الفاجعة الكبرى

الناقل : SunSet | المصدر : www.holykarbala.net


الفاجعة الكبرى
بعد خمس سنوات عاشتها زينب في كنف عائلتها الحنون ، وفي ظل أجواء المحبّة والعطف ، حيث كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يظلل بيت زينب برعايته ، ويغمر أفراد ذلك البيت بعنايته واجلاله . فلا يكاد يمر يوم لا يلتقي فيه محمد بأهل بيته ، واذا ما سافر كان بيتهم آخر محطة ينطلق منها لسفره ، واذا ما عاد كان بيتهم أول منزل يدخله .
روى الحاكم في ( المستدرك ) بسنده عن أبي ثعلبة الخشني : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) اذا رجع من غزوة أو سفر أتى المسجد فصلى فيه ركعتين ثم ثنى بفاطمة ثم يأتي أزواجه .
وبسنده عن ابن عمران : ان النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان إذا سافر كان آخر الناس عهداً به فاطمة ، واذا قدم من سفر كان أول الناس به عهداً فاطمة » (1) .
ويقول الشيخ مغنية : وكان النبي لا يصبر عن بيته هذا ، ولا يشغله عنه شاغل ، بخاصة بعد ان نبتت فيه رياحينه ، فاذا دخله قبل هذا ، وشمّ ذاك وابتسم لتلك . . . ودخله ذات يوم فأخذ الحسن وحمله ، فأخذ علي الحسين وحمله ، فأخذت فاطمة زينب وحملتها (2) ، فإهتزت أركان البيت طرباً لجوّ الصفوة المختارة ، وابتهاج الرسول بآله وابتهاجهم به ، وتدلنا هذه الظاهرة وكثير غيرها ان محمداً كان أكثر الأنبياء غبطة وسعادة بأهل بيته » (3) .
وشاء الله ( سبحانه وتعالى ) أن يكون حظ السيدة زينب من تلك الحياة الهانئة السعيدة محدوداً بالسنوات الخمس الأولى من حياتها ، فما ان دخلت السنة الحادية عشر للهجرة ، وتصرّمت أيام شهرها الثاني شهر صفر ، الا وشمس السعادة في بيت زينب قد آذنت بالغروب ، فرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يلبّي نداء ربه ويفارق الحياة ويلتحق بالرفيق الأعلى في الثامن والعشرين من شهر صفر سنة ( 11 هـ ) .
واذا كان فقد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يشكل صدمة كبرى وفاجعة مهولة عظمى على المسلمين جميعاً فانه ولا شك أشد وقعاً وأعظم أثراً على أهل بيته الملتصقين به والمتنعمين برعايته وعطفه .
وزينب الصغيرة في السن المرهفة الأحساس الرقيقة المشاعر وجدت نفسها في مواجهة هذه الرزية الكبرى ، ورأت كيف انقلبت الأجواء في بيتها رأساً على عقب من بهجة وغبطة وسرور الى كآبة وحزن واضطراب .
لقد صحبت زينب أمها الزهراء وهي تنكّب على أبيها رسول الله عند مصارعته لسكرات الموت نادبة .
« واويلتاه لموت خاتم الأنبياء ، وامصيبتاه لممات خير الأتقياء ، ولإنقطاع سيد الأصفياء ، واحسرتاه لإنقطاع الوحي من السماء ، فقد حرمت اليوم كلامك » (4) .
ورأت زينب أخويها الحسنين حينما القيا بنفسيهما على جدهما الرسول يودعانه وهما يذرفان الدموع ، فجعل يقبلهما وهما يقبلانه واراد عليّ أن ينحيهما عنه ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) :
« دعهما يتمتعان مني وأتمتع منهما فستصيبهما بعدي اثرة » (5) .
وتوالت مشاهد الألم الحسرة أمام ناظري زينب فهذه أمها الزهراء تنكب على جثمان أبيها رسول الله ( ص ) بعد وفاته تبكي أمر البكاء قائلة : « واأبتاه ، الى جبرئيل أنعاه ! واأبتاه جنة الفردوس مأواه ! واأبتاه أجاب رباً دعاه ! ! » (6) .
وتقول أيضاً : « واأبتاه وارسول الله ، وانبي الرحمتاه ، الآن لا يأتي الوحي ، الآن ينقع عنا جبرئيل ، اللهم إلحق روحي بروحه ، واشفعني بالنظر الى وجهه ، ولا تحرمني أجره وشفاعته يوم القيامة » (7) .
وهذا أبوها علي بن أبي طالب ( ع ) وهو الجبل الأشم في صموده وبطولته لكنه تذوب نفسه أمام هذه المصيبة ، فيقول : « إن الصبر لجميل الا عنك ، وإن الجزع لقبيح إلاّ عليك ، وان المصاب بك لجليل ، وإنه قبلك وبعدك لجلل » (8) .
وقال أيضاً وهو يلي غسل رسول الله ( ص ) وتجهيزه : « بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! لقد انقطع بموتك مالم ينقطع بموت غيرك من النبوة والإنباء وأخبار السماء ، خصّصت حتى صرت مسلياً عمن سواك ، وعممت حتى صار الناس فيك سواء ، ولولا انك أمرت بالصبر ، ونهيت عن الجزع ، لأنفذنا عليك ماء الشئون ، ولكان الداء مماطلا ، والكمد محالفاً ، وقلا لك ، ولكنه ما لا يملك رده ، ولا يستطاع دفعه بأبي أنت وأمي ! اُذكرنا عند ربك ، واجعلني من بالك ! » (9) .
ويتحدث الامام جعفر الصادق ( ع ) عن مدى وقع المأساة على بيت زينب ، فيقول : « لما مات النبي ( صلى الله عليه وآله ) سقط سطران ؟ ؟ خمسة وسبعين يوماً لم تر كاشرة ولا ضاحكة تأتي قبور الشهداء في كل جمعة مرتين الاثنين والخميس ، فتقول : « ها هنا كان رسول الله ، وها هنا كان المشركون » .
وقال ابن شهر اشوب في ( المناقب ) روي أنها مازالت بعد أبيها معصبة الرأس ناحلة الجسم منهذة الركن باكية العين محترة القلب يُغشى عليها ساعة بعد ساعة ، وتقول لولديها : أين أبوكما الذي كان يكرمكما ويحمكما مرة بعد مرة ؟ أين أبوكما الذي كان أشد الناس شفقة عليكما فلا يدعكما تمشيان على الأرض ولا أراه يفتح هذا الباب أبداً ولا يحملكما على عاتقه كما لم يزل يفعل بكما .

