(نقاط مضيئة) في حياة بعض الناس ومضات يحار العقل البشريُّ عند استذكارها والتفكير بها ، وحين يقف المرء عندها تخشع جوانحه حيرة وإكباراً لصانعيها. والأجيال السالفة أو المستقبلة لا تستطيع أن تنهض بأعباء حياتها ما لم يوجد في صفوفها نفر يحملون هذه الممّيزات العظيمة ليكونوا جديرين بحمل الرّسالة أو ليكونوا قدوةً يحتذى بها في السلوك الفرديّ أو الاجتماعي. وكثيراً ما ينهض بهذه الأعباء نفر من الرجال ممن توفّرت فيهم بعض المؤهلات التي رفعتهم إلى مستوى المسؤوليّة ـ مسؤولية إنقاذ مجتمعاتهم أو الإنسانية بكاملها ـ أحياناً ـ كما هو عليه الرُّسل ( عليهم السلام ) وإلى جانب هذه الشُّموع التي أضاءت للبشرية طريقها ـ عبر التاريخ ـ برزت بعض النّساء ليؤلفن مناخاً دافئاً لخلق أجيال مهذّبة ؛ ولكنّ تأريخ البشرية لم يحض إلا بقليل من هذه الشموع الجديدة . ولهذه الحقيقة أشار القائد محمد ( صلى الله عليه وآله ) بقوله : « كمل من الرّجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ». فهؤلاء النُّسوة قد تربين في أحضان الوحي حتى بلغن مرحلة النُّضوج للشخصية لا تبلغها غيرهنّ من العنصر النسائي في المجموعة البشريّة ، فضلاً عن الرّجال سوى الأنبياء والأوصياء منهم. ونحن في هذه الصّفحات الوجيزة بودّنا أن نمارس حديثاً عن صفات طفحت بها شخصية فاطمة بنت محمد ( عليها السلام ) لتبقى نبراساً تهتدي بها الاُمم والشُّعوب التي تتطلع إلى المجد والعزة . وها نحن ـ أُولاء ـ نرسم بعض النقاط المضيئة النابضة بالحياة التي اتّسمت بها حياة الزهراء ( عليها السلام ) : ـ * في أشدّ الأيّام التي مرّت بها دولة النبي محمد ( صلى الله عليه وآله ) في يثرب الفتيّة عسرة ، حيث الضّائقة الماليّة وانحطاط الحالة الإقتصادية التي ولّدتها كثرة الحروب التي دارت رحاها بين دولة المنهج الإلهي والدُّول القائمة على أُسس جاهلية ، حيث أنّ طبيعة الحروب تفرض بطبيعتها سياسة تقشُّف تفرضها الظروف العسكريّة سيّما لدى الدولة التي تبتلى بغزو أعدائها الكثار الذين يعملون على انتهاز كلّ فرصة للإطاحة بهذه الدّولة. أجل الضّائقة الماليّة تلعب دورها في حياة المجتمع الفتيّ في يثرب ، والموارد المالية لا تتعدّى بعض الغنائم التي يكسبها المحاربون من الأعداء أو بعض الزّكوات التي يدفعها أغنياء الأُمّة الى دولتهم ، أمّا سوى ذلك فلا وجود له ، فلا زراعة يعتمد عليها حيث تمتاز أرض الحجاز إلا ما ندر ـ بجدبها وصحراويتها وجفافها ـ ولا صناعة تذكر غير حياكة يدويّة لبعض الملابس وحدادة لبعض الآت الحرب من سيوف ودروع ورماح ونحوها ، كما لم تهتد البشرية يومذاك لمعرفة استخراج النفط ونحوه من خيرات الأرض ، كلّ ذلك غير متوفّر بهذه الدّولة الفتيّة فلابد أن تكون محصّلة هذه الأحاديث ضائقة ماليّة وعسراً اقتصادياً يعمُّ جميع طبقات الأُمّة . وفضلاً عن كلّ ذلك فالفتوحات ما زالت مقصورة على أرض الجزيرة العربية التي تمتاز بندرة مواردها الماليّة حيث لم تصل جيوش محمد ( صلى الله عليه وآله ) بعد إلى أرض السّواد أو أرض الكنانة أو