن" من الوجهة اللغوية، ذات معانٍ شتّى، حفظتْها كتب اللغة ومعاجمُها، منها: المعنى الذي يعرفه الناس جميعاً، وهو: "الغلط النحوي أو الصرفي"، والقضية هاهنا أنّ معانيها الأخرى لا يعرفها أو يستعملها أو يلتفت إليها إلاّ الخاصّة، قال - تعالى-: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمد: 30] أي: في فحواه ومعناه، ومنه قول الشاعر:
منطق رائعٌ، وتلحن أحياناً *** وخيرُ الحديث ما كان لحْنا
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لعل بعضكم أن يكون ألْحَنَ بحجته من بعض))، أي أقوى على تصريف الكلام وصوغ الحجّة، ومن معانيها: "اللغة" يقال: لَحَنَ فلانٌ بلحْن بني فلان، أي: بلغتهم، ومنها: "لَحَنَ له" إذا قال لـه قولاً يفهمه عنه ويخفى على غيره، ومنها: "لحن عنه" إذا فهم قولَه، ومنها: "لحن إليه" أي: قصده ومال إليه، ومنها: "لحن قولَه" إذا فهمه، إلى آخر ذلك من المعاني.
وصحيح أنّ معنى المادة في الأصل هو: "الذهاب"، فهذا ذهابٌ عن الصواب في الإعراب، وذاك ذهابٌ عن الوضوح في أداء معاني الكلام، وذلك ذهاب من لهجة قبيلة، إلى لهجة قبيلة أخرى الخ… لكنّ الذي يتبادر إلى الذهن من جميع هذه المعاني في عصرنا هذا، هو الذهاب عن الصواب إلى الخطأ أي: الخطأ الإعرابي أو الصرفي، فحيثما وردت كلمةُ "لحن" ذهب ظنُّ القارئ والمستمع إلى معنى "خطأ الإعراب" دون المعاني الأخرى.
قال عثمان: لَمّا فُرِغ من كتابة المصحف: "أرى شيئاً من لحنٍ ستقيمه العرب بألسنتها"، وقد علّق الأئمة على ذلك فقالوا: "لو كان فيه لحن لا يجوز في كلام العرب جميعاً لما استجاز أن يُبعث إلى قوم يقرؤونه" الدر المنثور 2/246.
وإنّ هذا لقولٌ قاطعٌ كلَّ قول، يصحّ فيه المثل: "قطعت جَهيزةُ قولَ كلِّ خطيبِ"؛ إذ ليس معقولاً ولا منطقيّاً أن يَرى عثمانُ في القرآن خطأً نحوياً أو صرفياً، فلا يُصلحه ولا يقوّمه، بل يُرسله على ما فيه من الخطأ إلى أقطار الدولة الإسلامية من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، قائلاً: إنّ العرب ستقيمه بألسنتها؟! وكيف يجوز ذلك؟ وهل من إقامة العرب اللحنَ بألسنتها أن تجعل المرفوع مجروراً أو منصوباً؟؟ وتجعلَ المجرور منصوباً أو مرفوعاً؟؟ وتجعلَ الألف والنون من المثنى، ياءً ونوناً؟؟ وهل من ذلك أن تغير العرب إعرابَ المفردات؟؟
إنّ هذا ونحوه، لا يكون، ولا يُظَنّ -ولو في الخيال- أن يكون، ومع ذلك يظل المرء بين يوم وآخر، يسمع قائلاً يقول: إنّ في القرآن لحناً، أي: خطأً، كما يَظُن!! ويستدلّ على ذلك بقول عثمان: أرى في المصحف شيئاً من لحن؟!
وبعد، فلْننظر في المواضع الأربعة التي يجعلها الجاعلون مواضع غمز ولمز في القرآن، أهي ذات تراكيب عربية؟
وأعاريبها؟ أهي أعاريبُ توافق قواعد لغة العرب؟
ولْننظرْ حجج المنتصرين لها، أهي حججٌ يصحّ معها الكلام ويستقيم؟
أولاً: (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) [طه: 63].