وروي أنه لما قبض النبي ( صلى الله عليه وآله ) امتنع بلال من الأذان ، وقال : لا اُؤذن لأحد بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وإن فاطمة قالت ذات يوم :
( أشتهي أن أسمع صوت مؤذن أبي بأذان ) .
فبلغ ذلك بلالاً فأخذ في الاذان فلما قال : الله أكبر الله أكبر . ذكرت أباها وأيامه ، فلم تتمالك من البكاء ، فلما بلغ الى قوله : أشهد أن محمداً رسول الله ) .
شهقت فاطمة وسقطت لوجهها وغشي عليها ، فقال الناس لبلال : امسك فقد فارقت ابنة رسول الله الدنيا .
وظنوا أنها قد ماتت ، فلم يتم الاذان . فأفاقت فسألته اتمامه فلم يفعل ، وقال لها : يا سيدة النسوان إني أخشى عليك مما تنزلينه بنفسك اذا سمعت صوتي بالاذان .
فأعفته من ذلك .
وعن علي ( عليه السلام ) قال : غسلت النبي في قميصه فكانت فاطمة تقول : أرني القميـص . فاذا شمتـه غشي عليهـا ، فلمـا رأيـت ذلك غيبتـه (10) .
ورأت الزهراء ( ع ) يوماً أنس بن مالك ، فقالت : يا أنس كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على النبي التراب ؟ (11) .
ولك أن تتصور حالة السيدة زينب وهي طفلة ذات خمس سنوات من العمر لابد أنها كانت ملتصقة بأمها الزهراء ( ع ) وتعايش معها هذه الصدمة العاطفية الكبيرة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ( أعيان الشيعة السيد محسن الأمين ) ج 1 ، ص 307 .
(2) ( بحار الأنوار ) المجلسي ج 10 ، ص 58 .
(3) ( مع بطلة كربلاء ) محمد جواد مغنية ص 22 .
(4) ( حياة الإمام الحسن ) باقر شريف القرشي ج 1 ، ص 133 .
(5) المصدر السابق ، ص 134 .
(6) المصدر السابق ، ص 136 .
(7) ( حياة الإمام الحسين ) باقر شريف القرشي ج 1 ، ص 221 .
(8) ( نهج البلاغة ) الإمام علي ، قصار الحكم ، رقم : 292 .
(9) المصدر السابق ، الخطبة رقم : 235.
(10) ( أعيان الشيعة ) السيد محسن الأمين ج 1 ، ص 319 .
(11) ( تاريخ الاسلام ) الحافظ الذهبي « السيرة النبوية » ص 562 .


المصدر : كتاب / العظيمة زينب / حسن الصفار