(من بوادر المأساة ـ هبوب العاصفة) ودّعت الأُمّة قائدها الحبيب محمداً ( صلى الله عليه وآله ) ، وانقطع الوحي عن زيارتها ، ولم يبق لديها إلا أن تلتزم بحبل الله الوثيق : كتاب الله العزيز وعترة فقيدها الغالي محمد ، لأنّ أهل البيت : هم ترجمان الوحي ، والصورة الحيّة للرسالة الإسلامية. ولكن الأُمّة فوجئت بإعصار من المحن كادت أن تحلّ بها قارعة لولا رحمة الله سبحانه بها. وقد كان في طليعة هذه المحن الكثار ـ التي هزّت كيان الأمّة ـ : ـ إقصاء وصيّ رسول الله ـ علي بن أبي طالب ـ عن مركزه القيادي ودوره الطّليعي في الأُمّة. ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ ، وإنّما عوملت بضعة المصطفى ـ هي الأُخرى ـ معاملةً قاسية. فبدلاً من أن تكفكف السُّلطة الجديدة دموع فاطمة وتضمّد جراحها بعدما ألمّ بها من ألم وكآبة بعد فقدها لركنها الوثيق أبيها محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، فبدلاً من ذلك ، فإنّ السُّلطة الجديدة وقفت من فاطمة موقفاً مخزياً ترك في جبين الأُمّة لطخةً سوداء إلى يوم القيامة ، لأنّ فاطمة التي أراد لها الرسول ( صلى الله عليه وآله ) أن تكون مدرسة ومناراً تشع على العالم الهداية والنُّور أصبحت تعيش وطأة من العسف والهوان بعد أبيها. ونحن ـ انطلاقاً من المصلحة الإسلامية العليا ـ لا نريد في حديثنا هذا ـ كما يبدو أول وهلة ـ أن نثير قضيّة مذهبيّة أو عصبية أو غير ذلك ، وإنّما نريد أن نتحرّى الحقيقة ونجلي قضية تاريخية احتلّت عدداً ضخماً من صفحات تأريخ الأُمّة الإسلامية. ونحن حين نجلي هذه الحقيقة إنّما نبسطها بصفتها التأريخية والفكريّة لأنّ مثل هذه الصّفحات من تأريخنا لا تمنعنا ـ نحن المسلمين ـ أن نجتمع على صعيد واحد بعيداً عن الفرقة والشنآن لأنّها أصبحت قضيّة نظرية تاريخيّة ـ فحسب ـ في واقعنا المعاصر. ونحن حين نثير مثل هذه القضيّة لا نثيرها بصفتها مثار نزاع بين جماعتين إسلاميّتين ، وإنّما نوردها لأنّ طبيعة الموضوع تفرض ذلك ، فالحديث عن الزهراء ( عليها السلام ) ، وليس أحدٌ من المسلمين ينكر ـ تأريخياً ـ ما أصاب فاطمة بعد أبيها ، ولكنّ الإختلاف ـ فقط ـ يتناول تفسير تلك الأحداث المريرة وما صحبها من ملمّات. ولقد واجهت الصّديقة الزّهراء ( عليها السلام ) حادثين بعد فقد أبيها ، ولكنّهما متّصلان اتصالاً وثيقاً ببعضهما ، وكانا بمثابة العاصفة الهوجاء التي ألمت بالأُمّة الإسلامية بعد قائدها محمد. أولاهما : إقصاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) عن مركزه القيادي في الأُمّة الإسلامية . إذ كانت السيدة الزهراء ( عليها السلام ) ترى في هذه الحادثة مأساة كبرى تعيشها الرسالة الإسلامية والأمّة بصورة عامّة ، لأنّ إقصاء عليًّ عن دوره الطليعي لم يكن مجرّد تغيير إنسان ، وإنّما كان بمثابة خروج عن الخط الذي رسمته السماء لأهل الأرض ، وستجني الأُمّة ثمارهُ السيئة عاجلاً ، لأنّ الأمة سيتولاها رجال لا يملكون من المؤهّلات الكافية التي ترفعهم إلى مستوى القيادة والحكم في الأُمة ، وبالتالي سيتحول الحكم إلى مجالاتٍ للوصول إلى أطماع شخصيّة ومصالح آنيّة على حساب الشرع المقدس. ومن ثم ستجني الأمّة الفرقة والإختلاف. وفعلاً وقع ذلك بعد فترة وجيزة من تاريخ الأُمّة في وقت كانت فيه بأمسّ الحاجة إلى من يحاكي الرسول ( صلى الله عليه وآله ) في قيادته وحكمه ، ولا وجود لمن