المقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. المؤمن يعلم أن له في هذه الدنيا مهمة يؤديها، وأن له غاية يريد الوصول إليها، وهو يعلم تمام اليقين أن هذه الدنيا زائلة لا تساوي شيئا مقابل الآخرة، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (ما لدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بما ذا يرجع)(1). وهو يعلم أيضا أن هذه الدنيا لا تساوي شيئا ذا قيمة عند الله تعالى، ولو كانت لها قيمة تذكر لحرمها على الكافرين، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء)(2). لذا فالمؤمن يتطلع إلى أفق أعلى، فهو يتطلع إلى ما عند الله تعالى، إلى نعيم الجنة ورضا الله سبحانه، وهو يعلم كما جاء في الحديث النبوي الشريف: (أن الله تعالى يعطي الدنيا لمن أحب ومن لم يحب، ولكنه لا يعطي الآخرة إلا لمن أحب)(3). وعندما يعطى المؤمن شيء من زينة الدنيا ومتاعها فإنه يقابلها بالشكر، ويصرفها في عبادته سبحانه، خوفا على نفسه من الاستدراج. قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لما حملت إليه كنوز كسرى : (اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجا، فإني أسمعك تقول: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} (الأعراف: من الآية182)(4). وهذا هو منهج المؤمنين ومسلكهم في الحياة، فكل نعمة يعطاها المؤمن يقابلها بطاعة جديدة، وشكر جديد، فإذا غفل عن هذا ونسي شكر النعمة بشكر النعم فهو مقصر وغافل، فإذا قابل النعمة بالمعصية فهو مستدرج، والفاصل بين المقصر والمستدرج خيط دقيق جدا، فإن المقصر في شكر النعمة في غفلة منه وجهلا قد ينزلق إلى منحدر الاستدراج، ولذلك كان العارفون يخشون على أنفسهم الاستدراج)(5) . اللهم إننا نعوذ بك من أن نكون من المستدرجين، ونسألك من أن تجعلنا من عبادك الشاكرين المخلصين، وأن تجعل عملنا كله صالحا لوجهك الكريم. (1) معنى الاستدراج: أولا: في اللغة: جاء في مفردات الراغب الاصفهاني : الاستدراج : سنستدرجهم معناه: نأخذهم درجة درجة، وذلك إدناؤهم من الشيء شيئا فشيئا؛ كالمراقي والمنازل في ارتفاعها ونزولها(6). وجاء في مختار الصحاح : استدرجه بمعنى : أدناه على التدريج فتدرّج(7). وفي لسان العرب : سنستدرجهم : سنأخذهم قليلا قليلاً ولا نباغتهم. واستدرجه: أي أدناه منه على التدرج فتدرج هو(8). وفي المصباح المنير : استدرجته : أخذته قليلا قليلاً(9). وفي المعجم الوسيط: استدرجه : رقّاه من درجة إلى درجة. استدرج الله العبد: أمهله ولم يباغته(10). وفي كلمات القرآن: سنستدرجهم : سنستدنيهم إلى الهلاك بالإنعام والإمهال(11). ثانيا: عند المفسرين : جاء في تفسير الطبري : الاستدراج: أخذ المستدرج برفق حتى يورطه المكروه(12). وجاء في تفسير الزمخشري : الاستدراج استفعال من الدرجة بمعنى الاستصعاد ، أو الاستنزال درجة بعد درجة(13). وفي تفسير القرطبي : الاستدراج : ترك المعاجلة، وأصله النقل من حال إلى حال كالتدرج، ومنه قيل درجة وهي منزلة بعد منزلة(14).