اغتيال جمال الدين الأفغاني شاه إيران أمر بربطه في الجياد وسحبه علي الجليد! اختلف المؤرخون حوله.. فبعضهم قال انه ولد في افغانستان، وقال البعض الآخر أنه ولد في إيران ونشأ في بلاد الأفغان، وقيل انه ينتسب الي الامام الحسن بن علي رضي الله عنهما. مهما يكن من شيء فقد درس الفلسفة الاسلامية والتصوف وتعمق في دراسة الحضارة الغربية، وقرر ان يعيش بلا زواج حتي يفرغ لقضية هي قضية عمره وتتمثل في تحرير الشرق من الطغاة، سواء أكان هؤلاء الطغاة حكام الشرق نفسه أم الذين جاءوا ليستعمرونه من أوربا. وقد ساعده علي ذلك.. شخصية جذابة.. يملك الثقافة.. ويملك الموهبة.. ويملك قدرة التأثير علي الأخرين.. وقد جاء الرجل الي مصر.. اشعل فيها الشعور بالذات، وكون له تلاميذ من أمثال الشيخ محمد عبده وسعد زغلول، وعبدالله النديم وغيرهم، بل ان تأثيره امتد الي ثورة عرابي وثورة .19 من أجل هذه الاحداث التي آل علي نفسه أن يحققها عرف النفي والتشرد وظلمات السجون، كما نال حظه من التعذيب أيضا.. وفي النهاية دفن في قبر مجهول في تركيا.. وقال البعض أنه كانت هناك مؤامرة أدت الي وفاته! * * * يقول لنا الامام محمد عبده في بحث له (ابتداء النهضة المعنوية في مصر): .. وجاء الي هذه الديار سنة 1286ه رجل غريب بصير في الدين، عارف بأحوال الأمم، واسع الاطلاع، جم المعارف، جريء القلب وهو المعروف بالسيد جمال الدين الأفغاني، وتعرف إليه في باديء الأمر بعض طلبة العلم، ثم اختلف إليه كثير من الموظفين والأعيان، ثم انتشر عنه ماتخالفت أراء الناس فيه من أفكار وعقائد، فكان ذلك داعيا بطلب الاجتماع به لتعرف ماعنده، ثم اشتغل بالتدريس ببعض العلوم العقلية، فكان يحضر دروسه كثير من طلبة العلم، وتردد علي مجالسه كثير من العلماء وغيرهم، وهو في جميع أوقات اجتماعه مع الناس لايسأم من الكلام فيما ينير العقل، أو يطهر العقيدة، أو يذهب بالنفس الي معالي الأمور، أو يستلفت النظر في الشئون العامة مما يمس مصلحة البلاد وسكانها. وكان طلبة العلم ينتقلون بما يكتبونه من تلك المعارف الي بلادهم أيام البطالة، والزائرون يذهبون بما ينالونه الي أحبائهم، فاستيقظت مشاعر، وانتبهت عقول، وخف حجاب الغفلة في أجزاء متعددة من البلاد خصوصا القاهرة. * * * استطاع الرجل أن يثير الرأي العام في مصر.. وفي كل بلد ذهب إليه.. سواء في الهند، أو ايران أو تركيا، أو روسيا وكان كل همه هو تحرير الناس من عبودية حكامه أو من عبودية مستعمريه كما قلنا. في مصر مثلا.. تتأمل الناس قوله.. وهو يحث المصريين علي النهوض والحرية والاستقلال بأسلوب معبر.. عميق ورشيق: 'أنظروا أهرام مصر، وهياكل ممفيس، وأثار طيبة، ومشاهد سيوة، وحصون دمياط، فهي شاهدة بمنعة ابائكم وعزة أجدادكم، هبوا من غفلتكم، اصحوا من سكرتكم، عيشوا كيان الأمم أحرارا سعداء' .. وقال بعض المؤرخين كانت هذه الكلمة هي الشرارة المفجرة للثورة العرابية. وعندما قامت ثورة 19، قال سعد زغلول في احد خطبه الوطنية: 'لست انا خالق هذه النهضة كما قال بعض خطبائكم.. وأنا لايمكنني أن أقول هذا أو أدعيه، بل لا أتصوره.. انما نهضتكم قديمة قامت منذ عرابي.. وللسيد جمال الدين الافغاني وأتباعه وتلاميذه أثر كبير فيها.. وهذا حق يجب ألا نكتمه.. لأنه لايكتم الحق إلا الضعيف' * * * وقد استطاع السيد جمال الدين الافغاني أن يضع يده علي نقطة الضعف في الشرق.. وهي عدم اتفاقهم علي رأي.. تمتعهم بخاصية الانقسام.. حب كل واحد منهم علي أن يسير علي هواه.. اسمعه وهو يقول: 'فالشرق الشرق.. لقد خصصت دماغي لتشخيص دائه وتحري دوائه، فوجدت أقتل أدوائه داء انقسام أهله، وتشتت أرائهم، واختلافهم علي الاتحاد، واتحادهم علي الاختلاف، فعملت علي توحيد كلمتهم وتنبيهم الي الخطر الغربي المحدق بهم والأخذ بخناقهم'. * * * والغريب أن الخديو توفيق كان يحب السيد جمال الدين الافغاني عندما كان وليا للعهد، ولكنه عندما تقلد الأمور أنقلب عليه ونفاه من مصر، خوفا منه، والسبب ان توفيق قال انه يحب المصريين ولكن أكثر الشعب جاهل، لايصلح ان يلقي عليه مايقوله السيد جمال الدين وهذا يسبب التهلكة لهم وللبلاد. وقد قال له جمال الدين الافغاني: 'ليسمح لي صاحب