من المقرر في العربية، أنّ (إنّ) حرف مشبه بالفعل ينصب الاسم ويرفع الخبر، وأنها قد تُخفَّف فيقال: (إنْ) فيجوز عند تخفيفها إهمالُها، فيكون الاسمان بعدها مرفوعين ((مبتدأً وخبراً))، وتسمى اللامُ الداخلةُ -عند ذلك- على الخبر: (اللامَ الفارقة)[1].
وقد جاء ذلك في القرآن وفي كلام العرب، قال - تعالى-: (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) [البقرة: 143]، وقال الشاعر:
وإنْ مالكٌ لَلْمُرتجى إنْ تقعقعتْ *** رحى الحربِ أو دارت عليَّ خُطوبُ
وقالت عاتكةُ بنت زيد زوجةُ الزبير، لقاتل زوجها:
شَلَّتْ يمينُكَ إنْ قتلتَ لَمُسْلِماً *** حَلَّتْ عليك عقوبةُ المتعمِّدِ
وتنظر في جميع ذلك فترى (إنّ) قد خُفِّفتْ وسكنت نونها: (إنْ)، وترى لاماً داخلةً على الخبر، هي اللام الفارقة: (لَكبيرة - لَلْمرتجى - لَمسلماً)، وينطبق ما قدّمناه آنفاً على الجملة القرآنية: (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) فإنها جملة مصوغة في قالب عربيّ لا شكّ في عربيته، وهذه قراءة حفص عن عاصم، وبها يقرأ أهل الشام. ولو نظرت في مصاحفهم لما رأيت (إنّ هذان لساحران)، كما يظنّ الكثير من الناس، بل ترى (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ)، ولكنّ الغمّازين اللمّازين يتغاضون عن هذه القراءة كأنها لم تُقرأ، وينصرفون إلى قراءةٍ أخرى فيقولون: "القرآن يقول: (إنّ هذان لساحران)، وهذا لحن!! والقياس: (إنّ هذين لساحران)"، يقولون هذا ويتمسّكون به، ويأبون الانصراف عنه، ويحكمون بأنه "لحن" دون تحديد صنف هذا اللحن، تاركين لأنصاف المتعلمين أن يفهموا من الكلمة، أنّ في القرآن غلطاً!! متغافلين عن وجوهٍ من التخريج، ينفي كلٌّ منها عن القرآن ما أراد الغمازون اللمازون أن يلصقوه به، وينتقلون بالمسألة من اللغة، إلى صحة العقيدة نفسها، فإذا صحّت القراءة -عندهم- صحّ الدين كلّه، وإذا لم تصحّ لم يصحّ!! وفيما يلي شيء من تلك الوجوه، لا سبيل إلى ردّه، ولا عيب فيه عربيةً:
• إنّ قراءة (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ)، وعليها مصاحف أهل الشام جميعاً، عربيةٌ فصيحة سليمة، ما فيها لعيّاب معاب!! وقد بينّا وجهها من العربية، وأوردنا لها آنفاً ثلاثة شواهد من كلام الله وكلام العرب.
• إنّ بني كنانة، وبني الحارث ابن كعب وغيرَهم أيضاً، يلفظون المثنى بالألِف في جميع أحواله، سواء أكان المثنى مرفوعاً أم منصوباً أم مجروراً، يقولون مثلاً: (جاء الرجلان - رأيت الرجلان - مررت بالرجلان) وعلى ذلك قول الشاعر:
تزوَّدَ مِنّا بين أُذناه ضربةً *** دَعَتْهُ إلى هابِي الترابِ عقيمِ
وقولُ الآخر:
إنَّ أباها وأبا أباها *** قد بلغا في المجد غايتاها
فمن قال: إنّ في جملةِ (إنّ هذان لساحران) لحناً، قلنا لَه: نعم فيها لحنٌ، لكنه لحنُ "أيْ: لغة" بني كنانة والحارث ابن كعب…، لا أنّ فيها "لحناً" أي: خطأً إعرابياً.