الهلال الخصيب لكي تدرّ هذه البقاع بعضاً من مواردها على مركز الدّولة في ( يثرب ). في مثل هذه الأيّام القاسية ـ اقتصاديّاً ـ يدخل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) شيخ كبير تبدو الفاقة على ملامح شخصيّته كلها ـ فالثياب رثّة مهلهلة ، والظهر محدودب ، والوهر بارز على تقاسيم وجهه ، وقد جاء يحمل مطاليبه لرسول الله محطّ أنظار المعوزين وأبي الفقراء والمحتاجين ـ فقال» (1) : « يا رسول الله أنا جائع الكبد فأطعمني ، وعاري الجسد فاكسني ، وفقير فآثرني » ولكنّ الضائقة الماليّة التي تحياها دولة محمد ( صلى الله عليه وآله ) بسبب التعبئة العسكرية وقلة الموارد الماليّة في الحجاز جعلته يعتذر ، فيقول له : « ما أجد لك شيئاً ، ولكنّ الدّالّ على الخير كفاعله ، إنطلق إلى ابنتي فاطمة ». وأمر بلالاً أن يدلّه على بيت الزهراء ( عليها السلام ) ، ويبلغ الشيخ بيت الزهراء ، وعلى الباب يرفع صوته : « السلام عليكم يا أهل بيت النبوة ، ومختلف الملائكة ، يا بنت محمد أقبلت على أبيك سيّد البشر مهاجراً من شقة ، عاري الجسد ، جائع الكبد ، فارحميني يرحمك الله ». وتسرع الزهراء ( عليها السلام ) إلى جلد كبش مدبوغ كانت بمثابة فراش ينام عليه الحسنان ( عليهما السلام ) فتمنحه إلى الشيخ المحتاج وهي تقول له : « عسى الله أن يتيح لك ما هو خير منه ». ولكنّ الشيخ لم يقبل منها أُعطيتها ـ هذه ـ فقال : « أنا شكوت إليك الجوع فناولتني جلد كبش ، فما أنا صانع به مع ما أجد من السّغب ؟ ». وتعمد فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) إلى عقدٍ في عنقها أهدته إليها فاطمة بنت حمزة ، فتدفعه إلى الشيخ ، وهي تقول : « خذ وبعه فعسى الله أن يعوّضك بما هو خير لك منه » . ويعود الشيخ إلى مسجد الرّسول ( صلّى الله عليه وآله ) ويبيع العقد يبتاعه منه عمّار بن ياسر بمبلغ عشرين ديناراً ومائتي درهم وبردة يمانية وراحلة يبلغ الشيخ عليها أهله ، وينطلق عمّار بالشيخ إلى بيته ليفي له بثمن العقد ، ويعود الشيخ إلى الرسول ( صلى الله عليه وآله ) فيقول له : « أشبعت واكتسيت ؟ ». قال الشيخ : « نعم واستغنيت بأبي أنت وأُمّي ». الرسول معلقاً على قوله ـ : « فأجز فاطمة في صنعها معك خيراً ». الشيخ : « اللهم أنت إله ما استحدثناك ، ولا إله لنا نعبده سواك ، وأنت رازقنا فأعط فاطمة ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ». فيؤمّن محمد ( صلى الله عليه وآله ) على دعائه ويلف عمّار عقد الزهراء ببردة يمانيّة ، ويطيّبه بالمسك ويبعثه وعبده هدية لرسول الله . وما أن يصل العبد وبصحبته العقد للرسول حتى يبعثه لفاطمة ، فتأخذ فاطمة العقد ، وهي تقول للعبد : « إذهب ، فأنت حرٌّ لوجه الله ». لتضيف مكرمة جديدة إلى مكارمها العظيمة ، ويبتسم العبد ، وهو يقول : « ما أكثر بركة هذا العقد : أشبع جائعاً ، وكسى عرياناً ، وأغنى فقيراً ، وأعتق مملوكاً ، وعاد إلى أهله... ». هذه ومضة حيّة من حياة الزهراء ( عليها السلام ) تتجلّى فيها روعة التكافل الاجتماعي في المجتمع الإسلامي ، فضلاً عن طابع المحبّة والتوادُد الذي يلوّن حياة أبناء الأُمّة الإسلامية في الصدر الأول يوم عرفوا الإسلام منهج حياة يرتفعون على أساسه إلى مستوى خلافة الارض.. * ومما تنقله لنا كتب السيرة الشريفة : أنّ الزهراء سألها القائد محمد عن أيّ شيء تودُّ أن تكون عليه المرأة المسلمة ؟ فإذا هي تقول : « أن لا ترى الرجل المحرم ولا الرّجل المحرم يراها »» (2). فيعلو البشر محمداً ( صلى الله عليه وآله ) ، فيضمّها إلى صدره وهو يقول : « ذريّة بعضها من بعض ... ». وهذا التّصريح من الزهراء ( عليها السلام ) ليس قولاً تطبعه الهواية أو الصفة النظريّة ، وإنّما يمثل حقيقة يقرُّها الواقع الإنساني الفسيولوجي والإجتماعي. ربّما يجد المرء ـ سيّما ممن يعيش في هذا القرن ـ أنّ في هذا القول مبالغة في الحجاب بالنسبة للمرأة ، وحصرها في إطار البيت. يقول المرء هذا إذا لم يكن قد عرف السّر الذي دفع الزهراء (عليها السلام ) أن تعلن هذا المفهوم الإسلامي الأصيل ، وقد يتّفق المعترض مع الزّهراء إذا عرف أنّ الإنسان يملك ـ فيما يملك ـ غريزة أصيلة تعرف ـ بالغريزة الجنسية ـ ومما يميّز هذه الغريزة وبعض الغرائز الأخرى لدى الكائن الانساني : أنّها تثار من الخارج ومن محيط الإنسان عينه ، فتثيرها الأحاديث الجنسيّة والقصص المغرية والأفلام الخليعة والمجلاّت الدّاعرة والأغاني وغيرها ، فتجعل من الإنسان أكثر اندفاعاً لإشباع هذه الغريزة » (3) ، وحين تكون هذه الغريزة أكثر على الإثارة حين تتوفّر لها الأجواء الجنسية ، فقد حاول الإسلام ـ وهو دين العفّة والفطرة ـ أن ينزّه مجتمعه الكريم من كلّ الآثار الّتي تؤدي ـ بدورها ـ إلى إثارة هذه الغريزة الجنسية ، وكان في طليعة مشاريعه التي أقامها ـ بغية حفظ التوازن في المجتمع ـ : أن منع التبرج والإتصال غير المشروع بين الرجال والنساء ، لأنّ هذا الإتصال ـ إن وقع ـ سيكون مدعاة لإثارة الغريزة لدى الأفراد ، مما يهيّىء لحدوث جرائم خلقية في المجتمع الإسلامي. ولكن الإسلام التزم جانب الوقاية لمنع حدوث الداء. ولهذه العلّة عينها تنطلق الزهراء ( عليها السلام ) لتوضيح مفهوم الإسلام عن العلاقات الجنسيّة في المجتمع الإسلامي الرشيد ، فهي علاقات لا تقوم إلا على اساس الكرامة وحفظ الموازين الأخلاقيّة ، فإذا هي تقول عن المرأة « ألاّ ترى الرجل المحرم ، ولا الرجل المحرم يراها ». فللرّجل والمرأة الحق ـ فقط ـ أن يرى بعضهما الآخر ويمارس نشاطه معه في إطار شرعيًّ نظيف ، بعيد عن منطق الشهوات الهابطة. والرجل المحرم ـ في نظر الإسلام ـ من لم يكن للمرأة والداً أو مولوداً أو شقيقاً أو ابن أخِ أو ابن أُخت أو من لم يبلغ الحلم أو زوج» (4) ، أمّا ما عدا ذلك الصنف من الناس ، فهو في نظر الإسلام يحمل طابع الحرمة ، منعاً لتلاعب المتلاعبين وصدّاً لمكائدهم العابثة. * ومما ورد عن سيرتها ( عليها السلام ) : ما جاء عن أسماء بنت عميس : أنّها كانت عند فاطمة الزهراء ، إذ دخل عليها النبي ( صلى الله عليه وآله ) وفي عنقها قلادة من ذهب أتى بها عليُّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) من