أغمض عينيك عن سفاسف الدنيا، وضع خديك على الأرض؛ إجلالاً لله، واعترافاً منك لربوبيته، وإقراراً منك لإلوهيته.. سر على هذه الأرض وقلبك في السماء.. حينها تدرك رحابة ملكك.. فتسعد نفسك وتشرق روحك.. وتتجلى روعة الأمر إذا قال الله عنك لجبريل: (( إن الله قد أحب فلانا فأحبه)) .. فيحبك جبريل.. ثم يحبك أهل السماء.. ثم يوضع لك القبول في الأرض.. تلك هي السعادة.. وذاك هو المـُلك!
نظر المعلم في تلك الوجوه البريئة أمامه ثم تبسم..
ثم اقترب من أحد "الصغار" وسأله:
- ماذا تريد أن تكون حين تكبر؟
-...........
- يا ولدي.. عندما تكبر.. ماذا تتمنى أن تكون؟
- عسكري!
فأدار المعلم رأسه إلى "الصغير" المجاور وقال:
- وأنت؟
- مهندس!
واستمرت المسرحية "الروتينية" التي يتلذذ "الكبار" بإخراجها بين الحين والآخر دون سبب واضح..
وتباينت الأجوبة لكنها لم تخرج من دائرة ردود الفعل المعتادة: عسكري.. مهندس.. طبيب.. معلم.. صاحب مكتب عقار.. إمام مسجد.. لاعب كرة.. رجل أعمال.. قاضي.. طيار..
"الصغير" لا يدرك أبعاد السؤال والجواب، ولكنه يختار وظيفة أبيه أو أخيه أو أي إنسان يرى أنه "المثال" الذي ينبغي الاقتداء به، فالصغير رغم صغره- قادر على فهم نظرات الإعجاب وألفاظ الثناء التي تتناثر حول شخص ما فيتنمى أن يكون هو ذلك الشخص، والصغير رغم قلة خبرته- يرى تلك العلامات التي ترافق ذلك الشخص التي تجعل منه مثالاً يحتذى ولعله المال أو الجاه، فهو يرى ذلك ويعد جوابه لتلك المسرحية المنتظرة..
وفجأة.. ودون أي مقدمات رفع أحد "الصغار" رأسه وتمتم:
- الملك!
نظر المعلم إلى "الصغير" في دهشة ظاناً أنه أخطأ في السمع أو أساء الفهم، وعندما تكرر السؤال عاد الجواب ثانية:
- عندما أكبر.. أريد أن أكون الملك!
بلع المعلم ريقه وردّ قائلاً:
-............
وانتهى المشهد.
***
هناك لحظة من حياة الإنسان تأتي ويتمنى فيها أنه ملك..
ربما أتت اللحظة وهو فتى مراهق أو وهو في شبابه، وربما أتت بعدما عركته الحياة وتخطى الأربعين..
لا يهم متى تأتي اللحظة، لكنها تأتي غالباً..
وربما تكلم بأمنيته يهمس بها لزوجته أو يسر بها لصديقه.. وربما لم يتكلم بها وجعلها "فانتازيا" خاصة.. كجزيرة منعزلة يذهب إليها وحيداً كلما تراكمت عليه هموم الحياة فيتخيل أنه ملك أو سلطان فيتملك ما شاء ويفعل ما شاء ويمضي وقتاً في إصلاح العالم بعد أن يغدق على الناس شيئاً من حكمته وبراعته في تسييس الأمور..
والسؤال.. لماذا ملك؟
تختلف مذاهب الناس وعقائدهم..
وتتباين ألوانهم وأعراقهم وأصولهم..
عربي وعجمي.. مؤمن وكافر.. ذكر وأنثى..
نحن البشر.. ربما نختلف في كل شيء.. لكننا نتفق على أمر واحد..
فالهمّ واحد والغاية واحدة.. السعادة!
نريدها ونبحث عنها..
نسعى.. ونتقافز.. ونطير.. لنحصل عليها..
نحارب من أجلها.. ونكذب وربما نقتل من أجلها..
البعض يجدها في الإيمان.. والبعض يراها في الإلحاد..
يبحثون عنها في الحساب البنكي المتضخم.. أو في الكرش المترهلة..
أو في القصر الواسع.. أو على متن أسطول من اليخوت البيضاء..
أو على حائط امتلأ وجهه بشهادات ملونة.. أو في رف مليء بتذكارات ودروع فخرية..
أو عبر الجاه والنفوذ.. أو في القدرة على "لطم" الناس دون حساب..
السعادة هي مطلب الجميع.. والبحث عنها والعيش في ظلها ملحمة تاريخية بدأت ولم تتوقف..