• [إنّ]: حرفٌ لَه في اللغة معانٍ، منها: أنها تأتي بمعنى "نَعَمْ"، قال رجلٌ لعبد الله ابن الزبير، وقد جاء طالباً رِفده فلم يَحْلَ بطائل: "لعنَ اللهُ ناقةً حملتني إليك!! فقال لـه ابن الزبير: إنَّ وراكبَها، أي: نعمْ لَعَنَها الله، ولعن راكبَها"، وقال عبيد الله ابن قيس الرقيات:
بكر العواذلُ في الصبوح يَلُمنَنِي وألومُهُنّهْ[2] *** ويقلنَ: شيبٌ قد علا كَ وقد كبِرتَ فقلتُ: إنّهْ
أي: نعم، قد كبِرتُ وعلاني شيبٌ.
وعلى هذا يكون معنى الآية: (نعم، هذان ساحران)، واللام للتوكيد.
• قرأ أبو عمرو -وهو أحد القرّاء السبعة-: (إنّ هذين لساحران).
ثانياً:
(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة: 177].
الواو، مِن (والموفون)، حرف عطف، وقد عطفت (الموفون) على (مَن آمنَ)، وليس هاهنا شيء يقال، وإنما هو تمهيد لما سيأتي وهو أنّ: (والصابرين)، كلمة منصوبة بفعل محذوف وجوباً تقديره: (أمدح)، تشريفاً لفضيلة الصبر وإعلاءً لشأنها، وأما الذين يغمزون ويلمزون فيقولون: "السياق أن يقال: (والصابرون) عطفاً على ما سبقه".
يقولون ذلك كأنّ النصب -مدحاً للصابرين- يعاب على لغة القرآن!! فيعدّونه مما يؤخَذ على لغته!! فتراهم في: (إن هذان لساحران) يحتكمون إلى أقوال النحاة، وتراهم هنا يحتكمون إلى أمزجتهم وأهوائهم، يريدون أن يُنطقوا القرآن بما يهوَوْن فيقولون: "السياق أن يقال: (والصابرون) عطفاً على ما سبقه".
فإذا قلت لهم: إنّ هذا من صميم لغة العرب، والشواهد كثيرة، ودّوا لو يقدرون على طمسها، وقد كان عليهم قبل غمزهم ولمزهم أن يطعنوا -إن استطاعوا- في تلك الشواهد، لا أن يسكتوا على وجودها وصحّتها على مضض، ثم يقولوا: إنّ في القرآن لحناً!!
ولقد وقف الفرّاء عند هذا التركيب العربي في كتابه "معاني القرآن" 1/105 فنصّ على أنّ العرب إذا تطاولت الصفات "يعني: إذا تتابعت" نصبت على المدح، قال: "كأنهم ينوون إخراج المنصوب بمدحٍ مجدَّد غير متبعٍ لأول الكلام؛ من ذلك قول الشاعر[3]:
لا يَبْعَدَنْ قومي الذين همُ *** سُمُّ العُداةِ وآفةُ الجُزْرِ
النازلين بكلِّ معترَكٍ *** والطيّبين[4] معاقدَ الأُزْرِ
وربّما رفعوا: "النازلون" و "الطيبون"، وربما نصبوهما على المدح. والرفع على أن يتبع آخر الكلام أوّله، وقال بعض الشعراء:
إلى الملك القَرْمِ وابنِ الهُمام *** وليثَ الكتيبةِ في المزدحَمْ
وذا الرأي حين تغمُّ الأمور *** بذاتِ الصليلِ وذاتِ اللُّجُمْ
فنصب (ليثَ الكتيبة) و(ذا الرأي) على المدح، والاسم قبلهما مخفوض.