سهم صار إليه ، فقال : « يا بنية ، لا تغتري بقول الناس : فاطمة بنت محمد ، وعليك لباس الجبابرة ». فقطعتها لساعتها وباعتها ليومها ، واشترت بالثّمن رقبة مؤمنة ، فأعتقتها ، فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فسرّ بعتقها ، وعلاه البشر. * وعن عائشة تقول ـ حين ذكرت الزهراء ـ : « ما رأيت أصدق منها لهجة إلاّ أباها ». * روى الشيخ الصدوق في أماليه : أنّ فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) قد صنعت مسكتين من فضه وقلادة ، وقرطين وستراً للباب ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في سفرٍ ، فلمّا عاد من سفره دخل عليها ولم يمكث عندها ـ طويلاً ـ كما كانت عادته ـ فخرج إلى المسجد ، ففسّرت فاطمة ( عليها السلام ) هذا الموقف على أنّ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) إنّما تعجّل في مغادرة بيتها كان بسبب ما رآه من المسكتين والقلادة والقرطين والستر ، فنزعتها ـ جميعاً ـ وبعثتها إلى رسول الله ، وقالت لرسولها : قل له : « تقرأ عليك ابنتك السلام ، وتقول : إجعل هذا في سبيل الله ... ». فلما أتاه بها وحدّثه بما نبّأت به الزّهراء هتف محمد بقوله : « فعلت ، فداها أبوها ، فداها أبوها ». ثم عاد لزيارتها مستبشراً. * وعن عليًّ ( عليه السلام ) قال : « إنّ الزهراء استقت بالقربة حتى أثّرت في صدرها ، وطحنت بالرّحى حتى مجلت يداها ، وكسحت البيت حتى اغبّرت ثيابها ، وأوقدت النار تحت القدر حتّى دكنت ثيابها ،فأصابها من أجل ذلك ضرر شديد » فقال لها عليّ ( عليه السلام ) يوماً : « لو أتيت أباك ، فسألته خادماً »؟ فجاءت فوجدت عنده قوماً فاستحيت وعادت فعلم النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنها جاءت لحاجة ، فغدا علينا ونحن في لحافنا فأردنا أن نقوم فقال : مكانكما ـ فجلس عند رؤوسنا ، فقال : يا فاطمة ما كانت حاجتك أمس ؟ فأخبره عليٌّ ( عليه السلام ) بحاجتها. فأجاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أفلا أُعلمكما ما هو خير لكما من الخادم ، إذا أخذتما منامكما ،فسبّحاً ثلاثاً وثلاثين ، واحمدا ثلاثاً وثلاثين ، وكبّرا ، اربعاً وثلاثين ، فأخرجت فاطمة رأسها وقالت : « رضيت عن الله ورسوله ». * ورد عن أُمّ سلمة : أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حين تزوّجها أمرها بتربية الزهراء ( عليها السلام ) ورعاية شؤونها لسدّ الفراغ الذي حدث في حياتها بعد أُمها ، ولكنّ أُمّ سلمة ( رض ) لم تستطع تحقيق مهمّتها ، فصرّحت أنّها وجدت الزهراء ( عليها السلام ) أأدب وأدرى بشؤونها منها» (5). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الدّمعة الساكبة . (2) كشف الغمة / الإربلي. (3) الفكر الإسلامي / محمد محمد اسماعيل عبده . (4) هناك أصناف أُخرى نصّت عليهم آية ( 31 ) من سورة النور المباركة وهم : ابن الزوج وأبوه ، والأخ ونساء المؤمنين والأيلة والأمة وغيرهم . (5) الدّمعة الساكبة. المصدر : كتاب / الزهراء / عبد الزهراء عثمان محمد