أقبلت يا شهر الصيام الحمدلله رب العالمين، و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين ، نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين، أما بعد .... لقد أقبل شهر الصيام بفضائله ، و فوائده، و هباته، و نفحاته ... أقبل بأنفاسه العطرة، و ثغره الباسم، ووجهه المشرق ... أقبل وهو ينادي ويقول : يا باغي الخير أقبل .. ويا باغي الشر أقصر ... أقبل وهو يصرخ محذرا: (( ورغم أنف امرىء دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له)) أقبل فتفتحت بإقباله أبواب الجنان ... وغلقت أبواب النيران، و سلسلت الشياطين .. أقبل و المسلمون يتشوقون الى صيام نهاره و قيام ليله .. فيا له من شهر عظيم .. وموسم .. كريم .. و تجارة رابحة لن تبور . وخذ في بيان الصوم غير مقصر = عبادة سر ضد طبع معود وصبر لفقد الإلف في حالة الصبا = وفطم عن المحبوب و المتعود فثق فيه بالوعد القديم من الذي = له الصوم يجزى غير مخلف موعد وحافظ على شهر الصيام فإنه = لخامس أركان لدين محمد تغلق أبواب الجحيم إذا أتى = وتفتح أبواب الجنان لعبد تزخرف جنات النعيم و حورها = لأهل الرضا فيه و أهل التعبد وقد خصه الله العظيم بليلة = على ألف شهر فضلت فلترصد فأرغم بأنف القاطع الشهر غافلا = و أعظم بأجر المخلص المتعبد فقم ليله و اطو نهارك صائما = و صن صومه عن كل لغو ومفسد فيا عباد الله ! هذا شهر الصيام قد أقبل فماذا أنتم فاعلون ؟ يا أيها المقصر ! هذا الشهر - والله- فرصه لا تعوض للتوبة و الانابة و الرجوع الى الله عز و جل .. فإذا جاء رمضان و لم تتب فمتى تتوب؟ و إذا أقبل شهر الصيا و لم تعد فمتى تعود؟ الذين يكرهون رمضان إياك - أخي - أن تكون من الذين يكرهون رمضان، لأنه يمنعهم من شهواتهم و مألوفاتهم، فإن هؤلاء لا حظ لهم من صيامهم الا الجوع و العطش.. كيف يكرهون رمضان وفيه تغفر ذنوبهم .. كيف يكرهون رمضان وفيه تقال عثراتهم .. كيف يكرهون رمضان وفيه تستجاب دعواتهم .. كيف يكرهون رمضان وفيه ترفع درجاتهم .. * قال الامام ابن رجب في " لطائف المعارف ": ولربما ظن بعض الجهال أن الفطر قبل رمضان يراد به اغتنام الأكل، لتأخذ النفوس حظها من الشهوات قبل أن تمنع من ذلك بالصيام، ولهذا يقولون : هى أيام توديع الأكل، و تسمى تنحيسا، واشتقاقه من الأيام النحسات. ذكره ابن درستويه النحوي، و ذكر أن أصل ذلك متلقى من النصارى، فإنهم يفعلونه عند قرب صيامهم، و هذا كله خطأ و جهل ممن ظنه. وربما لم يقتصر كثير منهم على اغتنام الشهوات المباحه، بل يتعدى الى المحرمات، و هذا هو الخسران المبين، و أنشد بعضهم في هذا : إذا العشرون من شعبان ولت = فواصل شرب ليلك بالنهار و لا تشرب بأقداح صغار = فإن الوقت ضاق على الصغار يقصد شرب الخمر و العياذ بالله و قال آخر: جاء شعبان منذرا بالصيام = فاسقياني راحا بماء الغمام ومن كانت هذه حاله، فالبهائم أعقل منه، و له نصيب من قوله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) -الأعراف 179- وربما تكَره كثير منهم بصيام رمضان، حتى أن بعض السفهاء من الشعراء كان يسبه، و كان للرشيد ابنٌ سفيه، فقال مرة: دعاني شهر الصوم لا كان من شهر = و لا صمت بعد شهرا بعده آخر الدهر فلو كان يعديني الأنام بقدرة = على الشهر لاستعديت جهدي على الشهر فأخذه داء الصرع، فكان يصرع في كل يوم مرات متعددة ، و مات قبل أن يدركه رمضان آخر. فكثير من هؤلاء الجهال لا يصلي إلا في رمضان إذا صام، فيطول عليه ، و يشق علي نفسه مفارقتها لمألوفها، فهو يعد الأيام و الليالي ليعود إلى المعصية. و هؤلاء مصرون على ما فعلوا و هم يعلمون ، فهم هلكى، و منهم من لا يصبر على المعاصي، فهو يواقعها في رمضان. فمن أراد الله به خيرا حبب اليه الايمان ، و زينه في قلبه، و كره اليه الكفر و الفسوق و العصيان، فصار من الراشدين. ومن أراد الله به شرا خلى بينه و بين نفسه ، فأتبعه الشيطان، فحبب اليه الكفر و الفسوق و العصيان ، فكان من الغاويين .. فالحذر الحذر من المعاصي .. فكم سلبت من نعم .. وكم جلبت من نقم .. وكم خربت من ديار .. وكم وكم أخلت ديارا من أهلها .. فما أبقى منهم ديّار. وكم أخذت من العصاة بالثار. وكم محت لهم من آثار. يا صاحب الذنب لا تأمن عواقبه = عواقب الذنب تُخشى وهي تُنتظر فكل نفس ستُُجزى بالذي كسبت = وليس للخلق من ديّانهم وَزر (1) حال السلف أين حال هؤلاء الحمقى من قوم كان دهرهم كله رمضان ؟! ليلهم قيام ، و نهارهم صيام .. * باع قومٌ من السلف جارية ً .. فلما قرب شهر رمضان ، رأتهم يتأهبون له ، ويستعدون له بالأطعمة و غيرها .. فسألتهم ، فقالوا : نتهيأ لصيام رمضان. فقالت : و أنتم لا تصومون إلا رمضان؟ لقد كنت عند قوم كل زمانهم رمضان ... ردوني عليهم !! * و باع الحسن بن صالح جارية له ، فلما انتصف الليل قامت فنادتهم: الصلاة الصلاة ... قالوا: طلع الفجر ؟ قالت : و أنتم لا تصلون إلا المكتوبة؟ ثم جائت الحسن فقالت : بعتني إلى قوم سوء، لا يصلون إلا المكتوبة؟ .. ردني .. ردني .. * و كان أيوب السختياني يقوم الليل كله و يخفي ذلك، فإذا كان عند الصباح رفع صوته، كأنه قام تلك الساعة.. * كان بعض السلف يختم القرآن في قيام رمضان في كل ثلاث ليال، وبعضهم في كل سبع، و بعضهم في كل عشر. * كان قتادة يختم في كل سبع دائما، و في رمضان في كل ثلاث، و في العشر الأواخر في كل ليلة. * و في حديث السائب بن يزيد قال: كان القارىء يقرأ بالمئين - أي المئات من الآيات- حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، و ماكانوا ينصرفون إلا عند الفجر. * قال علقمة بن قيس: بت مع عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ليلة، فقام أول الليل يصلي، فكان يقرأ قراءة الامام في مسجد حيه، يرتل و يسمع من حوله ، و لا يرجع صوته حتى لم يبق من الغلس الا كما بين أذان المغرب إلى الانصراف منها، ثم أوتر. قال بعض السلف: صم الدنيا، و اجعل فطرك الموت. الدنيا كلها شهر صيام المتقين، يصومون فيه عن الشهوات المحرمات، فإذا جاءهم الموت فقد انقضى صيامهم ، و استهلوا عيد فطرهم. وقد صمت عن لذات دهري كلها = و يوم لقاكم ذاك فطر صيامي من صام عن شهواته ، أفطر عليها بعد مماته، و من تعجل ما حرم عليه قبل وفاته، عوقب بحرمانه في الآخرة و فواته، و شاهد ذلك قوله تعالى: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ) {الأحقاف 20} وقول النبي صلى الله عليه و سلم: ((من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة)) - متفق عليه-، و (( من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة)) - متفق عليه أنت في دار شتات = فتأهب لشتاتك و اجعل الدنيا كيوم = صمته عن شهواتك و ليكن فطرك عند الله = في يوم وفاتك عباد الله ! بلوغ شهر رمضان و صيامه نعمة عظيمة على من أقدره الله عليه، و كيف لا يكون ذلك و قد جعل الله أجر الصيام بغير حساب كما قال تعالى في الحديث القدسي: (( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم ، فإنه لي و أنا أجزي به)) - متفق عليه-، و في رواية مسلم: (( كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها غلى سبعمائة ضعف، قال تعالى: إلا الصوم فإنه لي و أنا أجزي به)) إخواني ! من رُحم في شهر الصوم فهو مرحوم، و من حرم خيره فهو محروم، ومن لم يتزود فيه لمعاده فهو ملوم .. أتى رمضان مزرعة العباد = لتطهير القلوب من الفساد فأد حقوقه قولا و فعلا = و زادك فاتخذه للمعاد فمن زرع الحبوب و ما سقاها = تأوه نادما يوم الحصاد فهنيئا لكم أيها الصائمون الأجر و المغفرة و العتق من النيران، ففي حديث أبي أمامة مرفوعا: (( ....و لله عتقاء من النار في كل ليلة)) - رواه الترمذي و ابن ماجة و حسنه الألباني. وهنيئا لم استجابة دعواتكم ، و حصولكم مطلوبكم، فقد قال رسول الله صلي الله عليه و سلم : (( إن لكل مسلم في كل يوم و ليلة - يعني في رمضان - دعوة مستجابة )) - رواه البزار، و قال الألباني: صحيح لغيره- أما أنت أيها المحروم ، فما أردأ رأيك، و ما أخسر صفقتك، و أحقر فكرك .. أتبيع الدر بالبعر و تزعم أنك عاقل ؟ أتطيع الشيطان و تعصي الرحمن و تتبجح بالفهم و المعرفة ؟ أتترك جنة عرضها السماوات و الأرض لأجل جيفة قذرة و تعد نفسك فطنا ذكيا أريبا؟! فيا من طالت غيبته عن ربه، قد قربت أيام المصالحة. يا من دامت خسارته .. قد أقبلت أيام التجارة الرابحة. من لم يربح في هذا الشهر ففي أي وقت يربح؟ و من لم يقرب فيه من مولاه، فهو على بعده لا يبرح. كم ينادي : حيّ على الفلاح و أنت خاسر !!. كم تدعى إلى الصلاح و أنت على الفساد مثابر !!. كم ممن أمّل أن يصوم هذا الشهر فخانه أمله، فصار قبله الى ظلمة القبر.... كم من مستقبل يوما لا يستكمله، و مؤمل غدا لا يدركه. إنكم لو أبصرتم الأجل و مسيره ، لأبغضتم الأمل و غروره. جاء شهر الصيام بالبركات = أكرم به من زائر هو آت وصلى الله و سلم و بارك على نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم. دار الوطن