قال: وأنشدني بعضُهم:
فليْتَ التي فيها النجوم تواضعتْ *** على كلِّ غثٍّ منهمُ وسمينِ
غُيوثَ الحيا في كلِّ مَحْلٍ ولَزْبَةٍ[5]*** أسودَ الشرى يَحْمِينَ كلَّ عرينِ
فنصب "أي: نصب غيوثَ وأُسودَ" اهـ.
ويلاحَظ هاهنا أنّ الفرّاء لا يفرّق بين النعت والعطف، عند كلامه عنهما، وذلك أنّ الغاية منهما كليهما واحدة هي المدح، والوسيلة كذلك واحدة، هي المخالفة عن الإعراب المعهود إلى إعرابٍ جَلَبَه المعنى المبتغى، هو الرفع بعد النصب -مثلاً- أو النصب بعد الرفع الخ….
ومنه قول حاتم الطائيّ:
إنْ كنتِ كارهةً معيشتنا *** هاتا[6]فحُلّي في بني بدْرِ
الضاربون لدى أعنَّتهمْ *** والطاعنون وخيلُهمْ تجري
ولكن الفراء رأى -كما يبدو- أنّ ما أورده تعليلاً للنصب أو الرفع على المدح، ينطبق أيضاً على الآية/162 من سورة النساء، فقال: "ونرى أنّ قوله: (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) [النساء: 162]، أنّ نصب "المقيمين" على أنه نعتٌ للراسخين، فطال نعتُه ونُصِب على ما فسّرتُ لك".
ثمّ لَمّا دنا من أن يختم كلامه قال - موجّهاً النظر إلى أنّ هذا يكون في الذمّ كما يكون في المدح، فأورد قول أمية ابن أبي عائذٍ الهذلي:
ويأوي إلى نسوةٍ بائساتٍ *** وشعثاً مراضيعَ مثلَ السعاِلي
(شعث: جمع شعثاء - السعالي: جمع سِعلاة وهي الغول)، وبسط القول فقال: "(وشعثٍ) فيجعلونها خفضاً بإتباعها أوّل الكلام، ونصباً على نية ذمٍّ في هذا الموضع".
ثالثاً:
ويبقى من هذا المِعجَن غمزهم ولمزهم في الآية /69 من سورة المائدة وفيها: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [المائدة: 69].
فإنهم يقولون: السياق أن يقال: ((الصابئين)) عطفاً على ما تقدّم، وليس لهذا القول إلاّ معنىً واحد، هو أنهم يقدّمون اللفظ ويُعْلونه على المعنى!! ولو أنّ القرآن أراد العطفَ على السياق كما أرادوا، وكما قدّروا أنه الصواب، لما منع من ذلك مانع، وصغار الصبية في ساحة الحيّ أيام الجاهلية، يعرفون ذلك ويؤدّونه عفو الخاطر!!! أوَ يعرفه صبيان الجاهلية ويجهله القرآن؟؟!! إنّ هذا التغافل أو التجاهل لعجيب غريب.
إنما أراد القرآن معنىً لا يؤدّيه العطف على السياق، فحوّل العبارة إلى ما يعبِّر عن المعنى المراد، وبيان ذلك: أنّ (الذين هادوا) كان لهم كتابٌ سماويٌّ فيه شريعتهم هو التوراة، وأما الصابئون فليس لهم مثل ذلك، فلا شريعة لهم ولا عقيدة سماوية، فلو عُطِفوا على (الذين هادوا) -كما يريد الغمازون اللمّازون- لساوَوْهم وكانوا مثلَهم على حين لا يتساوى الصابئون والذين هادوا، ولا هم أصلاً مثلهم، فلما أراد القرآن أن يبيّن ذلك، أفرد الصابئين ومازهم من الذين هادوا، فقطع واستأنف فقال: (والصابئون)، أي: والصابئون كذلك، فانظر إلى ما يريد الله وما يعبِّر به عن المراد، وإلى الغمّازين اللمّازين وما يريدون من عيبهم للقرآن، وإلى ما يعبّرون به عن مرادهم، وهو قولهم: (والسياق أن تكون "والصابئين" على العطف)!! فأيّ عطف هذا والعطفُ غير مراد؟ أستغفر الله!! بل العطفُ هو غيرُ المراد!! بل العطف يشوّه المراد!! العطف يجمع الصابئين واليهود في قَرَن، والقرآن هنا يريد أن ينبّه على ما بينهما من البعد والانفصام، وأنّ هؤلاء ليسوا كأولئك!! ولذلك قطع واستأنف ليفرق بينهما. فهل يُعَبَّر عن الافتراق بين الشيئين بعطف أحدهما على الآخر؟؟!! ما لكم؟ كيف تحكمون؟!