يناظر علياً في ذلك إطلاقاً ، وفضلاً عن ذلك ، فإنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لو انضوت الأُمّة تحت لوائه لسدّت كلّ ثغرة في وجه الإختلاف والإنحراف الّذي طرأ على الأُمةّ ـ فيما بعد ـ لأنّ عليّاً ( عليه السلام ) خرّيج مدرسة الرّسالة والوحي ، وهذا ما جعل فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) تقف موقفاً مشرّفاً في ذلك الظّرف الدّقيق من حياة الأمّة المسلمة في جانب عليًّ ، لا لأنّه بعلها وإنّما حدا بها إلى أن تقف ذلك الموقف الصُّلب وأن تتحمل المعاملة القاسية من الحاكمين : أنّها وضعت نصب عينيها النقاط التالية : 1ـ إنّها ترى عليّاً أفضل شخصية عرفتها الأُمة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو أقدر من سواه على تطبيق الرسالة وحفظها ونشرها في بقاع الأرض ، ولعلّها تستدلُّ على ذلك يقول الرسول الأكرم : « أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها » وقوله : « من أراد أن يحيا حياتي ، ويموت موتي ، ويسكن جنة الخلد التي وعدني ربي ، فليتولّ علي بن أبي طالب ، فإنّه لن يخرجكم من هدىً ولن يدخلكم في ضلالة ... »» (1). 2ـ إنّها بنت الرسول الذي عاش من أجل الرّسالة ، ولذا فقد رأت أنّها ملزمة قبل غيرها بحفظ الشّرع الإسلامي المقدّس من التلاعب ، كما أنّها أصبحت ملزمة بحفظ الأُمّة التي صنعها الوحي من الإختلاف والوهن مما جعلها تعمل على تحرّي الأسباب التي تكسب الأُمة والشرع مناعةً تجاه الملمات ، ولكنّها لم تجد غير عليّ بن أبي طالب أهلاً لذلك ، كما اتّضح من سابق صفاته الجليلة. 3ـ إنّها ترى أنّ الأُمة ما لم تلتزم جانب عليًّ ، فلسوف تخالف معين الرسالة الإسلامية بمخالفتها رسولها القائد محمداً ( صلى الله عليه وآله ) وهي ترى بعد أنّ صدى صوته ما زالت تردّده الآفاق يوم أعلن مراراً وتكراراً : « إني خلّفت فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلُّوا أبداً ... ». وقوله : « من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه ... ». وقوله مخاطباً علياً : « أنتَ مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي ... ». وهي ترى أنّ هذه الأقوال حجّة فما لم تلتزم الأُمّة بروحها خرجت عن طاعة الله ورسوله وكتاب الله يهتف : « ما آتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ... » فإن لم تلتزم الأُمّة بهذه الاقوال خرجت عن حصن الطاعة لله ورسوله ، بل خرجت عن حكومة الله تعالى في الأرض ، وهذا ما جعل الصّدّيقة الزّهراء ( عليها السلام ) تعيش المأساة بكلّ أبعادها البعيدة والقريبة يوم رأت عليّاً يقصى مرغماً عن مكانه الذي بواه الله فيه. وثانيهما : تأميم قرية فدك من قبل الحكومة القائمة ؛ وهذه الحادثة جعلت فاطمة ( عليها السلام ) تجد فيها خير متنفس لها لإلقاء الحجّة على الأُمة وتذكيرها بأيام محمد ( صلى الله عليه وآله ) وقراراته بهذا الشأن : « شأن القيادة وشأن الإلتزام بنقاء الشّريعة ». ونحن لا نريد أن نتعرّض لتصريحات فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) بهذا الشأن قبل أن نبيّن حقيقة فدك ، ونحدد أبعاد مشكلتها واحتجاجات الصّديقة الزهراء بشأنها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) المراجعات / شرف الدين نقلاً عن الحاكم والطّبراني في الكبير وغيرهما. المصدر : كتاب / الزهراء / عبد الزهراء عثمان محمد