قابيل و"البلطجة".. فرعون والسُلطة.. قارون والثروة.. أبو جهل و"البريستيج"..
اختلفوا في أشكالهم ومشاربهم لكن جمعهم أنهم أرادوا السعادة..
لوّنها كما تشاء واجعل لها أطراً كما شئت..
لكنها السعادة هي ما كانوا يبحثون عنه..
والمؤمنون كذلك..
آمنوا أنهم خلقوا لعبادة الله وفنوا أعمارهم إرضاء لربهم وعندما طال الطريق وامتلأ الدرب بالشوك والحصى كان هناك ما يصبرهم ويهون عليهم آلامهم.. ( تطمئن القلوب).. ( فلنحيينه حياة طيبة).. ( ألا تخافوا ولا تحزنوا).. و( نشرح لك صدرك)..
باختصار: السعادة!
انظر إلى الواقع وتأمل..
المرء يظن السعادة في المال فيفني عمره ليجمعه، ويظنها في العلم فيدخل المدرسة وهو طفل ويخرج منها وقد أصبح كهلاً، ويظنها في الشهرة فيذوب إعجاباً بممثل أومغنية، ويظنها في الجاه فيتملق لكل ذي جاه عسى أن يلحق بالركب المهيب، ويظنها في الجمال فتصبح المرآة خليلته و"صوالين" التجميل مقصداً يومياً لها..
فحسب نظرة المرء للسعادة تكون همته و"المكان" الذي يرى نفسه فيه ويعمل من أجله..
ولأننا نعلم أننا لا نقدر عليها كلها فنحن نختار أهمها أو أيسرها أو أكثرها موافقة لهوانا..
ولكن لو بحثت في عميق عقولنا لرأيتنا نتمنى تلك الأمور كلها..
وكيف تكون لك تلك الأمور كلها؟ اسأل الصغير الذي أجاب معلمه..
فعندما تكلم ذلك الطفل بأمنتيه كان ينطق بما يخجل أو يخشى الكبار منه..
ولماذا تمنى أن يكون ملكاً؟ لأنه رأى المال.. والجاه.. والقوة.. و"عندي كل شيء"..
وبذكائه تجاوز بنظره أفق تلك المهن قصيرة المدى وتطلع إلى تلك "المهنة" التي فيها كل شيء..
ولو أنك خضعت لتنويم مغناطيسي لتحرك لسانك بأمنية الطفل نفسها..
ولم لا.. فأنت ترى السعادة هنالك!
ولكنك في واقعك الأليم تدرك أنها ليست"سعادة" تحصل عليها بجهد "دراسي" أو عضلي أو بتوصية من أستاذك أو مديرك فأنت بفعل الأيام وتكرار اللطمات- تتطلع إلى "سعادات" أقل أو أصغر عن طريق وظيفة مرموقة أو مهنة لا بأس بها..
والعجيب أننا كلنا نشتكي أننا لا نملك شيئاً، فمهما زاد دخلك المالي أو ارتقيت سلمك الوظيفي أو تملكت عقاراً أو رصيداً بنكياً فأنت لا زلت لا تملك ما يكفيك..
أتخيل دوماً أن "سقف" الفقر ذو مفاصل مرنة مطاطية.. كلما اقتربت منه لأتجاوزه انتفخ وارتفع قليلاً..
فكلما نظرت إلي حالي رأيت نفسي أملك أقل مما يجب! فأجلس في غرفتي وأغمض عيني وأسافر إلى جزيرتي وأكون ملكاً..
وفي يوم جاءتني صفعة ارتجت لها جمجتي..
قرأت حديثاً من كلام نبينا - صلى الله عليه وسلم -..
يقول: (( من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها))
بحذافيرها؟؟
أنا آمن.. ومعافى.. وعندي قوت يومي وزيادة..
يعني.. أنا أملك الدنيا؟؟
طأطأت رأسي خجلاً.. وكرهت جهلي وغفلتي..
كم تمنيت أن أكون ملكاً.. ولم أكن أدرك أنني منذ زمن طويل ملك حقاً!
المعيار النبوي يختلف كثيراً عن معايير الدنيا التي نتعلق بها..
فهم الصحابة هذا المعيار ونقلوه لمن بعدهم وفهمه الناس..
ثم أصابنا غباء حاد أنسانا معيارنا فبحثنا عن معايير أخرى..
ثم نسينا أكثر.. وغفلنا أكثر.. وأحسسنا بفقر مؤلم وعانينا من حرمان عميق الأثر وسولت لنا أنفسنا وغرنا الشيطان..
ولو نظر إلينا ناظر ربما حزن من أجلنا أو ربما ضحك من فرط جهلنا..
نشكو الفقر ونحن أغنياء.. ونتمنى الملك ونحن ملوك!