لقد تفرّد الصابئون بأنهم لا كتاب لهم، فتفرّد التعبير عنهم كذلك، وجاء مرفوعاً بعد منصوبَيْن. فتجلّت الغاية أحسن التجلّي، وكان في هذا الاختلاف اللفظي -ما بين نصبٍ ورفع- ما ينبِّه كلَّ غافل على أنّ هاهنا شيئاً أراده القرآن وقد يغفل عنه القارئ!! إنها التماعة سماوية تستسرُّ في علامة الرفع الضئيلة هذه!! فتنبِّهُ غيرَ المنتبه: أيها الغافل انتبهْ، فإنّ الصابئة وإن لم يكن لهم كتاب سماويّ فإن شأنهم في الآخرة كشأن من لهم كتاب، إذا تساوَوا في الإيمان بالله والبعث، وصلاح العمل!! فالذين آمنوا والذين هادوا -وكذلك الصابئون وإن لم يكن لهم كتاب سماويّ- والنصارى، مَن آمن منهم بالله واليوم الآخِر وعمل عملاً صالحاً، فقد وجب لَه عندنا في الآخرة ألاّ يخاف ولا يحزن. فأصحاب الكتب السماوية على النصب، ومن ليس لهم كتاب سماويّ على الرفع.
فأين السياق الأعمى، مِن هذا التعبير المبصر؟! وأين الماء الفرات من الملح الأُجاج؟ أتعلّمون اللهَ بلغتكم؟!!
ولقد يَظنّ ظانٌّ أنّ العرب لا تعرف ذلك!! فنقول لـه: بل تعرفه وتستعمله في كلامها، وهل جاءهم القرآن إلاّ بما يفهمون ويستعملون ويعبّرون؟؟!! (وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [النحل: 103].
فلقد لاحظ الخليل وسيبويه هذه الظاهرة، فقالا -هما وجميع البصريين-: "الصابئون" مرفوع بالابتداء، ودونك شيئاً مما قالت العرب من ذلك: قال بِشر ابن أبي خازم:
وإلاّ فاعلموا أنّا وأنتمْ بُغاةٌ ما بقينا في شقاقِ
والمعنى: فاعلموا أنا بغاةٌ ما بقينا في شقاق، وأنتم كذلك أيضاً، وذلك أنّ ضمير الرفع" أنتم" لا يُعطَف على ضميرٍ هو في محلّ نصب (لدخول "أنّ" عليه)، فدلّ ذلك على وجود جملة من مبتدأ وخبر بعد الواو فصلت بين " أنّا " والخبر "بغاة".
وقال ضابئ البرجميّ:
فمنْ يكُ أمسى بالمدينة رَحْلُه *** فإنِي وقَيّارٌ بِها لَغريبُ
(قيّار: اسم فرسه) والمعنى: إني لغريب بالمدينة. وقيارٌ كذلك.
