الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً، وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: ((فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ))؛ إذا رأيت الأعداء.. إذا رأيت الدنيا.. إذا رأيت المغريات.. إذا رأيت الباطل ((فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)). يا مسلم: قبل أن تدعو الناس، وقبل أن تلبس ثيابك، وقبل أن تذهب لمنصبك، وقبل أن تزاول وظيفتك، وقبل أن تحرث بمحراثك ((فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)). سبحان الله! قالها تعالى لأبرّ الناس، ولأتقى الناس، ولأعبد الناس. قالها لمن يقطع ليله بالدموع والبكاء من خشية الله، حفظ لا إله إلا الله، وكان يعيش بها في الليل والنهار، فكان يشرب بلا إله إلا الله، ويأكل بلا إله إلا الله. ضُرب بالسيوف وأوذي، وهو يقول: (لا إِلَهَ إِلا اَللَّهُ). دخل الغار، وذُبح أصحابه، وكُسرت رَباعيته مرات، وقُتِل محبيه، وماتت بناته، وجاع، وطرد، وهو يقول: (لا إله إلا الله). قال له أهل الباطل: اترك دعوتك، ونعطيك مالاً حتى تكون أغنى الناس.. واترك دعوتك، ونعطيك ما أردت.. واترك منهجك، ونجعلك سيداً علينا. فقال: (والذي نفسي بيده لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أهلك دونه) (1) .. فالمسألة مسألة عقيدة. يقول الله: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)). حاصروه في بيته، وطوّقوه بخمسين من الشباب المسلحين فخرج، وهو يقول: ((وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ))، وأخذ حفنة من التراب ونثرها على الكفار.. وعلى الكفر والوثنية.. وعلى كل عميل.. فدخل كل التراب في عيونهم فخسروا وخابوا. وخرج منصرفاً مثل السيل، وآوى من الفجر إلى الغار، فلحقوه إلى الغار، وأرادوا أن يدخلوه، وكان سلاحه (لا إله إلا الله)، ورماحه (لا إله إلا الله)، ودروعه (لا إله إلا الله). طوقوا الغار، وأرادوا أن يدخلوه، فأرسل الله العنكبوت، فبنت بيتها في فم الغار، وأرسل الحمامة، فبنت عشها، وباضت في فم الغار. فأتى الكفار بالسيوف يريدون أن يدخلوا عليه الغار، فرأوا الحمامة وبيت العنكبوت فرجعوا. ظنوا الحمامة وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تَحُم عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عالم من الأُطُمَ يقول أبو بكر وهو يرتعد: يا رسول الله، واللّه لو نظر أحدهم موطن قدميه لرآنا. فتبسّم صلى الله عليه وسلم تبسم العظيم الزعيم الشجاع وقال: (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما) (1) ، ((لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)). رمى بك الله جنبيها فحطمها ولو رمى بك غير الله لم يُصب وخرج من الغار فلحقه سراقة بن مالك على فرس.. لأن قريش قالت: مَن يأتِ بمحمد حياً أو ميتاً فله مائة ناقة. فكان أبو بكر مرة يمشي عن يمين الرسول صلى الله عليه وسلم ومرة يمشي عن يساره.. ومرة من أمامه ومرة من خلفه. فيبتسم صلى الله عليه وسلم ويقول: ما لك يا أبا بكر ؟ . قال: يا رسول الله أخاف أن يرصدوا لك، فأتقدم أمامك لأموت قبلك، وأخشى أن يلاحقوك فأتخلف، وأخشى أن يأتوا من على الميمنة فأرصد الميمنة، وأخشى أن يأتوا من على الميسرة فأحميك من على الميسرة. قال: غفر الله لك يا أبا بكر . ولحقهم سراقة ! فقال أبو بكر : يا رسول الله، انظر إلى سراقة .. فنظر إليه، وهو مقبل معه سيف فيه الموت، فدعا عليه فساخت أقدام فرسه في التراب، ووقع على وجهه في الأرض! فلحقهم مرة أخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم اكفناه بما شئت (1) ، فساخ فرسه، ووقع على وجهه. فقال: يا محمد، أسألك الأمان. فتبسَّم صلى الله عليه وسلم وقال: ويلك يا سراقة كيف بك إذا سورت بسواري كسرى!!. مطارد من مكة ، قد ترك بناته، وترك عقاره، وترك داره، وترك أهله، ومع ذلك كأنه يقول: يا سراقة : سوف ننتصر على الباطل، وعلى دولة كسرى وقيصر، وسوف يأخذون أساورهما، ويجعلونها في يدك. فضحك سراقة .. ما هذا الكلام؟ هذا المطارد بالصحراء، يمنيني بسواري كسرى. ولكنْ.. بعد عشرين سنة خرج أبطاله صلى الله عليه وسلم من المدينة ، خرجوا يحملون لا إله إلا الله، خرجوا يوزعون لا إله إلا الله على البشرية مع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. ففتحوا ديار كسرى وقيصر، وأخذوا السوارين وجعلوهما في يدي سراقة .. فبكى! قالوا: ما لك تبكي؟ قال: حبيبي وعدني بذلك وصدق حبيبي (1) . ((فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ))، السماء تشهد أن (لا إله إلا الله)، والقمر انشق من أجل (لا إله إلا الله). لقد خرج صلى الله عليه وسلم إلى كفار قريش، وهم في الحرم ليلة أربعة عشر والقمر في السماء أكمل ما يكون، فقال: قولوا لا إله إلا الله. قالوا: مَن يشهد لك أن لا إله إلا الله؟ قال: إذا أتيت بآية تؤمنون بي؟ . قالوا: نعم. قال: أترون القمر؟ . قالوا: نراه. فانشق القمر فلقتين، فلقة ذهبت إلى جبل أبي قبيس في مكة ، والفلقة الأخرى ذهبت إلى عرفات . فقاموا ينفضون ثيابهم ويقولون: سحرنا محمد.. سحرنا محمد (1) . فقال الله: ((اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ)). لكنْ من يعرف الحكمة؟ والأرض تشهد أن لا إله إلا الله.. والزهور في البساتين. تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليكُ عيون من لُجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيكُ على كثب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريكُ وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد وأنت مولود على (لا إله إلا الله) منذ أن وقع رأسك على التراب، قبل أن تصبح شيئاً في عالم الإنسان، وأنت مفطور على (لا إله إلا الله). ((فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)). ولكن أكثر الناس إلا من رحمه الله لا يعرفون مقتضى لا إله إلا الله، وأكثر الناس يقولون: لا إله إلا الله، لكنهم لا يتقيّدون بشروطها. قال تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)). فأنا وأنت، وأبي وأبوك، وأمي وأمك، وأجدادي وأجدادك، كنا في أصلاب أبينا آدم عليه السلام، فأخرج الله ذريته كالذر، أي: كالنمل الصغير، فنثرهم سبحانه وتعالى أمامه، ثم قال الله لهم: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى))، وهذه فطرة الله عز وجلَّ التي فطر الخلائق عليها. ويقول سبحانه: ((هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * ((إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا)). ((هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا))، أما مرّ بي وبك، في بطون أمهاتنا، وقت لم نكن نبصر فيه، ولا نأكل، ولا نشرب، فأخرجنا الله، وجعلنا شيئاً يُذكر. فهل من خالق غير الله؟ لا خالق إلا الله، ولا رب إلا الله، ولا معبود إلا الله. أتى حصين بن عبيد الخزاعي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: (كم تعبد يا حصين ؟ . قال: لي سبعة آلهة. قال: أين هم؟ . قال: ستة في الأرض، وواحد في السماء. قال: مَن لرغبك ورهبك؟ -أي: مَن لك إذا ضاقت عليك الضوائق؟ - قال: الذي في السماء. قال: فاترك التي في الأرض، واعبد الذي في السماء. قال: ماذا أقول؟ قال: قل لا إله إلا الله محمد رسول الله. فقالها) (1) . خرج يونس بن متى عليه السلام مغاضباً لقومه فركب سفينة دون أن يأذن له الله عز وجل. فلما أصبح في السفينة أرسل الله عليها ريحاً تُقَلبها مرتين أو ثلاث. فقال ربانها: معنا رجل عصى الله نريد أن نخرجه من السفينة. قال الله: ((فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ))، فساهم: أي: اقترع قرعة معهم، فكان من المدحضين، أي: أنه فشل في القرعة، وأتت عليه، فأخذوه بيديه، ورموه وسط البحر..، لا أهل، ولا ولد، ولا زوجة، ولا مال، ولا قبيلة، ولا عشيرة. فتلقته سمكة عظيمة، فأدخلته بين أضلعها ثم أطبقت عليه، فأصبح بين أضلاع الحوت في ظلمة الليل.. وظلمة البحر. فمَن يتذكر؟ وإلى مَن يشتكي؟ وإلى مَن يلجأ؟ فقال وهو في الظلمات: ((لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ))، فجمع بين التوحيد وبين الاستغفار. قال صلى الله عليه وسلم: (دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له) (1) . فترتفع هذه الكلمة، ولكن إلى أين تذهب؟ أتذهب إلى الأهل والأطفال؟ أم تذهب إلى العشيرة؟ يقول الله: ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ))، ولم يقل يُرفع.. لأن يصعد أبلغ وأدل على المقصود. ولم يقل ينتهي.. لأن يصعد أعظم. قال: ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)). فارتفعت لا إله إلا الله، وصعدت ((لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ))، لأنه كما قال الله تعالى: ((فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ)) ، ((فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ)) فكان يعرف الله عز وجل في الرخاء فعرفه الله تعالى في الشدة. فأخرجه الله تعالى وأنبت عليه شجرة من يقطين.. خرج عارياً مثلما ولدته أمه، فأنبت الله عز وجل عليه شجرة القرع، فأكل منها، وظللته..