إنّ من يؤخر السعادة حتى يعود ابنه الغائبُ, ويبني بيته ويجدُ وظيفة تناسبه، إنما هو مخدوع بالسرابِ، مغرورٌ بأحلامِ اليقظةِ السعادةُ: هي عدمُ الاهتمامِ، وهجرُ التوقعاتِ واطِّراحُ التخويفاتِ البسمة: هي السحرُ الحلالُ، وهي عُربونُ المودةِ وإعلانُ الإخاءِ، وهي رسالةٌ عاجلة تحملُ السلامَ والحبَّ، وهي صَدَقَةٌ متقلبةٌ تدلُّ على أن صاحبَها راضٍ مطمئنٌّ ثابتٌ تخلصْ من الفضولِ في حياتِك, حتى الأوراقُ الزائدةُ في جيبِك أو على مكتبك, لأن ما زاد عن الحاجةِ.. في كل شيء.. كان ضاراً من عنده بستان في صدره من الإيمانِ والذكرِ، ولديه حديقةٌ في ذهنِه من العلمِ والتجاربِ فلا يأسفْ على ما فاته من الدنيا ******* كن مستعداً لخوض مغامرات.. الطريقة الوحيدة لحياة ممتعة هي اقتحامُ أخطارِها المحسوبة، لن تتعلم ما لم تكن عازماً على مواجهة المخاطرِ، قمْ مثلاًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًً ًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًً بتعلم السباحِة بمواجهةِ خطرِ الغَرَقِ لا قفل إلا سوف يُفْتَحُ، ولا قيد إلا سوف يُفَكٌّ، ولا بعيد إلا سوف يقربُ، ولا غائب إلا سوف يصلُ.ولكن بأجل مسمّى اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ فهما وَقودُ الحياةِ، وزادُ السيرِ، وباب الأملِ، ومفتاحُ الفَرَجِ، ومن لزم الصبرَ، وحافظ على الصلاةِ ؛ فبشِّرْه بفجرٍ صادقٍ، وفتحٍ مبينٍ، ونصرٍ قريبٍ جُلد بلالٌ وضُرب عُذّبَ وسُحِب وطُرِدَ فأخذ يرددُ: أحَدٌ أَحَدٌ، لأنّه حفظ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، فلما دخل الجنة احتقر ما بذل، واستقلَّ ما قدم لأن السّلعة أغلى من الثمن أضعافاً مضاعفة ما هي الدنيا هل هي الثوبُ إن غاليت فيه خدمته وما خدمك، أو زوجةٌ إن كانت جميلة تعذبُ قلبها بحبها، أو مال كثرَ أصبحتَ له خازناًهذا سرورها فكيف خزنُها ******* كل العقلاء يسعون لجلبِ السعادةِ بالعلمِ أو بالمال أو بالجاهِ، وأسعدُهم بها صاحبُ الإيمانِ لأن سعادته دائمةٌ على كل حالٍ حتى يلقى ربَّهُ من السعادة سلامةُ القلبِ من الأمراضِ العقدية كالشكِّ والسخطِ والاعتراضِ والريبةِ والشبهةِ والشهوةِ أعقلُ الناسِ أعذرُهم للناسِ، فهو يحمل تصرفاتِهم وأقوالهَم على أحسنِ المحاملِ، فهو الذي أراح واستراحَ فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ اقنعْ بما عنك، ارض بقسمِك، استثمرْ ما عندك من موهبةٍ، وظِّفْ طاقتك فيما ينفعُ واحمدِ الله على ما أولاك لا يكن يومُك كلُّه قراءةً أو تفكراً أو تأليفاً أو حِفْظاً بل خذْ من كل عملٍ بطرفٍ ونوِّعْ فيه الأعمالَ فهذا أنشطُ للنفسِ ******* الصلواتُ ترتبُ الأوقاتِ فجعلْ كل صلاة عملاً من الأعمالِ النافعةِ إن الخير للعبدِ فيما اختار له ربُّه، فإنه أعلمُ به وأرحمْ به من أمه التي ولدته، فما للعبد إلا أن يرضى بحكم ربه، ويفوض الأمر إليه ويكتفي