[وقيل]: أن يحط درجة بعد درجة إلى المقصود(15). وفي تفسير البغوي : الاستدراج أن يتدرج إلى الشيء في خفية قليلا قليلاً فلا يباغت ولا يجاهر(16). وفي تفسير ابن الجوزي : عن ابن قتيبة : هو أن يذيقهم من بأسه قليلا قليلاً من حيث لا يعلمون، ولا يباغتهم به ولا يجاهر هم. وعن الأزهري: سنأخذهم قليلا قليلاً من حيث لا يحتسبون(17). وفي تفسير البيضاوي : الاستدراج: الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة، سنستدرجهم: سنستدنيهم إلى الهلاك قليلا قليلاً(18). وفي تفسير أبي السعود : والاستدراج بمعنى: صعد ثم اتّسع فيه، أو بمعنى: مشى مشيا ضعيفا، أو النقل إلى أعلى درجات المهالك ليبلغ أقصى مراتب العقوبة والعذاب(19). وفي تفسير الشوكاني : الاستدراج: هو الأخذ بالتدريج منزلة بعد منزلة، وقيل: أن يخطوا درجة بعد درجة إلى المقصود(20). وفي تفسير الآلوسي : الاستدراج: بمعنى النقل درجة بعد درجة من سفل إلى علو فيكون استصعادا، أو العكس فيكون استنزالا(21). وفي تفسير القاسمي : واصل الاستدراج : أن يتدرج إلى الشيء قليلا قليلا، تشبيها بمن يرقى درجة درجة، حتى ينتهي إلى العلو، وقيل إنه من الدرجة ، لأنه ينحط درجة بعد درجة حتى ينتهي إلى حال الهلاك(22). وفي تفسير المنار : الاستدراج : مأخوذ من الدرج مصدر درج، أو من الدرجة وهي المرقاة، يقال درَج الكتاب والثوب وأدرجه إذا طواه…ويقال درج فلان بمعنى مات، وهذه آثار قوم درجوا أي انقرضوا(23). (2) نوعا الاستدراج : (أ) استدراج صعود : عن عقبة بن عامر (رضي الله عنه)، عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، قال: (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج)(24). وهذا يمكن حمله على الاستصعاد باعتبار نظرهم وزعمهم أن متواترة النعم أثرة من الله تعالى وهو الظاهر(25). مع أنه في الحقيقة تردّ في مهاوي مصارعه فاستدراجه سبحانه إياهم أن يواتر عليهم النعم مع انهماكهم في الغي فيحسبوا أنها لُطف لهم منه تعالى فيزدادوا بطرا وطغيانا(26). (ب) استدراج نزول: يقول العلامة الآلوسي : (فإذا أخلد إلى الأرض واتبع الشهوات وارتكب المعاصي والسيئات ينزل درجة درجه الى أن يصير أسفل سافلين)(27)، وهذا يمكن حمله على الذي يعارض في عدالة الله سبحانه في توزيع العم والأرزاق،ة فيقابل ذلك بالعناد والمعارضة فيخلد إلى الأرض. (3) استدراج الأفراد : (أ) استدراج الكفرة والعصاة : قال تعالى : {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ .وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِين}(القلم: من الآية 44، والآية45). يقول الطبري : سنكيدهم ، بأن نمتعهم بالدنيا حتى يظنوا أنه لخير لهم(28). ويقول الزمخشري : نستدنيهم قليلا قليلاً إلى ما يهلكهم، ويضاعف عقابهم (من حيث لا يعلمون) ما يراد بهم: وذلك أن يواتر الله نعمة عليهم مع انهماكهم في الغي، فكلما جدّد عليهم نعمة ازدادوا بطرا وجددوا معصية فيتدرجون في المعاصي بسبب ترادف النعم، ظانين أن متواترة النعم أثرة من الله وتقريب، وإنما هي خذلان منه وتبعيد ، فهو استدراج الله تعالى(29). ويقول ابن كثير : أي وهم لا يشعرون، بل يعتقدون أن ذلك من الله كرامة، وهو في نفس الأمر إهانة كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} (المؤمنون:55)(30). ويقول أبو السعود العمادي : أي سنستنزلهم إلى العذاب درجة فدرجة بالأمان وإدامة الصحة وازدياد النعمة من حيث لا يعلمون، أنه استدراج وهو الإنعام عليهم بل يزعمون أنه إيثار لهم وتفضيل على المؤمنين مع أنه سبب هلاكهم(31). ويقول الآلوسي : أي سنستنزلهم إلى العذاب درجة فدرجة بالإمهال وإدامة الصحة وازدياد النعمة(32). ويقول