رابعاً:
بعد هذا تبقى الآيةُ/10 من سورة (المنافقون): (وأنفقوا مما رزقناكمْ مِن قبل أن يأتيَ أحدَكُمُ الموتُ فيقولَ ربِّ لولا أخّرتني إلى أجلٍ قريبٍ فأصَّدَّقَ وأكُنْ من الصالحين)، وفيها ثلاث كلمات يحسن الوقوف عندها واحدةً واحدة، لنضمن وضوح ما في الآية من مسائل:
أولاً وثانياً: إنّ (لولا) للتحضيض، "وهي هنا للعرض"، والتحضيض "طلب"، ومنه فإنّ الفاء مِن "فأصّدّقَ" هي فاء السببية، وفعل "أصّدّقَ" مضارع منصوب بعد فاء السببية، وليس هذا الذي قدّمناه محتاجاً إلى مزيد بيان، فالتركيب وإعرابه على المنهاج.
ثالثاً: (وأكنْ): قال الغمّازون اللمّازون: القياس أن يكون الكلام: (فأصّدّقَ وأكونَ)؛ لأن الذي هنا هو فعلٌ مضارع "أكون"، معطوف على فعل مضارع قبله "أصّدّقَ" والمعطوف على المنصوب يكون منصوباً، والذي في الآية فعل مجزوم: (أكنْ)، مع أنه معطوف على منصوب، وهذا مخالفٌ "للقياس"، وعدّوا ذلك في القرآن لحناً.
وفي الجواب نقول: إنّ أبا عمرو وهو من القراء السبعة، قد قرأ: (فأصّدّقَ وأكونَ)، فإن كان هذا ما تبتغونه فقد وقعتم عليه!! وأما إذا كنتم تريدون ما وراء ذلك -وأنتم تريدون ما وراء ذلك!! - فعليكم أن تقبلوا حجةَ القراءةِ الأخرى، وما يتعلق بها من تخريج وإعراب، وبيانُ ذلك أنّ: (أكنْ)، مضارعٌ مجزوم باعتباره جواباً لشرطٍ محذوف، والكلام إذاً يتضمن شرطاً مقدَّراً، أي: (إنْ تؤخّرني أكنْ).
ولقد صحبتُ الآية فأطلتُ صحبتَها، وتأملتها وأنعمت النظر فيها، فوقعت على نكتةٍ، لعل في إدراكها وضعاً للأمور في نصابها إن شاء الله.
وذلك أنّ في الآية صيغتَين معنويّتين مختلفتين، وقد أدّى اختلافُهما، إلى اختلاف صيغة التعبير عنهما، ومن طبائع الأمور إذا اختلف المعنى، أن تختلف صيغة التعبير عنه، وهكذا، كان للصيغة المعنوية الأولى، صيغةُ نَصْب، وللصيغة المعنوية الثانية، صيغةُ جزم. وفيما يلي بيان ذلك:
في الصيغة الأولى: (رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ) [المنافقون: 10]. نعم، (إلى أجلٍ قريب)!! قد لا يقتضي المتصدِّقَ أكثر من أن يقول للمسكين الذي يستحقّ الصدقة: (خذ يا فلان، ودونك يا علاّن). وحتى لو أنّ أموال المتصدِّق تزيد على مال قارون، لأنفَدَتْها كليمات، ولما احتاج تفريقها في المحتاجين المتصَدَّق عليهم إلى أكثر من أجل قريب: ساعاتٍ أو أيامٍ، فإنْ بَعُد الأمدُ فأسابيع، ومن هاهنا أنْ حدَّد الطالب طلبه[7]فلم يزد على أن يكون ما يطلبه أجلاً قريباً، وذلك أنّ مَن يريد التصدّقَ، يكفيه الأجلُ القريبُ، لتحقيق ما يريد، ولهذا لم يُجاوِز بطلبه الأجلَ القريب فيطلب أن يؤخَّر إلى أجل بعيد؛ لأنه مستيقنٌ أنّ الله يعلم ما يحتاج إليه التصدّقُ من زمن، ولو طلب أكثر من الأجل القريب لافتضح!! فتكشّف عن شحيح في الدنيا، ومراوغٍ بعد الموت -وهو بين يدي الله- في الآخرة!!