، وإنما اختار شجرة اليقطين؛ لأن الذُباب، والبعوض لا يقع عليها كما يذكر. ثم قال: ((وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)). يقول لقمان لابنه وهو يوصيه بالعقيدة والتوحيد والإخلاص: ((يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ)). فهو البصير بعباده المطلع عليهم.. مَن كان منهم في بطن الحوت أو في قلب الصحراء. فالكل تحت رعاية الله ومراقبته. خرج سليمان ، عليه السلام، يسير بجيشه يوماً ما.. فمر بغلام في طريقه. فلما رأى الغلام موكب سليمان ، عليه السلام، وحاشيته انبهر واندهش من العظمة والسلطان. فقال: سبحان الله! إنك يا رب أعطيت آل داود ملكاً عظيماً. فسمعها سليمان ، عليه السلام، فقال له: لَقولك سبحان الله، أعظم مما أوتي آل داود. فخذ القناعة من دنياك وارضَ بها لو لم يكن لك إلا راحة البدن وانظر لمن مَلَكَ الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفن يقول سبحانه وتعالى للإنسان: ((يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ))، أي: أنك مُنذ أن وضعتك أمك، وأنت في شدة، وأنت في كرب، وأنت في امتحان واختبار، وأنت في مسؤولية، فإما إلى طريق الخير، وإما إلى طريق الشر. ويقول سبحانه: ((يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ))، ما الذي خدعك، وصرفك عن الله عز وجلَّ، وعن المسجد، وعن القرآن.. إلى الملاهي والفسوق؟ يا حملة لا إله إلا الله.. يا من جرت دماؤهم بلا إله إلا الله.. إن من معنى لا إله إلا الله: أن يعيش الإنسان لحظات عمره، ويستثمرها في خدمة هذه الكلمة الطيبة؛ لأن العمر محسوب. دقات قلب المرء قائلةٌ له إن الحياة دقائق وثواني فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثاني يقول الله عز وجل للناس يوم القيامة: ((كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ))، أي: كم مكثتم في الأرض؟ كم لكم في الحياة؟ يا من عاش مائة سنة، يا من حفر الآبار، يا من لبس الجديد، يا من تمتع بالأولاد، يا من ضحك، يا من شبع.. كم لبثت في الأرض عدد سنين؟ اسمع الرد: ((قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ))، فحياتنا: يوم، أو نصف يوم، ونحن شاكون في ذلك فلعلها أقل، فاسأل الملائكة. ((قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ))، يقول الله: كانت حياتكم قليلة، فكانت سهلة، وكانت يسيرة، لكنكم ما جعلتموها في طاعة الله تعالى. دنياك تزهو ولا تدري بما فيها إياك إياك لا تأمن عواديها تحلو الحياة لأجيال فتنعشهم ويدرأ الموت أجيالاً فيضنيهما يا مسلِمون! يقول الله: ((إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ))، فما أقل العمل.. الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة والجماعة شابَ فنظر في المرآة فإذا شيبه قد ملأ لحيته فبكى وقال: واللّه كأن الشباب شيئاً سقط من يدي! فيا شباب الإسلام انظروا إلى آبائكم الذين شابت لحاهم، فالذي شيّبهم هو الذي أفنى القرون السالفة، وهو الذي أخذ الأجداد، والآباء، وسوف يأخذ الأولاد، والأحفاد. بكيت على الشباب بدمع عين فلم يُفد البكاء ولا النحيبُ ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيبُ كان لـقيس بن عاصم المنقري عشرة من الأولاد، فكانْ لا يستطيع أن ينام الليل، فهو يسعل طول الليل يشكو الثمانين. فيقول أحد أبنائه: ما لك يا أبتي، لا تنام؟ قال: ما تركتني الثمانين! ثم نظم في ذلك قصيدة قال فيها: قالوا أنينك طول الليل يسهرنا فما الذي تشتكي قلت الثمانينا قال تعالى: ((ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ)) لم يقل: أعيدوا، ولكن: ((رُدُّوا))، لأنهم خرجوا. بأمر الله عزَّ وجل. ((مَوْلاهُمُ الْحَقِّ))، فكل شيء سواه باطل، ((أَلا لَهُ الْحُكْمُ))، أي: الحكم لله وحده، ((وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ))، فالحساب بعد الموت مباشرة، إما في نعيم، وإما في عذاب. كان ابن عباس رضي الله عنهما، إذا قرأ قوله سبحانه وتعالى: ((أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ))، بكى حتى يرثي له أصحابه، فيقولون: ما لك يا ابن عباس ؟ قال: أتدرون ما النذير؟ قالوا: لا. قال: الشيب هو النذير! وشاب إبراهيم عليه السلام إمام التوحيد. فقال: يا رب! ما هذا البياض في لحيتي؟ قال: شيب يا إبراهيم . قال: ما الشيب يا رب؟ قال: وقار. فقال: اللهم زدني وقاراً. نظر رجل، بلغ الثمانين، في المرآة، فرأى الشيب يملأ رأسه، فقال: ربِ أطعتك أربعين، ثم عصيتك أربعين، أتقبلني إذا عدت إليك؟ فسمع هاتفاً يهتف: أطعتنا فأحببناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإذا عدت إلينا قبلناك (1) . مَن الذي أتى باب الله فردّه؟ مَن الذي قرع بابه فخيّبه؟ مَن الذي رفع كفيه فعادت خائبتين؟ مَن الذي بكى فما أنجز الله طلبه؟ مَن الذي اعتصم بحبل الله فانقطع به الحبل؟ لا أحد. يقول الله: ((وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ)). وأيوب إذ نادى ربه وقال: ((وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)). وغيرهما كثير قد استجاب الله لهم. أيها المسلمون.. إن من أسرار قدرة الله عز وجل: أن تكون مقاليد الأمور بيده، وهي العقيدة التي يريد الله عزَّ وجل أن يقدرها للعبد بأن يُعلمه أنه لا يضر، ولا ينفع إلا الله تعالى، ولا يشافي ولا يُعافي إلا الواحد الأحد. يقول سبحانه وتعالى: ((وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ))، يا قوم! أما تنظرون إلى الكبير يكبر، فيعود عقله، كعقل الطفل، فما لهم لا يعقلون؟ هذه هي الحياة وهذا مصيرها. تزوَّد للذي لا بد منه فإن الموت ميقات العبادِ أترضى أن تكون رفيق قومٍ لهم زاد وأنت بغير زادِ قالوا لأحد السلف الصالح: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت وأعدائي أربعة: دنيا تنهشني وأنهشها. وشيطان يضلني قبل أن أتحرز منه. وغريم لا يفارقني، وهو: الموت. وأسرة تطلب النفقة كل يوم. وقالوا لرجل من التابعين عمره ثمانون: كيف أصبحت؟ قال: أما عين من عيوني، فقد ذهب بصرها، والعين الأخرى ترثي أختها لتلحق بها، وسقطت أضراسي، وتقدمت إلى قبري، وتحملت كفني. يقول سبحانه وتعالى: ((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)). وفي الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم مر بـابن عمر الزاهد العابد وهو في العشرين من عمره فوضع يده على كتفيه وقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح) (1) . إن من أسرار لا إله إلا الله: أن نصرف أعمارنا في مرضاة الله عز وجل كان سعيد بن المسيب يبكي من خشية الله عز وجل حتى ذهبت عينه اليمنى. فقيل له: نذهب بك للخضرة، لعل بصرك أن يعود. قال: لا، والله، لا أخرج من المدينة ، كيف تفوتني صلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي بألف صلاة فيما سواه! لما حضرته سكرات الموت، بكت ابنته فقال: لا تبكي علي، والله ما أذن المؤذن من أربعين سنة، إلا وأنا في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم!! والأعمش حضرته الوفاة فبكى أبناؤه.. فقال: لا تبكوا عليَّ، فوالله ما فاتتني تكبيرة الإحرام في الجماعة خمسين سنة. فطوبى لهم! أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامعُ أيها المسلم: ومن أسرار لا إله إلا الله: التفكر في النعم، وشكر الله عز وجل عليها..، على السمع، والبصر، وعلى الفؤاد، وعلى الإيمان، وعلى الأمن، والصحة، والعافية.. وعلى رغد العيش في الأوطان. وأركان شكر الله عز وجل ثلاثة: 1- شكر الله بالقلب، ويأتي هذا بإقرار القلب بأن النعم ابتداءً وانتهاءً من الله عز وجل. 2- يلهج اللسان بالثناء على الله عز وجل. قال داود عليه السلام: يا رب كيف أشكرك؟ قال: اشكرني بما أردت. قال: لا أستطيع. قال: أتعلم أن هذه النعم مني. قال: نعم. قال: هكذا شكرتني! 3- شكر الله بالعمل الصالح، كما قال تعالى: ((اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا)). فواجب على كل مسلم أن يحافظ على النعم التي أسداها الله له بالشكر بكافة الأركان، ولا يكون كالذين بدلوا نعمة الله كفراً فأحلهم الله دار البوار. قال تعالى: ((لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ))، لكنهم لم يحافظوا على هذا الخير المسدي من ربهم الغفور سبحانه.. فماذا كانت النتيجة؟ ((فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ)). نعوذ بالله من كفران النعم. والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم.