القاسمي : أي سنكيدهم بالإمهال وإدامة الصحة وزيادة النعم من حيث لا يعلمون، أنه استدراج وسبب هلاكهم، أي أستنزله درجة فدرجة، حتى يورّطه فيه(33). ويقول الشيخ حجازي : أنه استدراج الله لهم ، فهو أن الله أعطاهم مالا وأولادا، ومتعهم صحة وعافية فشغلهم كل ذلك عن النظر الصحيح في آيات الله وإتباع الرسول مع قيام الأدلة الواضحة على صدقه وصحة نبوته، وقد تمادوا في باطلهم وغفلتهم، حتى يحسبوا أن تأخير العذاب عنهم وإسداء النعم لهم لأنهم يستحقون ذلك وأنهم مكرمون عند ربهم؛ بل أعماهم الغرور ففهموا أنه سيكون لهم مثل ذلك يوم القيامة كالمؤمنين على الأقل، وما زال المشركون كذلك سادرين في غيهم وغرورهم حتى نزل بهم البلاء فبدد الله جمعهم وشتت شملهم، أليس هذا استدراجا لهم، وإملاء لهم حتى تكون القاضية(34). ويقول سيد قطب : وأن شأن المكذبين، وأهل الأرض أجمعين، لأهون وأصغر من أن يدبر الله لهم هذه التدابير…ولكن سبحانه- يحذرهم نفسه ليدركوا أنفسهم قبل فوات الأوان. وليعلموا أن الأمان الظاهر الذي يدعه لهم هو الفخ الذي يقعون فيه…وأن إمهالهم على الظلم والبغي والإعراض والضلال هو استدراج لهم إلى أسوأ مصير، وأنه تدبير من الله ليحملوا أوزارهم كاملة، ويأتوا الموقف مثقلين بالذنوب، مستحقين للخزي والرهق والتعذيب. وليس أكبر من التحذير أو كشف الاستدراج والتدبير، عدلا ولا رحمة. والله سبحانه يقدم لأعدائه وأعداء دينه ورسوله عدله ورحمته في هذا التحذير وذلك النذير. وهم بعد ذلك وما يختارون لأنفسهم، فقد كشف القناع ووضحت الأمور. إنه سبحانه يمهل ولا يهمل. ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. وهو هنا يكشف عن طريقته وعن سنته التي قدرها بمشيئته(35). ثم أن هذا الاستدراج في إدامة الصحة، وازدياد النعم على الكفرة والعصاة ، وبقائهم في غيهم وضلالهم، وإتباع الشهوات، وانتهاك حرمات الله تعالى، نتيجة تكذيبهم بوعيد الله تعالى وبكتابه؛ قد يطول هذا الاستدراج، أو يقصر. لكنه في الظاهر قد يطول، ولكن في علم الله تعالى قصير، لذا قال تعالى: (وأملي لهم). يقول الطبري: أنسئ لهم في آجالهم برهة من الدهر(36). ويقول القرطبي : أي أمهلهم وأطيل لهم المدة. والملاوة : المدة من الدهر. وأملى الله له : أي أطال . وقيل لا أعاجلهم بالموت(37). ويقول أبو السعود : أمهلهم ليزدادوا إثما وهم يزعمون أن ذلك لإرادة الخير لهم(38). ويقول القاسمي : أي أمهلهم وأنسئ في آجالهم ملاوة من الزمن لتكمل حجة الله عليهم(39). ويقول ابن كثير: أي أؤخرهم وأمدهم، وذلك من كيدي ومن مكري بهم(40). ويقول الدكتور عبد الكريم زيدان : يستدرج الكفرة والعصاة بأن يرزقهم الصحة والنعمة فيجعلون رزق الله ذريعة إلى ازدياد الكفر والمعاصي. وهم لا يعلمون أي وهم لا يشعرون أن هذا استدراج لهم ، بل يعتقدون أن ذلك من الله كرامة لهم مع أنه في نفس الأمر إهانة لهم واستدراج(41). (ب) استدراج المكذبين : ومن سنته سبحانه وتعالى في الاستدراج، استدراج المكذبين بآياته؛ قال تعالى : {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} (الأعراف:182). والمعنى أن الذين كذبوا بآيات الله تعالى ولم تنفعهم هداية الهادين، سنستدنيهم إلى الهلاك قليلا قليلا، من حيث لا يشعرون، ومن ذلك أن تتوافر عليهم النعمة فيظنوا أن لطف من الله تعالى بهم، فيزدادوا بطرا وانهماكا في الغي