نياحة السيدة زينب على سيد الشهداء

الناقل : SunSet | المصدر : www.holykarbala.net

نياحة السيدة زينب على سيد الشهداء

وفي يوم الحادي عشر من المحرم . . لما أراد الأعداء أن يرحلوا بقافلة نساء آل رسول الله من كربلاء إلى الكوفة ، مروا بهن على مصارع القتلى ـ وهم جثث مرملة ومطروحة على التراب ـ فلما نظرت النسوة إلى تلك الجثث صحن وبكين ولطمن خدودهن . وأما السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) فقد كانت تلك الساعة من أصعب الساعات على قلبها ، وخاصةً حينما نظرت إلى جثة أخيها العزيز الإمام الحسين وهو مطروح على الأرض بلا دفن ، وبتلك الكيفية المقرحة للقلب ! !
يعلم الله تعالى مدى الحزن الشديد والألم النفسي الذي خيم على قلب السيدة زينب وهي ترى أعز أهل العالم ، وأشرف من على وجه الأرض بحالة يعجز القلم واللسان عن وصفها .
فقد مد أولئك الذئاب المفترسة (الذين لا يستحقون إطلاق إسم البشر عليهم ، فكيف باسم الإنسان ، وكيف باسم المسلم) أيديهم الخبيثة إلى جسد أطهر إنسان على وجه الكرة الأرضية آنذاك . وأرقوا دماءً كانت جزءاً من دم الرسول الأقدس ، وقطعوا نحراً قبله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مئات المرات ، وعفروا خداً طالما إلتصق بخد الرسول الأطهر ، ورضوا وسحقوا جسداً كان يحمل على أكتاف الرسول الأعظم ، وكان محله في حجر الرسول ، وعلى صدره وظهره .
لقد كان الرسول الكريم يحافظ على ذلك الجسم العزيز ، حتى من النسيم والمطر . . فكيف من غيره ؟
نعم ، إن المجرمين الجناة كانوا في سكرة موت الضمير ، وفقدان الوعي والإدراك للمفاهيم ، فانقلبوا إلى سباع ضارية ، وذئاب مفترسة ، ووحوش كاسرة ، لا تفهم معنى العاطفة والشرف والفضيلة ، ولا تدرك إلا هواها الشيطاني .
فصنعت ما صنعت بذلك الإمام ، المتكامل شرفاً وعظمة ، وجعلت جسمه هدفاً لسيوفها ورماحها وسهامها ، وميداناً لخيولها ، وهم يحاولون أن لا يتركوا منه أثراً يرى ، ولا أعضاء فتوارى .
كان هذا المنظر والمظهر المشجي ، المقرح للقلب ، الموجع للروح بمرأى من السيدة زينب الكبرى .
فهي ترى نفسها بجوار جثمان إمامها ، وإمام العالم كله ، وسيد شباب أهل الجنة ، فلا عجب إذا اختضنته تارةً وألقت نفسها عليه تارةً أخرى .
تبكي عليه بدموع منهمرة متواصلة ، وتندبه من أعماق نفسها ، ندبةً تكاد روحها تخرج مع زفراتها وآهاتها !
تندبه بكلمات منبعثة من أطهر قلب ، خالية عن كل رياء وتصنع ، وكل كلمة منها تعتبر إعلاناً عن حدوث أكبر فاجعة ، وأوجع مصيبة .
إنها سجلت تلك الكلمات على صفحات التاريخ لتكون خالدةً بخلود الأبد ، تقرؤها الأجيال قرناً بعد قرن ، وأمةً بعد أمة ، كي تستلهم منها الدروس والعبر . . . ولكي تبقى المدرسة الزينبية خالدةً بخلود كل المفاهيم العالية والأصول الإنسانية .
نعم ، كلمات تقرع الأسماع اليقظة كصوت الرعد ، فتضطرب منها القلوب وتتوتر منها الأعصاب ، وتسخن الغدد الدمعية المنصوبة على قمة العينين ، فلا تستطيع الغدد حبس الدموع ومنعها عن الخروج والهطول .
وتضيق الصدور فلا تستطيع كبت الآهات ، والنحيب والزفير .
أجل . . إنها معجزة وأية معجزة ، صدرت من سيدة قبل أربعة عشر قرناً ، أراد الله تعالى لها البقاء ، لتكون تلك المعجزة غضة ، وكأنها حادثة اليوم وحدث الساعة .
كان المفروض أن تفقد السيدة زينب الكبرى وعيها ، وتنهار أعصابها ، وتنسى كل شيء حتى نفسها ، وتتعطل ذاكرتها أمام جبال المصائب والفجائع ، والهموم والأحزان .
نعم ، هكذا كان المفروض ، ولكن إيمانها الراسخ العجيب بالله تعالى ، وقلبها المطمئن بذكر الله (عزوجل) كان هو الحاجز عن صدور كل ما ينافي الوقار والإتزان ، والخروج عن الحالة الطبيعية .
وليس معنى ذلك السكوت الذي يساوي عدم الإهتمام بتلك الفاجعة أو عدم المبالاة بما جرى ، بل لا بد من إيقاظ الشعور العام بتلك الجناية العظمى ، التي صدرت من أرجس عصابة على وجه الأرض .
فلا عجب إذا هاجت أحزانها هيجان البحار المتلاطمة الأمواج ، وتفايض قلبها الكبير . . بالعواطف والمحبة ، وجعلت تندب أخاها بكلمات في ذروة الفصاحة والبلاغة ، وتعتبر أبلغ كلمات سجلها التاريخ في الرثاء والتأبين ، وفي مقام التوجع والتفجع . (1)
قال الراوي : فوالله لا أنسى زينب بنت علي وهي تندب أخاها الحسين بصوت حزين وقلب كئيب :
«يا محمداه ، صلى عليك مليك السماء ، هذا حسين مرمل بالدماء ، مقطع الأعضاء ، مسلوب العمامة والرداء ، محزوز الرأس من القفا . ونحن بناتك سبايا .
إلى الله المشتكى ، وإلى محمد المصطفى ، وإلى علي المرتضى ، وإلى فاطمة الزهراء ، وإلى حمزة سيد الشهداء .
يا محمداه ! هذا حسين بالعراء (2) ، تسفي عليه ريح الصباء ، قتيل أولاد البغايا .
واحزناه ! واكرباه عليك يا أبا عبد الله .
بأبي من لا هو غائب فيرتجي ، ولا جريح فيداوى .
بأبي المهموم حتى قضى .
بأبي العطشان حتى مضى . . . .»
فأبكت ـ والله ـ كل عدو وصديق . (3)
واعتنقت زينب جثمان أخيها ، ووضعت فمها على نحره وهي تقبله وتقول :
«أخي لو خيرت بين المقام عندك أو الرحيل لاخترت المقام عندك ، ولو أن السباع تأكل من لحمي .
يابن أمي ! لقد كللت عن المدافعة لهؤلاء النساء والأطفال ، وهذا متني قد أسود من الضرب ! ! (4).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وكان ذلك حينما مروا بقافلة الأسارى على مصرع الإمام الحسين (عليه السلام) يوم الحادي عشر من المحرم .
(2) العراء : الأرض المنبسطة التي لا يستر فضاءها شيء .
(3) كتاب (الملهوف) لابن طاووس ، ص 181 ، وكتاب الإيقاد ، ص 140 .
(4) معالي السبطين ج 2 ، الفصل العاشر ، المجلس الرابع عشر .


المصدر : كتاب / زينب الكبرى من المهد الى اللحد / السيد محمد كاظم القزويني