وأما الصيغة الثانية: فمسألة أخرى، لا يتحقق مضمونُها، والمرادُ منها بعطْف (أكنْ من الصالحين) على (أصّدَّقَ)، أعني لا يتحقق مضمونها، والمراد منها إذا قيل: (فأصّدّقَ وأكونَ من الصالحين)، ذاك أنّ الصلاح ليس كالتصدّق، فالتصدّق قد يتمّ في ساعة أو ساعات، أو يومٍ أو أيام، وأما الصلاح فلا بدّ لتحقيقه من زمن يمتدّ حتى يمازج الطُّهرُ والصفو والنقاء أعماقَ النفس ويبلغ قرارَتها، ومِن دون ذلك لَـيُّها وقهرُها وتعويدها ما لم تَعْتَدْ وتأليفُها غيرَ ما أَلِفت، وإلاّ لم يكن صلاحٌ، وما كان هذا شأنه لا يصْدق عليه الأجل القريب، ومِن ثَمّ لا يناسبه النصب عطفاً على (أصَّدّقَ)، ومن هنا كان الانتقال من تركيب العرض ولِينه وفوريّته، أي: تأْخيرٌ فتصدُّق، إلى تركيب الشرط وقوّته وبُعْدِ وقتِ حدوثه، أي: إنْ تؤخِّرني أستحدثْ في نفسي من الطهر والنقاء … ما أكون به من الصالحين، فهاهنا كفّتان أنشأهما تركيب الشرط، في الأولى اشتراط تأخير، وفي الثانية (جزاء!!) هو استحداث الصلاح من بعد الطلاح، وبهذا التركيب الشَّرطيّ نهض المعنى المراد وتَكَوَّن، وهو: (إنْ تؤخّرْني إلى أجل بعيد أُلجِمُ خلاله نفسي، وأكفُّ من إرانها، وأعوّدُها عَلْكَ الشكيمة إلى أن تأنس بحديدها، أكنْ من الصالحين).
وقد يقول قائل: لقد بنيتَ على هذا الفعل المجزوم (أكنْ)، بناءً مفترضاً متخَـيَّلاً بغير أساس مرئيّ، فنقول: بل هو بناءٌ مقام على أساس واقعيّ، لكنْ لا يراه إلاّ مَن أَلِف (موادّ البناء) في صرح العربيّة، وعرف الفرق بين (لولا) و(إنْ)، وبين (جزاءيهما: جزاءِ العرض وجزاء الشرط)، وبيانُ ذلك: أنّ العربيّ يعرف بسليقته أنّ الجزم لا يقع على الفعل المضارع ما لم يكن جازم، فإذا سمع جزماً ولم يرَ جازماً، أدرك بسليقته أنّ في الكلام أداةَ شرطٍ وفِعْلَ شرطٍ قد حُذِفا، ومنه فيما نحن بصدده أنّ هذا الفعل الذي هو (أكنْ) ما كان يصحّ أن يُجزَمَ فيكون جواباً وجزاءً لولا هذان المحذوفان، نعم!! إنّ العربي الذي نزل القرآن بلسانه، يعرف ذلك أحسن المعرفة، ويفهم أحسن الفهم، أنّ هذا الحذف -مع بقاء فعلِ (أكنْ) مجزوماً بلا جازم يُرى- قد كشف الغطاء عن معنىً ما كان لولا الحذف ليتكشّف، وفرّق بين العرض والشرط، وعبّر بكلمة واحدة عن كلام، وكيف يُدرك الغمّازون اللمّازون مثل هذا، وأقصى ما أدركوه من (وأكنْ) أنّ الواو حرف عطف، وأنّ المعطوف على المنصوب منصوب مثله، فإذا جاء بعد الواو مجزوم، فمجيئُه لحنٌ!! وخروجٌ على القياس!! وإخلالٌ بقواعد العربية!! التي أسّست على لغة القرآن وضِعت بعد الهجرة بأكثر من مئة وخمسين سنة!! فجعلوا القرآن مَقِيساً عليها وهي الْمَقِيسة عليه، وخاضعاً لها، وهي الخاضعة له!!