حتى يحق عليهم كلمة العذاب(42). يقول ابن منظور: … وذلك أن الله تعالى يفتح عليهم من النعيم ما يغتبطون به فيركنون إليه ويأنسون به فلا يذكرون الموت فيأخذهم على غرتهم أغفل ما كانوا(43). ويقول البغوي : سنمكر بهم من حيث لا يعلمون. وقيل : نأتيهم في مأمنهم ؛كما قال تعالى : {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا } (الحشر: من الآية2)(44). ويقول المراغي : والذين كذبوا بآيات الله سندعهم يسترسلون في غيهم وضلالهم ولا يدرون شيئا هن عاقبة أمرهم، لجهلهم سنن الله في النازعة بين الحق والباطل، وأن الحق يدفع الباطل، وما ينفع الناس يتغلب على ما يضرهم كما قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء : من الآية18)(45). وفي تفسير المنار: ومعنى الآية: أمهل هؤلاء المكذبين المستدرجين في العمر وأمد لهم في أسباب المعيشة والقدرة على الحر ب بمقتضى سنتي في نظام الاجتماع للبشر كيدا لهم ومكرا بهم لا حبا منهم ونصرا لهم(46). وفي الظلال: …. وهذه هي القوة التي لا يحسون حسابها وهم يشنون هذه المعركة الضاربة ضد هذا الدين وضد الأمة المتمسكة به الملتقية عليه المتجمعة على أصر ته .. وهذه هي القوة التي يغفلها المكذبون بآيات الله.ز إنهم لا يتصورون أبدا إنه استدراج الله لهم من حيث لا يعلمون. ولا يحسبون أن إملاء الله لهم إلى حين .. فهم لا يؤمنون بأن كيد الله متين… أنهم يتولى بعضهم بعضا ويرون قوة أولياؤهم ظاهرة في الأرض فينسون القوة الكبرى.. أنها سنة الله مع المكذبين يرخي لهم العنان، ويملي لهم في العصيان والطغيان، استدراجا لهم في طريق الهلكة، وإمعانا في الكيد لهم والتدبر. ومن الذي يكيد إنه الجبار ذو القوة المتين ولكنهم غافلون والعاقبة للمتقين. الذين يهدون بالحق وبه يعدلون(47). (4) استدراج الأمم : قال تعالى :{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ.فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ. فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأنعام: الآيات 42-45). وقوله تعالى : (فلما نسوا ما ذكروا به)، أي تركوا العمل بما أمروا به (فتحنا عليهم أبواب كل شيء): من الرخاء والسعة والصحة؛ فكان البأساء والضراء (بغتة): فجأة؛ (فإذا هم مبلسون)؛ والمبلس: الذي قد نزل به شرّ لا يقدر على دفعه؛ وأصل الإبلاس في كلام العرب : انقطاع الحجة، والسكوت عندها، وقيل الحزن على الشيء والندم. وقيل: المبلس: المخذول المتروك(48). وفي تفسير البغوي : (فلما نسوا ما ذكروا به)، تركوا ما وعظوا وأمروا به (فتحنا عليهم أبواب كل شيء)، أي بدلنا مكان البلاء والشدة، الرخاء والصحة، (حتى إذا فرحوا بما أوتوا)، وهذا فرح بطر مثل فرح قارون بما أصاب من الدنيا (أخذناهم بغتة)، فجأة آمَنَ ما كانوا، وأعجب ما كانت الدنيا إليهم. (فإذا هم مبلسون)، آيسون من كل خير(49). وفي تفسير ابن كثير : (فلما نسوا ما ذكروا به)، أي اعرضوا عنه وتناسوه وجعلوه وراء ظهورهم (فتحنا عليهم أبواب كل شئ)، أي فتحنا عليهم أبواب الرزق من كل ما يختارون، وهذا استدراج منه تعالى وإملاء لهم ولهذا قال: (حتى إذا فرحوا بما أوتوا)، أي من الأموال والأولاد والأرزاق (أخذناهم بغتة)، أي على غفلة، (فإذا هم مبلسون)، أي آيسون من كل خير(50). وفي كلمات القرآن : (كل شيء) : من النعم الكثيرة استدراجا لهم. (أخذناهم