السمو أن أقول بحرية واخلاص ان الشعب المصري كسائر الشعوب لايخلو من وجود الخامل والجاهل بين أفراده، ولكنه غير محروم من وجود العالم والعاقل، فبالنظر الذي تنظرون به الي الشعب المصري ينظر إليكم، وان قبلتم نصح هذا المخلص وأسرعتم في اشراك الأمة في حكم البلاد عن طريق الشوري فتأمرون باجراء انتخابات نواب عن الأمة، تسن القوانين وتنفيذها بأسمكم وارادتكم يكن ذلك اثبت لعرشكم وأدوم لسلطانكم'. وكانت هذه النصائح السبب في نفي جمال الدين الافغاني من مصر. * * * قصة مثيرة.. تلك! فالرجل الذي لم تطق بلاده نصائحه ذهب الي الهند، وفي الهند حرضهم علي الثورة علي الاستعمار الانجليزي، ولم تطق حكومة بريطانيا العظمي وجوده في الهند فأمرت بنفيه عنها.. فجاء الي مصر وأمضي بها أربعين يوما.. بعدها استدعاه عبدالعزيز لتركيا، ولكنه لم يطق اقامته بها عندما ألتف حوله العلماء والادباء، فعاد الي مصر عام 1871م.. وعندما بدأ نشاطه العلمي والثقافي والحث علي الحرية والاستقلال، نفي من مصر، وذهب الي الهند مرة ثانية حيث أقام في حيدر أباد.. ولكنه سجن هناك وبعد خروجه من السجن ذهب الي لندن، حيث كتب المقالات النارية ضد الاستعمار الانجليزي في مصر والهند ثم رحل الي باريس حيث ذهب الامام محمد عبده فأنشا جمعية ومجلة (العروة الوثقي).. ولكن المجلة أغلقت بعد سبعة أشهر من الصدور لمحاربة الانجليز لها، ومنعها من دخول البلاد الخاضعة للسيطرة الانجليزية! * * * والعجيب انه ذهب الي ايران.. وبدأ يدعو هناك بضرورة ان يعرف المواطن حقوقه مما جعل الشاه ناصرالدين يقلق من نشاط السيد جمال الدين، وبدأ يرسم طريقه للتخلص منه، مما حدا بالسيد جمال الدين الافغاني وقد استشعر الخطر، أن يفر الي روسيا! وقد نفي في روسيا مدة أربع سنوات، ظل كعادته يهاجم الاستعمار الذي يفرض قيوده علي الشرق، وينادي بضرورة ان يتحرر الشرق من هذا الاستعمار الذي يسومه سوء العذاب ويستولي علي أقداره ومقدراته، وأنه آن الآوان أن يتحرر الشرق من هذا الكابوس الجاسم علي صدره. وتقول بعض الدراسات التي قامت حول جمال الدين الافغاني انه قابل قيصر روسيا، وانه ناقشه في بعض الأمور، وأن الافغاني طلب من القيصر ان يعطي الشعب حقوقه، وأن تكون هناك حياة برلمانية حقيقية، مما جعل القيصر يخشي من تأثيره علي الشعب الروسي، ويأمر بطرده خارج حدود روسيا!! * * * والغريب أنه قابل شاه ايران وهو في طريقه الي باريس، وأن الشاه رحب بعودته الي ايران، وصدق الرجل وعود الشاه، ولكن الشاه لم يعجبه ماوصله من أنباء حول حديث الرجل عن الحرية وحقوق الشعب، وكان يعيش في أحد الأضرحة، ولكن الشاه أمر بأن ينفي خارج البلاد! وقبضوا علي الرجل، وأخذوه من فراشه مقيدا بالسلاسل.. بل بلغ بهم البطش أن ربطوه في جيادهم وسحبوه علي الجليد في هذا الوقت الشديد البرودة من أيام الشتاء.. ثم رحلوه الي العراق!! * * * وظل في العراق.. فترة حتي بريء من آلامه وأمراضه، فغادر البصرة الي لندن، حيث أصدر مجلة شهرية أطلق عليها (ضياء الخافقين).. وكانت باللغتين الانجليزية والعربية، وفيها كان يهاجم الأنظمة المستبدة في العالم العربي والاسلامي، مركزا علي مصر وايران، وقد بلغت هذه الحملات أوج قوتها، حتي أن شاه إيران عرض عليه عن طريق سفيره في لندن، أن يكف عن هذه الحملات علي أن يرسل له مايشاء من أموال. وكان رد السيد جمال الدين الافغاني: 'والله لن أرضي إلا ان يقتل الشاه وتبقر بطنه ويواري التراب'. * * * وتمضي الأيام.. وتتوالي الرسائل عليه من السلطان عبدالحميد حتي يأتي الي تركيا، وأمام كثرة هذه الرسائل قرر الرجل أن يذهب الي تركيا، ولم يكن يدري ان القدر يدبر له أمرا، فقد ذكر بعض المؤرخين ان طبيب الاسنان الذي كان يعالجه دس له في فمه ماسبب له المرض الذي مات به، ويرجحون أن وراء موته كان مؤامرة، لأنه عندما مات أمر السلطان ان يدفن بلا احتفال وأن تصادر كل أوراقه.. ولم يسر وراء جنازته إلا ثلاثة من أصدقائه، ثم دفن في قبر مجهول.. ولم يكتشف هذا القبر إلا بعد ثلاثين عاما علي يد أحد المستشرقين! مراجع أقلام ثائرة..... حسن الشيخة رواد الوعي الانساني..... د.عثمان أمين أبطال ومعارك حاسمة...... كمال زكي