لو أدرك هؤلاء أسرار هذا الحذف، وبقاءِ فعلٍ مجزوم بغير جازم يُرى، لعرفوا معنى بلاغة القرآن وإعجاز القرآن!! ولسجدوا أو كادوا لبلاغته وإعجازه، ولكنْ من أين؟ وأقصى ما عندهم أن القياس يوجب أن يقال: (وأكونَ) عطْفاً على (أصّدّقَ)؟!! يقولون ذلك غافلين عن أنّ العطف والنصب يخبَأان وراءهما افتضاح كذب طالب التأخير؛ إذ يَعِدُ اللهَ أن يكون من الصالحين في أجل قريب، وهو يعلم أنه لا يستطيع أن يُوفِيَ بما يعاهد الله عليه -حتى لو صحّت نيّتُه- إلاّ بعد أجل بعيد.
ولقد كان على هؤلاء قبل أن يزعموا وقوع لحْن (غلط) في القرآن، أن يعلموا أنّ هذا الأسلوب الذي نحن بصدده، قد تكرر في كتاب الله، ومنه قوله - تعالى -في سورة الأعراف 7/186 (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأعراف: 186]، فقد قرئ فعلُ (يذرهم) مرفوعاً: (يذرُهم) ومجزوماً: (يذرْهم)، على اعتبار وجود شرط محذوف هو والأداة، والتقدير: إن يضللْهم يذرْهم في طغيانهم يعمهون. وتكرار التركيب نفسه في القرآن، دليل على عربيته وصحته، لا على أنه لحنٌ (غلط) كما يتخيل الذين لا يعلمون!!
وتبقى في آخر المطاف مسألة، هي أن يقال: إنّ أبا عمرو أحد القرّاء السبعة، وقد قرأ (وأكونَ)، وكلامك هاهنا يعني إنكارك قراءته. وفي الجواب نقول: كلاّ، ليس في الذي قلناه إنكارٌ لقراءة أبي عمرو، فقراءة هذا الإمام مبنية على اللفظ، والذي ذهبنا إليه مبني على المعنى. فهذا هذا.
المراجع والمصادر:
القرطبي 16/223 و 2/237.
الإتقان 1/238.
شذور الذهب /48.
الكشف عن وجوه القراءات 2/99.
حجة القراءات /454، 455.
ديوان عبيد الله ابن قيس الرقيات /66.
كتاب سيبويه 2/139 و 4/233.
خزانة الأدب 4/62 و 7/ 452، 453.
النشر في القراءات العشر 2/308.
شرح المفصَّل لابن يعيش 3/128 و 7/25.
الخصائص 2/415 و 3/65.
مغني اللبيب /38.
مشكل إعراب القرآن 2/69.
إملاء ما منّ به الرحمان 2/123.
البحر المحيط 6/255.
مجاز القرآن 2/21.
مجمع البيان 2/261 و 7/ 14.
الدر المنثور 2/246.
المفصّل في تاريخ النحو /190.
النحو الوافي 3/485، 486+4/369، 514.
مدرسة الكوفة /139.
ــــــــــــــــــــــ
[1] المراد هاهنا هو موضع الخبر، لا الخبر نفسه باعتباره اسماً.
[2] الهاء للسكت.
[3] أراد الشخص الشاعر، أي: الخِرنق أخت طرفة ابن العبد.
[4] آفة الجزر: آفة الإبل لكثرة ما ينحرون منها - الطيبين معاقد الأزر: كناية عن عفّتهم.
[5] اللزبة: الشدّة.
[6] هاتا: هذه.
[7] "لولا"، تفيد الطلب، وذلك أنها أداة عرض وتحضيض، والعرض والتحضيض كلاهما طلب.