بغتة): أنزلنا بهم العذاب فجأة. (هم مبلسون ): آيسون من الرحمة أو مكتئبون(51). وقيل أبلس فلان : إذا سكت وإذا انقطعت حجته(52). وقيل : إذا سكت غما(53). (5) علامات المستدرجين : أ- الظلم والطغيان : عن أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) ؛ قال ثم قرأ : (وكذلك اخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد)(54). ب_ تجديد المعاصي : أي أنهم بترادف نِعم الله تعالى عليهم، مقابل أن يشكروا الله على هذه النعم، يقومون بوضع هذه النعم في خدمة شهواتهم الحيوانية، وانتهاك المحرمات، يقول الزمخشري : (فكلما جدّد عليهم نعمة ازدادوا بطرا وجدّدوا معصية، فيتدرجون في المعاصي بسبب ترادف النعم)(55). وقال الضحاك : كلما جدّدوا لنا معصية جددنا لهم نعمة(56). وعن يحيى بن المثنى، قال: كلما أحدثوا ذنبا جددنا لهم نعمة تنسيهم الاستغفار(57). (ج) حبّ الدنيا : قال تعالى : {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا }(البقرة: من الآية212). أي حسُنت الحياة الدنيا للكافرين وأشربت محبتها في قلوبهم فتهالكوا عليها، وتهافتوا فيها، وأعرضوا عن الدين حين ظنوا أن منافعها قد تفوتهم(58). وهم لأجل هذا يتنافسون على حطام الدنيا، لأجل منافعها الزائلة وسعادتهم المؤقتة، فهو يجعل من هذه الدنيا جنة (في نظره)، لعمره القصير الذي سيعيشه على سطح هذا الكوكب. وقد صدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، حينما قال: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)(59). (د) توفّر أصناف النعم المادية : بيّنا فيما سبق، أن الله سبحانه وتعالى يفتح على الكافرين صنوف نعَمِه، عندما يوغلون في الكفر والمعصية، وذلك استدراجا لهم إلى العذاب والهلاك، في الدنيا بأخذهم فجأة، وثم إلى عذاب أليم يوم القيامة. قال تعالى : {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} (الأنعام:44). وعن النبي (صلى الله عليه وسلم : قال : (إذا رأيت الله يعطي العبد على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج)(60). (هـ) الفرح والبطر : الفرح : انشراح الصدر بلذة عاجلة، وأكثرها ما يكون ذلك في اللذات البدنية والدنيوية، قال تعالى: { حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا}(الأنعام: من الآية44) . وقال: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ}(غافر: من الآية75)(61). وفي المعجم الوسيط: الفرح :…. استخفّته النعمة فأبطرته(62). والبطر: دَهَش يعتري الإنسان من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها، وصرفها إلى غير وجهها(63). أو بمعنى: غلا في المرح والزهوّ… ودَهَش وحار فيه. فهو بَطر النعمة: استخفها فكفرها(64). (و) التمكين المؤقت وفقدان الطمأنينة : يقول الأستاذ محمد قطب : (إن تمكين الكفار هو تمكين مؤقت مهما طالت مدته، وينتهي دائما بالدمار….