مقاييس انتهت السيدة سعاد من ارتداء ملابسها وهي تستعد للذهاب الى الاحتفال بمناسبة زفاف بنت صديقتها المفضلة ام سلام ثم جلست على أحد الكراسي تنتظر بنتها دعاء وكأنها عادت فشكت في حسن مظهرها فاتجهت من جديد الى المرآة ووقفت امامها مليا ثم استدارت لتطمئن من أناقتها ثم عادت الى جلستها تنتظر وكأنها استبطأت ابنتها فقرعت جرسا الى جوارها دخلت على أثره خادمة شابة قد جمعت شعرها على شكل تسريحة علاية وارتدت ( فستاناً ميني جوب ) مفتوح الصدر ، يكشف عن النصف الأعلى من النهدين ، وصبغت شفتيها بالروج الأحمر ، فنظرت السيدة سعاد اليها برضاء ، وتأملت أناقتها بدقة ثم قالت أراك قد انتهيت من استعدادك قبل سيدتك يا سنية ؟ أذهبي وقولي لها أن امك تنتظر ، فإن الطريق بعيد ، ويلزمنا ساعة من الزمان حتى نصل الى هناك ، ومن الضروري ان نكون أول الوافدات لصلتي الوثيقة بالأم وصلة دعاء بالعروس . فاستدارت الخادمة في غنج وهي تقول امرك يا مدام ، ورأت السيدة سعاد ان تستغل فترة انتظارها لتتأكد من اناقتها ومكياجها من جديد فتوجهت الى المرآة والقت نظرة عامة على ملابسها ، ومكياجها ، وتسريحتها ثم عادت الى جلستها وهي تتأفف لتأخر ابنتها ، وتمتمت تقول ان الساعة تقارب السابعة والنصف ويلزمنا ساعة للطريق وسوف يبدأ الاحتفال في الساعة التاسعة وما كادت تتم كلماتها حيث دخلت سنية وهي تتأود في مشيتها بدلاعة فنظرت اليها السيدة سعاد مستفهمة فابتسمت البنت في مكر وقالت ان الست دعاء سوف تتهيأ يا ستي ، فاستشاطت السيدة سعاد وهي تقول : ماذا ؟ سوف تتهيأ ؟ إذن ماذا كانت تصنع لحد الآن فتمايلت سنية ثم ضحكت وهي تقول كانت تصلي قالت السيدة سعاد : كانت تصلي ؟ اذن فلم تكن تستعد طيلة هذه المدة ؟ يا لشذوذ هذه البنت المسكينة ، ثم أردفت السيدة سعاد قائلة اذهبي اليها مرة ثانية يا سنية وقولي لها ان امك لن تنتظر اكثر من عشر دقائق اخرى فذهبت سنية ثم عادت لتقول انها آتية يا مولاتي فأثارت هذه الكلمة السيدة سعاد ونهضت واقفة وهي تقول ماذا تقولين ؟ وكيف تمكنت من الاستعداد خلال هذه الفترة القصيرة ، لا شك انها سوف تجلب عليّ العار في هذه الحفلة ، اسفي عليها وعلى جمالها الرائع وهي تمحو معالمه باهمالها وشذوذها ، وللمرة الرابعة اتجهت السيدة سعاد نحو المرآة وكأنها تريد ان تعوض بأناقتها عن اناقة ابنتها وما أن عادت من امام المرآة حتى رأت ابنتها داخلة وقد انطبعت على قسماتها بسمة ملائكية زادتها جمالا وبهاءا وهي تقول : ها أناذي على استعداد يا أماه ، ولكن السيدة سعاد تسمرت في مكانها وهي تتأمل ابنتها بعين ناقدة ثم انفجرت تقول بتهكم طبعا طبعا انك على استعداد وأي استعداد هذا أو سوف تذهبين الى الاحتفال بهذا الثوب الطويل المغلق ؟ ومع هذا الشعر البسيط المهمل ؟ وبهذه الأكمام الطويلة ؟ ثم اين المكياج ؟ وهل هناك فتاة لا تعرف ان ترسم عينيها وشفتيها غيرك يا مسكينة ؟ لقد اخرتيني طيلة هذه المدة وقد كنت آمل ان تكوني مشغولة باعداد نفسك للحفلة فإذا بك كنت تصلين ، ثم تقولين باعتزازها انا ذي على استعداد ، وكانت دعاء تستمع الى امها بهدوء ، وبعد أن انتهت الام من حملتها الثائرة قالت دعاء بصوت مؤدب اما أني كنت اصلي فإن الواجب الديني كان يحتم على ذلك لأني سوف لن اتمكن من الصلاة خلال الاحتفال وسوف لن ينتهي الاحتفال قبل نهاية وقت الصلاة ، وأما ثوبي فهو ليس بالطويل يا اماه أبدا ولكنه ليس ميني جوب واما شعري فهو مصفف بشكل بديع ولكن بدون أن أجلس ساعات في صالون الحلاقة استمع الى انغمام الموسيقى والوث شعري بمختلف أنواع المواد ، وأما المكياج ؛ فأنا لا أجهل طريقة وضع المكياج يا أماه ولكني لا اشعر بالحاجة الى ذلك ولا اريد ان اعتمد عليه في ابراز شخصيتي بين المجتمع ، فهزت الأم رأسها بأسف وتبرم وتمتمت تقول دعينا نمضي قبل ان ترتقي المنبر وتمطرينا بسيل من المواعظ والحكم كعادتك دائماً ولكني احس بمرارة الأسف وأنا ارى سنية تفوقك زينة واناقة ، فقالت دعاء اذا كانت المقاييس تقاس بهذا الشكل من الاناقة فان لسنية كل الحق ان تتقدم عليّ في هذا المضمار ، قالت السيدة سعاد الواقع اني لست ادري كيف ستقابلين وجوه المجتمع من سيدات وسادة هناك ! وبأي صورة باهتة سوف تظهرين وسط أجواق المطربات والمغنيات ؟ فردت دعاء بهدوء ان الاحتفال ليس بمختلط يا أماه ولو كان مختلطاً لما ذهبت اليه بأي حال من الأحوال ، ثم ليس هناك أي جوق غنائي ، أو أي مجموعة طرب ، فقهقهت السيدة سعاد وهي تقول مستهزئة اذن فإن الدعوة لأجل القاء خطاب ديني في فضل الحجاب ؟ فكتمت دعاء غيضها وقالت بهدوء : لا ، ليس هناك خطاب ديني ولكنه اجتماع لوداع العروس قبل رحلتها الى شهر العسل ، ولاحظت الأم ان دعاء تتكلم بجد وانها مستعدة لاطالة الحديث ، فخشيت ان تتأخر عن بداية الاحتفال فقالت تريد ان تنهي الحديث هي بنا الآن ، وخلال الطريق حدثيني بما لديك من أخبار الاحتفال ، فاتجهت دعاء الى حيث اتت بمعطف أسود طويل فضفاض وارتدته ثم لفت حول رأسها طرحة سميكة سوداء وكانت امها قد اعتادت ان تراها في هذا الزي ولذلك لم تعترض من جديد واستقلتا السيارة ومعهما سنية تحمل علبة فيها وسائل مكياج سيدتها لتصلح ما يفسد من مكياجها خلال الطريق ، وبعد أن قطعت السيارة النصف الأكثر من الطريق سألت السيدة سعاد ابنتها كيف عرفت ان الحفلة غير مختلطة يا دعاء ؟ وانها خالية من الأجواق الغنائية ، قالت دعاء كان من المفروض ان تكون الحفلة مختلطة وان تقام في احد النوادي العامة وذلك تمشياً مع ذوق السيدة أم العروس ، ولكن صديقتي العروس ابتهال وهي فتاة مؤمنة قوية في ايمانها كما تعلمين ، أبت ان تكون حفلة زفافها على هذا الشكل من التحدي لأحكام الشريعة وآداب الاسلام ، وحصل صراع ، بين الأم والبنت ولكن انضمام فكرة العريس الى فكرة العروس ، وإصرار ابتهال على الغاء الاحتفال بتاتا ، جعل أم العروس تنزل أمام رغبة ابنتها وتجعله احتفالا خاليا من كل انواع التفرنج ، وكانت السيدة سعاد تستمع الى ابنتها وعلامات الاستغراب بادية على ملامحها ثم قالت وهل ان العريس مثل العروس يحمل نفس الافكار الرجعية ؟ فابتسمت دعاء بمرارة لعبارة امها القاسية وقالت طبعا انه مثلها من ناحية الإيمان والاعتدال ولو لم يكن كذلك لما رضيت به زوجاً فالفتاة المؤمنة لا تقرن حياتها مع زوج ماجن لا يماشيها بأفكارها وعقيدتها لأن اختلاف الأفكار هو أقوى معول في هدم الحياة الزوجية ثم كيف تعتبرين هذه الأفكار افكارا رجعية وهي من صميم ديننا وقد نص عليها قرآننا ، ان افكارنا هي الأفكار الصالحة يا أماه ، وان فكرة السفور والاختلاط هي الفكرة الرجعية التي تعود بالإنسان الى العهود البدائية حيث لا شريعة سماوية ، ولا مبادىء انسانية ، وكأن حديث دعاء كان قد أثر على أمها لأنها ردت عليها قائلة ولكن بغير حماس ان الحضارة تدعو الى ذلك يا دعاء ، قالت دعاء أية حضارة هذه يا أماه انها حضارة مبطنة بالمآسي والأهوال مغلقة بالاغلفة البراقة التي تخفى وراءها عوامل الشر ، والنزعات الحيوانية ، والأغراض الشخصية ، نحن لا نؤمن بهذه الحضارة الخادعة يا اماه ، قالت الأم بنغمة لا تخلو من أسف ولكنه المفهوم العام في زماننا هذا ، والمقياس الذي تقاس به الشخصية يا دعاء ، فردت دعاء بحماس ولهذا فنحن نسعى الى ابطال هذا المفهوم ، ونحاول ان نثبت للمجتمع أن في امكان الفتاة ان تبرز لسبب من كمالها الشخصي وليس على حساب وسائل المكياج ومستحدثات الموضة ، فهي حينما تبرز بكمالها المستقل تشعر بلذة الكمال ونشوة الانتصار ، خلاف ما لو برزت على حساب تخطيطات مصممي الأزياء وواضعي خطوط المكياج فهي حين ذاك تكون وسيلة للعرض لا اكثر ولا اقل ، وعند هذا وصلت السيارة الى باب الاحتفال فما كان من الام الا وربتت على ظهر ابنتها قائلة بارك الله فيك يا دعاء ، ليتني اتمكن ان اكتسب منك هذا اليقين ، وهذه الروح المطمئنة الواثقة . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المجموعة القصصية الكاملة لبنت الهدى ص ( 33 ـ 38 )