أحكام العشر الأواخر من رمضان

الناقل : SunSet | الكاتب الأصلى : أحكام العشر الأواخر من رمضان | المصدر : www.qudwa1.com

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إله الأولين والآخرين ، وأشهد ان محمداً عبده ورسوله النبي الأمين ، عليه من ربه أزكى صلاة ، وأعطر تسليم ، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ، مصابيح الدجى ، ونجوم الهدى ، ومن ابتعهم واقنفى أثرهم ، إلى يوم الدين . . أما بعد :
فهذه جملة من أحكام العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك ، أقدمها حديقة يانعة ، ليقتطف منها الخطيب والإمام وحتى المأموم ، لتعم الفائدة أرجاء المسلمين ، لا سيما وهي أحكام تهم المسلم في مثل تلك الأيام المباركات من شهر الرحمات والبركات ، وحان اون الشروع في المقصود فأقول وبالله التوفيق :
أولاً / ليلة القدر :
لقد اختص الله تبارك وتعالى هذه الأمة المحمدية على غيرها من الأمم بخصائص وفضلها على غيرها من الأمم بأن أرسل إليها أفضل الرسل والأنبياء وخاتمهم وأخرهم ، وجعلها خير الأمم قال تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } [ آل عمران ].
وقد أنزل لهذه الأمة الكتاب المبين ، والصراط المستقيم ، كتاب الله العظيم ، كلام رب العالمين ، قال تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } [ الحجر ] ، وقال تعالى : { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد } [ فصلت ].
فقد أنزل الله عز وجل القرآن الكريم في ليلة مباركة هي خير الليالي ، ليلة اختصها الله عز وجل من بين الليالي ، ليلة العبادة فيها هي خير من عبادة ألف شهر وهي ثلاث وثمانين سنة وثلاثة أشهر تقريباً ، ألا وهي ليلة القدر ، قال تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر * تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر * سلام هي حتى مطلع الفجر } [ القدر ] ، وقال تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم } [ الدخان ] ، وسميت بليلة القدر لعظم قدرها وفضلها عند الله تبارك وتعالى ، ولأنه يقدر فيها ما يكون في العام من الآجال والأرزاق وغير ذلك ، كما قال تعالى : { فيها يفرق كل أمر حكيم } [ الدخان ] .

سبب تسميتها ليلة القدر:
أولاً : أنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة ، فيكتب فيها ما سيجري في ذلك العام ، وهذا من حكمة الله عزوجل وبيان إتقان صنعه وخلقه . . .
ثانياً : سميت ليلة القدر من القدر وهو الشرف كما تقول فلان ذو قدر عظيم ، أي ذو شرف لقوله تعالى : { وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر } وليلة خير من ألف شهر قدرها عظيم ولاشك .
ثالثاً : وقيل لأن للعبادة فيها قدر عظيم لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " [ متفق عليه ] . وهذا لايحصل إلا لهذه الليلة فقط ، فلو أن الإنسان قام ليلة النصف من شعبان ، أو ليلة النصف من رجب ، أو ليلة النصف من أي شهر ، أو في أي ليلة لم يحصل له هذا الأجر . [ الشرح الممتع 6/494 ] .
يقول الشيخ ابن عثيمين : أن الإنسان ينال أجرها وإن لم يعلم بها ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً " ولم يقل عالماً بها ، ولو كان العلم شرطاً في حصول هذا الثواب لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم .

علامات ليلة القدر :
1ـ قوة الإضاءة والنور في تلك الليلة ، وهذه العلامة في الوقت الحاضر لا يحس بها إلا من كان البر بعيداً عن الأنوار .
2ـ زيادة النور في تلك الليلة .
3ـ الطمأنينة ، أي طمأنينة القلب ، وانشراح الصدر من المؤمن ، فإنه يجد راحة وطمأنينة وانشراح صدر في تلك الليلة أكثر من مما يجده في بقية الليالي .
4ـ أن الرياح تكون فيها ساكنة أي : لاتأتي فيها عواصف أو قواصف ، بل يكون الجو مناسباً .
5ـ أنه قد يُري الله الإنسان الليلة في المنام ، كما حصل ذلك لبعض الصحابة .
6ـ أن الإنسان يجد في القيام لذة أكثر مما في غيرها من الليالي .
7- أن الشمس تطلع في صبيحتها ليس لها شعاع ، صافية ليست كعادتها في بقية الأيام ، ويدل لذلك حديث أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال : " أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنها تطلع يومئذ لاشعاع لها " [ أخرجه مسلم ] .

تحري ليلة القدر :
ليلة القدر ليلة مباركة ، وهي في ليالي شهر رمضان ، ويمكن التماسها في العشر الأواخر منه ، وفي الأوتار خاصة ، وأرجى ليلة يمكن أن تكون فيها هي ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان ، فكان أبي بن كعب يقول : " والله إني لأعلم أي ليلة هي ، هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها ، وهي ليلة سبع وعشرين " [ أخرجه مسلم ] . وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كان متحرياً فليتحرها ليلة سبع وعشرين ، يعني ليلة القدر " [ أخرجه أحمد بسند صحيح ] .
والصحيح أن ليلة القدر لا أحد يعرف لها يوماً محدداً ، فعن عبدالله بن أنيس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رأيت ليلة القدر ثم أنسيتها ، وإذا بي أسجد صبيحتها في ماء وطين " قال : فمطرنا في ليلة ثلاث وعشرين ، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرف ، وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه " [ أخرجه مسلم وأحمد ] ، وعن أبي بكرة : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " التمسوها في تسع بقين ، أو سبع بقين ، أو خمس بقين ، أو ثلاث بقين ، أو آخر ليلة " وكان أبو بكرة يصلي في العشرين من رمضان صلاته في سائر السنة ، فإذا دخل العشر اجتهد " [ أخرجه أحمد والترمذي وصححه ] .
وعن بن عمر رضي الله عنهما : أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرى رؤياكم قد تواطأت ـ توافقت ـ في السبع الأواخر ، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر " [ متفق عليه ] .
وعن أبي سلمة قال : سألت أبا سعيد وكان لي صديقاً ، فقال : اعتكفنا مع النبي صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان ، فخرج صبيحة عشرين فخطبنا وقال : " إني أريت ليلة القدر ، ثم أُنْسِيُتها أو نُسيتها ، فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر ، وإني رأيت أني أسجد في ماء وطين ، فمن كان اعتكف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فليرجع " فرجعنا وما نرى في السماء قزعة ـ قطعة ـ فجاءت سحابة فمطرت حتى سأل سقف المسجد ، وكان من جريد النخل ، وأقيمت الصلاة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين ، حتى رأيت أثر الطين في جبهته " [ متفق عليه ] .
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان " [ متفق عليه ] .
وعن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور ـ يعتكف ـ في رمضان ، العشر التي في وسط الشهر ، فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلة تمضي ويستقبل إحدى وعشرين رجع إلى مسكنه ، ورجع من كان يجاور معه ، وأنه أقام في شهر جاور فيه الليلة التي كان يرجع فيها ، فخطب الناس فأمرهم ما شاء الله ، ثم قال : " كنت أجاور هذه العشر ثم قد بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر ، فمن كان اعتكف معي فليثبت في معتكفه ، وقد أُريت هذه الليلة ثم أُنسيتها فابتغوها في العشر الأواخر وابتغوها في كل وتر ، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين " ، فاستهلت السماء في تلك الليلة فأمطرت فوكف المسجد ـ خر من سقفه ـ في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة إحدى وعشرين فبصرت عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونظرت إليه انصرف من الصبح ووجهه ممتلئ طيناً وماءً " [ متفق عليه ] .
وعن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور ـ يعتكف ـ في العشر الأواخر من رمضان ، ويقول : " تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان " [ متفق عليه ] .
وعن بن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر ، في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ، في خامسة تبقى " [ أخرجه البخاري ] ، قال أبو سلمة : قلت يا أبا سعيد : إنكم أعلم بالعدد منا ، قال أجل نحن أحق بذلك منكم ، قال قلت : ما التاسعة والسابعة والخامسة ؟ قال : إذا مضت واحدة وعشرين فالتي تليها ثنتين وعشرين وهي التاسعة ، فإذا مضت ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة ، فإذا مضى خمس وعشرون فالتي تليها الخامسة .
وقال بن عباس رضي الله عنهما : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هي في العشر ، هي في تسع يمضين ، أو في سبع يبقين " يعني ليلة القدر ، قال عبد الوهاب عن أيوب وعن خالد عن عكرمة عن ابن عباس : " التمسوا في أربع وعشرين " [ أخرجه البخاري ] .
وعن عبادة بن الصامت قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر ، فتلاحى ـ تخاصم ـ رجلان من المسلمين فقال : " خرجت لأخبركم بليلة القدر ، فتلاحى فلان وفلان ، فرفعت وعسى أن يكون خيراً لكم ، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة " [ أخرجه البخاري ] .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : " رأى رجل أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أرى رؤياكم في العشر الأواخر ، فاطلبوها في الوتر منها " [ أخرجه مسلم ] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أريت ليلة القدر ، ثم أيقظني بعض أهلي ، فنُسيتها فالتمسوها في العشر الغوابر ـ البواقي ـ " [ أخرجه مسلم ] .
وعن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اعتكف العشر الأول من رمضان ، ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية على سدتها حصير ، قال فأخذ الحصير بيده فنحاها في ناحية القبة ، ثم أطلع رأسه فكلم الناس فدنوا منه فقال : " إني اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة ، ثم اعتكفت العشر الأوسط ، ثم أُتيت فقيل لي : إنها في العشر الأواخر ، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف ، فاعتكف الناس معه ، قال : " وإني أريتها ليلة وتر ، وأني أسجد صبيحتها في طين وماء ، فأصبح من ليلة إحدى وعشرين وقد قام إلي الصبح فمطرت السماء فوكف المسجد ـ قَطَرَ الماء من سقفه ـ فأبصرت الطين ظاهراً ، فخرج حين فرغ من صلاة الصبح وجبينه وأنفه كلاهما فيهما الطين ظاهرا وإذا هي ليلة إحدى وعشرين من العشر الأواخر " [ متفق عليه ] .
وعن عبد الله بن أنيس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أريت ليلة القدر ، ثم أنسيتها ، وأراني صبحها أسجد في ماء وطين " قال : فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف ، وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه . قال : وكان عبد الله بن أنيس يقول : ثلاث وعشرين . [ أخرجه مسلم ] .
مما سبق ذكره من الأحاديث يتضح لنا أن ليلة القدر لا يعلم بوقتها أحد ، فهي ليلة متنقلة ، فقد تكون في سنة ليلة خمس وعشرين ، وقد تكون في سنة ليلة إحدى وعشرين ، وقد تكون في سنة ليلة تسع وعشرين ، وقد تكون في سنة ليلة سبع وعشرين ، فهي ليلة متنقلة ، ولقد أخفى الله تعالى علمها ، حتى يجتهد الناس في طلبها ، فيكثرون من الصلاة والقيام والدعاء في ليالي العشر من رمضان رجاء إدراكها ، وهي مثل الساعة المستجابة يوم الجمعة ، فقد أخفاها الله تعالى عن عباده لمثل ما أخفى عنه ليلة القدر .
يقول البغوي رحمه الله تعالى : وفي الجملة أبهم الله هذه الليلة على هذه الأمة ليجتهدوا بالعبادة في ليالي رمضان طمعاً في إدراكها .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى ليلة القدر ، ويأمر أصحابه بتحريها ، وكان يوقظ أهله في ليالي العشر الأواخر من رمضان رجاء أن يدركوا ليلة القدر، وكان يشد المئزر وذلك كناية عن جده واجتهاده عليه الصلاة والسلام في العبادة في تلك الليالي ، واعتزاله النساء فيها ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر ، أحيا ليله ، وأيقظ أهله ، وشد المئزر " [ أخرجه البخاري ومسلم ] ، وفي رواية : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره " .
فعلى المسلم أن يتأسى بنبيه صلى الله عليه وسلم ، فيجتهد في العبادة ، ويكثر من الطاعة في كل وقت وحين ، وخصوصاً في مثل هذه العشر الأخيرة من رمضان ، ففيها أعظم ليلة ، فيها ليلة عظيمة القدر ، ورفيعة الشرف ، إنها ليلة القدر ، فهاهو النبي صلى الله عليه وسلم الذي غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، يقوم ويعتكف في هذه الليالي المباركات رجاء أن يدرك ليلة القدر ، رجاء مغفرة الله تعالى له ، فحري بكل مسلم صادق ، يرجو ما عند الله تعالى من الأجر والثواب ، ويطمع فيما عند الله تعالى من الجزاء الحسن ، ومن يرغب في جنة الخلد وملك لا يبلى ، وحري بكل مؤمن صادق يخاف عذاب ربه ، ويخشى عقابه ، ويهرب من نار تلظى ، حري به أن يقوم هذه الليالي ، ويعتكف فيها بقدر استطاعته ، تأسياً بالنبي الكريم ، نبي الرحمة والهدى صلى الله عليه وسلم ، فما هي إلا ليالي عشر ، ثم ينقضي شهر الخير والبركة ، شهر الرحمة والمغفرة ، والعتق من النار ، ما هي إلا ليالي معدودات ، ويرتحل الضيف العزيز ، الذي كنا بالأمس القريب ننتظره بكل فرح وشوق ، وبكل لهفة وحب ، وها نحن في هذه اليالي المباركات ليالي النفحات الربانية الكريمة ، نتأهب جميعاً لتوديعه ، والقلوب حزينة على فرقاه ، والنفوس يملؤها الحزن والأسى على مغادرته وارتحاله ، ولا ندري أيكون شاهداً لنا أم شاهداً علينا ، فقد أودعناه كل عمل لنا ، ونسأل الله تعالى أن يتقبل منا صالح الأعمال والأقوال ، وأن يتجاوز عن سيئها وسقيمها ، إنه رباً براً رحيماً غفوراً .
فليحرص الجميع على أداء صلاتي التراويح والتهجد جماعة في بيوت الله تعالى طمعاً في رحمته ، وخوفاً من عذابه ، كما يحرص الواحد منا على جمع ماله ، فكم هم الناس اليوم الذين نجدهم حول آلات الصرف الآلي ، وكم هم الناس اليوم الذين نجدهم على الأرصفة ، وحول شاشات التلفاز ، والفضائيات ، متحلقين وقد غشيتهم السكينة ، وهدأت منهم الحركات ، فهم جمود لا يتكلمون ، وأسرى شاشات لا يُطلقون ، وكلهم مسيئون ومذنبون ، والعياذ بالله ، فهل من عودة صادقة لدين الله تعالى ، وهل من مراجعة للنفس ، قبل أن يداهمها ملك الموت ، فتقضي نحبها ولا تدري ما الله فاعل بها ، لا بد ان نعرض أنفسنا على كتاب ربنا ، وسنة نبينا فهما ميزانا العدل والحق ، فحاسبوا أنفسكم في هذه الدنيا ما دام انكم في دار المهلة ، فاليوم عمل ولا حساب ، وغداً حساب ولا عمل ، حاسبوا أنفسكم قبل ان تحاسبوا ، فهي عشر ليالي نتطلع فيها جميعاً لرحمة أرحم الراحمين ، لعلنا أن نكون فيها من الصائيمين المحتسبين ، ومن القائيمين الوجلين ، وليلة القدر لا تخرج بحال عن ليلة من إحدى تلك الليالي فعلينا أن نجتهد ونخلص العمل لله تعالى رجاء الحصول على ليلة القدر ، فمن وفق فيها للقيام والعمل الصالح ، ومن ثم نالها فقد وقع أجره على الله تعالى ، بمغفرة ما تقدم من ذنوبه ، وكل ابن خطاء ، وكل الناس صاحب خطأ وزلل ، وذنب وخطيئة ، فعلينا أن نصبر ونصابر ونرابط في هذه الليالي المباركات ، لعلنا أن ندرك ليلة القدر ، فيغفر الله لنا ما تقد من ذنوبنا ، فنفوز برضى الرب تبارك وتعالى .
وهذه العشر هي ختام شهر رمضان ، والأعمال بالخواتيم ، ولعل أحدنا أن يدرك ليلة القدر وهو قائم يصلي بين يدي ربه سبحانه وتعالى ، فيغفر الله له ما تقدم من ذنبه .
وعلى المسلم أن يحث أهله وينشطهم ويرغبهم في قيام هذه الليالي للاستزاده من العبادة ، وكثرة الطاعة وفعل الخير ، لا سيما ونحن في موسم عظيم ، لا يفرط فيه إلا محروم ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول لأصحابه : " قد جاءكم شهر رمضان ، شهر مبارك ، كتب الله عليكم صيامه ، فيه تفتَّح أبواب الجنة ، وتغلق أبواب الجحيم ، وتغل الشياطين ، فيه ليلة خير من ألف شهر ، من حرم خيرها فقد حرم " [ أخرجه أحمد والنسائي ] ، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعاً : " أتاكم رمضان ، شهر بركة ، يغشاكم الله فيه ، فينزل الرحمة ، ويحط الخطايا ، ويستجيب فيه الدعاء ، ينظر إلى تنافسكم فيه ، ويباهي بكم ملائكته ، فأروا من أنفسكم خيرا ، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله " [ أخرجه الطبراني ورواته ثقات ] .
فتنافسوا عباد الله في طاعة ربكم ، وأروا ربكم منكم خيراً ، وارباؤوا بأنفسكم عن مواطن الريب والشك ، واحذروا من الوقوع في الذنوب والمعاصي فكل مؤاخذ بما فعل ، وبما قال ، قال تعالى : " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " [ ق 18 ] ، وقال تعالى : " ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه " [ يونس 61 ] .
وورد عن بعض السلف الاغتسال والتطيب في ليالي العشر تحرياً لليلة القدر التي شرفها الله ورفع قدرها .
ولهذا ينبغي أن يتحراها المؤمن في كل ليالي العشر عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : " التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان " [ متفق عليه ] ، وقد أخفى الله عز وجل علمها ، حتى يجتهد الناس في العبادة في تلك الليالي ، ويجدوا في طلبها بغية الحصول عليها ، فيظنون أنها في كل ليلة ، فترى الكثير من الناس في تلك الليالي المباركة ما بين ساجد وقائم وداع وباك ، فاللهم وفقنا لقيام ليلة القدر ، واجعلها لنا خيراً من ألف شهر ، فالناس بقيامهم تلك الليالي يثابون بإذن الله تعالى على قيامهم كل ليلة ، كيف لا وهم يرجون ليلة القدر أن تكون في كل ليلة ، ولهذا كان من سنة النبي صلى الله عليه وسلم الإعتكاف في ليالي العشر من رمضان .
وليلة القدر لاتختص بليلة معينة في جميع الأعوام بل هي تنتقل ، أي قد تكون في عام ليلة خمس وعشرين ، وفي عام آخر ليلة ثلاث وعشرين وهكذا فهي غير ثابتة بليلة معينة في كل عام . كما سبق ذكره من الأدلة .

فضائل ليلة القدر :
1ـ أنها ليلة أنزل الله فيها القرآن ، قال تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } .
2ـ أنها ليلة مباركة ، قال تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } .
3ـ يكتب الله تعالى فيها الآجال والأرزاق خلال العام ، قال تعالى : { فيها يفرق كل أمر حكيم } .
4ـ فضل العبادة فيها عن غيرها من الليالي ، قال تعالى : { ليلة القدر خير من ألف شهر } .
5ـ تنزل الملائكة فيها إلى الأرض بالخير والبركة و الرحمة والمغفرة ، قال تعالى : { تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر } .
6ـ ليلة خالية من الشر والأذى وتكثر فيها الطاعة وأعمال الخير والبر ، وتكثر فيها السلامة من العذاب ولايخلص الشيطان فيها إلى ما كان يخلص في غيرها فهي سلام كلها ، قال تعالى : { سلام هي حتى مطلع الفجر } .
7ـ فيها غفران للذنوب لمن قامها واحتسب في ذلك الأجر عند الله عزوجل ، قال صلى الله عليه وسلم : " من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " [ متفق عليه ] .

فليلة هذه فضائلها وخصائصها وهباتها ، ينبغي علينا أن نجتهد فيها ونكثر من الدعاء والاستغفار والأعمال الصالحة ، فإنها فرصة العمر ، والفرص لاتدوم ، فأي فضل أعظم من هذا الفضل لمن وفقه الله ، فاحرصوا رحمكم الله على طلب هذه الليلة واجتهدوا بالأعمال الصالحة لتفوزوا بثوابها فإن المحروم من حرم الثواب ، ومن تمر عليه مواسم المغفرة ويبقى محملاً بذنوبه بسبب غفلته وإعراضه وعدم مبالاته فإنه محروم ، أيها العاصي تب إلى الله واسأله المغفرة فقد فتح لك باب التوبة ، ودعاك إليها وجعل لك مواسم للخير تضاعف فيها الحسنات وتمحى فيها السيئات فخذ لنفسك بأسباب النجاة.
فالبدار البدار إلى اغتنام العمل فيما بقي من هذا الشهر ، فعسى أن نستدرك به ما فات من ضياع العمر ، فيما لا فائدة فيه ، فكم نشيع كل يوم ميت ، ونودعه وندفنه ، فتسال الدموع على الوجنات ، ثم ما نلبث أن ننسى ونعود إلى ما كنا عليه من غفلة وضياع ، فهذه العشر الأخيرة من رمضان قد تكون آخر ليالي ندركها فالموت بالمرصاد ، إن لم يأت اليوم فغداً آت لا محالة ، فاستعدوا بالعمل الصالح ، والرغبة فيما عند الله تعالى من النعيم المقيم الذي لا يزول ولا يحول ، فعلينا بالجهاد الذي لا قتال فيه ، ألا وهو جهاد النفس ، فنجاهدها نهاراً بالصيام ، ونجاهدها ليلاً بالقيام ، فمن جمع لنفسه بينهما ، ووفى بحقوقهما فهو من الصابرين الذين يوفين أجرهم بغير حساب .
وما أعظم أن يرغم العبد أنفه لربه تبارك وتعالى ، بكثرة السجود ، وكثرة الركوع ، وطول القيام ، لمناجاة الخالق جل جلاله ، فذلك من أعظم منازل الصبر ، أن يصبر الإنسان على طاعة ربه ، كيف لا ، وهو لم يخلق إلا من أجل العبادة ، فلنحرص على أن نتحلى بالصبر على طاعة الله تبارك وتعالى ، لأن صلاة التهجد تحتاج إلى ذلك ، وفضلها عظيم ، فهي قرصة العمر ، وغنيمة الزمن ، لمن وفقه الله تعالى .
وقد كان السلف الصالح من هذه الأمة يطيلون صلاة الليل متأسين بنبيهم صلى الله عليه وسلم الذي كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه وتتشقق من طول قيامه لله ، ومناجاة لمولاه ، قال تعالى : " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً " [ الأحزاب ] ، فلم عرف الصحابة ، وصالح سلف الأمة ما تدل عليه الآية ، اقتدوا بنبيهم عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام ، يقول السائب بن يزيد : أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أبي بن كعب ، وتميماً الداري رضي الله عنهما أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة ، قال : وقد كان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام ، وما ننصرف إلا في فروع الفجر " ، وعن عبد الله بن أبي بكر قال : سمعت أبي يقول : كنا ننصرف في رمضان فنستعجل الخدم بالطعام مخافة الفجر " .
لما ذا يفعلون ذلك ؟ هل هذه الصلاة واجبة عليهم ؟ لا ، ولكنهم أيقنوا أن الجنة حفت بالمكاره ، والثمن باهض ، والطريق طويل ، فلا بد من إحضار المهر ، وقطع الطريق بالصالح من العمل .
فلنحرص على الاتصاف بتلك الصفات الصالحة ، ولنأخذ من نبينا صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ، ولنقتد بصالح سلف الأمة رضوان الله عليهم أجمعين .


ثانياً / الاعتكاف :
لغة : لزوم الشيء والمداومة عليه خيراً كان أو شراً .
شرعاً : لزوم المسجد لطاعة الله ، من مسلم عاقل ولو مميزاً ، طاهراً مما يوجب الغسل ، في مسجد ولو ساعة من ليل أو نهار .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان تحرياً لليلة القدر ، وكان اعتكافه صلى الله عليه وسلم قطعاً لأشغاله ، وتفريغاً لباله ، وتخلياً لمناجاة ربه ، وذكره ودعائه ، وكان يحتجز حصيراً يتخلى فيها عن الناس فلا يخالطهم ولا يشتغل بهم ، ولهذا ذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس ، حتى ول لتعليم علم وإقراء قرآن ، بل الأفضل له الانفراد بنفسه ، والتخلي بمناجاة ربه ، وهذا الاعتكاف هو الخلوة الشرعية ، ولا يكون إلا في المساجد ، وخصوصاً الجوامع التي تقام فيها الجمعة ، فالخلوة المشروعة لهذه الأمة هي الاعتكاف في المساجد . وكما قيل الاعتكاف : قطع العلائق عن كل الخلائق للاتصال بالخالق .

حكمه :
سنة في كل وقت ، وسنة مؤكدة في رمضان ، وآكده العشر الأواخر منه ، وهو واجب على الناذر ، فلو نذر شخص أن يعتكف وجب عليه الوفاء بنذره ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " من نذر أن يطيع الله فليطعه " [ أخرجه البخاري ] ، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : " يا رسول الله : إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام ، فقال : أوف بنذرك " [ متفق عليه ] ، وقد اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم وداوم عليه ، واعتكف أزواجه من بعده .
فمن نذر أن يعتكف في المسجد الحرام فيجب عليه الوفاء بنذره وعليه أن يعتكف في المسجد الحرام ، ومن نذر أن يعتكف في أي مسجد فكذلك يجب عليه الوفاء بنذره ، لكن يجوز له أن يعتكف في أحد المساجد الثلاثة ( المسجد الحرام ، والمسجد النبوي ، والمسجد الأقصى ) لأنها أفضل المساجد ، ومن نذر أن يعتكف في المسجد الأقصى فهو بالخيار إن أراد أن يعتكف فيه وإلا ففي أي المسجدين اعتكف ، لأنها أفضل منه ، ومن نذر أن يعتكف في المسجد النبوي فله أن يعتكف فيه أو يعتكف في المسجد الحرام ، ولا يعتكف في المسجد الأقصى ، قال صلى الله عليه وسلم : " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " [ متفق عليه ] .
ولا يجوز للمرأة أن تعتكف في بيتها لأنه ليس محلاً للاعتكاف ، بل الاعتكاف في المسجد ، لأنها سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وكذلك اعتكف أزواجه من بعده في المسجد ، ولو كان الاعتكاف في البيت جائزاً لاعتكفن في بيوتهن لأنها خير لهن .

أدلة مشروعيته :
قال تعالى : " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " [ البقرة 187 ] ، وقال تعالى : " أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين " [ البقرة 125 ] ، وفي حديث ابن عمر وأنس وعائشة رضي الله عنهم : " أنه صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأوسط من رمضان ، ثم اعتكف العشر الأواخر ، ولا زمه حتى توفاه الله تعالى " ثم اعتكف ازواجه من بعده " [ متفق عليه ] ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان ، ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية على سدتها حصير ، قال : فأخذ الحصير بيده فنحاها في ناحية القبة ثم أطلع رأسه فكلم الناس : فدنوا منه فقال : " إني اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة ، ثم اعتكفت العشر الأوسط ، ثم أتيت فقيل لي : إنها في العشر الأواخر ، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف ، فاعتكف الناس معه ، قال : وإني أريتها ليلة وتر وأني أسجد صبيحتها في طين وماء فأصبح من ليلة إحدى وعشرين وقد قام إلي الصبح فمطرت السماء فوكف المسجد فأبصرت الطين ظاهرا فخرج حين فرغ من صلاة الصبح وجبينه وروثة كلاهما فيهما الطين ظاهرا وإذا هي ليلة إحدى وعشرين من العشر الأواخر " [ أخرجه مسلم وابن خزيمة وابن حبان ] .
قال الزهري : عجباً من الناس ، كيف تركوا الاعتكاف ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل الشيء ويتركه ، وما ترك الاعتكاف حتى قبض .
والاعتكاف معروفاً قبل الرسالة المحمدية ، وليس خاصاً بهذه الأمة ، ودليل ذلك قوله تعالى : " وعهدنا إلى إبرهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين " .
والأفضل أن يكون الاعتكاف بصوم ، فيعتكف المعتكف وهو صائم ، وليس ذلك واجباً ، بل هذا من باب الأفضلية . فأما حديث عائشة رضي الله عنها : " لا اعتكاف إلا بصوم " [ فهو حديث ضعيف ، أخرجه الدار قطني والبيهقي ] ، ولكن الصحيح في ذلك ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما : " ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه " [ أخرجه الدار قطني والبيهقي ورجحا وقفه على ابن عباس ، وأخرجه الحاكم مرفوعاً ، وقال صحيح الإسناد 2/80 ] .

قدر الاعتكاف :
فعند الحنابلة أقل الاعتكاف يكفي فيه ساعة ، وعند الحنفية مدة يسيرة غير محددة ، وعند المالكية يوم وليلة ، وعند الشافعية قدر أكبر من قدر الطمأنينة في الركوع ونحوه . فجمهور العلماء : يُكتفى بمدة يسيرة ولو لحظة ، ولم يخالف إلا المالكية كما سبق قولهم .

مكان الاعتكاف :
هو المساجد التي تقام فيها الجماعة ، وأفضل ذلك المسجد التي تقام فيه الجمعة ، حتى لا يحتاج المعتكف إلى الخروج من معتكفه ، ودليل ذلك قوله تعالى : " وأنتم عاكفون في المساجد " ، وقوله تعالى : " أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود " ، فعلم بالضرورة من الآيتين أن الاعتكاف لا يكون إلا في المساجد ، أما الاعتكاف في البيوت فلا يجوز ولو للنساء ، بل الثابت عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنهن اعتكفن في المسجد بعد موته صلى الله عليه وسلم ، ولو كان جائزاً الاعتكاف في البيوت لاعتكفن في بيوتهن لأنها خير لهن . ويكون اعتكاف النساء في المصلى الخاص بهن ، البعيد عن مصلى الرجال ، حتى لا يحصل الاختلاط بينهم . [ ولمزيد الفائدة يراجع مجموع فتاوى ومقالات متنوعة 15/442 ] .
والغرف التي داخل المسجد وأبوابها مشرعة عليه ، فهي تابعة للمسجد ولها حكمه ، فيجوز الاعتكاف فيها . أما إن كانت خارج المسجد فليست من المسجد وإن كانت أبوابها داخل المسجد [ فتاوى اللجنة الدائمة 10/412 ] .

قطع الاعتكاف :
قال الترمذي رحمه الله :

اختلف أهل العلم في المعتكف إذا قطع اعتكافه قبل أن يتمه على ما نوى ، فقال بعض أهل العلم : إذا نقض اعتكافه وجب عليه القضاء واحتجوا بالحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من اعتكافه فاعتكف عشراً من شوال ، وهو قول مالك ، وقال بعضهم : إن لم يكن عليه نذر اعتكاف أو شيء أوجبه على نفسه ، وكان متطوعاً فخرج فليس عليه أن يقضي ، إلا أن يحب ذلك اختياراً منه ، ولا يجب ذلك عليه وهو قول الشافعي ، قال الشافعي : فكل عمل لك أن لا تدخل فيه فإذا دخلت فيه فخرجت منه فليس عليك أن تقضي إلا الحج والعمرة " [ صحيح سنن الترمذي ] .
والصواب في ذلك ما قاله الشافعي رحمه الله من أن المتطوع أمير نفسه فهو بالخيار إن شاء أمضى اعتكافه ، وإن شاء ترك ولا إثم عليه . والأدلة الصحيحة الصريحة تدل على هذا القول ، فعن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان ، فاستأذنته عائشة فأذن لها ، وسألت حفصة عائشة أن تستأذن لها ، ففعلت فلما رأت ذلك زينب بنت جحش أمرت ببناء فبني لها ، قالت : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى انصرف إلى بنائه فبصر بالأبنية فقال : ما هذا ؟ قالوا : بناء عائشة وحفصة وزينب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " آلبر أردن بهذا ؟ ما أنا بمعتكف " فرجع فلما أفطر اعتكف عشراً من شوال " [ أخرجه البخاري ومسلم ] قال بعض العلماء فيه دليل على أنه يجوز للمعتكف أن يقطع اعتكافه ما لم يكن نذراً أو أوجبه على نفسه .

دخول المُعْتَكِف :
بالنسبة للاعتكاف سنة في كل وقت ، ولو للحظة ، فيدخل المعتكف إلى المسجد في أي وقت شاء ويخرج في أي وقت شاء ، أما بالنسبة للاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان فيدخل المعتكف إلى المسجد بعد صلاة الصبح ويخرج بعد غروب شمس آخر يوم من رمضان وهو قول الإمام أحمد ، وسيأتي الدليل على صحة هذا القول في حديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري وغيره ، وقيل : يدخل قبل غروب شمس يوم العشرين من رمضان ، ويخرج بعد غروب شمس ليلة العيد وهو قول مالك ابن أنس وسفيان الثوري . فدخوله قبل غروب الشمس ليتحقق كمال الليلة ، وخروجه بعد الغروب ليتحقق كمال النهار .

شروط الاعتكاف :
يشترط لصحة الاعتكاف ما يلي :

1- الإسلام : فلا يصح من كافر ، لأنه من فروع الإسلام ، والكافر لا يقبل منه عمل مادام على كفره .
2- العقل : فلا يصح الاعتكاف من مجنون أو صغير غير مميز ، لأنه لا بد فيه من نية ، والمجنون والصغير لا يدرك ذلك المعنى .
3- المسجد : فلا بد ان يكون الاعتكاف في مسجد ، ولا يصح في غير المسجد .
4- النية : فلا يصح من غير نية ، لأنه عبادة والعبادة لا بد فيها من نية ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " إنما الأعمال بالنيات " [ متفق عليه ] .
5- الطهارة الكبرى : فلا يجوز للمعتكف أن يدخل المسجد وهو جنب إلا عابر سبيل فقط ، أما أن يعتكف ويلزم المسجد وهو جنب فلا يجوز بل ذلك محرم عليه ، فلا بد من الطهارة من الجنابة والحيض والنفاس من أجل المكث في المسجد ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا أحل المسجد لحائض ولا جنب " [ أخرجه أبو داود وابن خزيمة وغيرهما وضعفه الألباني في تمام المنة 118 ] .
6- إذن الزوج للزوجة : فكما أن المرأة لا تصوم تطوعاً إلا بإذن زوجها ، فكذلك الاعتكاف لا تعتكف إلا بإذنه ، ولو كان اعتكافها منذوراً . ويدل
على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان ، فكنت أضرب له خباء فيصلي الصبح ثم يدخله ، فاستأذنت حفصة عائشة أن تضرب خباء فأذنت لها ، فضربت خباء . فلما رأته زينب بنت جحش ضربت خباء آخر ، فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم رأى الأخبية فقال : ما هذا ؟ فأخبر فقال النبي صلى الله عليه وسلم آلبر تُرَون بهن ؟ فترك الاعتكاف ذلك الشهر ثم اعتكف عشراً من شوال " [ أخرجه البخاري ] . وقد جاء عند أبي داود : " أن حفصة استأذنته فأذن لها " ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان ، وإذا صلى الغداة دخل مكانه الذي اعتكف فيه ، قال : فاستأذنته عائشة أن تعتكف فأذن لها ، فضربت فيه قبة ، فسمعت بها حفصة فضربت قبة ، وسمعت زينب بها فضربت قبة أخرى ، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغداة أبصر أربع قباب ، فقال : " ما هذا ؟ فأخبر خبرهن ، فقال : " ما حملهن على هذا ؟ آلبر ؟ انزعوها فلا أراها " فنزعت فلم يعتكف في رمضان حتى اعتكف في آخر العشر من شوال " [ أخرجه البخاري ]
قال ابن حجر رحمه الله :
في الأحاديث السابقة دليل على ان المراة لا تعتكف حتى تستأذن زوجها ، وأنها إذا اعتكفت بغير إذنه كان له أن يخرجها ، وإن كان بإذنه فله أن يرجع فيمنعها [ فتح الباري 4/351 ] .

ما يجوز للمعتكف وما لا يجوز :
اتفق الفقهاء على أنه يلزم المعتكف البقاء في المسجد وأن يُلزم نفسه بذلك ، ولا يخرج من معتكفه إلا لعذر شرعي أو ضرورة أو حاجة . ودليل ذلك ما روته عائشة رضي الله عنها قالت : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل علي رأسه وهو في المسجد فأرجله ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان إذا كان معتكفاً " تعني البول والغائط [ أخرجه البخاري ومسلم ] ، وعنها رضي الله عنها قالت : " السنة على المعتكف ألا يعود مريضاً ، ولا يشهد جنازة ، ولا يمس امرأة ولا يباشرها ، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه ، ( ولا اعتكاف إلا بصوم ، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع ) " [ أخرجه أبو داود وما بين القوسين ليس من كلام عائشة رضي الله عنها وهو ضعيف . فتح الباري 4/347 ] .
المقصود ان هناك أموراً يجب أن يعرفها المعتكف حتى لا يفسد اعتكافه وهي :
1- يجوز أن يخرج من المعتكف للحاجة الماسة كالبول والغائط .
2- يجوز الخروج من أجل الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر ، إذا لم يكن بالجامع أو المسجد دورات مياه .
3- يجوز الخروج لأداء صلاة الجمعة ، لأنها فرض ولا تسقط بحال ، وخروجه لها لا يبطل اعتكافه .
4- يجوز الخروج من أجل إحضار أكل وشرب ولبس يحتاجه ، ما لم يكن هناك من يأتيه به .
5- ولا يجوز له الخروج من أجل أن يأكل ويشرب في بيته ، فإن خرج لذلك بطل اعتكافه لجواز الأكل والشرب في المسجد .
6- ويجوز الخروج إذا دعاه ولي الأمر للنفير ، لأنه واجب عليه .
7- يجوز خروج المعتدة لتعتد في بيتها ، وخاصة المتوفى عنها زوجها فهي مأمورة بالعدة في بيت زوجها .
8- يجوز الخروج لأداء شهادة لا بد من الإدلاء بها .
9- يجوز الخروج إذا خاف على نفسه من سلطان ، أو خاف على حرمته من أن تنتهك ، أو خاف على ماله أن ينهب .
10- يجوز الخروج من أجل المرض الذي لابد له من رعاية واهتمام وخدمة فراش ، ولا يبطل اعتكافه بذلك ، ولا يجوز له الخروج إن المرض خفيفاً كالصداع الخفيف والحمى الخفيفة وألم الضرس ، ففي هذه الحال بقاؤه في البيت والمسجد سواء ، فلا حاجة لخروجه من المسجد .
11- يجوز الخروج للحيض والنفاس ، لأنهمها ليستا من أهل الصلاة في تلك الحال ، أما المستحاضة فلا تخرج لأنها من أهل الصلاة ، وعليها أن تتحفظ لئلا تلوث المسجد .
12- من خرج ناسياً فلا شيء عليه .
13- لا يجوز الخروج من أجل عيادة المريض أو زيارة قريب أو صديق ، ولا يشهد جنازة ، ولا يذهب ليصلي عليها أو ليشهد دفنها ، ولا يحضر غسلها ما لم يكن ذلك متعيناً عليه ، بحيث لا يمكن لأحد أن يقوم بهذا الأمر إلا هو ، فإنه يجب عليه الخروج والحالة تلك .
14- يجوز له أن يعقد الزواج في المسجد ، وكذلك حضور عقد زواج غيره في المسجد ، لأن ذلك لا يطول كتشميت العاطس ورد السلام .
15- لا يجوز الخروج من أجل تجارة أو للفرجة والنزهة أو التكسب في المسجد ، ولا يجوز اشتراط ذلك ، قال تعالى : " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " [ البقرة 187 ] .
16- ويجوز له أن يحدث أهله في معتكفه ، فعن صفية بنت حيي قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلاً ، فحدثته ثم قمت ، فانقلبت فقام معي ليقلبني وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد ، فمر رجلان من الأنصار ، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " على رسلكما ، إنها صفية بنت حيي " فقالا : سبحان الله يا رسول الله ، قال : " إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءاً [ شراً ] أو قال شيئا " [ أخرجه البخاري واللفظ له ، وأخرجه مسلم وما بين القوسين عند مسلم ] .
كما يجوز له أن يستقبل من يزوره في المسجد للحديث معه كالزوجة والأولاد والوالدين والإخوان والأصدقاء ، لكن لا يُطيل الحديث معهم ولا يتكلم فيما يُغضب الله تعالى .
17- يجوز الخروج فيما سبق إذا كان الاعتكاف تطوعاً ، أما إذا كان نذراً فلا يخرج ما لم يشترط قبل دخول المسجد للاعتكاف ، ولا يجوز الاشتراط فيما جاء في الأمر الخامس عشر ( 15) من التنبيهات ، فإنه لا يجوز الاشتراط فالجماع في المسجد معصية لله تعالى ، والتكسب في المسجد منهي عنه . وكذلك البيع والشراء والصناعة ، فكل ذلك لا يجوز في المسجد .
18- والسنة للمعتكف أن لا يزور مريضاً ، ولا يجيب دعوة ، ولا يقضي حوائج أهله بل يوكل من يقوم لهم بذلك من محارمهم ، ولا يذهب إلى عمله خارج المسجد . [ فتاوى اللجنة الدائمة 10/410 ] .
19- إذا خرج المعتكف من معتكفه وكان ناذراً لذلك ، فيجب عليه قضاء ذلك اليوم ، وعليه كفارة يمين ، لأنه في نذره ، لأن الوفاء بنذر الطاعة واجب ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعص الله فلا يعصه " كمن خرج لإنقاذ ماله ، أو إسعاف أهله ، أو خوفاً على نفسه ، أو ما شابه ذلك . [ الفقه الإسلامي وأدلته 3/1771 ] .