[ويقول عن الآية (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء)]، إن أبواب كل شيء المفتوحة على الكفار حين يوغلون في الكفر هي أبواب التمكين المادي وحده، ولكن هناك بابين لا يفتحان على الكفار أبدا لأن الله تعالى حرمهما على الكافرين: باب البركة، وباب الطمأنينة، وهما بابان يفتحهما الله على المؤمنين فحسب : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ }(لأعراف: من الآية96) . {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد:28))(65). (6) نهاية المستدرجين : إن الله سبحانه وتعالى يعطي الوقت الكافي لهؤلاء المستدرجين، الذين يتمتعون بمتع الدنيا، رغم غيّهم ومعاصيهم، حتى لا تكون لهم حجة يوم القيامة. وإنهم لا يعلمون أن الله تعالى يستدرجهم، (جزاء كفرهم وإعراضهم فيكلهم إلى الأسباب التي يتخذونها.. حتى تهلكهم الأسباب في النهاية)(66). قال تعالى : { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ.وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}(القلم: 44،45). وفي معنى : (أن كيدي متين) : جاء في كلمات القرآن : إن أخذي شديد وقوي(67). وفي تفسير أبي السعود : هي الأخذ الشديد على غرّة فتسميته كيدا لما أن ظاهره لطف وباطنه قهر، أو الأخذ على خفاء(68). وفي تفسير البيضاوي : إنما سمي كيدا لأن ظاهره إحسان وباطنه خذلان(69). وفي تفسير المنار : والكيد كالمكر هو التدبير الذي يقصد به غير ظاهره بحيث ينخدع المكيد له بمظهره، فلا يفطن له حتى ينتهي إلى ما يسوئه من مخبره وغايته(70). تبين مما سبق إن نهاية هؤلاء المستدرجين نهاية سيئة جدا، في الدنيا وفي الآخرة عذاب أكبر، وقد تكون نهايتهم وهم في أوج صحتهم وقوتهم؛ أو قد تكون في خططهم وتدابيرهم للآخرين؛ أو بسبب خلافات صغيرة تطفوا على السطح فتكبر، ثم يبدأ النهاية بالتدريج. قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)(71) ، أي لم يخلصه ولم يتركه حتى يستوفي عقابه(72). (7) خوف المؤمن من الاستدراج : المؤمن يعلم أن له في هذه الدنيا مهمة يؤديها، وأن له غاية يريد الوصول إليها بعد مماته، وهو يعلم تمام اليقين أن هذه الدنيا فانية زائلة، لا تساوي شيئا مقابل الآخرة. قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بماذا يرجع)(73). وهو يعلم أيضا أن هذه الدنيا، لا تساوي شيئا ذا قيمة عند الله تعالى، ولو كانت لها قيمة تُذكر لحرّمها على الكافرين، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء)(74). لذا فإن المؤمن يتطلع إلى أفق أعلى، عالية جدا، فهو يتطلع إلى ما عند الله، إلى نعيم الجنة ورضا الله تعالى، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (إن الله يعطي الدنيا لمن أحب ومن لم يحب؛ ولكنه لا يعطي الآخرة إلا لمن أحب)(75). وعندما يعطى المؤمن من نعيم هذه الدنيا، فإنه يقابلها بالشكر، ويصرفها في عبادة الله تعالى، خوفا على نفسه من الاستدراج، قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، لما حملت إليه كنوز كسرى : اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجا، فإني أسمعك تقول :{سنستدرجهم من حيث لا يعلمون }(76). لذا فإن نِعَم الله سبحانه يجب أن تقابل بالشكر، (وهذا هو منهج المؤمنين ومسلكهم في الحياة، فكل نعمة يعطاها المؤمن يقابلها بطاعة جديدة وشكر جديد، فإذا غفل عن هذا ونسي شكر النعمة بشكر المنعم فهو مقصر وغافل، فإذا قابل النعمة بالمعصية فهو مستدرج)(77). (8) سُنّة الله تعالى في إعطاء زينة الدنيا قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} (هود:15). جاء في تفسير الزمخشري ، في تفسير هذه الآية : نوصل إليهم أجور أعمالهم وافية كاملة من غير بخس في الدنيا، وهو ما يرزقون فيها من الصحة والرزق…. وقد قيل هم اليهود والنصارى، إن أعطوا سائلا ووصلوا رحما، عجّل لهم جزاء ذلك بتوسعة الرزق وصحة البدن(78). وفي تفسير ابن كثير: قال ابن عباس: إن أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا وذلك أنهم لا يظلمون نقيرا. يقول: من عمل صالحا لالتماس الدنيا صوما وصلاة وتهجدا بالليل، لا يعمله إلا لالتماس الدنيا، يقول الله تعالى: أوفيه الذي التمس في الدنيا من المثابة وحبط عمله الذي كان يعمله لالتماس الدنيا وهو في الآخرة من الخاسرين. وقال قتادة : من كان الدنيا همّه ونيته وطلبته جازاه الله بحسناته في الدنيا ثم يفضِ إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء، وأما المؤمن فيجازي بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة(79). وفي تفسير البيضاوي : من كان يريد الحياة الدنيا بإحسانه وبرِّه نوصل إليهم جزاء أعمالهم في الدنيا من الصحة والرئاسة وسعة الرزق وكثرة الأولاد، وهم فيها لا ينقصون شيئا من أمورهم. وقيل: إن الآية في أهل الرياء. وقيل: في المنافقين. وقيل: في الكفرة(80). وفي تفسير المراغي : أي مَن كان حظهم من الدنيا التمتع بلذاتها من الطعام والشراب، وزينتها من اللباس والأثاث والرياش والأموال والأولاد، دون استعداد للحياة الآخرة، بعمل البر والإحسان، وتزكية النفس بعمل الطاعات بباعث الإيمان_ نؤد إليهم ثمرات أعمالهم وافية تامة بحسب سنتنا في الأسباب ولا ينقصون من نتاج كسبهم لأجل كفرهم، إذ مدار الأرزاق فيها على الأعمال لا على النيات والمقاصد، وإن كان لهداية الدين أثر في ذلك كالاستقامة والصدق، واجتناب الخيانة والزور والغش ونحو ذلك(81). وفي تفسير الدر المنثور: عن ابن عباس (رضي الله عنهما) : أي ثوابها، ومالها، نوفر لهم ثواب أعمالهم بالصحة والسرور في الأهل والمال والولد، وهم لا ينقصون(82). وفي تفسير الظلال : إن العمل للحياة الأخرى لا يقف في سبيل العمل للحياة الدنيا. بل هو هو مع الاتجاه إلى الله فيه. ومراقبة الله في العمل لا يقلل من مقداره، ولا ينقص من آثاره؛ بل تزيد وتبارك الجهد والثمر، وتجعل الكسب طيبا والمتاع به طيبا، ثم تضيف إلى متاع الدنيا متاع الآخرة. إلا أن يكون الغرض من متاع الدنيا هو الشهوات الحرام. وهذه مردية لا في الآخرة فحسب، بل كذلك في الدنيا ولو بعد حين. وهي ظاهرة في الأمم وفي حياة الأفراد. وعبر التاريخ. شاهدة على مصير كل أمة اتبعت الشهوات على مدار القرون(83). آية أخرى: قال تعالى :{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ}(الإسراء: من الآية18). أي من كان يريد بعمله الدنيا فقط، ولها يعمل ويسعى ليس له هم إلا الدنيا عجّلنا له فيها ما نشاء تعجيله من نعيمها لا كلّ ما يريد(84). وفي تفسير الطبري : (من كان يريد العاجلة) الدنيا بعمله وسعيه، لا يؤمن بمعاد، ولا يرجوا ثوابا، ولا يخاف عقابا (عجّلنا له فيها ما نشاء) يعجل الله له ما يشاء؛ من بسط، أو تقتير(85). وآية أخرى : قال تعالى : {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} (الإسراء:20). أي كل واحد من الفريقين الذين أرادوا الدنيا، والذين أرادوا الآخرة نعطيه من عطائنا الواسع تفضلا منّا وإحسانا، فنعطي المؤمن والكافر والمطيع والعاصي (وما كان عطاء ربك محظورا)، أي ما كان عطاؤه محبوسا ممنوعا عن أحد(86). ملاحظة (1) : نشر ملخص هذه المقالة في مجلة ( فه زين) العدد: ( 25 ) سنة: 2001