بكفاية ربه وخالقِه ومولاه العبدُ لضعفه ولعجزِه لا يدري ما وراء حجبِ الغيبِ، فهو لا يرى إلا ظواهر الأمورِ أما الخوافي فعلمُها عند ربي، فكم من محنةٍ صارت منحةً وكم من بليةٍ أصبحت عطيةً، فالخيرُ كامنٌ في المكروهِ وهذا داودُ عليه السلام ارتكب الخطيئةَ فندم وبكى, فكانت في حقِّه نعمةٌ من أجلِّ النعم, فإنه عرف ربه معرفة العبدِ الطائعِ الذليل الخاشعِ المنكسرِ, وهذا مقصودُ العبودية فإن من أركانِ العبودية تمامُ الذلِّ للهِ عزَّ وجلَّ.. وقد سئِل شيخ الإسلامِ ابنُ تيمية عن قوله: عجباً للمؤمنِ لا يقضي اللهُ له شيئاً إلا كان خيراً له هل يشمل هذا قضاء المعصيةِ على العبدِ , قال نعم ؛ بشرطِها من الندمِ والتوبةِ والاستغفارِ والانكسارِ فظاهرُ الأمرِ في تقديرِ المعصيةِ مكروهٌ على العبدِ، وباطنُه محبوبٌ إذا اقترن بشرطِه ******* خيرة اللهِ وللرسولِ محمدٍ ظاهرةٌ باهرةٌ, فإن كلَّ مكروهٍ وقعَ له صارَ محبوباً مرغوباً, فإن تكذيب قومِه له ؛ ومحاربتِهم إياه كان سبباً في إقامةِ سوق الجهادِ، ومناصرةِ اللهِ والتضحيةِ في سبيلِه, فكانت تلك الغزواتُ التي نصر اللهُ فيها رسوله, فتحاً عليه, واتخذ فيها من المؤمنين شهداء جعلهم من ورثةِ جنة النعيم, ولولا تلك المجابهة من الكفار لم يحصلْ هذا الخيرُ الكبير والفوزُ العظيمُ, ولما طُرِد من مكة كان ظاهرُ الأمرِ مكروهاً ولكن في باطنِه الخيرُ والفلاحُ والمنّةُ, فإنه بهذه الهجرةِ أقام دولة الإسلامِ، ووجد أنصاراً، وتميز أهلُ الإيمان من أهلِ الكفرِ, وعُرِفَ الصادق في إيمانِه وهجرته وجهادِه من الكاذبِولما غُلب عليه الصلاة والسلام وأصحابُه في أحدٍ كان الأمرُ مكروهاً في ظاهرِه، شديداً على النفوسِ، لكن ظهر له من الخيرِ وحسنِ الاختيارِ ما يفوقُ الوصف, فقد ذهب من بعضِ النفوسِ العجبُ بانتصارِ يوم بدرٍ، والثقةُ بالنفسِ، والاعتمادُ عليها, واتخذ اللهُ من المسلمين شهداء أكرمهم بالقتلِ كحمزة سيدِ الشهداء, ومصعبِ سفيرِ الإسلام, وعبدِالله ابن عمروٍ والدِ جابر الذي كلمه اللهُ وغيرهم, وامتاز المنافقون بغزوةِ أحد، وفضح أمرهم، وكشفُ اللهُ أسرارهم وهتك أستارَهُمْوقسْ على ذلك أحواله ، ومقاماته التي ظاهرُها المكروهُ، وباطنُها الخيرُ لهُ وللمسلمين ومن عَرَفَ حُسْنَ اختيارِ اللهِ لعبدِه هانتْ عليه المصائبُ، وسهلتْ عليه المصاعبُ, وتوقعَ اللطفَ من اللهِ، واستبشر بما حصل، ثقةً بلطفِ اللهِ وكرمِه، وحسنِ اختيارِه، حينها يذهبُ حزنُه وضجرُه وضيقُ صدرِه, ويسلم الأمر لربه جلَّ في علاه، فلا يتسخطُ ولا يعترضُ، ولا يتذمّرُ، بل يشكرُ ويصبرُ، حتى تلوح له العواقبُ، وتنقشعُ عنه سحبُ المصائبِ نوحٌ عليه السلامُ يُؤذى ألفَ عام إلا خمسين عاماً في سبيلِ دعوتِهِ, فيصبرُ ويحتسبُ ويستمرُّ في نشرِ دعوتِه إلى التوحيدِ ليلاً ونهاراً, سراً وجهراً, حتى ينجيه ربُّه ويهلك عدوه بالطوفانِ ******* -د.عـائض القـرني-