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً، وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: ((فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ))؛ إذا رأيت الأعداء.. إذا رأيت الدنيا.. إذا رأيت المغريات.. إذا رأيت الباطل ((فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)). يا مسلم: قبل أن تدعو الناس، وقبل أن تلبس ثيابك، وقبل أن تذهب لمنصبك، وقبل أن تزاول وظيفتك، وقبل أن تحرث بمحراثك ((فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)). سبحان الله! قالها تعالى لأبرّ الناس، ولأتقى الناس، ولأعبد الناس. قالها لمن يقطع ليله بالدموع والبكاء من خشية الله، حفظ لا إله إلا الله، وكان يعيش بها في الليل والنهار، فكان يشرب بلا إله إلا الله، ويأكل بلا إله إلا الله. ضُرب بالسيوف وأوذي، وهو يقول: (لا إِلَهَ إِلا اَللَّهُ). دخل الغار، وذُبح أصحابه، وكُسرت رَباعيته مرات، وقُتِل محبيه، وماتت بناته، وجاع، وطرد، وهو يقول: (لا إله إلا الله). قال له أهل الباطل: اترك دعوتك، ونعطيك مالاً حتى تكون أغنى الناس.. واترك دعوتك، ونعطيك ما أردت.. واترك منهجك، ونجعلك سيداً علينا. فقال: (والذي نفسي بيده لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أهلك دونه) (1) .. فالمسألة مسألة عقيدة. يقول الله: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)). حاصروه في بيته، وطوّقوه بخمسين من الشباب المسلحين فخرج، وهو يقول: ((وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ))، وأخذ حفنة من التراب ونثرها على الكفار.. وعلى الكفر والوثنية.. وعلى كل عميل.. فدخل كل التراب في عيونهم فخسروا وخابوا. وخرج منصرفاً مثل السيل، وآوى من الفجر إلى الغار، فلحقوه إلى الغار، وأرادوا أن يدخلوه، وكان سلاحه (لا إله إلا الله)، ورماحه (لا إله إلا الله)، ودروعه (لا إله إلا الله). طوقوا الغار، وأرادوا أن يدخلوه، فأرسل الله العنكبوت، فبنت بيتها في فم الغار، وأرسل الحمامة، فبنت عشها، وباضت في فم الغار. فأتى الكفار بالسيوف يريدون أن يدخلوا عليه الغار، فرأوا الحمامة وبيت العنكبوت فرجعوا.
ظنوا الحمامة وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تَحُم
عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عالم من الأُطُمَ
رمى بك الله جنبيها فحطمها ولو رمى بك غير الله لم يُصب
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليكُ
عيون من لُجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيكُ
على كثب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريكُ
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
فخذ القناعة من دنياك وارضَ بها لو لم يكن لك إلا راحة البدن
وانظر لمن مَلَكَ الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفن
دقات قلب المرء قائلةٌ له إن الحياة دقائق وثواني
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثاني
دنياك تزهو ولا تدري بما فيها إياك إياك لا تأمن عواديها
تحلو الحياة لأجيال فتنعشهم ويدرأ الموت أجيالاً فيضنيهما
بكيت على الشباب بدمع عين فلم يُفد البكاء ولا النحيبُ
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيبُ
قالوا أنينك طول الليل يسهرنا فما الذي تشتكي قلت الثمانينا
تزوَّد للذي لا بد منه فإن الموت ميقات العبادِ
أترضى أن تكون رفيق قومٍ لهم زاد وأنت بغير زادِ
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامعُ