عقدة الدونية: Complex of inferiority
شبكة النبأ: مجموعة من العواطف، والأفكار، والاتجاهات، والتصرّفات، الناجمة عن انطباع مؤلم من أن المرء أدنى من الآخرين أو من مثال يطمح إليه.
تبدو عاطفة الدونية، في رأي ألفريد أدلر (1870 – 1937)، منذ الطفولة، عندما الفرد يحتاز الشعور بعيب، بنقص، أو بعدم كفاية شخصه. وقد يكون الأمر خاصاً بعاهة واقعية (قدم عرجاء، اضطراب النطق...) أو مفترضة (قصر قامة، شعر أصهب...) ترهق الطفل أو، على العكس، تجنّد كل قواه النفسية ليتجاوزها.
الحاكم العربي وعُقدة كوريولانوس(1)
اعتاد الحاكم العربي منذ القدم أن ينظر شزراً إلى شعبه، فليس من شيمه أن يتودد إلى رعيته أو أن يلاطفها أو أن ينزل إلى ساحتها، فمنصبه ليس مطروحاً للتداول والمنافسة أصلاً، وبالتالي لا داعي لأن يخطب ود الشعب أو أن يتقرب منه كي يرفعه إلى سدة الحكم كما هو الحال بالنسبة للحكام الديمقراطيين الذين تستطيع الشعوب أن تنصبهم أو تطيح بهم من خلال الانتخابات الحرة. لكن هذا التقليد العربي "الأصيل" اهتز قليلاًً بعد أول سابقة من نوعها في التاريخ السياسي العربي الحديث. ولا نبالغ إذا قلنا إن تلك السابقة تعتبر تاريخية بكل المقاييس على بساطتها.
لأول مرة في حياتنا وحياة آبائنا وأجدادنا على الأقل نرى زعيماً عربياً يلجأ إلى وسائل الإعلام المحلية والخارجية كي يقنع شعبه بترشيحه وإعادة انتخابه. فقد فاجأ الرئيس المصري حسني مبارك الشعب المصري خصوصاً والعربي عموماً عندما سمح لوسائل الإعلام بأن تجري معه حواراً ماراثونياً لمدة أكثر من سبع ساعات. وقد كان الحوار استثنائيا بكل المقاييس، فهو لم يعتمد الصيغة الإعلامية الدعائية الترويجية العربية المبتذلة والفجة التي تكيل المديح للزعيم "عمـّال على بطـّال" وترفعه إلى منزلة الآلهة والمقدسات بخفة عجيبة، بل لجأ إلى الطرق الدعائية الانتخابية الحديثة والمحببة، فتحدث بكثير من البساطة والدماثة عن شبابه ومسيرة حياته وذكرياته وإنجازاته وأهم المراحل التي مر بها حتى أصبح رئيساً للجمهورية. لا بل إن بعض المشاهدين أثنوا على تلقائية الرئيس وأريحيته بينما صبوا جام غضبهم على المحاور الذي بدا برأيهم متكلفاً ومتملقاً.
إن هذا اللقاء التاريخي فعلاً مع رئيس عربي يجب ألا يمر مرور الكرام، بل ينبغي أن يُسجـّل ويُدرس سياسياً وثقافياً لعله يكون نقطة تحول مفصلية في تاريخ العلاقة بين الحاكم والمحكوم. فكلنا يعرف أن زعماءنا لم يكونوا يوماً بحاجة لرأي شعوبهم فيهم. "واللي مش عاجبوا يشرب من مية البحر الأسود، وأجهزة مخابراتنا تعرف شغلها معه". لهذا فإن محاولة الرئيس المصري النزول من عليائه ليخطب ود شعبه ويقنعه بالتصويت له في الانتخابات خطوة جديرة بالتقدير والثناء حتى لو كانت متأخرة ويجب أن تكون مثلاً يُحتذى لبقية الرؤوساء العرب المقبلين على إعادة انتخابات بشرط أن يتخلصوا أولاً من تقليد الاستفتاءات السخيفة التي يتنافس فيها الرئيس عادة مع نفسه ويفوز بأصوات الأحياء والأموات من "جماهير شعبه". لكن قبل أن يجرفنا التفاؤل المفرط علينا التأكد من صدقية التوجهات والإصلاحات العربية المزعومة وأنها لن تكون موسمية بفعل الأعاصير المحلية والعالمية ثم تعود حليمة لعادتها القديمة.
إن وضع الحكام العرب المجبرين على إجراء عمليات تجميلية لأنظمة حكمهم بفعل التململ الشعبي والضغوط الخارجية يذكرني بوضع الارستقراطي الروماني كايوس مارسيون بطل مسرحية "كوريولانوس" لويليام شكسبير التي تحمل اسم البطل والتي أعاد كتاباتها في ما بعد المسرحي الألماني الشهير بيرتولت بريخت لتناسب توجهاته الاشتراكية وأطلق عليها عنوان "كوريولان". لكن قبل أن أوضح أوجه الشبه بين الزعماء العرب والقائد الروماني أود أن أؤكد أن بطل مسرحية شكسبير كان بطلاً حقيقياً وحقق انتصارات عسكرية مثبتة تاريخياً على أعداء الامبراطورية ولم يصل إلى دفة القيادة ويتشبث بها كما هو الحال مع العديد من قادتنا بالرغم من هزائمه السياسية والعسكرية والاقتصادية المتواصلة، بل كان لديه شرعية عسكرية مدعومة بأكاليل الغار. لكن مع ذلك فهو يشترك مع العديد من الحكام العرب في الكثير من المزايا التراجيدية البائسة، خاصة في ما يتعلق بموقفه الازدرائي ونظرته الدونية إلى الشعب.
لقد أراد كوريولانوس أن يستثمر انتصاراته العسكرية بأن يترشح لمنصب القنصل وهو منصب روماني رفيع في ذلك الوقت، لكن مشكلته كانت تكمن في أنه مغرور جداً ومعتد بنفسه اكثر من اللازم لا بل يحتقر الجماهير وليس مستعداً أن يتنازل من أبهته ويتكلم معها حتى لو كان بحاجة لأصواتها في الانتخابات. وقد لاحظنا كيف كان كوريولانوس يستخدم عبارات ومفردات تحقيرية في حديثه مع عامة روما. فكان يصفهم مثلاً بأنهم ليسوا أكثر من جراء وقاذورات وكلاب وأرانب وثعالب. ولم يتردد في وصفهم أيضاً بالسفلة والأنذال. وبدوره كان الشعب يعرف موقف كوريولانوس منه، فقد وصفه أحد العامة في المسرحية بأنه "كلب" في تعامله مع الجماهير بينما اعتبره آخر "عدو الشعب".
وتظهر محنة بطل المسرحية في أجلى صورها وهو يستمع إلى مجموعة من المستشارين الذين يحاولون إقناعه بالنزول إلى الشعب ومجاملته كي يختاره قنصلاً. لكن كوريولانوس يدخل في نوبة غضب عنيفة رافضاً التودد إلى عامة الناس. وعندما كانوا يقولون له إن الإجراءات تقتضي أن يخوض القنصل حملة انتخابية في صفوف الشعب قبل أن يتم انتخابه كان كوريولانوس يرد عليهم بأن يستثنوه من هذا التقليد السخيف. فهو يعتقد أنه يستحق الزعامة رغماً عن أنوف الجميع ويرفض التوصل إلى حل وسط مع الجماهير حتى لو أدى ذلك به إلى الموت السياسي والجسدي.
لكن البطل الروماني المغرور يخضع في النهاية لرغبة الشعب بعد تعرضه لضغوط هائلة حيث نراه يدخل في أحد فصول المسرحية وقد بدا عليه التواضع والخشوع. إلا أن تخليه عن كبره وكبريائه لم يكن نهائياً بل جاء لأغراض سياسية تكتيكية محضة أو بالأحرى كان يضحك على ذقون الجماهير بدليل أنه اعترف سابقاً بأنه في ما لو اضطر إلى مداهنتها فهو لا يحمل لها في أعماق أعماقه سوى الاحتقار.
إن ورطة القائد الروماني المذكور تذكرنا هذه الأيام بمحنة الكثير من الزعماء العرب الذين جـُبلوا على ازدراء الشعوب ومعاملتها معاملة الجراء والأنعام، لكنهم اصبحوا مضطرين تحت وطأة الضغوط الداخلية والخارجية أن يتنازلوا قليلاً كي يتقربوا من الناس ويعترفوا بوجودهم كعربون ديمقراطية بعد أن كانت الشعوب على مدى أكثر من خمسة عقود في نظر الكثير من الأنظمة الحاكمة مجرد ثلة من الرعاع والدهماء والمارقين الجديرين بالسوق كالقطعان. لكن كما هو الحال مع كوريولانوس، فإن بعض الإصلاحات الشكلية التي تجريها بعض الأنظمة العربية قد تكون مجرد لعبة مكشوفة لذر الرماد في العيون والضحك على الذقون. فليس من المعقول أن بعض حكامنا الذي تربوا على إذلال الشعوب وقمعها واحتقارها وسومها سوء العذاب اصبحوا فجأة قادة حضاريين يحترمون مشاعر الجماهير ومستعدين للنزول عند مطالبها ورغباتها. فهناك عبارة شهيرة لأحد طغاة أمريكا اللاتينية أوردها الروائي العظيم ماركيز في إحدى رواياته. تقول العبارة «إن مجموعة من المستشارين طالبت أحد المستبدين هناك بأن يغير طباعه وسياساته لأن الشعب ضاق ذرعاً بها فأجابهم الطاغية بعنف شديد أنا لا أتغير أيها السفلة والمنحطون وبالتالي على الشعب أن يتغير». قد تبدو هذه الحكاية أقرب إلى النكتة السمجة، لكنها واقعية وتلخص موقف الكثير من الطغاة تجاه شعوبهم.
جدير بنا طبعاً أن نرحب بهذا التحول البسيط في طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم على ضوء التجربة المصرية الأخيرة التي كغيرها من التجارب العربية جاءت على مضض، لكننا كنا سنرحب بها بحرارة أكثر لو أن الأنظمة العربية بدأت تتقرب من شعوبها قبل أن وصل السيل الزبى وقبل أن تتعرض للضغط الأمريكي كي تحسن صورتها لدى الشعوب المقهورة. بعبارة أخرى فإنها تبدو مرغمة على كياستها وتواضعها المفاجىء. فما نراه هذه الأيام من إرخاء للقبضة الأمنية في بعض الدول العربية والتظاهر بمعاملة الناس بقليل من الاحترام في المطارات والمؤسسات العامة لم يأت بطيب خاطر، واستطيع أن أؤكد أن كبار الجلادين والجلاوزة والجنرالات العرب الذين اعتادوا على إهانة الشعب والتنكيل به يشعرون في داخلهم بغيـظ شديد بسبب الضغوط التي كفت أيديهم عن رقاب الجماهير مؤقتاً، تماماً كما شعر كوريولانوس عندما طـُلب منه النزول إلى الشعب والتودد إليه، مع فرق بسيط وهو أن القائد الروماني المتكبر كان يحقق انتصاراته العظيمة على أعداء شعبه لا على ابناء جلدته كما فعل الكثير من حكامنا.
لقد حدثني أحد المعارضين العرب المغضوب عليهم في أحد البلدان العربية أنه تلقى كلاماً من مسؤول أمني كبير بأن الأجهزة تشعر بحنق كبير وتكاد تموت من الغيظ بسبب عدم قدرتها هذه الأيام على التنكيل بالمعارض المذكور وبأمثاله. ولو كان الأمر عائداً لها لما سمحت له بأن ينبس ببنت شفه وأخرسته على الفور وقدمته لحماً مفروماً للقطط والكلاب. ولا يخفى على أحد أن الأجهزة الأمنية في العديد من بلاد العُرب تعتبر الشعوب ألد أعدائها وهي تعاملها على هذا الأساس. وكم شعرت ذات مرة بكثير من القرف عندما سمعت مسؤولاً كبيراً يمنن الشعب في أحد البلدان العربية بأن الأجهزة رفعت حذاءها الثقيل عن رقاب الناس قليلاً في الآونة الأخيرة تقديراً لها على بعض المواقف الطيبة.
وبما أن الذات الحاكمة في العالم العربي هي "ذات أمنية" بالدرجة الأولى فهذا يجعلنا نضع ألف علامة استفهام واستفهام حول محاولات بعض القادة العرب التقرب من شعوبهم واستبدال الكرباج بقفاز من الخيش. لكن مع ذلك، لنفترض فيهم حسن النية لعلهم جادون فعلاً قبل أن نردد المثل العربي الشهير:الطبع غلب التطبـّع.
حرية الإعلام وتشكيل صورة العرب في العالم(2)
لقد اكتفى العرب حتى الآن بترديد النتيجة التي توصلت لها الكثير من الدراسات، وهي أن وسائل الإعلام الغربية قد نجحت في تشويه صورة العرب، وتشكيل صورة نمطية سلبية لهم، ولكن دون أن يفكروا في رسم استراتيجية لتصحيح صورتهم، وفرض صورة إيجابية لهم على العالم.
إن عملية تشكيل الصورة الإيجابية هي عملية طويلة ومعقدة، ولكن ذلك لا يعني الهروب من ميدان المعركة، والاكتفاء بتوجيه اللوم للغرب ولإسرائيل، والحديث عن المؤامرة التي أنتجت تلك الصورة النمطية المشوهة للعرب.
ولقد آن للعرب أن يخرجوا من حالة الاستسلام للواقع المرير، وأن يتحدوا هذا الواقع، وأن يستخدموا كل قواهم الحضارية والعقلية والإبداعية في بناء استراتيجية طويلة الأمد لتشكيل صورة إيجابية لأنفسهم على مستوى العالم.
القوة الإعلامية أولا
إن الأقوى إعلاميا واتصاليا هو الذي يستطيع أن يفرض الصورة التي يريدها لنفسه. حيث تكشف دراسة علمية قمت بإعدادها عن الصور النمطية أن القوى والشعوب التي نجحت في تغيير صورتها النمطية السلبية، وبناء صورة إيجابية هي تلك التي استطاعت أن تزيد قوتها الإعلامية والاتصالية، وأن تروي قصتها عبر وسائل الإعلام بنفسها، وأن تفرض على الآخرين أن يتعاملوا معها كبشر قادرين على الحديث عن أنفسهم وكتابة تاريخهم بأنفسهم.
لكي تستطيع أية أمة أن تشكل لنفسها صورة إيجابية، فإنها يجب أولا أن تجد لنفسها فرصة تتحدث خلالها للآخرين باستخدام كل وسائل الاتصال وأنواعه. ولن يعطي أحد لأمة هذه الفرصة مجانا.. ذلك أن الثروات الاتصالية هي ثروات شديدة الأهمية وكل أمة تحتاج لمواردها الاتصالية لكي تستخدمها في الدفاع عن نفسها، وتشكيل صورتها، وتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية والثقافية داخليا وخارجيا.
معركة الاتصال
إن عصر ثورة الاتصال سوف يشهد صراعا مريرا بين القوى العالمية على السيطرة على الموارد الاتصالية، وعلى التحكم في تدفق الأنباء والمعلومات، وعلى تشكيل الصور الذهنية، والتحكم في اتجاهات الجماهير، وفي ما تختزنه عقول الجماهير من صور للأمم والشعوب.. وحتى الآن فإن العرب لم يدخلوا هذه المعركة، ولم يدركوا أهمية زيادة قوتهم الإعلامية والاتصالية.. بالرغم من إدراكهم لخطورة تشويه صورتهم على المستوى العالمي، وكيف استخدمت هذه الصورة المشوهة في تبرير العدوان عليهم. إن بناء القوة الإعلامية يحتاج في عصر ثورة الاتصال إلى عقول مبدعة، وخيال خصب، وجرأة وشجاعة، وقدرة على المواجهة والتحدي، ودراسة متعمقة للفرص التي تتيحها ثورة الاتصال.
والعقل العربي قادر على أن يصنع واقعا جديدا ويصيغ مستقبلا أفضل عندما تنطلق قدراته ويتحرر من عقدة الدونية التي فرضتها عليه وسائل الإعلام الغربية.
إن التحدي الأول الذي يجب أن يواجهه العقل العربي هو كيف يمكن تحقيق القوة الإعلامية للأمة العربية عن طريق بناء صناعة عربية مستقلة للإعلام والاتصال تحرر المواطن العربي من الاعتماد على المصادر الغربية في الحصول على المعلومات والمعرفة، وتساهم في تحرير الوطن العربي من التبعية الإعلامية.
حرية الإعلام أولا
إن الشرط الأساسي لتطور صناعة الإعلام والاتصال هو الحرية، ولقد عملت القوى الاستعمارية قبل الاستقلال على تعطيل قدرات العرب على تطوير صناعتهم الإعلامية عن طريق فرض الكثير من القيود على إصدار الصحف.
وكان من الطبيعي أن تقوم القوى الوطنية عقب الاستقلال بإسقاط كل تلك القيود التي تعوق تطور صناعة الإعلام والاتصال.. لكنها لم تفعل ذلك، بل بالغت في فرض الكثير من القيود بهدف التحكم في المعرفة التي تصل إلى الجماهير.. وأدى ذلك إلى إضعاف قدرات الأمة على تنمية قوتها الإعلامية وتطويرها.
لذلك فإن إطلاق حرية الإعلام هو مقدمة ضرورية لبناء الصناعة العربية المستقلة للإعلام والاتصال.. وتطوير هذه الصناعة بحيث تكون قادرة على الوفاء بحق الجماهير العربية في المعرفة، وتشكيل صورة ذاتية إيجابية للعرب، تكون مقدمة لاقتناع العرب أنفسهم بأنهم قادرون على تشكيل النهضة وتحقيق التقدم. إطلاق حرية الإعلام يمكن أن يؤدي إلى إنشاء الكثير من الوسائل الإعلامية (صحف - محطات إذاعة وتليفزيون - شركات لإنتاج المضمون.. إلخ) ، وهذه الوسائل بدورها سوف تفتح الكثير من المجالات لبناء صناعة مضمون إعلامي. ذلك أن تحدي المستقبل هو تحدي المضمون وليس تحدي التكنولوجيا.. وللذلك فإن تطوير صناعة المضمون الإعلامي يشكل أهم أركان الصناعة العربية المستقلة للإعلام والاتصال.
إن هذه الصناعة يمكن أن يستخدمها العرب في بناء صورة ذاتية إيجابية لأنفسهم توفر للعرب الفخر الداخلي والاعتزاز بالهوية والذاتية الحضارية، ومحاربة الاغتراب، وزيادة الانتماء، وهي مشاعر ضرورية لبناء النهضة. فالأمم لا يمكن أن تنهض دون أن يكون لديها شعور بالتميز، واعتزاز بالذات والهوية، وثقة بالقدرة على صناعة النهضة.
لذلك فإن إطلاق حرية الإعلام يأتي في إطار مشروع حضاري شامل ليفتح المجال لربط الإنسان العربي بالوطن والتاريخ والثقافة والهوية عن طريق فتح المجال أمام إنشاء وسائل إعلامية واتصالية جديدة تشكل صورة ذاتية إيجابية للعربي كفارس فصيح صاحب رسالة، وقادر على صناعة التاريخ.
بناء صورة ذاتية إيجابية للعربي، واقتناع العرب بهذه الصورة هو نقطة البداية الصحيحة لتشكيل صورة إيجابية للعرب في العالم.. وهذه الصورة الذاتية تحتاج إلى صناعة عربية مستقلة للإعلام والاتصال تقوم ببنائها عبر إعادة إنتاج التاريخ، وقراءة الواقع، وتقدم مضمونا جديدا يتحدى ذلك المضمون الغربي الذي يصنع عقدة الدونية في الوطن العربي.
حرية الإعلام فخر للأمم
حرية الإعلام يمكن أن تكون هي بذاتها إحدى أهم سمات الصورة الإيجابية.. ذلك أن الأمم
التي تتمتع بالحرية بشكل عام وحرية الإعلام بشكل خاص تحصل على الإعجاب، وفي الوقت نفسه تشعر بالتميز والفخر.. وبذلك تساهم حرية الإعلام في صياغة صورة إيجابية ذاتية، وصورة إيجابية على مستوى العالم الخارجي.
ولاشك أن من أهم مصادر فخر الشعب الأمريكي الصحافة الحرة.. ولقد قامت الصحافة الأمريكية في بعض الفترات بما يمكن أن يشكل فخرا للشعب الأمريكي عندما أرغمت النظام الأمريكي على الانسحاب من فيتنام بعد أن قامت بنشر أوراق البنتاجون، وكشفت الفظائع التي ارتكبتها القوات الأمريكية في فيتنام.. وبالرغم من أن هذه الفظائع تشكل عارا للشعب الأمريكي إلا أن الصحافة الحرة التي استطاعت أن تكشف هذه الفظائع وترغم النظام الأمريكي على الانسحاب من فيتنام كانت تستحق الفخر بها.
كذلك كان سلوك الصحافة الأمريكية في ووترجيت وقيامها بوظيفتها في حراسة الديمقراطية الأمريكية أمرا يستحق الإعجاب الخارجي والفخر الداخلي. لكن الزمن تغير.. ولم تعد الصحافة الأمريكية قادرة على كشف الحقائق عن الفظائع التي تقوم بها القوات الأمريكية في العراق، وبالتالي لم تعد تستحق أن يفخر بها الشعب الأمريكي، ولم تعد تستحق الإعجاب.
أما المواطن العربي فإنه لم تتح له الفرصة يوما أن يفخر بصحافته أو بحرية الإعلام، وبالتأكيد فإن تقييد حرية الإعلام في الوطن العربي يتيح للغرب أن يستخدم ذلك في تشويه الصورة العربية.
يضاف إلى ذلك أن تقييد حرية الإعلام في الوطن العربي أدى إلى إبعاد القوى التي تستطيع أن تبني النهضة وبالتالي تصنع صورة إيجابية ذاتية للأمة العربية، وصورة إيجابية على المستوى العالمي.
ولذلك فإن إطلاق حرية الإعلام وإسقاط الكثير من القيود القانونية والسلطوية التي تقيد الصحافة والإعلام في الوطن العربي سوف يفتح المجال أمام القوى الفاعلة في الأمة لتشكيل المستقبل طبقا لمشروع حضاري شامل يعيد للأمة قدرتها على المساهمة الفاعلة في الحضارة الإنسانية، وبالتالي يساهم في صياغة الصورة الإيجابية العربية على المستوى الداخلي والخارجي.
إن الكثير من القوانين التي تقيد حرية الإعلام في الوطن العربي قد أصبحت خارج سباق العصر، وأصبحت تشير إلى حالة التخلف والضعف وفقدان الثقة.. وهذه القوانين والقيود أصبح وجودها يتناقض مع ثورة الاتصال، فكل دول العالم تكافح الآن لزيادة قوتها الإعلامية ومواردها الاتصالية، وتنمية صناعاتها الإعلامية وتطويرها، بينما تقيد السلطات في الوطن العربي حق الأمة في الدفاع عن نفسها باستخدام وسائل الإعلام، وبناء صورتها الإيجابية داخليا وخارجيا.
لذلك فإن بناء صورة إيجابية للأمة العربية يتطلب إسقاط كل القيود التي تعوق تطور صناعة الإعلام والاتصال في الوطن العربي، وتشكيل مناخ جديد تتطور فيه صناعة المضمون الإعلامي، وتنشأ فيه وسائل إعلامية جديدة توفر للجماهير العربية المعرفة والتغطية الشاملة للأحداث، وتزيد قدرة هذه الجماهير على تحقيق التنمية والتقدم.
المناقشة الحرة
إن إطلاق حرية الإعلام في الوطن العربي يمكن أن يساهم في فتح الأبواب لمناقشة حرة بين قوى الأمة الفاعلة حول سمات الصورة العربية الإيجابية التي تريد الأمة أن تشكلها لنفسها.
ذلك أن دراسة الخطاب العربي حول تصحيح الصورة العربية في الغرب خلال السنوات الأربع الأخيرة توضح أنه قد تم فرض تصور للصورة التي ترغب السلطات العربية في الترويج لها في الغرب يقوم على سمات الضعف وعدم الرغبة في المواجهة، وعدم القدرة عليها، وحب السلام، والسعي من أجل تحقيق السلام بأي ثمن، والرغبة في التشبه بالغرب.. إلخ.. وهي سمات لا تشجع العربي على الفخر بذاته، وتكرس عقدة الدونية، وهي سمات لا يصدقها الغرب لأنها غير واقعية.
في بعض الأحيان كان خطاب الضعف العربي يثير السخط لدى المواطنين العرب، وفي الوقت نفسه يزيد من رغبة الغرب في ابتزاز بعض السلطات العربية، حيث بالغت وسائل الإعلام في مصر على سبيل المثال في نفي امتلاك مصر لأسلحة نووية، أو وجود أية رغبة لدى مصر في امتلاك هذه الأسلحة أو تطويرها، أو التفكير في ذلك في الماضي أو في المستقبل، وأن مصر بريئة من أية علاقة مع أسلحة الدمار الشامل براءة الذئب من دم ابن يعقوب.
كانت هذه المبالغة في الضعف تتناقض مع الخطاب الإيراني الذي ركز على حق إيران في امتلاك القدرات النووية وتخصيب اليورانيوم، وإرغام القرب على تقديم التنازلات والوعود السخية لإيران حتى لا تطور برنامجها النووي، وبالرغم من الضعف الذي ظهر في الخطاب الإيراني في بعض الأحيان إلا أنه كان يثير الإعجاب في أذهان المواطنين العرب، بينما كان الخطاب العربي الضعيف يزيد من الشعور الداخلي بالمهانة والمساس بالكرامة الوطنية، وفي الوقت نفسه فإنه لا يشكل صورة إيجابية خارجية.
ماذا لو أدرنا مناقشة حرة بين المثقفين والعلماء العرب، والقوى السياسية العربية حول سمات الصورة العربية التي نريد تشكيلها داخليا وخارجيا؟ من المؤكد أنه يمكن أن نتوصل في النهاية إلى اتفاق على سمات صورة جديدة تقوم على القوة والقدرة على صناعة النهضة والتقدم والمقاومة والكفاح والقدرة على انتزاع الحرية والمساهمة الفاعلة في الحضارة الإنسانية.
قد نتفق في النهاية على أن أكثر سمات الصورة التي صنعتها وسائل الإعلام الغربية للشخصية العربية، هي تلك التي تمت صياغتها عقب هزيمة 1967، وهي أن «العربي صديق لا نفع له، وعدو لا ضرر منه»، وأنه لابد من تغيير هذه السمة تحديدا بإثبات أنه ليس هناك مفر من البحث عن وسائل للحصول على صداقة العربي، ذلك أن العداء له سيكون مرا، وأن الأمة العربية قد تلحق بها كأي أمة الكثير من الهزائم لكنها قادرة على تحقيق الانتصارات، وهي لا يمكن أن تخرج من التاريخ، بل ستظل في قلب التاريخ تنهزم وتنتصر، تقاوم وتتحدى، وتستطيع أن تصنع الحضارة وتعمر الأرض، وتستغل ثرواتها لتحقيق مستقبل أفضل.
وربما يكون اتفاقنا على سمات الصورة التي تشكلها لأنفسنا أهم إنجازاتنا خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ولكن لكي نحقق ذلك لابد أن نطلق حرية الإعلام، ونتناقش بحرية.
لذلك فإن إطلاق حرية الإعلام هي أول خطوة في طريق بناء صورة عربية إيجابية داخليا وخارجيا.
أزمة المرأة في الشرق(3)
1 ـ النظرة الدونيّة :
وفي الشرق لا زالت الكثير من شعوبه أسيرة النظرات الموروثة للمرأة على أ نّها مخلوقة من مستوىً أدنى من الرجل ، فهي ـ في نظر البعض ـ قد خُلِقَت من فضلات خلق الرجل ، أو من قدمه ، أو من ضلع أعوج ، وهي مصدر العار للعائلة أو القبيلة ... لذا فإنّ الشؤم كان من المرأة وفي المرأة لا غيرها !!
وتواجه المرأة نظرات البؤس منذ اللّحظات الاُولى لولادتها ، فما أن يعلم الأهل أنّ الوليد بنت ، حتّى تكفهرّ وجوه وتشمئزّ أخرى ، وينقل الخبر بخجل أو استحياء ، فيما يعزِّي البعض الوالد بالدعاء له بأن يُرزق بمولود ذكر في الولادة القادمة ..
وتبقى هذه النظرات المنكسرة ، الغاضبة حيناً والمشفقة حيناً آخر تلاحق المرأة ; بنتاً صغيرة أو امرأة كبيرة تصاحبها أحاسيس من القلق والاضطراب والخوف والوجل، ويعيش والد البنات مُثقلاً بالهموم، فلا «همّ كهمِّ البنات»، كما في الأمثال التي يتناولونها، يواجهه الناس بالأسى والرثاء لحاله ..
وأمّا أمّ البـنات ، فهي مصـدر شـؤم لا بركة فيها إذا لم تُنجِب طفلاً ذكراً ، وهي المسؤولة عن بناتها ، والسبب في قدومهنّ ، أمّا الذّكر فيُنسَب إلى أبيه ..
وتلك النظرات لا زالت تتوارث، وقد نجد آثارها عند بعض «المثقّفين» أو «أدعياء العلم» ، لأنّ الثقافة لم تنفذ إلى أعماقهم ، والعلم طارئ عليهم لم يتمكّن بعد منهم .
فلازالت النظرة إلى المرأة في الكثير من المجتمعات الشرقية على أ نّها «ناقصة العقل» لا تعي ولا تفهم ، ولا تولّى من أمرها شيئاً ، فهي يجب أن تكون دوماً في حاجة إلى الرجل ، وتُعطى «العين الحمراء» لكي تمشي باستواء ، ولا تمدّ عينها لغيرها .
لا زال بعض اليابانيين ينتظرون من زوجاتهم أن يركعنَ لهم ، والهنود أن يسجدنَ لهم ، والعـرب أن يكنّ من حريمهم وخدمهم ، وبعض الأفـارقة يتعاملون مع المرأة وكأنّها قطعة من أثاث المنزل أو بعض من موروثاته .
ويحتاج استقصاء أفكار وآثار هذه النظرة الدونية إلى بحث مستقل ، وهو بحث مهم ومفيد، لأنّ الكثير منّا قد يتصرّف مع النساء متأثراً بهذه الأفكار الخلفية والمسبقة دون أن يعلم ، وقد تحوّلت هذه الأفكار إلى رؤىً وأقوال وحكم وأمثال شعبية تلقي بعبئها على الكثـير من تراثنا وفكرنا وفقهنا وسلوكنا الاجـتماعي وعاداتنا الدينية والدنيوية .
ولا نبالغ إذا قلنا : أنّ من النادر أن نجد أثراً فكرياً أو سلوكاً اجتماعياً يتعلّق بالمرأة ، ويمكن أن يكون مجرّداً ومستقلاًّ وموضوعياً بشكل تام ، دون أن يتأثّر بهذه الموروثات التي نشأنا عليها منذ الصِّغر ، وشكّلت عند الكثيرين عقيدة ومبادئ دينية وحياتية .
وفي تراثنا الديني نجد الكثير من الأحاديث الموضوعة التي تحطّ من شأن المرأة وتجعل منها مصدراً للعار والشنار ومدعاة للشؤم ومجلبة لسوء الحظ ، حتى تجعل «أكثر أهل النار من النساء» .. !!
وهذه النظرة الدونية إلى المرأة ، سواء كانت تصدر عن احتقار وازدراء لها ، أو خوف وشفقة عليها ، من أكثر ما يؤلم المرأة ويعيق حركتها ونهضتها في المجتمع ، لأ نّه يتعارَض من جهة مع شعورها الانساني الرفيع وكرامتها السامية التي كرَّمها الله بها ، ويسدّ من جهة ثانية أمامها أبواب الترقِّي وفرص التعلّم والعمل ، ويعرِّضها لأصناف من التمييز المجحف وألوان من الحرمان الظالم .
2 ـ استغلال المرأة اقتصادياً :
لا تتمتّع المرأة ـ وكذا الرجل ـ في الكثير من دول الشرق بالتأمين الاجتماعي ، والذي باتَ حقّاً طبيعياً في دول العالم المتقدِّمة ، وكان في الاسلام حقّاً طبيعياً قبل 1400 عام ، ولذا فإنّ النساء اللاّتي ليس لهنّ مُعيل بسبب موت الأب ، أو الزّوج ، أو مرضهما أو عجزهما، أو غير ذلك من الأسباب التي تجعل النساء في احتياج دائم ، ولا تؤمِّن لهنّ الدولة ما يكفيهنّ لسدِّ حاجتهنّ والعيش بكرامـة ، إنّ هؤلاء النسوة ليس أمامهنّ إلاّ العمل بظروف غير مناسبة وأجور زهيدة ، أو الزواج تحت شروط قاسية .
كما إنّ ظاهرة سوق الخدم ، وتعرّض ملايين الفتيات لظروف قاهرة من الهجرة وفراق الأهل وظروف العمل الصعبة والمضايقات النفسية والجنسية، من نتائج الظروف الاقتصادية الصعبة وعدم توفّر الحماية اللاّزمة للمرأة .
ولأنّ كثيراً من النساء العاملات بسبب ظروف اقتصادية قاهرة ، يقمن في نفس الوقت بأعمال البيت وشؤون الأولاد ، فإنّهنّ غالباً ما يبحثنَ عن أعمال بسيطة وغير رسمية ، كالأعمال المنزلية والبيع في الشوارع والخدمة في الإدارات والبيوت ، وبأجور قليلة وظروف عمل محدودة تؤمِّن احتياجاتهنّ المؤقّتة دون تأمين حـياتي ومورد اقتصادي ثابت ومطمئن () .
وتسبِّب هذه الأوضاع المعيشية القلقة والمضطربة الكثير من المشاكل النفسـية والجسدية للمرأة ، بسبب عدم الاسـتقرار وعدم الاطمئنان النفسي لاستمرار المورد الاقتصادي من جهة ، وبسبب الظروف البيئية والاجتماعية المختلفة التي تتعرّض لها من جهة أخرى ، وهو ما يجعلها عرضة للقلق والأمراض والمخاطر .
وإذا ما تعرّضت المرأة بسبب هذه الظروف لأي طارئ يمنعها من العمل كالمرض أو البطالة ، فإنّها تفقد موردها الحياتي الوحيد ، ولا تنال أي تعويض مالي ولا تستمتع بتأمين اجتماعي يجعلها وعائلتها وأولادها في مأمن من الهزّات الحياتية ، ولذا غالباً ما يسود هذه العوائل هاجس مُخيف كلّما فقدت الأم أو الأخت عملها أو كلّما مرضت لأي سبب من الأسباب ، ونجد في كثير من البلاد الشرقية ملايين الأيتام الذين يُعانون الويلات والجوع والمرض في حياتهم لفقد آبائهم وأمّهاتهم بسبب ظروف العمل أو مخاطر الحياة المختلفة .
وتتطلّب هذه الأوضاع تكثيف الدعوات والجهود من قِبَل الحكومات والهيئات الاجتماعية لتوفير الضمان الصحِّي والتأمين الاجتماعي للنساء ، بحيث أ نّهنّ لو دخلن سوق العمل أو انشغلن بالأعمال المختلفة ، ينطلقنَ من مبدأ نفسي مطمئن ويخضعنَ لشروط اجتماعية سليمة ومناسبة .
ولاستغلال المرأة اقتصادياً صور مختلفة ، ومنها صورة الاستفادة الاقتصادية من تزويج البنات ، وهي صورة بشعة موجودة لدى الكثير من القبائل وفي المناطق الريفية لمناطف مختلفة من العالم الثالث ، حيث يأخذ أب أو وليّ البنت أو أمّها مبلغاً مالياً ضخماً ـ عادة ـ مُقابل الموافقة على زواج البنت ، وغالباً ما يؤدِّي هذا النوع من التزويج إلى تحوّل البنت إلى بيت زوجها وهي أشبه ما تكون بالجارية أو الخادمة التي بيعَت وقُبض ثمنها .
3 ـ الاستغلال الجنسي للمرأة :
كما سبقت الإشارة إليه ، فإنّ كثيراً من النساء في العالم الثالث ، وبسبب ظروف اقتصادية قاهرة ، وعدم توفّر التأمين الاجتماعي ، يلجأن إلى الزواج دون رغبة ومن رجال غير مناسبين في كثير من الأحيان ، وربّما يخضعنَ تحت عنوان الزّواج أو غيره للاستغلال والابتزاز الجنسي البشع ، دون توفير أدنى شرائط الزوجية وفي أوضاع مُذلّة ومُخزية أحياناً
وأرقى هذه الأوضاع ، ظاهرة تعدّد الزوجات ، والتي ربّما كان لها ما يُبرِّرها ضمن ظروف وشرائط معيّنة ، ولكن أن تُتّخذ هذه كوسيلة لاستغلال حاجة بعض النساء المادية وإشباع الرغبات الجنسية الجامحة لبعض الرجال دون توفّر الرغبة المتقابلة والشرائط المتكافئة للزوجية ، فهذا أمر غير مقبول وله آثاره السيئة على المرأة وأولادها والمجتمع ، وأسوأ ذلك في بعض الحالات التي يقضي فيها الرجال وطرهم ضمن مدّة معيّنة ، بالزواج الدائم أو المنقطع ، ثمّ يتركون المرأة تقضي بقيّة حياتها مُطلّقة تعيش الوحدة والفاقة ، أو تمتهن هذا الوضع لتنتقل من شخص لآخر في حالة مُزرية لا تليق بالشأن الانساني ، ولا يرضاه أي إنسان لنفسه أو لغيره .
ولا بدّ هنا من التأكيد على أهمية تسجيل عقد الزواج ، لغرض حفظ حقوق المرأة وضمان مستقبل الأولاد ـ إن وُجِدوا ـ .
كما لا بدّ من الإشـارة إلى أنّ كثيراً من النساء تعرّضن وبسـبب هذا النـوع من الاستغلال الشرعي وغير الشرعي ، إلى الإصابة بمرض الإيدز ، وإكمال حياتهنّ في أسى ومُعاناة حتى الموت المسرع إليهنّ بسـبب تمكين أنفسهنّ ـ بدوافع اقتصادية وغيرها ـ لرجال شهوانيين نقلوا إليهنّ المرض، وأحياناً مع علم الرجل بالمرض ولكن عدم إعلامه لزوجته أو خليلته، بسبب عمى الجنس وفقدان الروح الانسانية والأخلاقية، خصوصاً أنّ في الكثير من بلدان العالم الثالث يوجبون على الزوجة العفّة والوفاء في الزوجية ويتشدّدون عليها ، في الوقت الذي يغضّون فيه النظر عن الرجال الذين تكون لهم نزواتهم الخاصّة في السفر والحضر ، وسرعان ما ينقلون المرض الذي استقبلوه إلى زوجاتهم المسكينات أو رفيقاتهم الأخريات .()
ولذا كانت نسبة المصابات من النساء أكثر من الرجال ، وكنّ معرّضات للخطر أكثر من غيرهنّ ، وكمثال على ذلك ، المغرب الذي أشارت تقارير خطيرة إلى إصابة 25 % من نسـائه بمرض الإيدز (1994 م) ، وأنّ أكثر الضحايا كنّ من النساء المستضعفات ، مادياً أو معرفياً ، حيث كانت 69 % منهنّ عاطلات عن العمل و 57 % منهنّ أمِّيات .()
وقد توقّعت منظمة الصحّة العالمية أن يصل عدد المصابات بالإيدز أواخر سنة 2000 إلى عشرة ملايين امرأة ، كما أنّ الدراسات تؤكِّد أنّ الاختلاط الجنسي هو العامل الرئيس وراء الابتلاء بهذا المرض ، ولا يمكن معالجة ذلك إلاّ بتقويم السلوك الجنسي للأفراد بالتعفّف والوفاء المتقابل ـ عبر العلاقات الجنسية المشروعة والسليمة ـ وكذلك استعمال الواقي ، وقد لوحظ في الدراسات أنّ التعليم والتثقيف الجنسي في المدارس لم يؤدِّ إلى الوقوع في الأخطاء والممارسة الجنسية المبكِّرة والانحراف الخلقي ، وإنّما ساهم في توقِّي الأخطاء المهلكة وإلى أن يكون سلوك الطلّاب أكثر مسؤولية .
ومن أسوأ أنواع الاستغلال الجنسي للمرأة هو ما يُسمّى بتجارة الرقيق الأبيض وإشاعة الزِّنا والفحشاء ، وقد لوحظَ أنّ كثيراً من نساء العالم الثالث ومع كل مخاطر التلوّث بالأمراض القاتلة، يَقدِمْنَ ـ بسبب سوء أوضاعهنّ المعيشية ـ على بيع أنفسهنّ .
ولا يمكن مقابلة هذا الوضع إلاّ بتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للنساء ، وإيجاد فرص متكافئة في التعليم والعمل ، ووضع القوانين اللّازمة لمنع العنف مع النساء وإيقاف استغلالهنّ .()
وفي قصّة مشهورة سجّلت مبيعات كبيرة تحت عنوان «ولد من أهالي كابيرا» للكاتب الأوغندي داود سبوكيما ( Davis Sebukima ) ، حكاية راع يقول بحقِّ ابنته بنتي كانت سبب غِناي . وهي تُصوِّر واقع غالب الريف في أفريقيا ، حيث يبيع الناس بناتهم عند زواجهنّ بأعلى قيمة ممكنة .
وفي الهند ، نجد صورة مُعاكسة ، ولكنّها تؤدِّي أيضاً إلى الاستغلال الجنسي للمرأة ، ففي عام 1961 م ، صدر في الهند قانون ألغى بموجبه (الدوطة) ، ونصّ على عقوبة تصل إلى ستة أشهر سجن لمن يطلبها أو يقبلها ، والدوطة : هي هِبَة مالية يدفعها والد العروس للشاب الذي يتزوّج ابنته .. إذ في الهند وخلافاً لجميع بلدان العالم ، فإنّ أهل العروس هم الذين يدفعون مهراً للزوج بدلاً من أن يأخذوا منه ، وهو ما يُسبِّب آلاماً كبيرة ومشاكل لا تنتهي للمرأة الهندية ، ومنها الاستغلال الجنسي لها .
ففي عام 1964 ـ 1965 ، أشارت الجـرائد إلى أنّ مئات البنات انتحرنَ لأنّ آباءهنّ لا يستطيعون دفع (دوطة) لهنّ .. وكثيراً ما تتزوّج الفتاة الفقيرة رجلاً مسنّاً يكتفي بدوطة ضئيلة أو لا يطلبها قط .
و «يستطيع الشـاب الوسيم الذي تلقّى قدراً من التعليم أن يسمح لنفسه بالمطالبة بدوطة كبيرة ، وكثيراً ما يقترض الآباء مالاً يزوِّجون به بناتهم ، ثمّ يسدِّدون دَينهم على مدى خمس أو عشر سنوات ...» () .
ويؤدِّي هذا التقليد الجائر إلى أن تكون المرأة سلعة بلا ثمن ، تُعرَض على هذا وذاك مجّاناً مع المكافأة ، لأ نّه سـيخلِّص العائلة من إثم يلحق بها ، فهم يعتقدون أ نّه ( كلّما طمثت الفتاة ، ارتكب والدها أو ولاة أمرها فعلة شنعاء تتلخّص في قتل جنين) .
ولا غرابة أن تشـير بعض الاحصائيات إلى أنّ سـتمائة وعشر نسـاء قُتِلْنَ بعد زواجهنّ بفترة قصيرة للحصول على مهر جديد من زوجة ثانية .
ولا غرابة أن تتعرّض المرأة التي تُساق بهذه الصورة إلى بيت زوجها ، أن تسجد له وتتوسّل إليه ، وأن يستغلّها الرجل أبشع استغلال .
ولا زالت العادة مستمرّة في الهند حتى في بعض الأوساط المثقّفة التي حلّت النفعية محل المبدئية عندهم ، وطالما أنّ الزواج بهذه الصورة مصدر ربح ومنفعة .()
4 ـ الحرمان من فرص الحياة :
ـ الأعباء الحياتية :
أثبت الوجدان والواقع العالمي المعاصر ، بروز عدد كبير من الشخصيات النسائية العالمية اللّواتي حقّقنَ منجزات عظيمة في مجالات مختلفة من العلم والأدب والسياسة والاجتماع، وساهمن بفعالية في نهضة شعوبهنّ ورقي الشعوب الأخرى والحركة العالمية عموماً نحو الصّلح والسّلام .
واستطاعت مدام ماري كوري (1867 ـ 1934 م) أن تحصل على جائزتي نوبل : الاُولى للفيزياء (1903 م) ، والاُخرى للكيمياء (1911 م) ، ومثلها كثير من النساء الاُخريات اللّواتي كان لهنّ دور علميّ أو اجتماعيّ أو سياسيّ بارز .
إلاّ أنّ من المؤسـف له أنّ كثيراً من دول العالم الثالـث لا زالت تُعاني من تفشِّي الأميّة ، حيث أنّ نسبة النساء من الأميّات في هذه البلاد هي ـ عادة ـ ضعف نسبة الذكور ، وذلك لعدم إعـطاء الاهتمام الكافي لتعليم البنات واللاّتي يُحرمنَ غالباً لانشغالهنّ بأعمال الزراعة والشؤون البيتية التي يُعفى منها الأولاد الذكور ليذهبوا إلى المدارس .
ويُفضّل الرجال عادة في تولِّي فرص العمل والمناصب الإدارية ، وبسبب الأميّة وعدم التعليم ونقص الثقافة ، فإنّ النساء غالباً ما إذا اشـتغلنَ فإنّهنّ يقمنَ بالأعمال الدُّنيا والصّعبة وبأجور زهيدة .
وهذا الوضع المتردِّي من قلّة التعليم وسوء أوضاع العمل يسدّ أمام المرأة أبواب الرّقي ، ويحرمها من كثير من فرص الحياة ، كما لا يعطيها أ يّة فرصة لاستثمار طاقاتها الذاتيـة من ذكاء وفن وقدرات متنـوِّعة وهبها الله تعالى لها ، في نفس الوقت الذي يجعلها بسبب جهلها وظروف عملها عرضة للأمراض والأعراض الحياتية الصعبة والمشاكل البيئية والاجتماعية .
وإذا كانت في الحياة هنا وهناك فرص للسعادة والتمتّع بنعم الله تعالى والرّقي في سلّم العلم والعمل ، فهي من مختصّات الرجـال ، والذين بدورهم يسـتغلّونها لزيادة نفوذهم في المجتمع وبسط قوّتهم على مساحة أكبر من النساء ليعشنَ في ظلِّهم كخدم ورعيّة .
ولذا كان من النادر في كثير من مجتمعات العالم الثالث أن نجد نساءً ذات قدرة مالية أو في مناصب إدارية عالية ، فضلاً عن قلّة نسبة العالمات أو الأديبات فيهنّ .
وطبيعيّ أنّ لكل قاعدة اسـتثناء ، ولا يشمل هذا بعض الدول المتقدِّمة نسبياً ، ولكن مع ذلك فإنّ نسبة النساء في حقول التعليم ومجالات الإبداع المختلفة لا زالت نسبة متواضعة لا تتناسب مع عددهنّ وطاقاتهنّ .
تقوم خلفيّة الانسان الشرقي في نظرته للمرأة ومعياره لشخصيّتها ، على أساس مقدار الخدمة التي تؤدِّيها في المنزل ، وتفنّنها في تقديم الخدمات المتنوِّعة ، من أنواع الغذاء ، وأساليب فرش البيت ، وطرق خدمة الرجل ، ابتداءً من استقباله وتهيئة وسائل راحته ... وحتّى غرفة نومه .
ومن ثمّ ، كما يصف أحد الكتّاب ، فإنّ تصوّر الشرقي للمرأة النموذجية أ نّها خدّامة ممتازة ()
وإذا ما أراد أن يذكر أحدهم زوجته بخير ، ونادراً ما يذكرها بذلك ، فإنّه يقول أ نّها : تعمل من الصبح إلى اللّيل ... أوّل شخص يستيقظ من النوم ، وآخر شخص يذهب إلى النوم .
وتمتد هذه النظرات لتخلق توقّعات ومتطلّبات كبيرة وثقيلة من المرأة ، وتتحمّل المرأة أشدّ اللّوم وأقصى التقريع ، وربّما أقسى العقوبات إذا ما تخلّفت أو أخفقت ، وحتى إذا أخطأت واشتبهت في تأدية «واجباتها» المزعومة .
ولعلّ الكثير من حالات الطّلاق تعود إلى أنّ الرجل لم يجد ما كان يتصوّره ويأمله في المرأة ، أو لأنّ المرأة لم تعد تتحمّل جحيم العيش مع الرجل الذي يأكل ولا يشبع ، ويُخدَم ولا يخدِم ، ويتنعّم ولا يشكر .
وللرجل أن يرتاح ويسافر ويتنعّم بنعم الحياة المختلفة بكدِّ يمينه ، أمّا المرأة فهي خُلِقَت لخدمة الرجل «وراحتها من راحته» .
وخلافاً للغـرب ـ حيث أنّ النساء يسعدنَ أكثر من الرجال ـ ، فإنّ النساء في الشرق يقضينَ أيامهنّ في كدٍّ وتعب ومرض وشقاء ، ليكون الموت لهنّ سعادةً وانعتاقاً من المشاكل والآلام .
ولذا تقضي حـياتها في بيت الزوجـية بصمت وذل ، وتُحـرَم بذلك من كثـير من حقوقها الانسانية والاجتماعية .
أمّا الرجل الذي نمت جثّته على حساب جثّة زوجته ، فإنّه سرعان ما ينسى أيامه مع زوجته «الفقيدة» ، ليُجدِّد الفراش مع ضحيّة أخرى ألجأها إليه حرمانها وشقاؤها وحاجتها ويأسها من الحياة وتحت وابل من الضغط النفسي والاجتماعي .
5 ـ الضغوط والعقد النفسية :
تواجه البنت أوّل ولادتها وجوهاً عبوسة مكفهرّة ، ذلك أنّ الأهل كانوا ينتظرون الولد المبارك ، وها قد أتت البنت المشؤومة وهي تحمل معها العار والشنار .
«فولادة الذّكر تثير مشاعر البهجة وتنتشر بسرعة وتُستقبَل بالزغاريد ، أمّا الأنثى فتسمع كلمات الأسف والأمل والتمنِّي بمجيء الذكر بعدئذ ...» () .
ويُكنّى الرجل باسم ابنه ، ولو كُنِّيَ باسم بنته البِكر فإذا ما ولد له ذكر ، تُغيّر كنيته فوراً باسم الولد الذكر .
وتواجه البنت عقدة الحقارة في كل نظرة ينظر لها الأب ، فهي مقرونة بالأسى والتأسّف .. وفي أحسن الأحوال بالشفقة لهذه المسكينة التي لا يعلم أحد ماذا يخبئ لها الدهر .
وفي الوقت الذي يتلقّى الأهل الولد بالأحضان ، يُقبِّلونه ويلاعبونه ، فإنّ البنت هي التي يجب أن تتودّد وتظهر إنكسارها لأبيها حتى يحنّ لها قلبه ويشفق عليها بنظرة أو ابتسامة أو قبلة خجولة .
ويُربّى الولد وينشأ على أساس أ نّه وليّ العهد ، وأ نّه الذي يتولّى أمور البيت في غياب أبيه ومن بعده ، في نفس الوقت الذي تُربّى فيه البنت على أن تكون في كنف أخيها ، تطيعه وتظهر له الاحترام .
وتنشأ البنت ضعيفة مقهورة مطأطأة الرأس محرومة من كثير من متع الحياة كاللّعب في الأزقّة وممارسة الرياضة والفروسية ، والحضور في المجالس والأندية الاجتماعية ... وحتى حضور الصلاة ، بل حتى زيارة القبور ، في الوقت الذي يُربّى الولد على رفع الرأس وتنمية الشهامة والشجاعة فيه وعلى الظهور بمظهر اجتماعي لائق .
وفي الوقت الذي يحقّ للولد أن يتفرّس في وجوه النساء ليختار زوجة له ، وأن يجهر برغبته في الزواج وأن يقبل أو يرفض مَن يشاء ، وأن يحبّ ويُغازل ، بل حتى أن يسهو ويخطأ لأ نّه في سنّ الشباب .
في نفس الوقت يتحتّم على المرأة أن تحبس أنفاسها وأن تقتل رغبتها وأن تتجرّد من ميولها ، وأن لا تبدي رأياً يخالف أهلها ، فالصّلاح ما اختاره والداها ، فسكوتها من رضاها ، وأمّا النطق فهو دليل طيشها وهواها ، فالكلمة لأبيها ، وهي لا تزيد على كلمته حرفاً .
وتُساق العروس إلى بيت زوجها مشحونة بكلماتِ وداع أبدية ، فهي من لباس العرس الأبيض إلى لباس الكفن الأبيض ، ومن «المهد إلى اللّحد» ، وعليها أن تعيش مع زوجها مهما كان وعلى أي حال ، وأن لا تفكِّر بالعودة إلى بيتها .
وكثيراً ما عاشت نساء مع رجال مجرمين ومدمنين على المخدّرات ، وعتاة وظالمين ، وتحمّلن أنواع الأذى دون أن يفكِّرن بترك هؤلاء ، وسبّبن بذلك دمار حياتهنّ وحياة أبنائهنّ ، لأنّ العرف والأهل يجبراهنّ على العيش مع أزواجهنّ مهما كانوا .
وقد تضطرّ المرأة لمسخ شخصيتها وتقمّص شخصية الرجل حتى تستطيع التعايش معه والاستمرار في حياتها .
وفي بيت الزوجية ، يُلاحق شبح زواج الرجل من امرأة أخرى أو معاشرته لها خـيالها ليل نهار ، كلّما تأخّر الرجل خارج المنزل أو كلّما سها عنها ، لأنّ الرجال أحرار في أن يتزوّجوا ما شاؤوا ، وغلطتهم تُغتفَر ، في الوقت الذي لا يغسل عار المرأة إلاّ دمها .
ويسـتعمل الرجال عادة سلاح الزواج بأخرى لتهديد المـرأة و «تأديبها» ، كلّما «شذّت» عن الطريق فقصّرت في «واجباتها» أو طالبت بحقوقها و «تجاوزت حدّها» !! وهو ما يجعل المرأة تعيش دوماً في قلق مستمرٍّ وهوس دائم .
ولأنّ الرجال لا ينعمون بالديمقراطية في مجتمعاتهم ويتعرّضون للاستبداد المستمر من حكّامهم وحكوماتهم ، وهم يعانون من كبت الحريات ومصادرة الحقوق ، فإنّهم يعوِّضون أنفسهم في ممارسة حكومتهم في دولتهم المصغّرة «العائلة» ، فيطلقون لأنفسهم العنان للصراخ بأعلى أصواتهم وإصدار الأوامر دون قيد أو شرط وممارسة الاستبداد المطلق على رؤوس نسائهم وأولادهم .
وبالتالي نجد ظاهرة «الحصر» سائدة في معظم الاُسر ، والكآبة متفشية في كثير من النساء .
ولا تقف القضـية عند الممارسـات اليومية ، فالجنس من حق الرجال ، والمرأة تستسلم للرجل دون أن يكون لها حق الاستمتاع والمطالبة بالإشباع ، لأنّ في ذلك مساساً برجولة «الرجل» ومسّاً بكرامته .
والمرأة توصي زوجها بالزواج من أخرى عند وفاتها ، ولكن ينكر على المرأة أن تفكِّر في زوج آخر بعد وفاة زوجها ، وربّما ـ كما في الهند ـ عليها أن ترحل معه ، فترمي بنفسها فوق جثّته وسط النار المشـتعلة ، لتخدمه في الآخرة كما خدمته في الدنيا ... !!
وهكذا تواجه المرأة : الحقارة والكآبة واليأس منذ ولادتها حتى وفاتها ، بمختلف الأشكال الصريحة والمخفيّة وراء ستر من الأعراف والتقاليد الموروثة و «المقدّسة» أحياناً .
6 ـ مشكلات الحداثة :
انتقلت الحداثة وتنتقل بسرعة إلى معظم بلاد العالم الثالث ، وللحداثة أوضاعها ومتطلّباتها الخاصة ، فحياة المدن الكبرى وأجواء العمل الصناعية تختلف عن الأجواء الريفية والحياة الزراعية .
ولا تقف آثار الحداثة على التكنولوجيا ووسائل النقل والاتصال ، وإنّما امتدّت بآثارها إلى أساليب الحياة وأنماط العيش وأشكال التعامل ، وحملت الموجة معها أيضاً تغييرات في الحياة الفردية والاجتماعية وحتى بناء الأسرة ودور المرأة وتربية الأطفال .
ولأنّ انتقال المجتمعات الغربية إلى حالة الحداثة كان تدريجياً ، أو أ نّه تمّ لعشرات من السنين مضت ، فإنّ الكثير من أزمات وإرهاصات هذا التحوّل والانتقال قد مرّ بها الغرب سابقاً ، ويعيش الآن ثلاثة أجيال من الناس برؤية متقاربة وواقع مشترك ، فإنّ الأسرة في الغرب قد لا تواجه ـ من هذه الجهة ، لا من جهات أخرى ـ تناقضاً كبيراً أو صراعاً داخلياً بين الآباء والأبناء ، أو بين البيت والمجتمع .
أمّا في دول العالم الثالث ، وشرقنا على الخصوص ، فإنّ موجات الحداثة وصلتها للتوّ ، وهي تحدث هزّات ، وأحياناً زلازل تعصف بالواقع الفردي والكيان الاجتماعي للأسرة والمجتمع ، وهي بارتجاجاتها قد تجعل طبقات المجتمع تصطك بعضها ببعض ، وربّما تتعاكس اتجاهاتها وتتضارب آراؤها بمقدار تمسّكها بمواقعها السابقة وتأثّرها بالحركات والتغيّرات الجديدة والمستحدثة .
ولذا فقد يعيش الأب معتصماً بالتراث متمسِّكاً بالعادات والتقاليد القديمة ، فيما يعايش الإبن صرعات الحداثة ويتلبّس بموضات العصر ، وهنا يبدأ الجدل الذي لا ينتهي إلاّ بقبول أحدهما للآخر ، ولكن الابن لا يستطيع الحياة بأنماط بالية ، ولا الأب يقدر على نزع جلده ، وإنّما ينتهي الجدل عندما يتّفقان على التعايش ويشتركان في رؤية موحّدة على أساس احترام «الآخر» وحقّه في الحياة بالطريقة التي يشاؤها وبالكيفية التي تلائم ذوقه واتجاهه .
أمّا على صعيد المرأة ، فإنّ للمرأة في عصر الحداثة دوراً هامّاً في الحياة العامّة ، تشترك فيها راضية أو مُكرهة ، في العمل الاقتصادي أو الاجتماعي ، العلمي أو العملي ، لأنّ الحياة متحرِّكة بسرعة في هذه المجتمعات ولا يمكنها أن تنتظر مَن يريد الرقود أو الاستراحة .
فالمجتمع في نموّ اقتصادي وربّما صراع اقتصادي ينسحق فيه الفقراء أو يتخلّفون عن ركب الحضارة إذا ما لم ينهضوا ويجدّوا ويعملوا من أجل تحسين أوضاعهم المعيشية وتأمين مستقبل آمن ومكانة اجتماعية مرموقة لهم ولأبنائهم .
والمرأة تكتسب العلم وتكتشف طاقاتها وتتعرّف إلى إمكاناتها وتتطلّع إلى العمل والإبداع الذي يعطيها معنىً في الوجود ، تخدم به مسيرة الانسانية وتُساهم في دفع عجلة العلم والتقدّم .
وتتواضع المعايير الذاتية في تقييم المرأة لتبرز معايير موضوعية جديدة تعتمد على الموقع العلمي أو النتاج العملي أو الدور الاجتماعي للمرأة ومدى مساهمتها الفعّالة في بناء نفسها ومجتمعها .
وتشعر المرأة غير المتعلِّمة أو غير العاملة بتخلّف وقصور عن ركب المجتمع ، ممّا يدفعها باستمرار إلى زيادة علمها وتنمية ثقافتها وتطوير مواهبها .
وفي ظلِّ هذه الأجواء التي تصرف فيها المرأة ـ إضافة إلى الرجل ـ قسماً كبيراً من وقتها اليومي في طلب العلم أو العمل أو المشاركة في النشاطات الاجتماعية والسياسية، يرجع الزوج والزوجة إلى البيت وهما منهكان متعبان ، فمَن يقوم بمهام البيت ، ومَن ينهض بأعباء الأولاد ؟
وهنا تبرز أزمة حقيقية حين يعيش الزوجان حياة الحداثة ، ولكن يفكِّران أو يفكِّر أحدهما بعقلية المجتمعات السابقة .
فإنّ التفكير السابق يقضي بأن تتكلّف المرأة بشؤون المنزل ، وأن تقدِّم لزوجها وأولادها سـائر أنواع الطعـام ، وأن تسـتقبل الضـيوف وترحِّب بأقارب زوجها وأصدقائه الذين قد يقدمون إلى العاصمة لمتابعة شؤونهم ، ليحلّوا عدّة أيام ضيوفاً على عائلة يركض الأب فيها وراء لقمة العيش ، وتنهمك الأم في تحصيلها الدراسي أو عملها الوظيفي أو شؤونها الاجتماعية .
وإذا ما كانت الأفكار والتوقّعات كالماضي، فإنّ على المرأة أن تعمل ضعف الرجل، وأن تواصل الجهد ليل نهار لتسدّ فراغ غيابها عن البيت نهاراً بالعمل في ساعات فراغها والاقتطاع من أوقات راحتها ، وهذا ما يؤدِّي بسرعة إلى إنهاكها ، ويؤثِّر بالتالي على أعصابها وضعف قوّة تحمّلها ، وعلى عدم توفّر الوقت والمزاج اللاّزم للسعادة مع زوجها ، وهو ما يدفع الكثير من الرجال إلى السّهر خارج البيت ، مع شلّة من الأصدقاء ، أو في الملاهي والنوادي برفقة بعض النساء الغاويات .
وإذا لم يؤدِّ هذا الوضع إلى انهيار البيت من الداخل ، فإنّه على الأقل يؤدِّي إلى انهيار المرأة والتعجيل بهرمها ، وهو ما يُلاحظ على كثير من النساء العاملات .
كما إنّ لهذه الأوضاع تأثيرها المباشر على الأولاد ، الذين قلّما يجدون الأبوين مجتمعين ، أو يحظون بفرصة ممتعة مع الأم وهي مرتاحة البال والخاطر والقوى ، وقد تتعامل الأم مع أولادها بضيق دون سعة صدر ، فتنعكس على صحّة الأولاد النفسية وحتى على نموّهم الجسدي .
وقد تكون بعض هذه الأعراض مشتركة مع الوضع في الغرب ، إلاّ أنّ توفّر وسائل الراحة ، وأجهزة الطّبخ السريعة والأكلات الجاهزة ودور الحضانة والمدارس المجهّزة ووسائل النقل السريعة ... وغير ذلك ، يجعل أمور الحياة أيسَر والمتطلّبات متوفِّرة ، وأوقات الفراغ أكثر ممّا هو عليه في الدول النامية .
وأهم من ذلك ، أنّ محدودية النسل وقلّة عدد الأولاد وتعاون الأبوين وقلّة توقّعات كل منهما من الآخر ، يقلِّل بشكل كبير من الأعمال المطلوبة لإدارة الأسرة وتربية الأطفال ، آخذين بعين الاعتبار أ نّهم لا ينتظرون من أولادهم ما نريده من أولادنا من حيث التربية والسلوك .
أمّا في الشرق ، فإنّ عدم توفّر وسائل الراحة ، وطول الوقت المستهلك في الذهاب والإياب، وحجم الأعمال المطلوبة لإدارة الاُسر الكبيرة، والخدمات المتوقّعة تجاه الزوج والأقارب والضيوف ، وعدم دخول التكنـولوجيا بشكل واسع في الحياة التفصيلية اليومية عبر الأجهزة وشركات الخدمات ... وغيرها ، تكاد تجعل من حياة المرأة ، وهي تتعلّم وتعمل وترجع لتدير البيت ، كابوساً ثقيلاً تنوء تحت أعبائه التي لا تنتهي إلاّ لتبدأ من جديد ، لذا كان لا بدّ من إعادة النظر بشكل جدِّي في تكوين الأسرة ومنهج عملها والأفكار الحاكمة والمسيِّرة لها في مجتمعات الحداثة والمدن الكُبرى ، لنأخذ الحياة بيسر ونعيشها بسهولة وحيوية ... ومن العوامل التي تساهم في ذلك :
1 ـ تعاون الزوج مع الزوجة في إدارة شؤون البيت وتربية الأطفال .
2 ـ تقليل توقّعات الزوج من زوجته ضمن الحدود الشرعية والواقعية ، «فالمؤمن لا يُكلِّف ولا يُكلَّف» .
3 ـ تنظيم النسل وتحديد الأطفال ، فإنّ «قلّة العيال أحد اليسارين» .
4 ـ وضع برنامج منظّم وصحيح لأعمال البيت وشؤون الأسرة فـ «التدبير نصف المعيشة» .
5 ـ عدم التكلّف في الطـعام والملبس ، والاعـتماد في أيام العمل على الوجـبات السريعة والجاهزة .
6 ـ الاستفادة من التكنولوجيا في تسهيل بعض الأعمال المنزلية كالطّبخ وغسل الملابس والصحون ... إلخ .
7 ـ تدريب الأولاد على القيام بشؤونهم والاعتماد على أنفسهم في الكثير من الأعمال .
8 ـ تحديد العلاقات ضمن الدائرة النافعة والواجبة للأسرة ، وعدم الاستهلاك في الدعوات والعلاقات الاجتماعية العامّة المستنفِدة للوقت والجهد والمال .
9 ـ انتخاب المرأة للعمل والوقت المناسب لظروفها العائلية .
10 ـ دعم الدولة والمجتمع وانبعاثهما لحلِّ مشاكل الأسر وتهيئة الأجواء المناسبة لتخفيف الأعباء عنهم ، كدور الحضانة ومجتمعات السكن المجهّزة بالخدمات الترفيهية القريبة وبمنتديات الأطفال ونوادي الشباب والجمعيات النسوية والأسواق ، وتوفير الحماية الأمنية اللاّزمة للعوائل والأطفال عند غياب الأبوين أو أحدهما ، وتحديث وسائل النقل ، والسّماح للنساء بالدراسة والعمل قريباً من السّكن ... وغير ذلك ممّا له الأثر الكبير في العيش بسلامة وأمان ورفاه وسعادة .
إنّ الكثير من المدن الشرقية الكبيرة ، ومنها بعض العواصم ، اتّسعت بشكل كبير ، وتعيش الحالة الصناعية والتجارية الحديثة ، ولكنّها تزاول الحياة بإمكانات بدائية ، حتى تكاد تكون كل منها أشبه بالقرية الكبيرة .
فلا الحـياة فيها كما في القرى الصغيرة الهادئة ، حيث العيـش فيها ممكن ومتيسِّر بأبسط الوسائل وأقلّ التكاليف ، ولا هي كما في المدن الصناعية والتجارية الكُبرى في الدول المتطـوِّرة ، حيث اتّسـعت فيها الخدمات وتطوّرت فيها الوسائل لتناسـب احتياجات الحـياة المعاصرة والتي توفِّر على الانسـان الكثـير من الجهد والوقت ، لتجعله يتحرّك بيسر ويحصل على متطلّباته بسهولة .
إنّ المشكلة تكون حينما نعيش نظامين متناقضين للحياة ، فنخسرهما معاً ، أمّا إذا ما تمّ تطوير كل منهما ليتجانسا ويتناسـقا ويتلابسا متكاملين ، فيمكن لنا أن نحافظ على أخلاق المجـتمع وكماله في نفس الوقت الذي نعيش فيه حياة الحاضر بحداثته وجماله.
البعد الصهيوني في نظرية المركزية الأوروبية(4)
(التمركز على الذات) هو مرض يصيب الشخصية الانسانية فيجعلها تعتقد أنها محور العالم, لا يقوم وجوده إلا بها وحدها, وما عداها هو إكمال لاطار هذه الفاعلية المحورية التي خصت بها دون سواها, ولذلك فان ما تراه وتعتقد به وتتصرفه هو الصواب, وما خالفه- أو يخالفه- هو غلط ونشوز وانحراف لابد لها من (تقويمه) بمختلف أشكال القسر والقوة إن كانت تملكها. وسلوكها, بناء على هذا هو سلوك عدواني دائما تجاه الآخرين.. والعدوانية هنا- وبالمعنى السيكولوجي- هي فاعلية إلغائية, أي ان الذات المصابة بالتمركز تميل, وبصورة متصاعدة, إلى (إلغاء الآخر) على كافة الصعد وبمختلف الوسائل والسبل. وهي تضطرب وتنهار انكفائيا حين تعجز عن ذلك, أما إذا ما امتلكت أدوات القوة فهي تمعن في استخدامها لتلك الغاية بلاحدود إن تمكنت.. غير أن ذلك يحمل في سياقه عناصر الدمار الداخلي (للذات) أو للشخصية.
وإذا كان هذا- وبإيجاز- يعني شخصية الفرد, أوشخصيات الأفراد المصابين (بالتمركز على الذات) ويحدد سلوكياتهم وعلاقاتهم داخل هذه الذات ومع الخارج, ويرسم بالتالي مجموع الأطر المعرفية والثقافية العامة التي يتحركون داخلها مثلما يدفعهم نحو أهداف تعزز فاعلية ذلك التمركز وتسوغه وتنميه.. فانه أيضا ينطبق على جماعات بشرية ومجتمعات غير قليلة خلال مراحل التاريخ الحضاري الانساني. فالسيكولوجيا الجمعية قد لا تكون أكثر من تركيب اجمالي أعلى لسيكولوجيات أفراد الجماعة الواحدة اوالمجتمع الواحد, والعلاقة الجدلية بين سيكولوجيات الأفراد والسيكولوجيا العامة للشخصية الجمعية أوللذات المجتمعية العليا هي علاقة بالغة التعقيد, لكنها حقيقية ومتماثلة إلى حد لا خلاف في رأينا, عليه.
وينبع التمركز على الذات من (عقدة دونية) كامنة ومزمنة, وفي المستوى الجمعي أو المجتمعي يوقظ الاصطدام (بالخارج/ الآخر) فاعلية هذه الدونية في صيغة بحث عما يسميه علم النفس (آلية تعويض) تتمثل في تفوق ادعائي أولا , تنظر له وتؤسسه مفهوميا فئات من (الانتلجنسيا) وتدعو الى تحقيقه عمليا بامتلاك وسائل القوة من جهة, وبتسفيه (الآخر/ الخارج) وتشويهه تصوريا وتخييليا كيلا يترك استخدام القوة ضده- في حال امتلاكها- صدمة وجدانية من جهة أخرى, ونلاحظ هنا أن استيلاد منظومة قيم لاانسانية هو (لازمة) من لوازم انجاز عملية النفوق, من حيث هو آلية تعويض وهذه المنظومة من القيم اللاانسانية هي ضرورة لا مهرب منها تحت وطأة الدونية الدافعة إلى التمركز المرضي على الذات, سواء تحققت آلية التعويض في الواقع أم ظلت مجرد رغبة واهمة. على أنه في الحال الأولى يتم الاندفاع العدواني المرضي باتجاه (الخارج/ الآخر) لاخضاعه, ثم إلغائه ببراغماتية فظة برهانا على التفوق.. بينما يحدث في الحال الثانية نكوص (طفالي ) يشتد فيه تمجيد الذات المنغلقة على ذاتها بمبالغة لا نظير لها, وتستعين بأكثر المفهومات البدائية الاسطورية العدوانية إسفافا وابتذالا لتسويغ تلك المبالغة وتغليفها بقشرة الحقيقة القطعية المثبتة لدى الجماعة الآخذة بها.
نظرية المركزية الأوروبية
من المؤسف والمؤلم أن النظام الحضاري الرأسمالي الأمبريالي الراهن والذي بدأت بداياته الأولى قبل نحو خمسة قرون, كان ولا يزال- وسيبقى حتى انهياره النهائي وزواله- محكوما بمرض التمركز على الذات. ذلك أن مجموع الشعوب الأوروبية التي أنتجته- عبر انتاجها للقوى الفاعلة في تكونه وتطويره ودفعه نحو نهايات نموه الأقصى.. تلك النهايات التي يمضي نحوها بخطى حثيثة- إنما بدأت (نهضتها!) بعد سلسلة من (صدامات بعضها) مع الحضارة العربية الاسلامية المزدهرة والمتفوقة عالميا في العصور الوسطى. وهي صدامات أو اصطدامات خلقت (عقدة دونية) ناشطة لدى أوروبا بدءا من القرن السابع الميلادي وحتى القرن الخامس عشر حيث سقطت غرناطة آخر معاقل العرب المسلمين في الاندلس في أوائل العقد الأخير منه, وبين عام فتح الأندلس وعام طرد العرب منها حدثت الاصطدامات أيضا في صقلية وجنوبي ايطاليا.. كما حدثت الاصطدامات الأكثر أهمية في التاريخ العربي الإسلامي / الأوروبي- قبل عصر الاستعمار الحديث, بالطبع!- ونعني بها (الغزو الفرنجي) للمشرق العربي بين القرنين الميلاديين الحادي عشر والثالث عشر, وهو ما سيعرف لاحقا باسم (الحروب الصليبية) التي كانت نهايتها مختلفة جذريا عن نهايات الاصطدامات في الأندلس وصقلية.
على أن عقدة الدونية الأوروبية التي نشطت خلال تلك القرون ترابطت مع القوة الثقافية والمادية المتمظهرة في الرفاه ومتلازماته في الحضارة العربية الاسلامية أكثر من ترابطها مع القوة العسكرية فيها.
وحين سنحت الفرصة لاحقا لشعوب أوروبا في أن تبدأ (نهضتها!) انطلاقا من ايطاليا كان العداء للعرب المسلمين أبرز دافع لتمركز أوروبا على ذاتها, وبالتالي: لبدء واستكمال ما سيعرف باسم (نظرية المركزية الأوروبية في الثقافة), حيث سيدعي العاملون على انجاز هذه (النظرية), في صيغتها العليا والنهائية, أن الاوروبيين ينتمون إلى (عرق!) متفرد بالإبداع طبعيا هو (العرق الآري)- وهو اختراع صاف على حد تعبير البروفيسور بييرروسي في كتابه: مدنية ايزيس/ التاريخ الحقيقي للغرب- وذلك في مقابل العرق السامي العاجز عن أي ابداع, والعرب ينتمون الى هذا العرق!.. ثم سيظهر لاحقا: العرق الأصفر, والعرق الأسود.. بعد اكتشاف أوروبا لقارتي آسيا وافريقيا كاملا, وكلها غير مبدعة مثلها مثل عرقنا السامي. وقد ادعى منظرو (المركزية الأوروبية) ان اوروبا قد استندت في (نهضتها!) إلى معجزتين اثنتين اعتبروا ما تحقق فيهما أصلا لما صار يتحقق في تلك النهضة من علوم ومعارف وفلسفات, مثلما اعتبرا أصحاب المعجزة الأولى (اجدادا عرقيين أوائل) للشعوب الأوروبية. والمعجزة الأولى- كما هو معروف- هي (المعجزة الاغريقية) في العلوم والفلسفة والفنون المختلفة, وتلحق بهذه (المعجزة) عبقرية الرومان العسكرية. أما المعجزة الثانية فهي (معجزة اليهود العبرانيين) فيما سماه أولئك المنظرون (التوحيد) الذي خرجت منه ديانة أوروبا أو (مسيحيتها!).. والعبرانيون الذين أنجزوا تلك (المعجزة!) مصنفون في (عائلة العرق السامي) حسب أولئك المنظرين, لكنهم قدموا (دينهم التوحيدي) الذي تولدت منه (مسيحية أوروبا!) دفعة واحدة ليتسلمها العرق الآري أو (صفوته الأوروبية).. أما بقية الأعراق: السامي, والأصفر, والأسود, ناهيك عن الهنود الحمر وبقية شعوب قارتي أوقيانوسيا وأمريكا, فلم تستفد أوروبا منهم أي شيء في نهضتها, على حد تعبير بارتليمي سانت هيلير- الأستاذ في (الكوليج دي فرانس) ووزير خارجية فرنسا الاستعمارية في فترة ما من مطالع القرن العشرين) حسبما قاله في مقدمته لكتاب أرسطو (الكون والفساد) في جملة أعماله التي صب اهتمامه على ترجمتها الى الفرنسية, إذ استفادة أوروبا كانت من اليونان وحدهم واليونانيون القدامى لم يتلقوا أي تأثير من الشعوب المتحضرة التي عاصرتهم أو سبقتهم!!.. وبناء على كل ما تقدم - وعلى اسباب أخرى لا داعي الآن لذكرها او التفصيل فيها- فان أوروبا الناهضة الى بناء نظامها الرأسمالي فالامبريالي, اعتبرت خلال تطورها وعمليات الاستيطان الكبرى والوحشية في قارتي (العالم الجديد), اضافة الى عمليات استعمارها لآسيا وأفريقيا, أن كل ما ليس أوروبيا من أشكال الوجود البشري- سواء كانت تلك الأشكال حضارية عريقة أم بدائية- هو شكل وجود (خارج التاريخ) كما يقول توينبي في آخر كتبه (تاريخ البشرية). وبناء على ذلك فان أوروبا المتسلحة بهذه النظرية الغريبة: (نظرية المركزية الأوروبية في الثقافة) قد جعلت لنفسها (رسالة!!) فحواها: ادخال العالم غير الأوروبي في نطاق التاريخ, أي (أوربته).. وبمختلف أشكال القوة المتاحة! وبالطبع, وبالتأكيد, ليس خافيا على أي قارئ للتاريخ الحديث او متصفح له ما الذي استجرته تلك (الرسالة!) على العالم - الأوروبي وغير الأوروبي- من ويلات وكوارث ومآس وفجائع كبرى خصوصا مع التطوير المتنامي لوسائل القوة: العسكرية منها والاقتصادية.. وبالتالي: التطوير المتنامي للبحث العلمي وتطبيقاته التقنية, من غير اغفال لتوظيف ذلك كله توظيفا شموليا قاطعا في خدمة ما وراء تلك (الرسالة!) من تمركز على الذات تمركزا يلغي الخصوصية الانسانية لوجود الآخرين, ويتفاقم الى حد إلغائهم كبشر من أجل نهب ثرواتهم أولا وأخيرا.
وتبرز هنا (منظومة قيم) تسوغ ذلك كله, لكنها في النهاية تعنى باسقاط كل مقدس باستثناء الثروة التي تصير رموزها- المال وتوابعه وتعبيرات ملكيته المختلفة- هي المقدس الوحيد الأعلى حيث (الإنسان) يجب أن يكون (غربيا أولا كي يعترف له مبدئيا بانسانيته, ويجب أن يكون مالكا لقدر من الثروة يعاير حجم تلك (الإنسانية) عليه, وبذلك (تمتلك) الثروة الانسان وتستعبده, وتصوغ باستمرار- ومن جديد- صيغا متواترة الابتذال (لقداستها) في علاقاته بالآخرين وعلاقتهم به, وبذلك يتم استلابه وتسفيله استلابا وتسفيلا إلغائيين وقاتلين.
الخلفية التاريخية للنهضة الأوروبية
تمكنت القبائل البربرية القادمة من أواسط آسيا أن تكتسح أوروبا بعد انقسام الامبراطورية الرومانية الى مملكتين: شرقية وعاصمتها القسطنطينية, وغربية وعاصمتها روما. وتم ذلك الاكتساح بعد موجتين كبريين من غزو تلك القبائل لأوروبا واستقرارها فيها خلال القرنين الرابع والخامس الميلاديين, فسقطت الامبراطورية الرومانية الغربية وتم استقرار القبائل الغازية على حساب السكان الأصليين الذين لا تزال بقاياهم تشكل (جيوبا اتنية) تطلب الاعتراف بهوياتها المختلفة في مناطق كثيرة من أرجاء القارة.
ولنا أن نتخيل (منظومات القيم) الخاصة التي كانت تحملها تلك القبائل المتبربرة الغازية والمندفعة من قلب سهوب آسيا الوثنية آنذاك, والفقيرة الطامعة بثروات الامبراطورية الرومانية الغربية, حيث الجشع الى الثروة وامتلاكها بالقتل والنهب والتدمير هما محور منظومات القيم تلك.
ويذكر توينبي ان المسيحية قد راحت تنتشر في أوربا في القرن الخامس الميلادي, وما بعده. ولنا هنا أن نتخيل أيضا أية (مسيحية!) ستكون تلك المسيحية الغربية التي ستولد من تصارع منظومة قيم المحبة ذات الأصل الحضاري الشرقي- والعربي ان شئنا الدقة!- مع منظومات القيم الوثنية البدائية المتبربرة والراسخة في نفوس وعقول تلك القبائل التي لم يمض على غزوها للقارة واستيطانها فيها سوى عقود قليلة!
لقد أثبت تاريخ أوروبا منذ ذلك الحين إلى الآن أن المسيحية هناك قد طوعت لتصير مجرد (أطر طقوسية) موضوعة في خدمة المفهومات والقيم الوثنية البدائية التي لم تعدل إلا قليلا, بل الى درجة بسيطة جدا تكاد لا تستحق أن تذكر!
والبدائية في منظور علم النفس الحديث- على اختلاف مذاهبه واتجاهاته- هي حال من أحوال (طفولة البشرية). وحين تتغطى بقشرة الحضارة مصادفة, أي من دون تطور داخلي راسخ وأصيل, تتحول الى (طفالة) أي الى نوع من مكونات عصابية قوامها النزوع إلى (التمركز على الذات), باعتباره أن الطفولة الحقيقية هي نوع من تجسد اللاشعور حيث الطفل يتحرك بدفع الغرائز أساسا, ومن منطلق اعتبار ذاته محور العالم!
غير أن هذا وحده لا يكفي لتفسير (نظرية المركزية الأوروبية), إذ أن وجود العوامل الخارجية هو شرط لظهور مثل هذا (العصاب الجمعي) الكاسح. ويمكننا هنا أن نذكر بايجاز ثلاثة أسباب تاريخية كبرى:
أولها: التهويد المبكر للمسيحية التي لم تكن- عند البحث التمحيصي الدقيق- إلا إحياء للميراث الحضاري العربي القديم الذي نشأ مع انبثاق الحضارة عموما دون مثال سابق, وباعتبار ذلك الاحياء ردا على النظام العبودي- بالمعنى الدقيق للمصطلح- والذي نشأ في (الدول/ المدن) الاغريقية, وكان نموذجه البدئي المتكامل في (اسبارطة), ثم تلقفه الرومان فجعلوه نظاما عالميا, في حدود المعنى الجغرافي/ الحضاري للعالمية آنذاك.. أو بالأحرى: إن ذلك الاحياء كان ثورة على نظام الرق!
ثانيها: الاصطدام الأوروبي بالحضارة العربية الاسلامية- من موقع القصور- بدءا بمعركة بواتييه, مرورا بالاندلس وصقلية, كما سبق أن أشرنا, وانتهاء بما سمي (الحروب الصليبية) بين القرنين: الحادي عشر والثالث عشر الميلاديين.
ثالثها: التفاعلات الداخلية في أوروبا, تأسيسا على السببين السابقين, وتهويد المسيحية رسميا على أيدي مارتن لوثر واتباعه من الجرمانيين والأنكلوساكسون, وما تولد عن ذلك من انشقاق في الكنيسة الغربية, ومن مستجرات أخرى لاحقة.
والبحث في هذه الأسباب الثلاثة بتفصيل يساوي اعادة كتابة لأهم مراحل تاريخ الحضارة البشرية في أهم مراكزها الكبرى القليلة. ولما كان المقام هنا لا يتسع لمثل هذا التفصيل الواسع, فسوف نشير الى كل منها بالقدر المناسب, من خلال حديثنا عن اليهود ثم الصهيونية خلال التاريخ, كيما نرى حدود البعد الصهيوني في نظرية المركزية الأوروبية. فما هو أصل وسياق وجود (الظاهرة اليهودية) التي أنتجت الصهيونية في التاريخ!
أصول الظاهرة اليهودية وسياق تطورها في التاريخ
تشير أقدم الوثائق الى أن وجود (العبيرو/ الهبيرو/ الخبيرو) إنما ظهر في جنوب بلاد الرافدين في ما يسمى مرحلة (أور الثانية) كغرباء يشتغلون في الاغارة والنهب على أطراف المراكز الحضارية هناك ولعلهم (جماعات) من بقايا سكان الجبال الذين دمروا المدن السومرية, وذكرتهم نصوص سومر الشعرية بكثير من النقمة. ثم يظهر (بنويمين) حول ماري في حدود القرن التاسع عشر قبل الميلاد. ويحاربهم ملك ماري (ميزيلم= مسلم) لقيامهم بأعمال العبيرو ذاتها في بلاد سومر قبلا, وينتصر عليهم نهائيا بعد سنتين من حربه عليهم, ويرسل الى سيده حمورابي في بابل يبشره بنصره ذاك. ومن المرجح أن يكون (بنويمين) هؤلاء من بقايا الكاشيين الذين دمروا امبراطورية الأكاديين, وعاثوا فسادا في القسم الشرقي منها قبل ان يهزمهم العموريون العرب القدماء. واصل الكاشيين هو من الجبال الشرقية في شمالي غرب ايران اليوم ووسطها ولعلهم قد قدموا اليها من أواسط آسيا. ومن الطريف أن لقب زعيم (بنويامين) هو الداويدوم حسبما كتبه أندريه بارو عن (ماري) وقارن ما قرأه من وثائق عنه وعنهم بسيرة داوود التوراة, ثم عاد علماء أوروبا فقرأوا الاسم دمدوم!
وتهرب بقايا بنويامين شمالا وتعقد حلفا قبليا في معبد القمر بحران, ثم يتجه المتحالفون غربا الى عاصمة الحثيين ليشتغلوا كمرتزقة هناك. وفي حدود القرن الخامس يتحالف هؤلاء الذين صاروا يذكرون باسم (عبيرو/ هبيرو) مع أحد الطامعين بالملك في صراعه مع ابن اخيه, لكنهم مع انهزام حليفهم يطاردون ويطردون جنوبا كيما يظهر ذكرهم في رسائل (عبدخبا) الى اخناتون وهو يشكو له ما يفعلونه من نهب وتدمير وافساد بقيادة (عزيرو) وعرفت هذه الرسائل باسم (رسائل تل العمارنة), ولم يقم اخناتون بأي عمل ضدهم, وظل أمرهم وأمر سواهم من قطاع طرق التجارة الدولية الكبرى آنذاك بين مصر وبلاد الحثيين وما بين النهرين, معلقا حتى عهد تحتموس الثالث الذي نفذ أكثر من ثلاثين حملة لتنظيف طرق التجارة تلك عبر فلسطين ولبنان وأواسط سوريا اليوم.. وأخذ أعدادا من الأسرى الذين عرفوا باسم أسرى الله أو (اسرى ايلو) وجعلهم عبيدا في المحاجر الملكية في غربي مصر وشرقيها. أما اسم الرح ل (رحيلو) الذين دخلوا مصر في وقت ما قبل منتصف الألف الثاني قبل الميلاد وسموا (الهكسوس) فلا علاقة لهم بهؤلاء.
وفي حدود منتصف القرن الثالث عشر قبل الميلاد تتعرض مصر لغزوات شعوب البحر القادمة من أوروبا التي ما كادت آنذاك تعرف الزراعة المستقرة. وقد تمت هذه الغزوات على دفعتين في موجتين كبيرتين: الأولى من جهة ليبيا غربا ومن جهة الشواطئ الشرقية للمتوسط, وصدها الفرعون (مرفتاح) أو (آمون فتاح) غربا وشرقا, وورد ذكر (أسرى إيلو) على مسلتهم الشهيرة بأنه لم يبق لهم زرع أي نسل. ويظهر أنهم قد تمردوا وانضموا الى الغزاة فعاقبهم نهائيا بالتقتيل. أما الموجة الثانية فضمت شعوبا- أو بالأحرى: قبائل ومجموعات- عديدة, وعبرت تركيا اليوم فدمرت نهائيا مملكة الحثيين ثم المدن الكنعانية في سورية الطبيعية قبل أن تصل الى دلتا النيل حيث يهزمها رعمسيس الثاني الذي حكم مصر سبعين عاما وترك حوليات مفصلة عن الوقائع في ايامه كما يقول الباحثون المختصون. وقد استعبد بقايا تلك الشعوب ومن التحق بها لسنوات غير قليلة ثم عفا عن كثير منهم وحررهم فخرجوا- ربما في السنة الثلاثين لحكمه- وأقاموا فترة تقدر بنحو أربعين عاما في منطقة المديانيين العرب وجنوبي سيناء. وبعد ذلك- وبعد تراخي حكم رعمسيس وما تلاه من اضطرابات في مصر- عقدوا حلفا قبليا, حسبما يستشف من القرائن, واختاروا لهم (رنا حنا منا) هو (يهوه)- وهو اسم غريب عن لاهوت المنطقة العربية, وتحير الباحثون في أصله!- ويظن انه اسم لرب البراكين أو مبدئها, ثم انطلقوا شمالا نحو فلسطين حيث كان الفراغ الديموغرافي الذي سببته غزوات آبائهم التدميرية يسمح باستيعابهم بعد اشتغالهم- من جديد, خلال الأعوام الأربعين في سيناء- بالاغارة على القوافل التجارية أو العمل كأدلاء لها.. وقد استقروا بين العرب الكنعانيين دون صدامات ذات قيمة رغم ما تذكره التهويلات التوراتية اللاحقة, ثم ذابوا إجمالا بين أولئك السكان الأصليين, بدليل أنهم عبدوا (الإله العلي) إيل وإن عددوه تحت لفظ (ايلوهيم).. (وزنوا وراء البعليم والعشتاروت) حسب نصوص توراتية كثيرة.
والمهم هنا هو غربة اتباع يهوه- ويمكن إرجاع أسماء أكثرية اسباطهم إلى أسماء شعوب البحر- وعدم مقدرتهم على الاندماج التام في الحضارة العربية الكنعانية المتأخرة/ سميت فينيقية خطأ!!/ اضافة الى أن قيمهم المتأصلة والراسخة فيهم هي قيم البرابرة الغزاة الوثنيين, وسيكولوجيتهم الناظمة لسلوكهم العام والمبنية على تلك القيم هي سيكولوجية (قاطع الطريق) القاتل من أجل ثروة منهوبة بالقوة أو بالحيلة والغدر.. وهي قيم تتناقض جذريا مع القيم العربية الكنعانية والآرامية في فلسطين آنذاك وما حولها, والتي تعبر عن سماتها الانسانية من خلال ارتباطها بالألوهية المطلقة (الإله العلي= إيل) وتجليات قدرتها في مبادي الطبيعة (البعل- عشتار.. وسواهما), وهو ما لم يفهمه أتباع يهوه إطلاقا. وما صفات يهوه (رب الجنود) وأفعاله في التوراة المتداولة الآن الا دليل على السيكولوجيا اللاانسانية لأتباعه.
والمهم أن عدد أفراد الحلف القبلي الذين توجهوا نحو فلسطين كان ضئيلا جدا, وقد قدره فيليب حتي بنحو من سبعة آلاف نفس. ونظرا لذلك وللظروف المحيطة بهؤلاء الغرباء, فان من لم يذب منهم في محيطه انطوى على ذاته بنوع من التمركز الشديد النابع من عقدة الدونية تجاه ذلك المحيط ذي التحضر الرفيع, وبضغط شديد من كهنة يهوه (اللاويين).. لكنهم- رغم كل المبالغات التي سيكتبها أحبارهم لاحقا عنهم- لم يكونوا ذوي شأن يذكر. فلا البحث الأثري المديد كشف عن أية مخلفات لهم, ولا وثائق ملوك الأشوريين مثل شلمنصر الثالث وسنحاريب.. أو وثائق الكلدانيين زمن نبوخذ نصر, تذكرهم. وإنما الذكر هو ل-(بيت عمري) ممن تم سبيهم على أيدي هؤلاء القادة العرب القدماء المعروفين.. وذلك كله يدحض (مروياتهم) في التوراة المتداولة.
غير أن هؤلاء الذين قدرتهم التوراة ذاتها بعشرة آلاف نفس في سبي نبوخذ نصر سوف يعلو شأنهم في زمن ملوك الفرس البارتيين, بعد سيطرة دارا (أو داريوس باليونانية) وقمبيز على العراق وسورية ومصر, إذ هم يتسلمون مكتبة برسيوبوليس (والملوك الفاتحون كانوا يجمعون الوثائق الاعتقادية والديمغرافية وغيرها عن الشعوب التي يلحقونها بهم وهم لا يعرفون طبيعتها أو لغاتها, فتتشكل من ذلك مكتبات كبيرة يسلمون أمورها لمن يعرف لغات تلك الشعوب واعتقاداتها وتوزعاتها الديمغرافية).. وحين تتمكن مصر من التحرر لأكثر من نصف قرن من سيطرة البارتيين عليها يرسل أحد ملوكهم في القرن الرابع قبل الميلاد أو قبله بقليل كلا من عزرا الكاتب والكاهن تحميا مع سبعة وثلاثين ألف نفس- حسب سفر عزرا- لاقامة هيكل وثكنة في فلسطين لمواجهة احتمالات استعادة نصر لقوتها, وعودتها الى بلاد الشام.. ومع عزرا تبدأ فعليا كتابة (التوراة) ولا تنتهي الا في القرن العاشر الميلادي, لكن الأكثر أهمية يكمن في ظهور (التمركز المريض على الذات) عبر ما يلي خلال القرون التي استغرقها هذا التدوين:
1 - ظهور فكرة (شعب الله المختار).
2 - ظهور فكرة (أرض الميعاد, وعهد الرب لشعبه المختار ذاك بملكيتها).
3 - تدوين الأفكار والقيم اللاانسانية التلمودية التي تصير الأساس بينما تتراجع التوراة لتذوب في التلمود من الوجهة الفعلية. وجملة الأفكار والقيم اللاانسانية المذكورة تشكل احدى أكبر الغرائب البشرية (ضد الحضارية) في بابها, وهي دليل العمل الاعتقادي والسلوكي لليهود الذين لا يهمهم إلا تمجيد ذاتهم وامتهان حياة بقية البشر الذين هم بالنسبة إليهم كالكلاب والبقر والحمير, وربهم قد اباح لهم أموالهم ودماءهم وأراضيهم وأعراضهم.. إلى آخره. وتصوراتهم عن اقامة امبراطوريتهم التلمودية حيث في النهاية تخضع لهم أمم الأرض جميعا فيعفو حاخاماتهم عمن يريدون, وينتقمون ممن يريدون بينما (الرب يهوه) يطيع كبار الحاخامات أولئك هي أسوأ التصورات وأبشعها في الفكر البشري على امتداد التاريخ كله.
إن ذلك كله يعكس لنا حجم التمركز المرضي القاتل على الذات لدى اليهود بصورة لا لبس فيها. وقد كان من الممكن لهذه الطائفة البدائية الصغيرة أن تختفي من التاريخ لولا مصادفة انقسام امبراطورية الاسكندر المكدوني إلى ثلاثة أقسام: دولة البطالمة في مصر, ودولة السلوقيين في سورية, ودولة ثالثة في المشرق ما لبثت أن تهاوت بسرعة.. ولولا دخول السلوقيين في صراع مع البطالمة أضعفهم الى حد تمكن أحد زعماء تلك الطائفة من القيام بتمرد عليهم وإنشاء (دولة) صغيرة في فلسطين عرفت باسم (دولة المكابيين) التي أجبرت مجموعات قبلية عربية كثيرة من أفخاذ الآراميين على (التهو د) أي اعتناق اليهودية تحت طائلة (التحريم). وكان من بين تلك المجموعات: (الايتوريون) الآراميون العرب, الذين كانوا يسكنون (جليل الغوييم), ومنه انحدرت السيدة العذراء ويوسف النجار وهي حامل بالسيد المسيح.. وفي هذا دليل على عروبة الأصل الناسوتي للمسيحية, مثلما تقدم التعاليم المسيحية دليلا قاطعا على أصولها العربية القديمة وتناقضها جذريا مع التعاليم والمفهومات اليهودية التوراتية. ويؤكد توينبي ذلك في كتابه (تاريخ البشرية) حيث يرى أن رموز السيد المسيح جميعا هي رموز (دموزي/ تموز/ البعل), كما إن الفكرة الأساسية في المسيحية: (فكرة عهد الله للانسان أن يفتديه بالمسيح: كلمته, وبعض روحه) وفيض قدرته الأول- حسب مصطلحات نظرية الفيوض لابن سينا- هي فكرة تتناقض جذريا بسموها الكوني واللاهوتي مع فكرة اليهود عن (عهد يهوه لهم بتمليكهم رقعة جغرافية محددة سموها أرض الميعاد لأنهم اختاروه ربا لهم فصاروا شعبه المختار) وفقا لسفري (الخروج) و(يشوع) فهي فكرة مادية جدا, ومبتذلة وبائسة.
وما يهمنا هنا هو أمران:
الأول: عدم انقراض الطائفة اليهودية الصغيرة, كمحصلة لثورة المكابيين.
الثاني: هو تطويق المسيحية من قبل اليهود باعتبارها ثورة عليهم وعلى عبودية روما معا, ثم اختراقها من قبل (شاول, اوبولس الرسول) اليهودي الذي خرج الى دمشق ليحارب المسيحية, ثم فجأة نجده يتسلم قيادة الدعوة إليها في ليلة واحدة.. وهذا ما دفع الفيلسوف الانجليزي برتراند راسل على القول: إن المسيحية السائدة هي (مسيحية بولس) لا مسيحية المسيح.
وتاريخ الكنيسة الذي بدأ بالصراع بين آريوس بطريرك الاسكندرية- وكانت الاسكندرية هي المركز المرجعي للمسيحية, لا أنطاكية ولا روما - وبين خصومه من البطاركة الآخرين حول طبيعة السيد المسيح يدل على اخضاع الفكر اللاهوتي (التثليثي/ التوحيدي) العربي القديم للجدل السفسطائي الذي تميزت به الفلسفة الهيلينستية والتي ستكرس المجامع اللاحقة: (نيقية وخلقيدونيا.. خصوصا), اختراق ذلك الجدل لهذا الفكر اللاهوتي بقوة بالغة- ونرجو ألا يفهم من هذا أننا نريد أية إساءة الى معتقدات أحد-.
وهكذا, ومن غير قصد, حدث أن انتصرت (المعجزة الاغريقية) في الفلسفة- في فترتها المتأخرة والمتأثرة بالحكمة المشرقية- على الفكر اللاهوتي العربي القديم, بقدر ما بدأ التهو د أو التهويد يخترقه من داخله كي يصفيه إن أمكن, رغم ان التاريخ لم يوصل الأمر إلى مثل هذه التصفية الكاملة المطلوبة.
وبالطبع, لسنا هنا بصدد المحاولات اليهودية الأولى لتصفية المسيحية, وإن كان من الانصاف القول إن الكنائس الشرقية قاطبة ظلت مشبعة بالروحية اللاهوتية العربية القديمة رغم كل شيء, مثلما ظلت- في القضايا الدنيوية- عميقة التمسك بموطنها العربي واصولها العربية رغم امتدادها لتضم إليها مجتمعات وشعوبا من أصول اتنية أخرى.
ومن المفيد لبحثنا هذا أن نذكر تهديم الرومان للهيكل اليهودي الذي عجز عزرا الكاتب عن بنائه بسبب مقاومة جندب العربي وقبيلته لذلك كما تنص أسفار التوراة, وسفر عزرا خصوصا , ويبدو أن المكابيين هم الذين بنوه. وكان تهديمه سنة 07 ميلادية على يد القائد الروماني تيتوس الذي شرد اليهود فوجدوا أهم مهرب لهم في شبه الجزيرة العربية.
وفي المرحلة الحضارية العربية الاسلامية وجدوا الأمن والاستقرار: من الأندلس إلى أواسط آسيا. ورغم انجاز تلمودهم وآخر صياغة لتوراتهم في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي/ فقد صار أكثرهم من طائفة (القرائين), ومالوا إلى الأخذ بأفكار المعتزلة, وتأثروا بالمتصوفة فولدت مدرسة (القبالا) عندهم, أي (التفسيرات الأسرارية) للنصوص والمفهومات الأساسية التوراتية. ولعل أهم حدث في تاريخ الظاهرة اليهودية هو (تهو د الخزر) من قطاع طرق التجارة العالمية بين بيزنطة والبلدان الاسلامية من جهة والهند والصين من جهة أخرى, حيث كانت منطقة انتشارهم تقع في (الممر) الذي بين بحر الخزر وبحر قزوين.
ومن سوء حظ العرب والعالم أن هؤلاء البرابرة المتهودين سيهربون أثناء الزحوف المغولية غربا ويتوزعون في أوروبا أثناء فترة الحروب الصليبية, ولأسباب كثيرة, من أهمها طبائعهم واعتقاداتهم وأساليبهم في العيش والسلوك..., يفرض الأوروبيون عليهم نظام الحجر أو (الفيتو) حتى القرن العشرين, مع استثناءات لاحقة للأثرياء منهم.
وحين يثور مارتن لوثر على الكنيسة في روما, يعمد- عبر إنشاء مذهبه البروتستانتي الجديد- إلى تهويد المسيحية الغربية رسميا, وهي (مسيحية!) بعيدة كل البعد عن عمق الروحية اللاهوتية في الشرق وطقوسية سطحية على أي حال, فيعتبر اليهودية أصلا للمسيحية ويجعل الأناجيل وأعمال الرسل مجرد تتمة وملحقا بأسفار التوراة أو ما يعرف باسم (العهد القديم) ويجمع ذلك كله في (الكتاب المقدس) المتداول الآن. وحين يندم على ذلك يكتب كتابا يش هر فيه باليهود وأفكارهم الشريرة وسلوكياتهم القبيحة ويضع له عنوانا مثيرا هو (اليهود وأكاذيبهم), لكن الوقت يكون قد فات بالنسبة لأتباعه من البروتستانت, ثم الانجليكان الذين أخذوا بالأفكار الدينية ل-(كالفين) في هولندا وانجلترا خصوصا. وقد غالى الانجليكان في تهويد (مسيحيتهم)- المهودة قبلا والسطحية اساسا من وجهة النظر الايمانية- وبلغت المغالاة بفئة البيوريتان أوالطهرانيين درجة فادحة فاضحة في تهويد تلك المسيحية. وقد طرد هؤلاء من انجلترا في القرن السادس عشر إلى القسم الجنوبي من أرض أمريكا الشمالية, فاستوطنوا أولا في بضع عشرة ولاية على سواحلها الشرقية, هم ومن لحق بهم من المرتزقة المغامرين الباحثين عن الذهب والسجناء المنفيين... وهؤلاء الذين شكلوا (الآباء المؤسسين) للولايات المتحدة لاحقا كانوا يهتمون بترتيل ما يسمى (العهد القديم) أكثر من الأناجيل, واعتبروا انفسهم (شعبا مختارا) وأمريكا هي (أرض ميعادهم) التي لهم الحق في إبادة سكانها الأصليين البرابرة على غرار (الحق الإلهي) لأبطال الأسفار الملحمية التوراتية المتخيلة عن دخول اليهود القدامى الى فلسطين.. وقد آمن هؤلاء المستوطنون بوجوب تحكمهم بالقوة بأمريكا كلها كيما ينطلقوا منها لاخضاع العالم (لإرادة الرب) في اقامته ملكوته على الأرض, بدل (ملكوت السموات) وهم - في الحقيقة ما كانوا- ولا زالوا- يؤمنون بشيء أبعد من تحقيق رغباتهم في الامتلاك, وتحقيق مصالحهم المادية وفق تعاليم مارتن لوثر بهذا الخصوص. والحديث في هذا يطول.
وبالطبع, ما كان للكنيسة الكاثوليكية الغربية أن تنجو من تأثيرات تلك (الاصلاحات) التهويدية الجديدة آنذاك, خاصة وأن بابوات من أمثال رجالات آل بورجيا قد سيطروا عليها ردحا من الزمن غير قصير.
والمهم, أن اليهود الخزر- رغم الحجر عليهم في المعازل أو الفيتوات في أوروبا- قد صار لمعتقداتهم التلمودية الخرافية آثار شديدة القوة والحضور في (مسيحية أوروبا) الهشة, وذلك في الوقت الذي كان فيه بقايا مسلمي الأندلس- التي صارت أسبانيا- يتعرضون لجرائم محاكم التفتيش هم واليهود من غير الخزر ممن عاشوا في فترة الحضارة الاندلسية العربية الاسلامية ونشطوا في كنفها بأمان لقرون عديدة. وهؤلاء الذين نجا قسم منهم من تلك المحاكم مع من نجا من المسلمين من القتل والتعذيب وهاجر معهم الى المغرب العربي سوف يصبحون جزءا من (السفارديم)- أي اليهود الشرقيين- في الكيان الصهيوني الذي سيقيمه (الاشكنازيم), أي اليهود الخزر الاوروبيين, على أرض فلسطين بدعم لا نظير له من الاستعماري الغربي الأوروبي واستطالاته الاستيطانية (الولايات المتحدة خصوصا).
وهكذا يمكننا أن نغوص قليلا- أو إننا قد غصنا فعلا- في الأعماق السيكولوجية والاعتقادية والقيمية شبه الموحدة بين اليهود الخزر من جهة وبين أوروبا واستطالاتها كلها من جهة أخرى, ونكون قد وضعنا أيدينا على الأسس التي ستجعل من التماهي بين الجهاز المفاهيمي الصهيوني وبين المعطيات الفكرية الأيديولوجية لأوروبا وملحقاتها, فيما هي (تنهض) على قواعد النزوع الاستعماري الرأسمالي فالامبريالي انطلاقا من عصاب (التمركز على الذات) ونفي الآخر, تماهيا يوصل الوضع البشري العام إلى ما وصل اليه الآن.
وقد يقال: إن عامة الأوروبيين يكرهون اليهود كرها قاتلا ولا يطيقونهم, وهذا صحيح الى حد كبير, ولكن داخل أوروبا من جهة.. وفي سياق النفي المتبادل للآخر, والذي يخلقه الوضع العصابي الناجم عن السيكولوجيا العامة لمرض التمركز على الذات. أما حين يتعلق الأمر بشعوب أخرى- وخصوصا العرب وبقية أمم ما يسمى: العالم الاسلامي- وحين تدخل صراعات المصالح مع هذه الشعوب نطاق العواطف الأوروبية فان الامر يتبدل تماما, ويظهر التواطؤ بين الطرفين على أشد ما يكون تماسكا وصميمية وقوة. وشراكة المصالح قادرة على تغيير العواطف جذريا ولو بصورة مؤقتة. فكيف إذا كانت هذه الشراكة- في الوضع الامبريالي الراهن على الأقل- هي شراكة بنيوية قائمة في أساس كينونة النظام الرأسمالي المحددة لطبيعته وحركته وتوجهاته?
ان إلقاء نظرة سريعة على تاريخ تلك الشراكة البنيوية هو أمر لازم وضروري للمزيد من اغناء بحثنا هذا الذي نعالجه هنا.
في الصهيونية, والرأسمالية الامبريالية الغربية
حين كان تهويد مسيحية أوروبا يجري تحت اسم (الاصلاح الديني) على الصورة الموجزة التي سبق أن قدمناها كانت أوروبا تبدأ (نهضتها) انطلاقا من ايطاليا واسبانيا وانجلترا وهولندا والبرتغال.. ثم لاحقا من فرنسا فألمانيا.. وكانت هذه الدول جميعا ما تزال ترزح تحت وطأة عصر الاقطاع والقنانة, ربما باستثناء انجلترا التي أنجزت صيغة دولتها الموحدة منذ القرن السادس عشر.
وكانت ايطاليا قد شهدت نموا ماليا كبيرا في مدنها التجارية التي أعادت بصورة ما نظام (دولة المدينة) أو (المدينة الدولة). أما اسبانيا وانجلترا وهولندا والبرتغال, ولاحقا فرنسا, فقد راحت تتوجه الى قارتي العالم الجديد أولا للاستيطان فيه واصطياد كنوز ثرواته التي بدت مذهلة ولا نهائية لا بل خرافية ان جاز التعبير. وأما ألمانيا فستظل وحدها المقصرة اقتصاديا وفكريا عن تلك الدول التي ترافق نشاطها الاقتصادي/ الاستعماري المذكور بنشاط فكري مواز أو حتى سابق عليه وله, خصوصا في ايطاليا ثم فرنسا. ورغم ان النمسا كانت مركز الامبراطورية الجرمانية المقدسة فان ظهور الامبراطورية العثمانية الاسلامية, التي وصلت جيوشها إلى أبواب فيينا, قد حال دون مشاركتها الفعالة في النشاط (النهضوي) الجديد لدول القارة. ومن نافلة القول ان المقاطعات الألمانية المتناحرة آنذاك كانت تابعة لتلك الامبراطورية الجرمانية المقدسة.
وحتى نهايات القرن الثامن عشر وبدايات التاسع عشر ظل الوطن العربي الذي صارت أغلب بقاعه (ولايات عثمانية) في منأى عن الاستعمار الأوروبي باستثناء بقع صغيرة فيه.
والمهم أن ثمة بضعة من الأمور الاساسية التي يجب أن نعرفها عن أوروبا عند بداية نهضتها كيما تتضح لنا أسس ما استهدفناه في هذا البحث وأصوله. وهذه الأمور الأساسية هي:
1 - كان النظام الاقطاعي القناني يضعف أوروبا كلها من الوجهة المالية والاقتصادية إضعافا شديدا حيث ان النبلاء لم يكتفوا باسترقاق اتباعهم ونهبهم وبانهاك أنفسهم في التصارع فيما بينهم, بل أسرفوا في البذخ والانفاق على ملذاتهم إنفاقا يفوق طاقاتهم بكثير, وهذا ما اضطرهم الى الاستدانة بربا فاحش ممن يملكون المال. وكان هؤلاء من اليهود المقيمين في معازلهم, والذي لا يعملون إلا في المهن التي تساعدهم على كسب الذهب وتخزينه. وتشرح مسرحية (تاجر البندقية) لشكسبير هذا الوضع بصورة واضحة وفاضحة.
أما ما ترتب على ذلك فهو نشوء علاقات بنيوية حميمية تراوح بين التوتر في العلاقات الشخصية وبين الدخول اليهودي القوي في صلب التشكيلة الرأسمالية منذ ولادتها: سواء في تمويل (الحملات الملكية الأوروبية) نحو اكتشاف العالم الجديد ونهب ثرواته أم في استثمار الثروات المتوافرة والمنهوبة في النشاط الانتاجي الذي بدأ (بالمانيفاكتورة) وانتهى بالمصانع الضخمة ثم بتكنولوجيا أيامنا هذه.
وجدير بالذكر هنا أن انجلترا- التي كانت نظيفة تماما من اليهود, بتعبير أحد المؤرخين الأوروبيين وبتعبير الانجليز أنفسهم, خلال القرن السادس عشر- هي التي ساهمت في اختراع (الصهيونية) منذ ذلك القرن بغية استجرار المال اليهودي لتمويل مساعيها في استعمار العالم الجديد والهند وغيرها, ولتمويل صراعاتها بخصوص ذلك مع القوى الأوروبية الأخرى الناشطة في هذا المجال, وخصوصا اسبانيا وفرنسا الكاثوليكيتين. وتتبنى الصهيونية زبدة المفهومات التوراتية/ التلمودية اللاانسانية عن العلاقة (بالآخر) وما يجب ان يكون عليه أسلوب التعامل معه.. ولاحقا ستنمو هذه (البذرة) وي جدد استنباتها بقوة على يدي هرتزل وأتباعه, وترعاها انجلترا بقوة تحت شعار (تأمين وطن قومي لليهود في فلسطين). والأسباب والتفضيلات معروفة.
لكننا هنا- وبالاستناد الى ما سبق ذكره من تهويد مسيحية أوروبا- نجد أنفسنا وجها لوجه أمام الأسباب الأساسية والعملية في اعتماد (المعجزة العبرانية) في التوحيد كأحد أساسين اثنين في نظرية (المركزية الأوروبية في الثقافة), خصوصا وان انجلترا الانجليكانية ظلت القوة العالمية الأعظم حتى منتصف القرن العشرين.
2 - لم تكن الاقطاعيات الاوروبية في بدايات عصر النهضة تملك (لغات) للكتابة بالمعنى الحقيقي للغة. ولذلك كتب بترارك ودانتي وغيرهما من رواد النهضة.. ثم مفكرو عصر الأنوار باللغتين: اللاتينية والاغريقية, رغم غرف الجميع من الرياضيات والفلسفة والعلوم العربية التي سيطرت في العصور الوسطى وقبسها الأوروبيون من الاندلس وصقلية, والشرق ابان الحروب الصليبية.
وهذا الوضع- اضافة الى كره الأوروبيين للعرب والمسلمين, وحقدهم عليهم- كان من أهم الاسباب التي دفعت بالمنظرين لنهضة أوروبا, وبمنشئ فلسفة تلك النهضة وأسسها القيمية, للادعاء بالانتماء عرقيا وثقافيا الى الاغريق والرومان, ونفي أية استفادة لهذين الشعبين من الحضارة العربية القديمة الباذخة في مراكزها ومراحلها المتعددة والمختلفة خصوصا في مصر وبلاد الشام والعراق بدءا من نهايات الألف الرابع قبل الميلاد!.. وهكذا كانت (المعجزة الاغريقية) في الفلسفة والعلوم اضافة الى (العسكريتارية الرومانية) هي الركن الثاني في (نظرية المركزية الاوروبية)!!
والحقيقة أن هذه الاختيارات لتصنيع أصول تاريخية حضارية وثقافية لما سيكون لاحقا (أوروبا الرأسمالية الاستعمارية) كان اختيارا متفقا تماما مع سيكولوجية القبائل لأوروبا ومع قيمها المتأصلة رغم (تمسيحها) حسبما سبق القول. فاليهودية تقوم على التعاليم التورانية التلمودية اللاإنسانية التي سبق أن ذكرناها بايجاز, والاغريق هم منتجو عصر الرق: في أثينا كما في اسبارطة وبقية (المدن الدول) الإغريقية الأخرى, وسترسخه روما لاحقا كنظام عالمي بمفهوم العلامية آنذاك. وليس خافيا أن قيم الرق هي قيم النهب والابتزاز المادي واللاإنسانية في علاقات التعامل مع (الآخر) الذي لابد من نفيه وإلغائه كيما تحقق (الذات الاسترقاقية) طموحها ورغباتها وتطلعاتها الوجودية الشذوذية.
ويبدو التفاعل بين هذه العناصر المتشابهة غاية في السهولة, كيما تتولد منها التشكيلة التاريخية الجديدة لأوروبا الناهضة!
ومن جديد يجب التأكيد على (عقدة الدونية) تجاه الحضارة العربية: القديمة منها والاسلامية, بالنسبة لليهود كما بالنسبة لأوروبا.. وبالتالي: على (آليات التعويض) التي استدعتها تلك العقدة المرضية الجمعية الحضارية, والتي تتلخص في عبارة (التمركز على الذات) والمتطلبات السلوكية والقيمية لهذا التمركز, حيث نفي (الآخر) وإلغاؤه تخيليا ومفهوميا- وعمليا إن أمكن- هو منبع تلك المتطلبات وما ينبني عليها أو يتولد منها. ولنلاحظ هنا أن العرب هم (الصورة الأولية والمباشرة) لهذا الآخر لدى الطرفين معا !!
وبالطبع , ثمة فرق شاسع جدا في المقدرة على ممارسة ذلك النفي والالغاء (للآخر) عمليا بين أوروبا/ القارة بشعوبها العديدة المختلفة وبين الجماعات اليهودية الصغيرة المنحصرة في معازلها أو (غيتواتها). وفي اعتقادنا أن حافز (نفي الآخر)- هكذا- هو ما ولد الحضارة الأوروبية الحديثة, وأعطاها سماتها العامة والخاصة التي تولدت منها قيمها المادية الابتذالية, وممارساتها الاستعمارية الكونية النهابة, باشكالها وصيغها المختلفة.
وعبر ذلك تكاملت (نظرية المركزية الأوروبية في الثقافة), وتم تشغيلها كغطاء أيديولوجي شمولي لتلك الفاعلية الشمولية وما تضمنته او تتضمنه من تفصيلات.
ولأن الاقتصاد هو جوهر تلك الفاعلية, حيث هو يجرجر وراءه العلوم وتطبيقاتها اضافة الى الفلسفات والقيم المادية القديمة المجددة.. اضافة الى العسكرة ومستلزماتها, ولأن اليهود قد دخلوا بدئيا في عمليات تشغيل عجلة الترسمل الأوروبي في الأطر التي سبقت الاشارة اليها فان (وحدة حقيقية)- مفهومية وعملية- قد نشأت بين الطرفين منذ بدايات نهضة أوروبا, ونمت وتكاملت من داخل حركة التطور الرأسمالي, وأوجدت تعبيرها الأمثل في (الصهينة) أي في اعتناق (الصهيونية).
ويخطئ من يعتقد أن الصهيونية هي مجرد حركة يهودية أو تنظيم يهودي متطرف له غاياته الخاصة وحسب.
صحيح, ما سبق أن ذكرناه من أن الصهيونية بدأت كحركة في انجلترا في القرن السادس عشر ثم ظلت تتأرجح وتنوس حتى جددها هرتزل وأرسى أسسها العامة وأهدافها اليهودية الخاصة في القرن التاسع عشر, وأنها تجسد وتتبنى خلاصة التعاليم التوراتية/ التلمودية المريضة واللاإنسانية. لكنها في حقيقتها الكلية الشاملة (جهاز مفاهيمي) عام قوامه تلك التعاليم وتنظيم عالمي سري يضم كبار رأسماليي العالم وأصحاب السلطة والنفوذ فيه. إنها بالتالي مصطلح أيديولوجي/ سياسي/ ثقافي/ قيمي شمولي. أما (جهازه المفاهيمي) فان أصوله التوراتية/ التلمودية هي ذات الأصول التي اشتقت منها وتكاملت فيها (نظرية المركزية الأوروبية في الثقافة), وما علينا إلا أن نعيد النظر مليا في ما سبق لنا تقديمه وعرضه في هذا البحث كيما نكتشف مدى صحة ذلك, ومدى صدق القول: إن الصهيونية- بجهازها المفاهيمي العام- هي خلاصة تطور (المركزية الأوروبية) التي تجد الآن نموذجها الأعلى في التمركز الأمريكي المفرط على الذات, وفي أطروحة (العولمة).. في أسوأ مدلولاتها, وأكثرها شرانية, وسعيا لالغاء (الآخر) من خلال تدمير مختلف الحضارات والثقافات الأخرى في العالم.. ولو كان ذلك من خلال تدمير العالم كله. وما يجري اليوم من وقائع تدميرية على مستوى سائر بقاع هذا الكوكب هي أصدق دليل على صحة ذلك..
عرض لكتاب الطاهر بن جلون "العنصرية كما شرحتها لابنتي"(5)
هذه اسئلة بريئة عن العنصرية واسبابها واجابات تحاول تشكيل رؤية عن هذا العالم المظلم في عقل الاطفال طرحها الكاتب المغربي الشهير الطاهر بن جلون في كتابه الرائع الذي أبدأ بعرضه :
عند ذهابي للتظاهر برفقة ابنتي يوم 22 شباط (فبراير) 1997، ضد مشروع قانون «دوبريه» بشأن دخول واقامة الاجانب في فرنسا، جاءتني فكرة كتابة هذا النص. لقد طرحت عليّ ابنتي البالغة من العمر عشر سنوات، الكثير من الأسئلة، أرادت ان تعرف لماذا نتظاهر، وما هو معنى بعض الشعارات المعروفة، واذا كان التظاهر والاشتراك في مسيرة احتجاج في الشارع يفيد بشيء الخ... وهكذا وصلنا الى الحديث عن العنصرية. وبتذكري تلك التساؤلات والاستجوابات والتأملات، كتبت هذا النص... للوهلة الأولى قرأنا معاً ـ أنا وابنتي ـ النص. وقمت باعادة كتابته كلياً تقريباً اضطررت الى تغيير بعض المفردات والكلمات المعقدة وتوضيح أو شرح بعض المفاهيم الصعبة. تمت قراءة اخرى للنص بحضور اثنين من صديقاتها. كانت ردود أفعالهن مفيدة ومهمة، وقد أخذتها بعين الاعتبار في الصيغ التي كتبتها لاحقاً.
لقد أعدت كتابة هذا النص خمس عشرة مرة على الأقل، وذلك للحاجة لوضوح أكبر وللبساطة وللموضوعية.
كنت أود ان يكون في متسع الجميع ان يفهموه حتى لو كنت أوجهه أولاً للأطفال بين الثامنة والرابعة عشرة من العمر. يمكن لأهاليهم ان يقرأوه أيضاً.
انطلقت من مبدأ ان مكافحة أو محاربة العنصرية تبدأ بالتعليم، يمكننا ان نعلم الأطفال وليس البالغين، لهذا السبب تم التفكير بهذا النص وصياغته ضمن شاغل بيداجوجي ـ تربوي.
أود أن أشكر الأصدقاء الذين كان من لطفهم ان قدموا لي ملاحظاتهم، وشكراً لأصدقاء مريم الذين شاركوا في اعداد الأسئلة.
نص الحوار
< قل لي يا أبي، ما هي العنصرية؟
< العنصرية سلوك شائع كثيراً، وهو أمر مشترك في كل المجتمعات، وأصبح للأسف، أمراً عادياً ومبتذلاً في بعض البلدان حيث يمكن ان يحدث ذلك من دون ان ننتبه اليه أو نشعر به. وقوامه الارتياب،
بل وحتى احتقار أشخاص يمتلكون صفات وميزات جسمانية وفيزيائية وثقافية مختلفة عما نمتلكه نحن.
< عندما تقول «مشتركة» تعني بذلك عادية؟
< كلا، فليس السلوك الشائع يعني بالضروري انه عادي أو طبيعي. فبصورة عامة إن الإنسان ميال الى الشك والإرتياب تجاه شخص مختلف عنه، غريب مثلاً، وهذا سلوك قديم قِدَم الكائن البشري
نفسه، وهو سلوك عالمي، ويمس الجميع.
< اذا كان هذا ينطبق على الجميع يمكنني ان أكون عنصرية أيضاً؟
< أولاً، ينبغي القول ان الطبيعة الفطرية أو العفوية للأطفال ليست عنصرية فالطفل لا يولد عنصرياً اذا لم يضع أهله أو أصدقاؤه والقريبون منه، في رأسه أفكاراً عنصرية، فلا يوجد هناك سبب يجعله
يتحول الى عنصري. فعلى سبيل المثال اذا جعلوك تعتقدين ان من هم ذو بشرة بيضاء متفوقون على من هم ذو بشرة سوداء، واذا أخذت بمحمل الجد هذه المعلومة، يمكن ان يكون لديك سلوك عنصري
تجاه السود.
< ماذا يعني ان تكون متفوقاً أو فوقياً ومتعالياً؟
< هو الاعتقاد مثلاً، اننا اذا كنا ذوي بشرة بيضاء، فنحن أكثر ذكاء ممن لهم بشرة من لون آخر، أسود أو أصفر. بعبارة اخرى ان الملامح الفيزيائية للجسم البشري التي تميزنا الواحد عن الآخر لا
تنطوي على أية عدم مساواة.
< هل تعتقد انني يمكن ان أصبح عنصرية؟
< ان تصبحي، هذا ممكن، يعتمد ذلك على التربية والتعليم الذي تتلقينه من الأفضل ان تعرفي ذلك وتمنعي حدوثه، بعبارة اخرى قبول فكرة ان كل طفل وكل بالغ قادر، في يوم ما، ان يمتلك شعور
وسلوك الرفض تجاه شخص لم يفعل له شيئاً الا انه مختلف عنه. وهذا يحدث غالباً. فكل واحد منا يمكن ان يبدر منه، يوماً ما، فعل قبيح أو سلوك سيئ. ان نكون منزعجين من كائن غير مألوف لدينا
ونعتقد اننا أفضل منه، ويتكون لدينا شعور بالفوقية أو الدونية تجاهه، نرفضه كجار، ولا نريده كشقيق، لا لشيء الا لأنه مختلف عنا.
< مختلف؟
< الإختلاف هو النقيض للتشابه، النقيض لما هو متطابق، أول اختلاف ظاهر هو الجنس، الرجل يشعر انه مختلف عن المرأة، والعكس صحيح. وعندما يوجد مثل هذا الإختلاف يوجد في نفس الوقت
انجذاب.
في حين ان من نسميه «مختلفا» عنا، هو من يوجد عنده لون بشرة يختلف عنا، ويتكلم لغة اخرى، ويطبخ طعامه بطريقة مختلفة عنا، ولديه عادات وتقاليد اخرى، ودين آخر، وطريقة اخرى للحياة، وإقامة الأعياد والإحتفالات بصورة تختلف عنا الخ...هناك اختلاف يبدو لنا، ويعبر عن نفسه عبر المظاهر الجسدية الفيزيائية (القامة، لون البشرة، ملامح الوجه، الخ)، ثم هناك اختلاف في السلوك والعقلية أو الذهنية والمعتقدات الخ...
< اذن العنصري لا يحب اللغات الأخرى أو المطابخ، أو الألوان التي لا تشبه ما عنده؟
< كلا، ليس هذا بالضبط يمكن للعنصري ان يحب ويتعلم لغات اخرى لأنه يحتاجها في عمله أو في تمضية أوقات فراغه وتسليته، ولكن يمكن ان يكون حكماً سلبياً وغير عادل أو ظالم على الشعوب التي تتكلم تلك اللغات الأخرى. ويمكن ان يرفض تأجير غرفة لطالب اجنبي، كأن يكون فيتناميا مثلاً، لكنه يحب ان يأكل في المطاعم الآسيوية، فالعنصري هو من يفكر أو يعتقد ان كل ما هو مختلف كثيراً عنه يهدده في سكينته وهدوء حياته.
< العنصري هو من يشعر بالتهديد؟
< نعم لأنه يخشى من لا يشبهه. العنصري شخص يعاني من عقدة الدونية أو الفوقية، فالنتيجة هي ذاتها في الحالتين لأن هذا هو سلوكه في هذه الحالة أو تلك ـ أي شعوره بالدونية أو الفوقية ـ سيكون الإحتقار.
< ويخاف؟
< الكائن الانساني بحاجة للطمأنينة، وهو لا يحب كثيراً ما يمكن ان يثير ازعاجه ويزعزع يقينه. فهو ميال للشك والإرتياب مما هو جديد. ونحن غالباً نخاف مما لا نعرفه. فنخاف من الظلمة الداكنة لأننا لا نرى ما يمكن ان يحدث لنا عندما تطفئ جميع الأضواء. نشعر أننا بلا دفاع أمام المجهول، ونتخيل أشياءا وهمية، وبلا سبب، وهذا غير منطقي. فأحياناً لا يوجد هناك ما يبرر الخوف، ومع ذلك نخاف، ونحاول ان نبرر ولا نتعقل ونتصرف كما لو ان تهديداً حقيقياً موجوداً يتربص بنا. العنصرية ليست شيئاً صائباً أو معقولاً.
< بابا، اذا كان العنصري انسانا يخاف فإن رئيس الحزب الذي لا يحب الأجانب يمكن ان يكون خائفاً طول الوقت. والحال انه في كل مرة يظهر فيها على شاشة التلفزيون أشعر أنا بالخوف منه... فهو يصرخ ويهدد الصحافي ويضرب بقبضته على الطاولة.
< نعم ولكن هذا الشخص الذي تتحدثين عنه هو رجل سياسي معروف بعدوانيته، وعنصريته التي تظهر أو تعبر عن نفسها بصورة عنيفة، ينقل للناس غير المطلعين أو المضللين معلومات خاطئة ومزيفة حتى يخافوا، ويستعمل خوف الناس الذي يكون أحياناً حقيقياً، مثلاً، يقول لهم أن المهاجرين يأتون الى فرنسا ليأخذوا عمل الفرنسيين، ويستلموا المساعدات العائلية التي تمنحها الدولة، ويتطببوا أو يتعالجوا مجاناً في المستشفيات. وهذا ليس صحيحاً، فالمهاجرون يقومون غالباً بأعمال يرفض الفرنسيون القيام بها ويدفعون الضرائب ويساهمون بتمويل صندوق الضمان الاجتماعي من خلال الإستقطاعات من معاشاتهم، وبالتالي عندهم الحق القانوني في العلاج عندما يتعرضون، فاذا طُرد كل العمال المهاجرين غداً من فرنسا، ويا لها من مصيبة، فإن اقتصاد هذا البلد سينهار.
< فهمت، العنصري يخاف بلا سبب.
< انه يخاف من الأجنبي، من الذي لا يعرفه، خاصة اذا كان هذا الاجنبي أفقر منه فهو يرتاب من العامل الافريقي أكثر من ارتيابه من الملياردير الأمريكي، أو هناك مثال أوضح عندما يأتي الأمير العربي ليقضي عطلته على الشاطئ اللازوردي Cote d'azur فانه يلقى ترحيباً واستقبالاً كبيرين لأن من يُستقبل في هذه الحالة ليس العربي بل الرجل الثري الذي جاء لينفق الأموال.
< ما هو الاجنبي؟
< ان كلمة اجنبي Etranger تأتي من كلمة غريب etrange والتي تعني ليس من هنا، أو من الخارج، الذي لا ينتمي لعائلة أو عصبة أو عشيرة هنا. هو شخص قادم من بلد آخر، سواء أكان قريباً أو بعيداً، وأحياناً يكون قادماً من مدينة اخرى أو من قرية اخرى، وهذا يعطينا مفردة «كره الاجانب Xenophobie» التي تعني معاداة الأجانب ومعاداة من يأتي من الخارج. اما كلمة غريب etrange فصارت تصف اليوم الشيء الخارق للعادة المختلف كثيراً عما تعودنا على رؤيته ولها مرادف في كلمة عجيب أو شاذ أو غريب الأطوار Bizarre.
< عندما أذهب عند صديقتي في النورماندي هل أنا أجنبية؟
< بالنسبة لسكان المنطقة، نعم، بلا شك، لأنك قدمت من مكان آخر فأنت غريبة عليهم أنت قادمة من باريس وأنت عربية. هل تتذكرين عندما ذهبنا للسنغال، كنّا أجانب بالنسبة للسنغاليين.
< ولكن السنغاليين لم يخافوا مني وأنا لم أخف منهم.
< نعم لأن والدتك وأنا شرحنا لك منذ الصغر ان لا تخافي من الاجانب، سواء أكانوا أغنياء أم فقراء، كباراً أو صغاراً، بيضاً أو سوداً، لا تنسي نحن دائماً أجانب بالنسبة لشخص آخر، أي هناك دائماً من يعتبرنا غرباء ممن ليس من ثقافتنا.
< قل لي يا أبي، لم أفهم حتى الآن لماذا توجد العنصرية بمقدار معين في كل مكان؟
< في المجتمعات القديمة جداً، المسماة البدائية، كانت للإنسان تصرفات قريبة من الحيوان، فالقطة تبدأ بتحديد معالم موقعها وأرضها. فإذا دخلت قطة اخرى أو حيوان آخر الى مكانها لسرقة طعامها أو للتعرض الى صغارها فان القطة التي تعتبر نفسها في بيتها تدافع عن نفسها وتحمي صغارها من أي أذى أو اعتداءات يتعرضون لها. والإنسان كذلك، يجب ان يكون له بيته الخاص به، وأرضه، وممتلكاته وأشياؤه ويحارب من اجل الاحتفاظ بها وهذا أمر طبيعي، والانسان العنصري يعتقد ان الاجنبي، أي كان، سيسلبه حاجياته ويأخذ منه أشياءه وممتلكاته. لذلك يخشاه ويرتاب منه من دون ان يفكر، بل يقوم بذلك بصورة غريزية. الحيوان لا يقاتل الا اذا هوجم، ولكن الانسان يهاجم الأجنبي أو الغريب أحياناً من دون ان يكون لدى هذا الأخير النية في ان يخطف منه أي شيء.
< وتعتبر ذلك أمراً مشتركاً في كل المجتمعات؟
< مشترك، شائع أو منتشر، نعم ولكنه ليس طبيعياً. فمنذ زمن بعيد والانسان يتصرف بهذه الصورة هناك الطبيعة أولاً ثم الثقافة. بعبارة أخرى هناك السلوك الغريزي، بلا روية ولا تفكير، وبلا تعقل، وهناك التصرف الموزون والمدروس، وهو الذي نكتسبه عن طريق التربية والتعليم، والمدرسة، والتفكير العقلي السليم، وهو ما نسميه الثقافة مقابل تعبير «الطبيعة»، فمع الثقافة نتعلم ان نعيش معاً ونتعلم بالذات اننا لسنا وحيدين في العالم، وانه توجد شعوب اخرى ذات تقاليد اخرى، وطرق أخرى في العيش تستحق هي الأخرى تقديرنا ومقبولة مثلما هي طرق حياتنا.
< اذا كنت تعني بكلمة ثقافة التربية والتعليم، فإن العنصرية يمكن ان تأتي مما نتعلم.
< لا يولد المرء عنصرياً بل يصبح عنصرياً، وذلك يعتمد على الذي يربيه ويعلمه سواء أكانت المدرسة أو البيت.
< اذن الحيوان الذي لا يتلقى أي تعليم هو أفضل من الحيوان؟
< لنقل انه ليس لدى الحيوان مشاعر مسبقة أو مقررة مسبقاً، اما الإنسان، فعلى العكس، لديه ما يسمى الأحكام المسبقة، يحكم على الآخرين قبل ان يعرفهم، يعتقد انه يعرف مقدماً من هم وما هي قيمتهم. وغالباً ما يخطئ، وخوفه ينبع من هنا، ولكي يحارب خوفه ينجر الانسان أحياناً الى خوض الحرب، أتعلمين انني عندما أقول انه يخاف، فلا تعتقدي انه يرتجف فزعاً بل على العكس فإن خوفه يشحذ ويحفز عدوانيته، يشعر انه مهدد فيهاجم. العنصري عدواني بطبعه.
< اذن بسبب العنصرية توجد الحروب؟
< بعضها، نعم... بالأساس هناك ارادة بسلب وأخذ ممتلكات وأشياء الآخرين، تستخدم العنصرية والدين لدفع الناس الى الحقد والكراهية وان يكره بعضهم البعض في حين انهم لا يعرفون بعضهم البعض الآخر. هناك خوف من الأجنبي، خوف ان يحتل منزلي، ويأخذ عملي ويخطف زوجتي، الجهل هو الذي يغذي هذا الخوف، لا أعرف من هو هذا الاجنبي وهو كذلك لا يعرف من أنا. أنظري ممثلاً لجيراننا في البناية كانوا يرتابون منا لفترة طويلة حتى اليوم الذي دعوناهم فيه لتناول وجبة (الكسكس) الشعبية المغربية معنا. حينها فقط انتبهوا الى اننا نعيش مثلهم، وانتهينا في نظرهم كوننا نبدو خطرين في أعينهم بالرغم من أصلنا ينحدر من بلد آخر ، وبدعوتنا لهم طردنا من أذهانهم شكوكهم نحونا، تحدثنا مع بعضنا وتعارفنا أكثر فيما بيننا وضحكنا معاً، هذا يعني اننا كنا مرتاحين ومسرورين فيما بيننا في حين كنا قبل ذلك، أي عندما نلتقي على سلالم المبنى، لا نعرف بعضنا، وبالكاد يحيي بعضنا البعض بسلام مقتضب وبارد.
< اذن حتى نحارب العنصرية يجب ان يدعو بعضنا لزيارة البعض الاخر.
< هذه فكرة جيدة، نتعلم كيف نتعارف، ونتكلم مع بعضنا البعض ونضحك معاً ونتقاسم أفراحنا وكذلك أحزاننا ونظهر ان لدينا غالباً نفس المشاغل والهموم ونفس المشاكل، هذا ما يساعد على انحسار وتراجع العنصرية، السفر يمكن ان يكون وسيلة ناجعة وجيدة ليتعرف بعضنا على البعض بصورة أفضل. فيما سبق كان مونتين Montaigne يحث مواطنيه على السفر ومراقبة الاختلافات. فالسفر كان بالنسبة له أفضل وسيلة «لتنظيف وشحذ أدمغتنا تجاه الآخر» إعرف الآخرين لكي تعرف نفسك بشكل أفضل.
< هل العنصرية كانت دائماً موجودة؟
< نعم، منذ ان وجد الانسان، بأشكال مختلفة، حسب العصور، أصلاً في عصر قديم جداً، عصر ما قبل التاريخ، وهو العصر الذي سماه أحد الروائيين عصر «حرب النار»، كان البشر يهاجمون بعضهم البعض بأسلحة بدائية، مجرد هراوات بسيطة، من اجل قطعة أرض أو منطقة نفوذ، أو كوخ، أو امرأة، أو مخزون من الأغذية، الخ... لذا صاروا يعززون حدودهم ويشحذون أسلحتهم، خوفاً من تعرضهم للغزو، الانسان مسكون بهاجس أمنه، مما يدفعه أحياناً الى الخشية من جاره، الاجنبي.
< العنصرية هي الحرب؟
< يمكن ان تكون للحروب أسباب مختلفة وغالباً ما تكون اقتصادية، لكن علاوة على ذلك تشن بعض الحروب باسم ادعاء التفوق لمجموعة على مجموعة اخرى. يمكننا تجاوز هذا الجانب الغريزي أو الفطري بالتفكير والتربية والتعليم، وبغية تحقيق ذلك، ينبغي ان نقرر بأن لا نخاف من الجار، ومن الاجنبي، ومن الغريب.
< اذن ماذا يمكننا ان نفعل؟
< ان نتعلم، وان نُعلم انفسنا ونربيها، ان نتأمل ونفكر، ان نحاول ادراك وفهم كل شيء، وان نظهر فضولاً بكل ما يتعلق ويمس الانسان والسيطرة على الغرائز الأولية والبدائية والغرائز الجنسية والانفعالات والاندفاع الغريزي.
< ماذا تعني بالاندفاع الغريزي (Pulson)؟
< هو فعل الدفع، النزوع الى تحقيق هدف بلا روية ولا تفكير. وهذه المفردة أعطت مفردة اخرى (repulsion) وتعني عدة معان مثل التنافر والنفور والاشمئزاز والتقزز والدفاع، الى جانب معناها الأولي أي «الفعل الملموس لدفع ورد العدو، وطرد شخص من مكان باتجاه مكان آخر»، فهي اذن تعبر عن شعور سلبي جداً.
< العنصري هو الذي يدفع الاجنبي الى خارج البلد أو يطرده لأنه يتقزز منه ويشمئز؟
< نعم يطرده حتى لو لم يكن مهدداً من قبله، وذلك ببساطة لأنه لا يعجبه. ولتبرير هذا الفعل العنيف، يختلق حججا واعذارا ومبررات تناسبه. أحياناً يتسلح بالعلم ويستند اليه، لكن العلم لم يبرر أبداً العنصرية. الا ان العنصري يجعل العلم يقول أي كلام بلا معنى، لأنه يعتقد ان العلم يوفر له الدلائل الصلدة والبراهين الراسخة والمتينة والقاطعة التي يتعذر الطعن بها أو معارضتها. ولكن ليس لدى العنصرية أية قاعدة علمية، حتى لو حاول بعض الناس استغلال العلم وتطويعه لتبرير أفكارهم في التمييز والتفرقة العنصرية.
< ماذا تعني هذه الكلمة «التفرقة العنصرية» Descriminatio؟
< انها تعبر عن فصل مجموعة اجتماعية أو اثنية ـ عرقية ـ عن الباقي ومعاملتها معاملة سيئة، كما لو قررت الإدارة في احدى المدارس، على سبيل المثال، ان تجمع في صف واحد كل التلاميذ السود لأنها تعتبر ان هؤلاء التلاميذ أقل ذكاء من الآخرين. لحسن الحظ لا توجد مثل هذه التفرقة العنصرية ولا يوجد مثل هذا التمييز العرقي والعنصري في المدارس الفرنسية. وقد كانت هذه الممارسة موجودة في أمريكا وجنوب افريقيا عندما نرغم أو نجبر مجموعة عرقية أو دينية أن تتجمع لتعيش منعزلة عن بقية السكان، فإننا نخلق ما يسمى بالجيتوهات ـ أي الأماكن والمواقع العازلة أي المعازل أو المحاجر والمنابذ.
< انه السجن؟
< كلمة «جيتو» هي اسم لجزيرة صغيرة تقع مقابل فينيسيا (البندقية) في ايطاليا، وفي عام 1516، أرسل يهود فينيسيا الى تلك الجزيرة، لفصلهم أو عزلهم عن باقي الجماعات الإنسانية، فالجيتو هو شكل من أشكال السجن وفي كل الأحوال إنه عمل شائن وتمييز عنصري مقيت وتفرقة عنصرية.
< ما هي الأدلة العلمية للعنصري؟
< لا توجد أية أدلة علمية لكن الإنسان العنصري يعتقد أو يوهم الآخرين بالاعتقاد بأن الاجنبي ينتمي الى عنصر أو جنس آخر، جنس يعتبره دونيا أو أدنى منه، لكنه مخطئ تماماً. يوجد فقط جنس واحد لنسمه بالجنس البشري أو النوع الانساني مقابل النوع الحيواني، الاختلافات عند الحيوانات كبيرة من نوع لآخر، هناك نوع ذات الأنياب أو المفترسة التي تأكل اللحوم ومنها الكلبية، ونوع البقريات أو المجترات التي تأكل الحشيش والخضروات أي النباتية، وفي النوع الأول أي الكلبية توجد اختلافات مهمة هناك البرجيه الألماني ـ الكلب ـ الذئبي، ونوع «التكيل» أي الزتني الألماني القصير القوائم، لدرجة يصبح من الممكن تصنيف أنواع وأجناس مختلفة فيما بينها وهذا أمر مستحيل بالنسبة للنوع البشري، لأن الانسان يساوي انسان.
< ولكن يا أبي كثيراً ما يُقال هذا شخص من الجنس الأبيض وهذا شخص من الجنس الأسود، أو الأصفر، وكثيراً ما قال لنا ذلك المدرس والمعلمة قالت لنا ذات مرة ان عبده الذي جاء من مالي من افريقيا هو من الجنس الأسود.
< اذا كانت معلمتك قالت لكم ذلك فعلاً فهي مخطئة، أنا آسف لأن أقول لك ذلك وأنا أعرف انك تحبينها لكنها ارتكبت خطأ واعتقد انها لا تعرف ذلك هي نفسها، استمعي الي جيداً يا ابنتي: الأجناس البشرية غير موجودة، يوجد جنس انساني واحد فيه رجال ونساء وأشخاص ذوو ألوان مختلفة وقامات مختلفة، وقدرات أو قابليات واستعدادات مختلفة ومتنوعة، وهناك عدة اجناس حيوانية، ان كلمة «جنس Race» لا يجب ان تُستخدم للقول بوجود تنوع انساني أو بشري، لا وجود لأي قاعدة علمية لكلمة «جنس» فقد استخدمت لتضخيم تبعات الاختلافات الظاهرة، أي المظاهر الجسمانية أو الفيزيائية ـ لون البشرة، القامة، ملامح الوجه ـ لتقسيم البشرية بطريقة مراتبية أي اعتبار بعض البشر أرقى وأعلى من بقية البشر الآخرين الذين يوضعون في مراتب أدنى. بعبارة اخرى ليس من حقنا الاعتقاد، بأننا، لكوننا نمتلك بشرة بيضاء، توجد لدينا ميزات وصفات عالية متفوقة واضافية بالنسبة لشخص ذوي بشرة من لون آخر لذا اقترح عليك عدم استخدام كلمة «جنس» أو «عرق»، فكثيراً ما استخدمها اناس سيئو النوايا وعدوانيون، فمن الأفضل استبدالها بعبارة «النوع الانساني أو البشري»، وعليه فإن النوع الانساني مكون من مجموعات مختلفة ومتنوعة ولكن كل الرجال وكل النساء في هذا الكوكب لديهم دم من نفس اللون في الشرايين والأوردة، سواء أكانوا من ذوي البشرة الوردية أو السوداء أو البنية أو الصفراء أو غيرها.
< لماذا تكون بشرة الافريقيين سوداء وبشرة الأوروبيين بيضاء؟
< الميلانين، وهو بمثابة مادة ملونة Colorant.
< اذن يصنع مادة الميلانين أكثر مني، وأعرف أيضاً ان لدينا جميعاً دما أحمر، ولكن عندما احتاجت أمي لدم قال لها الطبيب ان فصيلة دمها مختلفة.
< نعم توجد عدة فصائل من الدم وعددها أربع وهي أ، ب، و، أب، A, B, O. AB. الفصيلة «و O» مانحة شاملة أي تعطي لجميع فصائل الدم الأخرى والفصيلة أ ب AB متلقية شاملة تأخذ من جميع
فصائل الدم الأخرى اما الفصيلتان الباقيتان فكل فصيلة تأخذ من مثيلتها وتعطيها فقط. ولكن ليس لذلك علاقة بالفوقية والدونية، الاختلافات تكمن في الثقافة (اللغة، العادات والتقاليد، الطقوس والشعائر، المطبخ والأكلات أو الوجبات الغذائية الخ...) تذكري ان تام Tam الصديق الفيتنامي لوالدتك هو الذي أعطاها الدم في حين ان والدتك مغربية، لديهما نفس زمرة الدم، علماً انهما ينتميان لثقافتين مختلفتين وليس لديهما نفس لون البشرة.
< اذن اذا احتاج زميلي المالي عبدو لدم يمكنني ان أعطيه من دمي؟
< اذا انتميتما الى نفس فصيلة الدم نعم يمكنك ذلك.
< من هو العنصري؟
< العنصري هو من يعتقد، بحجة أو بذريعة عدم امتلاكه لنفس لون البشرة، ولا نفس اللغة، ولا نفس طريقة الاحتفال بالأعياد، انه أفضل من غيره، أو متفوق عليه وأرقى ممن هو مختلف عنه. وهو مصمم على الاعتقاد بوجود عدة اجناس أو أعراق ويقول ان جنسي جميل ونبيل بينما الآخرون قبيحون وحيوانيون أو بدائيون متدنون.
< لا يوجد عرق أفضل أو أرقى؟
< كلا، حاول مؤرخون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ان يثبتوا ويبينوا وجود عرق أو جنس أبيض يكون أفضل من الناحية الجسدية والفيزيائية والعقلية، ممن افترضوا انه جنس أسود، في تلك الفترة كان هناك اعتقاد سائد بأن البشرية مقسمة الى عدة اجناس، أحد المؤرخين واسمه ارنست رينان (1823 ـ 1892) عَلمَ وميز ورتب الجماعات البشرية التي تنتمي لـ «الجنس الأدنى» على النحو التالي: «السود الافريقيون، السكان الأصليون في استراليا، الهنود الحمر في أمريكا». فبالنسبة له الأسود هو مثل الحمار بالنسبة للحصان «أي انسان يفتقد الذكاء والجمال» ولكن وكما يقول دكتور في الطب متخصص بالدم «ان الاجناس الصافية أو النقية في الحلبة الحيوانية لا يمكن ان توجد الا في الحالة التجريبية، في المختبر، كما هو الحال مع نوع من الفئران مثلاً». ويضيف قائلاً:
«انه توجد اختلافات اجتماعية ـ ثقافية بين صيني ومالي وفرنسي أكثر مما توجد اختلافات جينية Genetquees بينهم.
< ماذا تعني بالاختلافات الاجتماعية ـ الثقافية Socioculturelles.
< ان الاختلافات الاجتماعية ـ الثقافية هي تلك التي تميز مجموعة بشرية عن اخرى من خلال السبيل أو الطريقة التي ينظم البشر انفسهم بواسطتها على شكل مجتمع (لا تنسي ان لكل جماعة بشرية تقاليدها وعاداتها)، وما يخلقونه من انتاجات ثقافية (الموسيقى الافريقية تختلف عن موسيقى الجماعات البشرية الأخرى) نفس الشيء فيما يتعلق بالطريقة التي يتزوجون فيها أو يقيمون الاحتفالات.
< وما هي الجينات (الجينات الوراثية)؟
< ان تعبير Genetique أي وراثي أو خاصة بعلم الوراثة، يشير الى الجينات أي العناصر المسؤولة عن العامل الوراثي في جسمنا وفي داخلنا العضوي. فالجينة هي وحدة وراثية أو ناقلة للصفات الوراثية، هل تعرفين ما المقصود بالوراثية؟ هو كل ما ينقله الأهل للأبناء: الصفات الجسمانية والنفسية مثلاً، التشابه الجسدي الفيزيائي وبعض الملامح العامة لدى الأهل التي نعثر عليها لدى الأبناء والبنات تفسر بالعوامل الوراثية التي تنقلها الجينات.
< اذن نحن مختلفون بتربيتنا أكثر مما نحن مختلفون بفعل الجينات؟
< على أية حال نحن كلنا مختلفون الواحد عن الآخر، ولكن وبكل بساطة لدى البعض منا ملامح وصفات مشتركة وراثية، وبصورة عامة، نرى انهم يتجمعون حول بعضهم البعض ويشكلون شريحة من السكان تتميز عن شريحة أخرى أو مجموعة أخرى من السكان بطريقة معيشتها. توجد عدة جماعات بشرية تختلف عن بعضها البعض بلون البشرة، أو بنظام الشعر، بملامح الوجه، وكذلك بالثقافة. وعندما يختلطون بعضهم ببعض عبر نظام الزواج المختلط ينتجون أطفالاً نسميهم «Metis الهجيني» أو «الخلاسي» وبصفة عامة فان الخلاسيين أو الهجينيين جميلين، لأنهم نتاج اختلاط الجمال، والهجينية البشرية أفضل درع ضد العنصرية.
< اذا كنا جميعاً مختلفين فالتشابه اذن غير موجود؟
< كل كائن بشري هو حالة فريدة ووحيدة من نوعها، لا يوجد في العالم كائنين انسانين متطابقين تماماً خصوصية الانسان انه يحمل هوية لا تحدد سوى ذاته هو، فهو فريد أي يتعذر استبداله بواحد مثله، بالتأكيد يمكننا ان نستبدل موظف بآخر لكن اعادة انتاج الشخص ذاته مئة بالمئة وبالضبط أمر مستحيل، فبوسع كل واحد منا ان يقول «لست كالآخرين» وهو محق بذلك وعلى صواب «القول بأني فريد» لا يعني اني الأفضل، وهو وببساطة تشخيص ان كل كائن انساني هو فريد، بعبارة اخرى كل وجه هو بحد ذاته معجزة فريدة لا يمكن تقليدها.
< وأنا أيضاً؟
< بالتأكيد أنت فريدة لا يوجد على الأرض بصمات متشابهة تماماً، فلكل أصبع بصماته الخاصة به، ولهذا نرى في الأفلام البوليسية انهم يبدأون بأخذ البصمات من على الأشياء لمعرفة وتشخيص الأشخاص الذين كانوا متواجدين على مسرح الجريمة.
< ولكن يا أبي عرضوا علينا في أحد الأيام على التلفزيون نعجة صغيرة صنعت في المختبر بنسختين (النعجة دولي).
< انت تتحدثين عن ما يسمى بالاستنساخ Clonage، ان حقيقة القدرة على صنع أو انتاج واعادة انتاج شيء بعدد النسخ التي نريدها، أمر ممكن مع الأشياء فهي مصنوعة بالآلات، تصنع وتعيد صناعة نفس الشيء بصورة متشابهة ومتطابقة ولكن لا يجب ان نفعل ذلك مع الحيوانات وبالذات أو يحرم تطبيقها على البشر.
< أنت على حق لا أحب ان أرى نسختين من سيلين في صفي، واحدة تكفي.
< هل تتصورين ماذا يعني اننا يمكن ان ننتج البشر مثل «الفوتوكوبي» سنسيطر بذلك على العالم ونقرر ان نضاعف عدد البعض ونصفي أو نبيد أو نستأصل البعض الآخر انه لأمر فظيع.
< هذا يخيفني... حتى أفضل صديقاتي لا أحب أن أراها بنسختين.
< واذا رخصنا أو سمحنا بعملية استنساخ البشر يمكن لأناس أشرار وخطرين ان يستغلوها لمآربهم وغاياتهم الشخصية مثل أخذ السلطة وسحق الضعفاء. لحسن الحظ ان الكائن الانساني فريد من نوعه ولا يمكن اعادة انتاجه بالضبط وبالدقة المتناهية، لأني لا أشبه تماماً جاري ولا أخي التوأم لأننا جميعاً مختلفون بعضنا عن البعض الآخر ويمكننا القول ان الثراء يكمن في الاختلاف.
< اذا كنت قد فهمت حقاً، فان العنصري يخاف من الاجنبي لأنه يجهله ويعتقد بوجود عدد من الأعراق والاجناس ويعتبر جنسه هو الأفضل.
< نعم يا ابنتي، ولكن ليس هذا هو كل شيء نسيت العنف وارادة السيطرة على الآخرين.
< العنصري شخص مخطئ.
< العنصريون واثقون ان الجماعة التي ينتمون اليها ـ التي يمكن ان تعرف أو تتحدد بالدين أو البلد أو اللغة أو كلها معاً ـ متفوقة وأرقى من الجماعات الأخرى المواجهة.
< كيف يفعلون ذلك ليشعروا انهم متفوقين؟
< وذلك عن طريق اعتقادهم وإشاعة الإعتقاد انه بوجود لامساواة طبيعية ذات طابع فيزيائي (أي بوجود مظاهر جسدية مختلفة)، أو ذات طابع ثقافي، ما يمنحهم شعوراً بالتفوق والفوقية بالنسبة للاخرين وكذا يلجأ البعض للدين لتبرير سلوكهم أو مشاعرهم، ينبغي القول ان كل دين يعتقد انه هو الأفضل للجميع وينزع لأن يعلن ان من لا يتبعوه يضلون الطريق.
< كلا، ليست الأديان هي العنصرية، بل ما يصنعه بها البشر أحياناً، الذين يتغذون بالمشاعر العنصرية ويتشربون بها في العام 1095 دعا البابا، ابتداءاً من مدينة كليرمونت فيرو، لشن حرب ضد المسلمين الذين اعتبروا كفاراً وقد غادر آلاف ا لمسيحيين باتجاه بلدان الشرق لذبح العرب والأتراك، وقد جرت تلك الحرب باسم الله واتخذت اسم «الحروب الصليبية» (الصليب رمز المسيحيين، ضد الهلال رمز المسلمين).
وبين القرن التاسع والقرن الخامس عشر طرد مسيحيو اسبانيا المسلمين ومن ثم اليهود متعللين بالأسباب والدواعي الدينية.وهكذا يستند البعض الى الكتب المقدسة لايجاد الذريعة ومن اجل ان يبرروا ميلهم بالقول انهم متفوقون على الآخرين وبذلك كانت الحروب الدينية معتادة، متكررة.
< لكنك قلت يوماً ان القرآن ضد العنصرية؟
< نعم، القرآن مثله بذلك مثل التوراة والانجيل وكل الكتب المقدسة هي ضد العنصرية، القرآن يقول ان البشر متساوون أمام الله وهم يختلفون او يتميزون بدرجة الايمان (لا فرق بين عربي وأعجمي الا بالتقوى) وكتب في التوراة: اذا جاء غريب وأقام معك لا تتكدر أو تنزعج اذ يجب ان يكون بالنسبة لك كأحد مواطنيك وتحبه كما تحب نفسك. اما الانجيل فيشدد على احترام الآخر أي الكائن البشري الآخر سواء أكان جارك أو أخاك أو أحد الغرباء، وقيل في كتاب العهد الجديد: «ان ما أمركم به هو ان تحبوا بعضكم البعض، وان تحب الآخر كما تحب نفسك» وكل الأديان تنادي بالسلام بين البشر.
< واذا كنا لا نؤمن بالله؟ أقول ذلك لأني أتساءل أحياناً حول ما اذا كانت الجنة والنار أو الجحيم موجودتين حقاً؟!
< اذا لم يكن لدينا إيمان فان المتدينين لا ينظرون الينا بعين الرضا والاحترام. وبالنسبة للمتزمتين منهم والأكثر تشدداً وتعصباً من بينهم، نصبح أعداءاً لهم.
< في ذلك اليوم الذي عرض فيه التلفزيون أخبار التفجيرات اتهم أحد الصحافيين الاسلام فهل كان هذا الصحافي عنصري برأيك؟
< كلا ليس عنصرياً بل جاهلاً وغير كفوء فهذا الصحافي يخلط بين الاسلام والسياسة، هناك رجال سياسيون يستخدمون الإسلام في صراعاتهم نسميهم المتطرفين والأصوليين أو المتزمتين.
< انهم عنصريون أيضاً؟
< المتطرفون متعصبون، فالمتعصب هو ذاك الشخص الذي يعتقد انه الوحيد الذي يملك الحقيقة وغالباً ما يسير التعصب والتزمت مع الدين. المتعصبون والمتشددون موجودون في أغلب الأديان، ويعتقدون انهم ملهمون بروح سماوية ومدفوعون بايحاء رباني، إنهم عميان ومتحمسين وانفعاليين ويريدون فرض قناعاتهم وارائهم ومعتقداتهم على الباقين، وهم خطرون لأنهم لا يعطون قيمة لحياة الآخرين، وباسم معتقداتهم هم مستعدون لأن يقتلوا بل ومستعدين لأن يموتوا، الكثيرين منهم مخدوعون يتلاعب بهم زعيم، وهم بالطبع عنصريون.
< كيف هم هؤلاء الناس الذين يصوتون لصالح جون ماري لوبن؟
< يقود لوبن حزباً سياسياً مبنياً على العنصرية أي كره الاجنبي والمهاجر والحقد عليه، كره المسلمين واليهود الخ...
< إنه حزب الحقد والكراهية.
< نعم، ولكن ليس كل من يصوت لصالح لوبن يمكن ان يكون عنصرياً أتساءل أنا نفسي حول ذلك، والا سيكون هناك أكثر من أربع ملايين عنصري في فرنسا وهذا عدد كبير فإما هم مخدوعين، أو لا يريدون رؤية الواقع فبتصويت البعض لصالح لوبن فإنهم يريدون بذلك التعبير عن حالة الحيرة والإضطراب التي يعيشون فيها لكنهم يخطئون في وسيلة التعبير.
< قل لي يا أبي ماذا نفعل حتى لا يكون الناس عنصريون؟
< كما قال الجنرال ديغول «انه لبرنامج واسع» فالحقد أسهل في ترسيخه في الأنفس من الحب، من الأسهل ان نشك ونرتاب، ومن الأسهل ان لا نحب من ان نحب أحداً لا نعرفه، دائماً هذا الميل الغريزي، أي كره الاجنبي الغريزي الذي تحدثنا عنه قبل قليل الذي يعبر عن نفسه بالرفض والانكار.
< ما هو الرفض والانكار؟
< هو ان يغلق المرء الباب والنوافذ تجاه الآخرين، اذا دق الغريب الباب لا يًفتح له، واذا أصر يُفتح له ولكن لا يُسمح له بالدخول، ويُفهم ان من الأفضل له ان يذهب الى مكان آخر، أي يطرد ويعطى
شعورا بأنه غير مرغوب فيه.
< وهذا يولد الحقد؟
< هذا هو الشك أو الإرتياب الطبيعي الذي يوجد لدى البعض تجاه البعض الآخر، الحقد أو الكراهية شعور أخطر وأعمق لأنه ينطوي على نقيضه، أي الحب ويفترض وجوده.
< لا أفهم عن أي حب تتحدث؟
< حب الذات.
< هل يوجد أناس لا يحبون انفسهم؟
< اذا لم نحب ذواتنا لا نحب أحداً آخر وهذا مثل المرض انه شيء بائس. في الغالب يحب العنصري نفسه كثيراً الى درجة مبالغ بها بحيث لم يعد هناك مكان للآخرين من هنا منشأ انانيته.
< اذن العنصري هو الذي لا يحب أحد وهو أناني، انه اذن حزين، لأن هذا شيء لا يحتمل انه الجحيم.
< نعم انه الجحيم.
< في المرة الماضية كنت تتحدث مع عمي وقلت: «الجحيم هو الآخرون» ماذا تقصد بذلك وما معناه؟
< لا علاقة لهذا بالعنصرية انه تعبير نستخدمه عندما نكون مرغمين أو مجبرين على تحمل أناس لا نغرب ان نعيش معهم.
< انه مثل العنصرية.
< لا ليس بالضبط، لأنه ليس المطلوب أو المقصود ان نحب الناس جميعاً، اذا قام أحد، لنفترض انه ابن عمك الصاخب والمشاغب احتل غرفتك ومزق دفاترك ومنعك من اللعب وحدك بعلبك، فأنت لن تكوني عنصرية اذا طردتيه من غرفتك، وبالمقابل اذا جاء رفيق في صفك الدارسي ولنفترض انه المالي عبدو الى غرفتك وتصرف بكل أدب ولياقة ومع ذلك تطرديه من غرفتك لسبب واحد انه أسود البشرة هنا تكونين عنصرية في سلوكك هل فهمت؟
< نعم ولكن عبارة «الجحيم هو الآخرون» لم أفهمها جيداً.
< هذه جملة مأخوذة من مسرحية لجان بول سارتر تسمى «جلسة سرية» ثلاث شخصيات تتواجد في غرفة جميلة بعد موتها ولأجل غير مسمى أي الى ما لانهاية. عليهم ان يعيشوا معاً، محكوم عليهم بالعيش سوية الى الأبد ولا توجد لديهم أي وسيلة للهرب من هذا الوضع، هذا هو الجحيم ومن هنا جاء تعبير «الجحيم هم الآخرون».
< هذا ليس عنصرية فمن حقي ان لا أحب كل الناس، ولكن كيف تعرف بأن ما نفعله ليس عنصرية؟
< لا يمكن للانسان ان يحب الناس جميعاً واذا كان مرغماً على العيش مع أناس لم يخترهم سيعيش الجحيم ويجد عندهم كافة الأخطاء والمساوئ مما سيقربه من العنصرية، ولتبرير اشمئزازه وتقززه يتحجج العنصري ويستند الى طباع وصفات فيزيائية ويقول: لا أحتمل هذا الشخص من الناس لأنه أنفه أفطس أو مقوس أو منحني أو مدبب أو لأن شعره أجعد أو لأن عينيه غائرتين أو مغوليتين الخ... هذا ما يفكر به العنصري في أعماقه: «مهما يكن من أمر معرفتي بالنواقص والمساوئ أو المزايا والخصائص الفردية لشخص ما، يكفيني ان أعرف انه ينتمي لمجموعة معينة حتى أرفضه وأنكره» .
ويستند العنصري الى خواص وصفات وملامح فيزيائية ونفسية أو سيكولوجية لتبرير رفضه لهذا الشخص.
< أعطني أمثلة على ذلك؟
< يشاع ان السود ذوي بنية متينة ولكنهم كسالى، نهمين وقذرين أو غير نظيفين، ويشاع ان الصينيين «صغار وأنانيين وقساة» ويشاع ان العرب «مخادعين وماكرين ومنافقين وعدوانيين وخونة» وتتردد أمثال من نوع «هذا عمل عرب» لوصف عمل غير مكتمل ومرتج أو ناقص، ويقال على الأتراك انهم أقوياء وقساة ويُلبس اليهود أسوء الصفات والنواقص الفيزيائية والأخلاقية في محاولة لتبرير مضايقتهم ومعاملتهم معاملة سيئة... الأمثلة كثيرة جداً السود يقولون عن البيض ان لديهم روائح غريبة والعكس صحيح، والآسيويين يقولون ان السود بدائيين أو متوحشين الخ يجب استبعاد هذه المفردات الجاهزة من تعابيرك من أميال «رأس تركي» للدلالة على العند والجمود أو «عمل عربي» للدلالة على النقص وعدم الجودة والجدية، «ضحكة صفراء» للدلالة على اللؤم والضغينة، «يكد كالزنجي» الخ انها سخافات يجب محاربتها ومكافحتها.
< أولاً تعلم الاحترام، فالاحترام أمر أساسي، حتى ان الناس لا يطالبون ان نحبهم بل يريدون ان نحترمهم في حدود كرامتهم ككائنات بشرية. الاحترام هو ان يكون لديك تقدير واعتبار للآخر. ومعرفة الاستماع. الاجنبي لا يطالب بالحب والصداقة، بل بالاحترام. الحب والصداقة يمكن ان يولدا فيما بعد عندما نعرف بعضنا البعض بشكل أفضل ونقدر بعضنا البعض بشكل أفضل، ولكن في البداية لا ينبغي ان نكون حكماً مقرراً بصورة مسبقة بعبارة اخرى لا يجب ان تكون لدينا أحكام مسبقة. والحال ان العنصرية تنمو وتتطور بفضل أفكار جاهزة عن الشعوب وثقافاتها، أعطيك أمثلة أخرى من هذه التعميمات الحمقاء: الاسكوتلنديين بخلاء، البلجيكيين ليسوا أذكياء، الغجر لصوص، الآسيويينت مراءين ماكرين وذو وجهين... الخ، فكل تعميم غبي ومصدر للخطأ والضلال. لذلك لا يجب ان نقول أبداً «ان العرب هم كذا وكذا» العنصري هو الذي يعمم انطلاقاً من حالة خاصة. فاذا تعرض للسرقة على يد أحد العرب يستنتج من ذلك ان كل العرب لصوص، فاحترام الآخر هو الاهتمام بالعدالة.
< ولكن يمكن ان نسرد نكات بليجيكية دون ان نكون عنصريين؟
< اذا أردت الاستهزاء بالآخرين فعليك أولاً ان تضحكي على نفسك وتستهزئي بها والا فلن نكون من أصحاب المزاح، فالمزاح قوة.
< ما هو المزاح هل هو الضحك؟
< ان يكون لدى المرء حس بالمزاح هو ان يعرف كيف يمزح وان لا يأخذ الأمور دائماً بجدية، وان يستخرج من أي شيء جانبه الذي يقود الى الضحك والابتسامة، قال أحد الشعراء «ان المزاح هو أدب اليأس».
< هل لدى العنصريين حس بالدعابة أو المزاج humeur، أقصد بالمزاح humour؟
< انها هفوة أو زلة لسان ظريفة، كلا ليس لدى العنصريين حس بالمزاحا اما مزاجهم فهو غالباً ما يكون شرير، فهم لا يعرفون الا بصورة بذيئة وشريرة على الآخرين. وذلك باظهار نواقصهم ومساوئهم كما لو انهم خالين من الهفوات والنواقص والمساوئ. عندما يضحك العنصري فذلك من اجل ان يظهر تفوقه المزعوم، ولكن ما يظهره في الحقيقة،، هو جهله ومستواه المتدني ودرجة حماقته أو رغبته في الايذاء والاضرار، ولذكر الآخرين والاشارة اليهم يستخدم مفاهيم وعبارات ومصطلحات بشعة وقبيحة وشنيعة أو شائنة ومهينة .
تشخيص فرانز فانون(6)
لم يصف فرانز فانون العنف. فانون قام بتشخيصه.
كشاب نما بتورنتو في الثمانينات، اعتبرت دار كتب العالم الثالث بميدان القديس باتهيرست مزارا مقدسا احج اليه اسبوعيا.
في سنوات التشكيل هذه، كنت، مثلي كمثل شباب وشابات اخرين من الرواد المترددين على هذه الدار، منفتحين على كتاب ومفكرين - اودر لورد، كلود ماككاي، بل هوكس، مالكوم اكس، انجيلا ديفيز، شيخ انتا ديوب، سي ال ار جيمس – وعلى تشكيلة من الافكار مثل: فكرة الوحدة الافريفية، الاشتراكية، العالم ثالثية، مناهضة الامبريالية. دار نشر العالم الثالث كانت مكانا للجدل الحي واحيانا الجدل الساخن. كنا نتصور عالما جديدا ونشكله بانفسنا، وادواتنا لذلك كانت الكتب التي باركت ارفف الدار.
لشدة الحزن، لم تعد الدار موجودة. تبخرت مع ليونارد جونستون، او ليني، كما كنا نناديه بحرارة، الذي كان مع زوجته جويندولاين، ليس فقط مالك للدار ولكن ايضا قلب وعقل تلك المؤسسة المرموقة.
لقد كان ليني هو اول من عرفني بكتاب فرانز فانون معذبو الارض. طبيب نفساني من المارتينيك كتب الكتاب حرفيا وهو على سرير الموت معانيا من سرطان الدم. في ذلك الوقت، كان فرانز فانون منخرطا بشكل نشط في حرب تحرير الجزائر، يعمل كسفير جبهة التحرير الوطني في غانا. جبهة التحرير الوطنية تلك كانت المفرزة الامامية لحرب العصابات الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي. اكتسب فانون احترام جبهة التحرير اثناء منصبه كرئيس طبي لمنطقة بليدة - مستشفى جوانفيل في الجزائر اواسط الخمسينات. غامر فانون بحياته عن طريق تنديده العلني بفظائع الاستعمار الفرنسي في الجزائر والطريقة التي عامل بها المستعمرون فدائيي جبهة التحرير الذين خضعوا للتعذيب.
بالعودة الى الوراء، يبدو مصير فانون كما لو كان مرتبطا بالجزائر من البداية. كطالب طب متخصص في العلاج النفسي بفرنسا في الخمسينات، كان فانون يعالج الجزائريين الفقراء، مما ادى به الى التعليق الساخر التالي، "لو كان مستوى المعيشة المتاح للافريقيين الشماليين في فرنسا اعلى مما كان هذا الافريقي معتادا عليه في بلاده الاصلية، لكان هناك مجهودا طيبا يمكن عمله في بلاده، في فرنسا الاخرى تلك".
ايضا تلقى فانون تدريبا قتاليا في الجزائر كجندي في الجيش الفرنسي اثناء الحرب العالمية الثانية. لقد كانت زيارته الاولى للجزائر حينما التقى فانون بفيروس العنصرية الذي تحاشاه في المارتينيك. عزلت كتائب الفرنسيين البيض عن كتائب الهنود الغربيين السود، المفترض انهم مواطنون فرنسيون. عزل الجنود الافارقة السود عن القوات الفرنسية، كما عزل الافارقة العرب، الذين كان يسخر منهم الفرنسيين ويعاملونهم كما لو كانوا مواطنين درجة ثانية على تراب ارضهم نفسه. عاش فانون هذه التجربة في نفس اللحظة التي بدأ فيها الجيش الفرنسي مواجهة الفاشية الالمانية، بافكارها عن النقاء العرقي. لم تضع منه المفارقة الساخرة لهذه الحالة.
دون شك شكلت الحرب فهم فانون للعنف. دخل فانون الحرب كمراهق؛ خدمت المذابح التي لا تنتهي كمطهره نحو البلوغ والنضج. لقد هزته بشدة حتى النخاع وطهرته من المثالية التي كان يعتنقها عندما التحق بقوات فرنسا الحرة.
مس العنف فانون بعمق في لحظة فاصلة من حياته. لذا لم يكن مدهشا ان يتخذه موضوعا في كتاباته. منذ كتابه المعذبون في الارض المنشور عام ١٩٦١، كان فانون يحتل مكانا في مركز عاصفة من الجدل، معظمه قام على الفصل الاول من الكتاب المعنون "عن العنف".
جانب من المشكلة يقع في حقيقة ان القراءة الحرفية لفانون تتم حين، كما يقول استاذ جامعة يورك اتو سيكياي-اتو واخرون يقولون، يجب ان تكون القراءة، على الاقل في جانب منها، قراءة بطريقة ادبية. نثر فانون الحي والدرامي كان متأثرا بالاسلوب الادبي للشاعر ورجل الدولة المارتينيكي ايميه سيسير. اندريه بريتون الشاعر السريالي الفرنسي وصف قصيدة سيسير عام ١٩٣٩ "العودة الى بلادي الاصلية" على انها "ليست اقل من اعظم الاثار الغنائية لكل العصور". في القصيدة، يعلن سيسير:
زنجيتي ليست حجرا، صممه تدحرج ضد
صخب اليوم
زنجيتي ليست بقعة عمياء في المياه الميتة
في العين الميتة للارض
زنجيتي ليست برجا ولا كاتدرائية
انها تنط حية داخل لحم التراب
انها تنط حية داخل لحم السماء
انها تخرق الخضوع المصمت بصبرها المعتد
كان سيسير مدرسا لفانون في مدرسة الليسيه سكيولشر في المارتينيك، وترك استخدامه المشحون بالمشاعر للغة الفرنسية اثرا باقيا على طالبه. في اوقات بدا ان فانون يصوغ عبارة عندما كان في الواقع الفعلي يصف حالة، كما هي موجودة عليه فعلا، او يصوغ نداءا دراميا، فقط ليتراجع عنه في قسم اخر، كما لو كان يكتب مشاهدا في مسرحية.
في العمود المكتوب في فبراير ٢٠٠٢ بالناشيونال بوست، "فرانز فانون: مفكر مسموم يرفض ان يموت"، ادعى الكاتب روبرت فولفورد "انه فانون الذي جلب الى الثقافة المعاصرة فكرة ان العنف يمكنه شفاء الذين جرحت ارواحهم"، وان فانون "قدم حجة ان العنف كان ضروريا لشعوب العالم الثالث ليس فقط كطريق للفوز بحريتهم ولكن حتى اكثر من ذلك، لان العنف سوف يعالج عقدة الدونية التي خلقتها لديهم تعاليم الرجل الابيض".
واخبرنا فولفورد ايضا ان المعذبون في الارض "ستة طبعات بالعربية"، يدس كالفضيحة علاقة بين العروبة والعنف. ضل فولفورد طريقه بشكل اخرق، ان لم يكن بسوء نية. انه يعمل على ديمومة صورة فانون كأحد حواريي العنف. ولكن وضع فانون كعنوان على انه نبي للعنف هو امر مضلل تماما ومساو لوضع فولفورد كأحد انصار السلام.
كثير من الضجة تنبع من فقرات مثل الفقرات التالية: "على مستوى الافراد، العنف هو قوة مطهرة. انها تحرر السكان الاصليين من عقدة الدونية ومن اليأس ومن الشلل". القراءة السريعة، تبدو الفقرة انها ترويج للعنف كانطلاق من اسر الكبت. ولكن القراءة المتأنية، لغة فانون نوعية جدا. كلمات "على مستوى الافراد" كلمات حاسمة: يشاركنا فانون ملاحظاته الاولية كمعالج نفساني. انه يعالج المرضى الجزائريين المنخرطين في صراع حياة او موت ضد المستوطنين الفرنسيين الذين قتلوا الرجل والمرأة الجزائرية ووذبحوهم ببربرية وعذبوهم. للبعض منهم، العنف هو عمل تطهري. في ظل هذه الظروف، هل ندهش من ان قوات البوليس او اي مؤسسة رسمية اخرى، في غياب قضاء غير منحاز، على استعداد للدفاع عن حقوق الجزائريين اذا ما قرر بعضا منهم ان يأخذوا الامور بأيديهم؟
في فصل من كتاب المعذبون في الارض بعنوان "الحرب الاستعمارية والخلل العقلي"، وصف فانون سلسلة من الحالات المرضية. احد هذه الحالات يتضمن اخوين جزائريين قتلا صديقهما الاوروبي. لقد فقد الاخوان كامل اعضاء عائلتهم على ايدي الفرنسيين ويبدو انهما قتلا الصديق ببساطة لانه كان فرنسيا. من الطبيعي ان فانون لا يتواطأ مع هذا القتل التعسفي الذي قام به الاخوان. ولكنه كمعالج نفساني، يسعى فانون لفهم السبب وراء ما فعله الاثنان. وقد خلص فانون الى انه ليس عديد من مرضاه الاخرين، اصيب الاخوان "بظاهرة مرضية نفسية سببت خللا" متصل مباشرة بوضعهم كسكان مستعمرات. بكلمات اخرى، العنف العشوائي ليس سلوكا طبيعيا. فانون لا يكتب العنف روشتة للعلاج. انه يشخصه ويسعى لتفسيره.
يخاف فانون خوفا شديدا من التصرفات العنيفة، ورغم تدريبه الطبي، يقال ان لديه هلعا قويا من منظر الدم. ومع ذلك لا يمكنه تجاهل الحقيقة الجزائرية، او حقيقة اي مجتمع اخر حيث يستخدم المستعمر العنف لاخضاع وفهر فرص الحياة عند هؤلاء الذين يستعمرهم. انه لامر محير كيف ان مثل هذه السمة المشتركة للمجتمع المستعمر هي محل هذا الجدل الحاد. العنف والاستعمار يمضيان معا يدا بيد. لا يستخدم العنف فقط لاخضاع الشعوب المستعمرة؛ العنف يقوم بترويض شروط وجودهم ذاته لانه يظل محتفظا به كاحتياطي، حين "يخرج السكان الاصليون عن السيطرة".
وبالضبط كما استخدم الامريكيون المدافع والبارود لطرد قيود الاستعمار البريطاني، يحتفظ ايضا المعذبون في الارض هؤلاء بنفس الحق عندما تنسد امامهم دروب الحرية الاخرى. هذا ما كان يعنيه فانون عندما كتب "ممارسات العنف عند المستعمر... خطته للتحرر". دائما ما يكون السياق مهما. من يسأل اليوم عما اذا كان الفيتناميون لديهم المبرر في حمل السلاح واستخدام العنف في وجه الولايات المتحدة التي امطرت قراهم بالقنابل، وقتلت وذبحت عشرات الالاف من المدنيين الابرياء؟
ولكن هناك سببا اخر لقراءة فانون بعناية. معظم العنف الذي يصفه فانون في كتابه المعذبون في الارض هو عنف الاقتتال الاخوي - الجزائريون يطلقون الكرب المدفون والكبت ضد احدهم الاخر، ويعود ذلك بشكل واسع الى انهم يشعرون بالعجز وقلة الحيلة لاطلاق معاناتهم نحو ظالميهم. في اوقات تصدر عنف "الاسود ضد الاسود" عناوين الجرائد بانتظام (هل توجد جرائم عنف ابيض ضد ابيض؟)، يذكرنا فانون ان الاغتراب والفقر والتهميش هم المسئولون عن العديد من الامراض الاجتماعية والنفسية في زماننا. وبينما هو امر مخل ومدرسي تماما ان نعزو علاقة سببية لكل المشاكل الاجتماعية، دون شك ان الاقتتال الاخوي الذي استمر في حصد عديد من الارواح في امريكا الشمالية واوروبا يتصل مباشرة بنسبة البطالة العالية وتناقص فرص العيش الكريم، والاحساس العميق بالغربة الاجتماعية التي يشعر بها كثير من الشباب.
هذه الصورة واضحة بشكل كاف في المراكز المتروبوليتانية مثل تورنتو ومونتريال، او مدن مثل لندن وجلاسكو. حفلات العنف الوحشية في سكوتلاندا "حفلات السيوف والخناجر" بين العصابات المتصارعة للشباب البيض ادت مؤخرا بالامم المتحدة الى اعتبار اسكوتلاندا أكثر البلاد عنفا في العالم "المتقدم". انها ايضا واحدة من افقر البلاد الاوروبية: ربع اطفال اسكتلندا يعيشون في فقر ويعتمدون على المساعدات الحكومية.
يعتقد فولفورد ان فانون "يتراجع في التاريخ"، ولكنه هذه النقطة لا تنطق عن الحق. يستمر ذكر فانون مع المضطهدين والمحرومين في العالم. لقد اصبح موضوعا لفيلمين على الاقل، وفيلم اخر على وشك الصدور من شركة داني جلوفر، لوفرتير فيلم. افكاره تدرس في اقسام الفلسفة والعلوم السياسية، وبرامج الدراسات الثقافية وما بعد الاستعمار، في كل انحاء العالم. تأثير فانون في مجال الطب النفسي وعلم النفس يتنامى، وينبئنا الفيض المتدفق من السير الذاتية لفانون وتأريخه انه بالرغم من الأثر الهائل لكتاباته في الستينات والسبعينات، فقد بدأنا الان توا في فهم عمق واتساع افكاره.
عندما يفترض فولفورد ان افكار فانون تتحاشى الموت بعناد، فهو على حق. مثل الجرح النازف الذي يرفض الالتئام، فالمظالم التي يدينها ويرفضها فانون بقوة وحيوية ما زالت معنا حتى اليوم. مثل ليني، الذي لعب دورا في مسح الضباب من امام اعيننا، شبح فانون ما زال يحوم حولنا، ليس على شكل رؤية شيطانية ولكن كشبح ما زال يتحدانا حتى نضع صورة لعالم افضل ممكن، وان ننذر انفسنا بشكل ملموس لنأتي بهذا العالم الى الدنيا الحقيقية.
ملاحظات عن الشخصية في بلاد الرافدين(7)
الشخصية البشرية غالبا ما تشير إلى نمط ثابت من الوعي والإدراك والفهم والتفكير والتفاعل تجاه الذات والمحيط يمكن ملاحظته في مواقف اجتماعية وفردية مختلفة. واستجابة الشخصية بمجملها ثابتة إزاء المواقف التي تمر بها, وأسلوبها مبني على قوالب منغرسة ومتمكنة في الأعماق, ومن الصعب أن تخرج الشخصية منها. أي أنها تسيرعلى سكة معينة ذات اتجاه محدد في تفاعلاتها, ولهذا يمكننا أن نتنبأ بالاستجابات السلوكية للشخصية بعد معرفة مواصفاتها التفاعلية مع المحيط والذات. وعندما تكون الشخصية البشرية طبيعية فأنها تبدو قابلة للمرونة والتكييف والتفاعل الصحيح مع المحيط الذي تتحرك فيه ومع ذاتها والمتغيرات المتجددة حولها.
والشخصية قد تصاب باضطرابات تؤدي إلى إضعاف أو إعاقة قدراتها على المرونة والتكيف مع المحيط الذي هي فيه, وتفاعلاتها ذات تأثيرات سلبية عليها وعلى وسطها, وعادة يكون الاضطراب منغرسا في أعماقها ويؤثر تأثيرا قاسيا على أطراف التفاعل. أي أن الشخصية قد تكون سوية أو مضطربة. والشخصية السوية هي الغالبة في أي مجتمع بشري. أما الشخصية المضطربة فأنها ذات نسبة معينة قد تتسبب بأضرار اجتماعية تتناسب وموقعها ودورها في المجتمع.
الشخصية بصورة عامة وجود معقد وصيرورتها تتأثر بعوامل متعدد منها وراثية ومنها محيطية والتفاعل بين الذات والمحيط يحدد أنماط الشخصية ويرسم سلوكياتها واستجاباتها. وقد حاول الكثير من العلماء في القرن الماضي التوصل إلى نظرية لتفسير السلوك البشري الناجم عن تفاعل الشخصية مع المحيط لكنهم لم يتمكنوا من الإمساك بمنطق شامل, وإنما استطاع كل منهم أن يضيف شيئا قليلا في محاولته لسبر أغوارهما. والكثير من الافتراضات التي ظهرت في بداية القرن الماضي لم تتمكن من الصمود أمام المقاييس والمعايير العلمية الحديثة التي تبحث عن الحقيقة العلمية وليس عن الرؤى والتصورات والتقديرات الخالية من ضوابط البحث العلمي الدقيق.
وقد درس علماء النفس والطب النفسي الشخصية البشرية وبرعت في ذلك مدارس التحليل النفسي منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين. وظهرت مدارس ونظريات ومحاولات جادة وعلى مختلف الأصعدة وجميعها قد أعطت بعضا مما يفيدنا في محاولة الفهم والدراسة. لكن أيا منها لم تتمكن أن تعطي الإجابة الوافية والمطلقة. وفي العقود الأخيرة برعت المدرسة الذهنية وخضعت للعديد من البحوث والدراسات الرصينة التي تفيد بربط السلوك بالفكرة التي تتمكن من الدماغ وتتسيد عليه. وأصبح من الواضح أن السلوك له علاقة متينة بما نفكر به ونراه ونعتقده. وتعددت الدراسات وتعمقت وأظهرت التأثير المعقد ما بين المحيط القائم والحي الذي يتفاعل معه وأن الظروف المحيطية تحقق تغيرات تؤدي إلى إنتاج بروتينات تؤثر على التفاهم ما بين العصيبات الدماغية وطريقة توليدها للاستجابات السلوكية والمعرفية. وقد اثبت ذلك الدكتور أرك كانديل وحصل على جائزة نوبل لاكتشافه سرا من أسرار التفاعل ما بين الذات والموضوع وكيف يحقق كل منهما تأثيراته البيولوجية والسلوكية على الآخر مما عزز دور العلاجات النفسية وأعطى دورا أكبر للذاكرة في تقدير توجهات السلوك ورسم حدود الشخصية.
وفي كل المحاولات والدراسات العلمية لا زالت هناك صعوبة في فهم الشخصية البشرية وإخضاعها للدراسة العلمية الدقيقة والمحكمة. وكلما ازددنا معرفة بعلوم الدماغ كلما استطعنا أن نفهم شيئا جديدا عن الشخصية والسلوك البشري يضع ما نعرفه على المحك ويدفعنا إلى مراجعة وتمحيص ما نراه ونعتقده.
وفي بداية القرن العشرين تسيدت مدرسة التحليل النفسي بقيادة فرويد ومَن انشق عنها من مدارس في التحليل والرأي في نظرتها للشخصية. ففرويد مثلا يرى أن ملامح الشخصية هي نتاج الثبات أو التوقف عند مرحلة من مراحل التطور النفسجنسي وأكد على الأنا والأنا العليا والسفلى.
ورايخ يرى أنها ناجمة عن نمط معين من الآليات الدفاعية ( وهي عمليات لا واعية يستخدمها الأنا لحل الصراع القائم) ويتعود على دوام استخدامها. وعندما تكون الشخصية سوية فأن الآليات الدفاعية تكون مرنة وقادرة على التكيف المحيطي والذاتي. بينما تفقد مرونتها وقدراتها التكيفية في الشخصية المضطربة مما يتسبب في إعاقات وظيفية متنوعة وعلى جميع المستويات. ومن خلال معرفة الآليات الدفاعية من الممكن فهم الشخصية والسلوك الناجم عن تفاعلاتها وتوقع ما ستقوم به.
وأدلر الذي اختلف مع فرويد واعتبره قد أعطى قيمة أكثر مما يجب لدور الجنس في الشخصية والسلوك العصابي, يعتقد أن الغضب أو العدوان aggression أكثر أهمية في تحديد معالم الشخصية والسلوك, كما أنه أكد على عقدة الدونية Inferiority complex في تحديد معايير السلوك والشخصية البشرية, وعلى الدونية العضوية Organ Inferiority .
بينما جوردن اليورت يرى أن كل شخص يمتلك قابليات موروثة لسلوكه ونموه, ويعتقد أن السلوك ناجم عن الفشل في تلقي الحب والحنان الكافي من الأم أثناء الطفولة مما يحدو بالفرد أن يبحث باستمرار عن إرضاء هذه الحاجة. أما أرك بيرن فيرى أن المنبه الصادر من الشخص يولد استجابة ما عند الشخص الآخر, ويفترض أنها لعبة نفسية سلوكية ما بين المتفاعلين ذات قدرة تعميمية وانعكاسية ثابتة ويمضي على مدى الحياة ويرى الأنا على أنها طفل وبالغ وأبوين.
أما يونغ الذي أكد على اللاوعي الجمعي والذي يمكن أن يفسر الشخصية بوضوح أكبر, فنتجاهله تماما. وكذلك سكنر ونظريته في التعلم والتي أثرت كثيرا في معارفنا عن السلوك البشري وتحديد استجابات الشخصية لما يحيطها. وهناك العديد من العلماء الآخرين الذين أفنوا أعمارهم لتسليط الضوء على جانب ما من شخصيتنا. ويبدو أننا نهملهم جميعا ونتمسك بنظرية التحليل النفسي التي أصبح معظمها في رفوف الماضي وما عاد لها الدور الكبير في فهم السلوك ودراسة الشخصية وترفض تجاوزها إلى محطات التطور العلمي الجديدة.
السادية والماسوشية من المصطلحات القديمة في أدب التحليل النفسي وقد كتب عنهما الكثير جدا في النصف الأول من القرن العشرين. فالسادية هي اضطراب سلوكي يصيب الشخصية ويبدأ في سن مبكرة من العمر. وهو نمط سلوكي عدواني وحشي وقاسي ويمتلك قدرة عالية على إحباط الآخر. والقسوة والعنف فيه من أجل الإيلام وحسب وليس لهدف آخر. والسادي يمتهن ويهين الآخر أمام الآخرين ويكون تفاعله مع غيره وخصوصا الأطفال بقسوة بالغة, ويكون ميالا ومغرما بالعنف والسلاح والإضرار والتعذيب. ويكون صاحب رغبة نزقة لإيلام الآخرين بواسطة التعسف الجسمي والنفسي والفكري. وقد أطلقت كلمة سادي بعد الكاتب ماركوس دي ساد في القرن الثامن عشر والذي وصف أشخاصا يتلذذون جنسيا وهم يؤذون الآخرين. ويُعتقد أنها ناجمة عن عقدة الإخصاء , وهؤلاء يحققون اللذة الجنسية فقط بواسطة فعل ما يخافون أن يُفعل بهم من قبل الآخرين.
والماسوشية مشتقة من اسم الروائي الألماني في القرن التاسع عشر ليويولد فون سجر-ماسوش وتعني تحقيق الإرضاء الجنسي بواسطة إيلام الذات. ويُعتقد أن الماسوشيي قد فقد قابلية تحقيق رغباته الجنسية إلى ذروتها أو بلوغ ذروة الإشباع الجنسي بسبب القلق ومشاعر تأنيب الضمير عن الجنس, ويمكنه أن يتخلص منها بواسطة العناء ومعاقبة النفس. وفي الغالب يكون الشخص مصابا بالإضطرابين معا أي ساديماسوشي. هذا وفقا لرؤية مدارس التحليل النفسي التي نقيم عندها.
إن تعميم اضطراب الشخصية على مجموعة بشرية ما, مهما كانت, من الصعب أن يكون طرحا علميا موفقا أو بحثا جادا, وإنما محاولة لتطبيق تعريفات محددة ذات خصوصية معلومة على مجتمع بأسره دون أسباب كافية. كما أن تفسير ما يجري على أنه سلوك الإيلام اللذيذ للذات والآخر وحسب, قد يجرد الأحداث من أهدافها ويسجنها في الذات الفردية ويبرئ الذين يشاركون وبقسوة فائقة في تحقيق المشاريع اللامرئية, والتي يتم الوصول إليها وفق برامج وخطط وآليات سلوكية معقدة جدا وفي غاية الدقة والخداع والتشويش والتضليل والتمويه والخلط المنظم, الذي يحول الضحية إلى جلاد ويستثمر كل طاقات الهدف من أجل الوصول إلى مبتغاه. فالعنف الذي يكون مصحوبا بهدف غير اللذة لا يمكن أن يكون ساديا وإنما هو شيء آخر وآخر كبير.
ولكي نكون منصفين وموضوعين من الأفضل أن نستند على دراسات وبحوث رصينة ونظريات ذات قيمة تعيننا على فهم أنفسنا. ولنتساءل ماذا سيحصل لمجموعة بشرية ما في مدينة متحضرة في العالم لو انقطعت عنها الكهرباء لمدة شهر وتوقف النقل وشح الماء وعز الطعام والفرصة لتحصيل لقمة العيش ومنع الأطفال من الذهاب إلى المدرسة خوفا من اللاعودة. وشاعت البطالة وفقدت الدولة سيطرتها و تجولت الدبابات والمدرعات في شوارعها وحلقت المروحيات فوق الرؤوس وضاع الأمان وعم كل ما هو مرعب ومخيف وأصبحت مدينتهم عبارة عن ثكنة عسكرية أو ساحة لمعارك لا تنتهي. كيف سيتصرف أبناء أية مدينة على وجه الأرض تحت هذه الظروف وما هي التأثيرات النفسية الناجمة عن كل ذلك. سؤال بحاجة لجواب واضح ومستند على دراسات وبحوث ومقارنات .
إن السلوك البشري هو ابن الظروف المحيطة المتفاعلة مع الشخصية على جميع مستوياتها وكياناتها الاجتماعية. ومن العسير تجريد الشخصية من التأثيرات الخارجية والجزم بالحكم عليها من غير موازنة دقيقة وجادة ما بين الذات والموضوع. والمجتمعات البشرية مثل الماء الجاري, فماذا سيحصل لو حولنا الماء الجاري إلى بركة أو مستنقع.
إن قدرة الشخصية العراقية على التحمل والعيش في الظرف الاستثنائية الخيالية بالنسبة لبشر الدول المتطور, يؤكد على أنها سوية بمرونتها وقدراتها الإبتكارية على التكيف لظروفها المحيطية القاسية. وهي تعطي الدليل القاطع على أن وصفها بالانحراف والاضطراب غير صحيح.
ويبدو أن معظم الكتابات التي تتناول الشخصية العراقية متأثرة بدرجات متباينة بكتابات الدكتور علي الوردي رحمه الله في حقل علم الاجتماع والذي حاول وفقا لرؤاه أن يفسر السلوك العراقي ويطرح منطقا لفهمه, وليس كل ما ذكره بخصوص الشخصية العراقية يمكن أن يكون قانونا وحجة ومعيارا وإنما محاولات وافتراضات تفسيرية نابعة من الملاحظة العلمية الدقيقة والمنهج الذي بنى عليه كتاباته بهذا الخصوص.
أن الموروث الحضاري الغائر في القدم له تأثير على الشخصية العراقية إضافة إلى أن أول الحضارات قد ولدت على أرض الرافدين جعلت من الشخصية العراقية تتصرف كما يتصرف الابن البكر في العائلة. ونحن نغيّب الكرسي في سلوكنا وهو صاحب الدور الأكبر في تشكيل مفردات السلوك العراقي.
ويمكننا أن نرى الكثير من الدلالات والسلوكيات المتشابهة في حضارات وادي الرافدين. وحبذا لو استطعنا القيام بدراسات عن الشخصية في الحضارات الأربعة الأولى التي قامت على أرض الرافدين لأنها ستغنينا كثيرا وتوسع آفاق تفكيرنا وتدفعنا إلى مجاورة الموضوعية والعلمية أكثر منا على مجاورة الافتراضات والاستنتاجات الأخرى.
إن ملامح الشخصية العراقية قديمة ومتنوعة بقدر تنوع التأريخ وما جرى على أرضنا من أحداث وتغيرات قد أثرت على التركيبة الخاصة للشخصية وأملت عليها سلوكيات تحقق لها القدرة على البقاء والتواصل والإبداع والصيرورة برغم كل الصعوبات. كما أن للنهرين دور كبير في تشكيلها وكذلك النخلة والآثار ساهمت في بناء معالم شخصيتنا وسلوكياتنا المتميزة. ودور الأشهاد الأخرى ومعالم الثقافة والثورات الحضارية على مختلف مستوياتها وإقامة رموزها في العراق. وكذلك تواجد قبورهم وانتشار الأضرحة ومعالم الدين الإسلامي المتنوعة الأخرى, كلها طبعت الشخصية العراقية بسماتها وبدرجات متفاوتة. البيئة والأحداث والجينات الموروثة والتأريخ والحروب وأنظمة الحكم جميعها لها دور في تشكيل الشخصية وهناك عوامل أخرى عديدة قد ساهمت في تحديد ملامح شخصيتنا السوية.
ولا يتفق مع ما سبق ما نقرأه عن الشخصية العراقية من الإمعان بنعتها بالأوصاف والمسميات العديدة. وأن يكون كل ما يتعلق بها عبارة عن موجودات متناثرة بلا كيان ولا ترتبط ببعضها, وما تساءلنا هل أن مثل هذا قائم في شعوب الأرض الأخرى. فظهرت كتابات عن الشخصية الشيعية والسنية والكردية والتركمانية وربما سنقرأ عن الشخصية الكظماوية والعظماوية والكرادية والصدرية والمأمونية والمنصورية واليرموكية والشخصية النجفية والكربلائية والحلاوية والبصراوية وتتشعب المسميات والتوصيفات لتصل إلى شخصية الشارع والمحلة والبيت وأفراد العائلة الواحدة ونمضي بتقطيع وجودنا بكل ما فيه وكأنه شاة ملقاة على مسلخ الجزارين.
وكأن الإنسان كما يراد له أن يكون متنافرا وممزقا إربا, ولابد من تسميته بأسماء أخرى تخرجه من منظومته البشرية والوطنية والإنسانية. ووفقا لهذا التقطيع الفكري والتدمير النفسي وعن غير قصد نمعن بالقسوة على النفس والروح والعقل والوطن كالضحايا التي عليها أن تعبر عن نفسها بكل ما تنتجه من فعل وقول وبحبر اليأس والإحباط اللذيذ.
نقرأ عن الشخصية وكأنها خيمة يمكننا أن نصفها ونحسب أوتادها وأعمدتها وكيف تتفاعل مع الرياح التي تهب عليها بين الحين والآخر ولا نجرؤ على الدخول فيها ومعرفة حقيقة ما يحصل تحتها بل نتخيله كأننا عشناه, ونحسبها موضوعا سهلا يمكن تناوله دون إسناد علمي وبحثي يأتي بنتائج ذات قيمة معرفية مفيدة, و نقفز إلى استنتاجات وافتراضات ونعدها نظريات. وقد يكون ما نذهب إليه قريبا من الصواب فقط من زاوية نظرنا التي نقترب بها منه لنفسره ونحاول فهمه.
وختاما, لنثمن جهود الأخوة الذين تكلفوا العناء في البحث في هذا الموضوع الشائك ونشد على أيديهم جميعا, ونشجعهم, ولنتفاعل بصدر رحب من أجل أن نتعلم من بعضنا ونساهم في تحقيق ما يفيدنا. وكل الكتابات إنما هي محاولات وخطوات تدفعنا إلى اكتشاف أنفسنا والوصول إلى حل معاصر لمشاكلنا ولن يتحقق ذلك من دون تبادل الآراء وتفاعلها بروح رياضية معاصرة ذات قيمة حضارية متطورة. وأنه لمن الشجاعة والمغامرة أن يخوض الكاتب في الشخصية ويحاول أن يفسر السلوك الاجتماعي ولا عيب في الأخطاء فالمهم المحاولة لأن دراسة الشخصية أعيت جهابذة العلوم والدراسات النفسية وما تمكن أحد منهم أن يقول أنا صاحب الحقيقة وسر المعرفة في فهم الإنسان معجزة الخالق في الأرض. ولتتواصل كتاباتنا وبحوثنا ومراجعاتنا لشخصيتنا.
وما أوتيتم من العلم إلا قليلا. وقل ربي زدني علما.
الآلية النفسية والعقلية التي تحكم الذات العربية المجروحة(8)
هذا الشعور بالنقص يدفعنا إلى الطعن في كل ما هو غربي وإلى التعلق الأعمى بالتراث
وبالتقاليد، وذلك هو نكوص، وعملية دفاعية عن الأنا العربية التي لم تهضم بعد حضارة الصناعة ولم تجد لها المنزلة المرموقة في العالم.
اولا: التقييم السفلوي للذات وعقدة النقص تجاه الغرب
نتيجة حالة العجز التي تعيشها الذات العربية إزاء الواقع ومشكلاته، وانعدام قدرتها على المجابهة، فإن الامور تبدو لها وكأن هناك باستمرار انعداماً في التكافؤ بين قوتها الذاتية وقوة الظواهر فتفقد بالتالي الطابع الاقتحامي في السلوك ويتشكل لديها انعدام للثقة بالنفس، وفقدان الثقة هذا يعمم من الذات العربية على الذوات الأخرى، وهكذا تشعر أنها لا تستطيع فعل أي شيء إزاء القيام بالتطوير والتغيير في مجتمعها، مما يُعمّق مشاعر الدونية والنقص باستمرار تجاه الواقع المُعاش فعلاً، فإذا بها تفقد كل مشاعر الإيمان بقدرات العمل الجماعي على النهوض والتغيير، وتتجلى عقدة النقص هذه بوضوح ظاهر في موقف الذات العربية من العلم والتكنولوجيا والغرب.
منذ أن جاء الغرب إلى المنطقة العربية على شكل حملات استعمارية، والذات العربية تعاني مشاعر الدونية والنقص تجاه هذا الكائن الجديد المتفوق عليها، ولقد ساهم المستعمر في غرس وترسيخ مشاعر النقص في الشعوب التي يستغلها لدرجة التضليل والوهم.
إن ذلك أثر بطبيعة الحال على طريقة تعامل الذات العربية مع هذا الكائن المتفوق علماً وتكنولوجيا وحضارة حتى على صعيد المثقفين وزعماء الإصلاح الديني في بداية عصر النهضة العربية.
وطريقة تعامل الذات العربية مع الغرب مهما اختلفت وتنوعت اتجاهاتها وقناعاتها فإن جذرها كان على الدوام هو مشاعر الدونية والنقص تجاه كائن غريب ومتفوق .
ماذا تشكو الذات العربية اليوم؟ تقول لنا : إني ألحظ وجود الآخر المتفوق ( الغربي، العالم الصناعي ) في كل شيء أمامي، في إحساس بالنقص إزاءه ، يجرحني ويخلخل توازني هاجس بتفوقه وتبخيسي لذاتي.
إنه عامل الانجراح الحضاري تعاني منه الذات العربية حيث التقدير السفلوي للذات إزاء القادرين يقوم في صلب تلك الاضطرابات السلوكية في الذات العربية .
ما يزال الإحساس بالنقص تجاه الأجنبي ملحوظاً : فالتفوق العسكري، لنقل كامل القوة، يضغط على الأنا العربية إلى أسفل لترتفع كفة الأقدر، وذلك هو الخلل في التوازن في تقييم الذات لصالح الغير.
إن شعور الذات العربية بالنقص تجاه الإنسان الأوربي أو الأميركي يعكس نفسه بأشكال مختلفة إلا أنها كلها محقرة للذات ولقيمتنا تجاه أنفسنا كأفراد وكجماعات، ولعل أبرز هذه الأشكال محاولات كتابنا ومفكرينا منذ بداية هذا القرن أن يبرهنوا عن عظمة التراث العربي والإسلامي ومدى تأثيره في الحضارة الأوربية وتطورها.
وما هذه المحاولات من الوجهة السيكولوجية غير تعبير عن هذا الشعور بالنقص ومحاولة التعويض عنه بإيجاد صلة مشرفة تربطنا بالغرب وتجعلنا جزءاً منه ولو من زاوية تاريخية مجردة.
إننا في تفاخرنا على الغرب وتبجحنا بعطائنا الحضاري له إنما نؤكد رغبتنا الخفية في أن نكون مثله لنحظى بقبوله وإعجابه.
وهذا الشعور بالنقص هو الذي يدفعنا أيضاً في الاتجاه المعاكس، أي إلى الطعن في كل ما هو غربي وإلى التعلق الأعمى بالتراث وبالتقاليد، وذلك هو نكوص، وعملية دفاعية عن الأنا العربية التي لم تهضم بعد حضارة الصناعة ولم تجد لها المنزلة المرموقة في العالم.
فمنذ بداية عصر النهضة، غلبت المعرفة الدفاعية والفكر الدفاعي على المعرفة النقدية والفكري النقدي ،فأخذ مثقفونا يرسمون لنا صور تاريخنا وحضارتنا ومجتمعنا في شكل تبريري، في وجه سيطرة الغرب ونفوذه، وأصبح هدف المعرفة درء الخطر عن الذات، بدلاً من معرفة الذات، فهذا أحدهم : الغرب بالنسبة له نكبة المدنية الماجنة والانحلال الخلقي العجيب ، وكأن لسان حاله يقول هنا منبت الأخلاق، إنها المعرفة الدفاعية التي تشوه الذات والآخر وجذرها الشعور بالدونية والنقص إزاء الآخر، من هنا كانت نظرتنا إلى نفسنا وإلى تاريخنا وإلى العالم نظرة خاطئة تقوم على الحاجة النفسية إلى تعويض الشعور بالنقص.
لقد شبع الجيب أكثر مما شبع العقل والسلوك، ولم يتواز َالتطور المادي مع التطور الحضاري . فمنتجات حضارة الصناعة لم تتكيف بعد كفاية مع ذهنية الريفي، ولم يحصل بعد عنده اجتيافها السوي وامتصاص نسقها ، يحدث ذلك بسبب نوعية المعرفة التي تحملها الذات العربية وهي المعرفة الدفاعية التي يحركها الشعور بالنقص إزاء العلم والتكنولوجيا والتقدم الصناعي والغرب.
إن الأشخاص الذين ابتلوا بالشعور بالدونية يتألمون، إنهم يعانون من إحساس عميق باللاأمن والخوف والعجز، فالشعور بالدونية يصبح استجابة شخصية برمتها أمام أي فرد كان وفي كل وضع وينسحب ذلك على كل موقف له صلة بالغرب تتعرض له الذات العربية سواء كان متعلقاً بالأخلاق أم العلم أم التكنولوجيا أم الثقافة أم القوة العسكرية.
فالذات العربية مصابة بترجرج، وقلق، وتخلخل في القيم، وانجراح في مشاعر الأمن والانتماء، إنها الذات المنجرحة إزاء الآخر المتفوق، لذلك فهي تلجأ إلى عمليات وسلوكيات سمتها العامة النكوص إلى الداخل، التراث، التقاليد، الماضي وفي مثل ذلك السلوك تجد سبيلها إلى خفض التوتر وتأمين شيء من التوازن الانفعالي للذات كي تستطيع الاستمرار في الوجود.
ولا شك أن هذا الموقف للذات العربية تجاه الآخر"الغرب" قد وضع الثقافة العربية برمتها في موقف دفاعي، ليس بإمكانه أن يتعامل نقدياً مع الفكر والإنجازات الغربية.
يقول الياس مرقص في كتابه " المذهب الوضعي والمذهب الجدلي " موضحاً أثر هذا الموقف الدفاعي على الوعي العربي" أوروبا" لحظة Moment كبيرة وحيوية وحاسمة في منطق البسط أو النمو التاريخي للإنسان ككل، للعرب، للجميع.
والتعامل مع هذا الشيء الكبير بإدارة الظهر، باللعن، أو بالركوع، أو التعامل معه بالانبهار والحرب ، بالسجال العنيف الأبولوجيتيقي الذي يخفي أو لا يخفي الانبهار، موقف ألحق ويلحق ضرراً كبيراً بالوعي العربي : إنه الضياع ".
ثانيا: هاجس السترة والازدواجية – الكذب
نتيجة الشعور بالدونية والنقص الذي تعيشه الذات العربية إزاء قوة الواقع وبؤسه والاستبداد والتسلط فيه إزاء قوة الكائن الغربي المسيطر، فإنها تعيش في حالة دفاع دائم ضد افتضاح أمرها وعجزها، فهي تخشى التعري والظهور بمظهر الضعيف، العاجز، لذلك فالسترة هي إحدى هواجسها الأساسية لأنها تخشى أن تنكشف باستمرار، وتخشى ألا تقوى على الصمود في موقف أو مأزق ما، فتتمسك بالمظاهر التي تشكل ستاراً واقياً لحالة العجز والبؤس الداخلي الذي تعيشه بمرارة.
وتكون حساسيتها مفرطة لكل ما يهدد هذا المظهر الخارجي الذي تحاول أن تقدم نفسها من خلاله للآخرين، وإلا كيف نفسر عدم تقبل الذات العربية للنقد مهما كان بسيطاً، وكيف نفسر حالات الغضب والانفعالية غير المبررة للذات العربية المنجرحة عندما تتعرض لخدش بسيط من قبل ذات أخرى.
والذات العربية المنجرحة تسقط هاجس السترة والخوف الدائم من التعرية وافتضاح أمرها على المرأة، المرأة العورة، أي موطن الضعف والعيب، وبسبب هذا الإسقاط يربط الرجل العربي شرفه كله وكرامته كلها بأمر جنسي ليس له أي مبرر من الناحية البيولوجية المحض ونعني به الحياة الجنسية للمرأة، فالرجل العربي بدل أن يثور ضد مصدر عاره الحقيقي، يثور ضد من يمثل عاره الوهمي وهو المرأة المستضعفة.
إن خوف الذات العربية المنجرحة من افتضاح أمرها باستمرار مرتبط إلى حد بعيد بمسألة الاستعراض الشائعة في البلدان العربية والتي تؤدي وظيفة التستر وإخفاء عجز الذات وعارها.
وهنا نستطيع أن نفسر التصرفات الاستعراضية للذات العربية خصوصاً في الجانب الاستهلاكي حيث تلجأ الذات العربية المنجرحة إلى كل أشكال السلوك الاستهلاكي، واستعراض قوتها عبر آخر صيحات الألبسة والأثاث وحتى الأدوات التكنولوجية وهذا ضرب من الادعاء والتبجح وخداع الآخرين والتستر على مشاعر الدونية والنقص التي تميز الذات العربية.
كذلك فإن هذا القلق الدائم من الافتضاح والتعري للذات العربية المنجرحة يرتبط بسلوكها الازدواجي في الواقع فالفرد التشرقي حسبما يقول ألبرت حوراني هو " الذي يعيش في الوقت نفسه في عالمين أو أكثر دون أن ينتمي إلى أي منهما وهو الذي يتمكن من تلبس الأشكال الخارجية المشيرة إلى تملك جنسية معينة أو دين أو ثقافة، دون أن يملكها بالفعل.
والفرد التشرقي لم تعد له قيمه الخاصة ولم يعد قادراً على الخلق بل على المحاكاة فحسب . وحتى المحاكاة لا يقوم بها بشكل دقيق، لأنها هي أيضاً تقتضي نوعاً من الأصالة، إنه إنسان لا ينتمي إلى أي مجتمع ولا يملك أي شيء خاص به، وهذا واقع يعبر عن نفسه في حالة تتصف بالضياع والادعاء والسخرية واليأس".
والكذب يُصبح محوراً رئيسياً للعلاقات في المجتمعات المتأخرة والمجتمع العربي في مقدمتها بالطبع ، مهما تنوعت المستويات وتعددت المظاهر، الكذب يعمم على كل العلاقات : كذب في الحب والزواج، كذب في الصداقة، كذب في ادعاء القيم السامية، كذب في ادعاء الرجولة، كذب في المعرفة ، كذب في الإيمان ،معظم العلاقات زائفة ومعظم الحوار الدائر عبارة عن تضليل وخداع.
وإحدى الحالات الصارخة في مجتمعنا للسلوك الكاذب نجدها عند الشباب، فالتأنق في الكلام واستعمال المفردات المزوقة، واستعمال الكلمات الأجنبية وإدخالها في الجملة ، بشكل مغلوط أو لفظ مشوه أحياناً، إن ذلك ما هو إلا تعبير عن حالة الضياع والازدواجية في السلوك والموقف والفكر في مجتمعنا العربي.
ونلمس أيضا سماكة القناع الاجتماعي أي التظاهر بغير الحقيقي عندما يحدّث الشباب بالنظم الاجتماعية الحديثة، بالعقائد السياسية والتربوية العصرية، إلا أنه عند التحزبات العائلية والمحلية، أي على الصعيد العملي، تصبح تلك العقائد كالمجهولة، والأمثلة في هذا المجال كثيرة، وكلها تحمل ازدواجية في الموقف، وهي تعبر عن تمزق داخلي ناتج عن حيرة وقلق، عن صعوبة في الاختيار، عن صراع بين التقاليد التي تشدد وبين الانطلاق الشباب عندنا ناقم أحياناً ، ويائس أحياناً ، إلا أنه متشكك دائماً.
إن الفصل بين الأفكار والواقع المعاش ظاهرة واضحة على كافة المستويات فنفكر في عالم ونعيش في عالم آخر، وتنشأ فجوات بين القول والفعل .
لذلك فإن أي حوار تدخله الذات العربية يتحول إلى حوار الطرشان بسبب انهيار علاقة التفاعل والانكفاء على الذاتية، ذاتية الانفعالات المفرطة التي تحول الآخر إلى مجرد عقبة تعوق الوصول إلى الهدف الشخصي ، وقد يمتد الحوار من الصراخ إلى الشتائم وتصغير الآخر وتحقيره.
ونرى من خلال هذا الجانب الانفعالي في الشخصية العربية ، مدى المعوقات التي تعاني منها العقلية العربية، ولا شك أن هذه المعوقات تؤدي إلى ترسيخ حالة التأخر والجمود في المجتمع العربي، وتشكل بالتالي عقبات فعلية أمام عمليات التغيير وخطط التنمية المختلفة .
إن موقف الذات العربية المنجرحة ينسحب على كل موقف له صلة بالغرب تتعرض له، سواء أكان متعلقاً بالأخلاق أم بالعلم أم بالتكنولوجيا أم بالثقافة .. ولا يمكن أن نتوقع نهضة عربية بدون التخلص من هذا الموقف الدفاعـي والسـعي للتعامل النقدي مع الفكر الغربـي وإنجازاته، بدون عقد النقص التي تحكم الذات العربية.
......................................................
المصادر
1- المعجم الموسوعي في علم النفس/ نوربير سيلامي
2- د. فيصل القاسم/ موقع مفهوم
3- أ.د. سليمان صالح/ جريدة الشرق القطرية
4- د. احسان الأمين/ البلاغ
5- أحمد يوسف داود/ مجلة نزوى
6- الساحة العربية
7- ديفيد اوستين/ كفاية زي نت العربية
8- د. مراد الصوادقي/ موقع كتابات
9- عبد الناصر فيصل نهار/ ميدل ايست اونلاين