قرأت ما رواه الإمام مسلم في صحيحه أن رجلاً جاء إلى عبدالله بن عمرو بن العاص فسأله: ألسنا من فقراء المهاجرين؟
فقال له عبدالله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم.
قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم.
قال: فأنت من الأغنياء.
(تأمل.. كان فقيراً من فقراء المهاجرين وفق معياره الشخصي وفي ثانية أصبح من الأغنياء)
ولم ينته الحوار..
قال: فإن لي خادماً.
قال: فأنت من الملوك!
انتهى الحوار.. لكن الصفعات لم تتوقف..
عاش سلفنا الصالح حياة طيبة مطمئنة ملؤها الغبطة والسعادة..
يقول إبراهيم بن أدهم: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف"
يرى نفسه في نعيم.. بل هو يرى نفسه في ملك عظيم وربما فيما هو أكبر من الملك..
ويشعر أن ملوك الدنيا يشعرون بـ"الغيرة" منه ومن أمثاله من السعداء..
إبراهيم بن أدهم ملكٌ.. أو أكثر من ملك.. وملوك الدنيا تتمنى ما هو فيه..
معيار عجيب لكنه مريح ويجعلك تتبسم.. وربما تضحك الآن من نفسك قليلاً..
ويأتيك تلميذ آخر من مدرسة الهدي النبوي فيقول: "مساكين أهل الدنيا! خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها"..
وأقول.. هؤلاء السلف يتكلمون وكأنهم من كوكب آخر..
يعني هم الأغنياء والملوك.. وأهل الدنيا وأهل المال وأهل الجاه وأهل الشهرة.. مساكين!
هم مساكين حقاً لأنهم حرموا شيئاً هو أطيب ما في الدنيا..
وعندما سئل ماهو، قال: معرفة الله - عز وجل -!
معرفة الله وأسمائه وصفاته..
ومعرفة ملائكته وكتبه ورسله..
ومعرفة جنته وناره..
خجلت من نفسي أكثر.. وتأملت في حالي.. وفي ملكي..
تحدثنا دواوين السنة النبوية أن جبريل كان يجلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فنظر إلى السماء فإذا ملك ينزل، فقال له جبريل: هذا الملك ما نزل منذ يوم خلق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد أرسلني إليك ربك قال أملكا أجعلك أم عبدا رسولا؟
ويتوقف الزمن وينصت الكون..
ما يتمناه الناس يأتي إليه وهو جالس..
ما تتقاتل عليه الأمم يلقى بين يديه ليختار منه ما شاء..
يأتيه المـُلك وترتمي الدنيا عند أقدامه..
فتخرج من فمه الشريف كلمات يتقزم أمامها الكون بما فيه وتتزلزل لعظمتها عروش الملوك وقصور السلاطين..
(( بل عبداً رسولاً))..
بأبي أنت وأمي يا رسول الله..
هو سيد ولد آدم وإمام الأنبياء والمرسلين..
تقول عائشة - رضي الله عنها -: "ما شبع آل محمد - صلى الله عليه وسلم - منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليال تباعاً حتى قبض"
ويقول عمر - رضي الله عنه -: "لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يظل اليوم يلتوي ما يجد دقلا يملأ به بطنه"
لا يشبع ثلاث ليال تباعاً.. ويأتيه مُلك الدنيا.. فيختار العبودية..
لا يجد رديء التمر ويظل اليوم يعاني قرصات الجوع.. ولا يرى نفسه إلا عبداً رسولاً..
خجلت والله يا سيدي من عظمتك..
ولا أدري كيف ألقاك عند حوضك المطهر وقد تلوثت بمتاع رخيص..
الملك الحقيقي هو في هدي نبينا - صلى الله عليه وسلم -..
أما ما تراه من حولك فهو ترف.. أو حطام.. أو متاع.. أو أمر لا يسوى عند الله جناح بعوضة..
اقرأوا القرآن وتأملوا كلام نبيكم - صلى الله عليه وسلم -..
أنت إن كنت تجد قوت يومك وأنت آمن في سربك ومعافى في جسدك.. فأنت ملك..
أغمض عينيك عن سفاسف الدنيا وضع خديك على الأرض إجلالاً لله واعترافاً منك لربوبيته وإقراراً منك لألوهيته..
سر على هذه الأرض وقلبك في السماء..
حينها تدرك رحابة ملكك.. فتسعد نفسك وتشرق روحك..
وتتجلى روعة الأمر إذا قال الله عنك لجبريل: (( إن الله قد أحب فلاناً فأحبه))..
فيحبك جبريل.. ثم يحبك أهل السماء..
ثم يوضع لك القبول في الأرض..
تلك هي السعادة..
وذاك هو المـُلك!