مبطلات الاعتكاف :
يبطل الاعتكاف بأحد الأمور التالية :

1- الردة : فمن ارتد عن دينه والعياذ بالله ، فقد خرج من الإسلام وأصبح في عداد الكفار ، والكافر غير مطالب بفروع الدين ، ما لم يؤمن بأصوله ، والاعتكاف من فروع الدين . وإذا عاد إلى الإسلام فلا قضاء عليه عند جمهور العلماء .
2- الحيض والنفاس : وقد سبق توضيح ذلك .
3- الجماع : فمن جامع أثناء اعتكافه فقد بطل بمقتضى الدليل القرآني ، فقد قال الله تعالى : " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " ، فمن جامع فقد بطل اعتكافه ، وكذلك المرأة المعتكفه . ويبطل الاعتكاف أيضاً بالقبلة والمباشرة مع الإنزال للآية السابقة . وكذلك لو أنزل بسبب النظر المحرم .
4- الخروج بلا ضرورة ولا حاجة .
5- السكر ، والإغماء والجنون الطويلان ، وذلك لعدم أهليتهم للعبادة .


ثالثاً / يوم العيد :
ويتعلق به عدة أحكام منها :

1- حكم صلاة العيد :
صلاة العيد فرض كفاية إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين ، وإن كان الأصل أن يؤديها المسلمون جميعاً ، لما فيها من تنفيذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بها ، ولشهود دعوة الخير ، وغفران الذنوب ، فالملائكة تتنزل في ذلك اليوم ، نسأل الله ألا يحرمنا أجره .
ومن أتى إلى مصلى العيد ، فالصحيح أن مصلى العيد لا يأخذ حكم المسجد من كل جانب ، فلا يُسن لمن أتى إليه أن يصلي ركعتين ، بل السنة في حقه أن يجلس لأن هذا الوقت وقت نهي ، ولأنه هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد جاء في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما : " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفطر ركعتين لم يصل قبلها ولا بعدها . . . " [ أخرجه البخاري ومسلم ] .
وفي لفظ : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوم فطر أو أضحى ، فصلى بالناس ركعتين ، ثم انصرف ولم يصل قبلها ولا بعدها " [ أخرجه ابن حبان بسند صحيح على شرط الشيخين 7 / 58 ] .

2- أكل تمرات قبل الصلاة :
من السنة للمسلم يوم العيد قبل خروجه من بيته إلى مصلى العيد ، أن يأكل تمرات ، ويقطعهن وتراً كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ، حتى يخرج المسلم وهو مفطر ولا يصدق عليه أنه صائم ، لأنه يحرم صيام يوم العيدين يوم عيد الفطر ، ويوم عيد الأضحى ، وكذلك يحرم صيام أيام التشريق الثلاثة إلا لمن لم يجد الهدي ، فعن أنس قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات " وقال مُرَجَّأ بن رجاء : حدثني عبيد الله قال حدثني أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ويأكلهن وتراً " [ أخرجه البخاري ] .
وعن بريدة رضي الله عنه قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يفطر ، ولا يطعم يوم النحر حتى يصلي " [ أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة وابن خزيمة ] .
وعن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس قال : سمعت أنس بن مالك يقول : " ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فطر حتى يأكل تمرات ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أقل من ذلك أو أكثر من ذلك وتراً " [ أخرجه ابن حبان ، والحاكم بإسناد حسن ، انظر صحيح ابن حبان 7/53 ] .
قال ابن حجر رحمه الله : ورواية ابن حبان أصرح في المداومة على ذلك .

3- مخالفة الطريق أثناء الخروج لصلاة العيد :
من السنة أيضاً أن من خرج إلى صلاة العيد ، أن يخرج من طريق ، ويعود من طريق أخرى غير التي خرج منها ، موافقة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، لحديث جابر رضي الله عنه قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق " [ أخرجه البخاري ] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى العيدين من طريق ، رجع في غير الطريق الذي خرج منه " [ أخرجه ابن حبان وابن خزيمة وأحمد بإسناد حسن ، انظر صحيح ابن حبان 7 / 54 ] ، هذا هو المستحب لمن خرج إلى العيدين ، ما لم يكن في ذلك مشقة على الناس ، فإن كان في ذلك مشقة ، كالزحام الشديد ، أو من الناس من العودة من طريق آخر أو ما شابه ذلك ، فلا بأس من العودة من نفس الطريق ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه " [ متفق عليه ] .

4- أخذ الزينة عند الخروج للصلاة :
ومن سنن يوم العيد ، أنه يسن للمسلم عند خروجه للصلاة أن يلبس أحسن ثيابه ، ويستعمل أفضل العطور ، وأحسن ذلك المسك ، لأنه كان دهن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولأنه صلاة اجتمع لها الناس فيسن التطيب لها لقطع الروائح الكريهة التي قد تعلق بالمسلم فالطيب يقطع تلك الروائح .
كذلك يسن لبس أفضل الثياب وأنظفها وهذا في كل صلاة ، لأن الله تعالى أمر عباده بذلك ، فقال تعالى : " يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد " [ الأعراف 31 ] ، لكن هنا أمر جدير بالاهتمام والتحقيق ، وهو أن النساء لا يجوز لهن الخروج إلى مصلى العيد وهن آخذات زينتهن ، لأن الزينة للمراة فتنة لها وبها ، وعلى ذلك يجب على المرأة المسلمة أن تأخذ الحذر من لباس الزينة أثناء خروجها من بيتها ، لا سيما الأماكن التي يوجد بها رجال أجانب .

5- تذكر الفقراء والمرضى :
في يوم العيد ، يوم الفرح السرور ، يوم الغبطة وتوزيع الجوائز من الله الغفور الرحيم ، وعندما يلبس المسلم أحسن الثياب ، وعندما يقوم بتهنئة أهله وجيرانه ، عليه أن يتذكر أن له اخوة مرضى قد لزموا الأسرة البيضاء ، فمنهم من لزم المستشفى مدة طويلة من الزمن ، قد فارق الدنيا وهو على قيد الحياة ، انحبس عن أهله بسبب مرضه ، فعلى المسلم أن يُشعر أولئك المرضى أنه معهم قلباً وقالباً ، فيزورهم بين الفينة والأخرى ، وبين المناسبة والتي تليها ، وفي المناسبات الهامة العامة كالأعياد ، حتى يدخل البهجة والسرور على نفوسهم ، ويزيل الحزن من قلوبهم ، ويرسم السعادة على شفاههم ، والبسمة على وجوههم ، فيتذكرون العيد ويشعرون بالسعادة والفرح ، وكأنهم أسوياء أصحاء ، ولما في زيارة المريض من أجر وثواب عند الله تعالى ، ولما في ذلك من تخفيف من المعاناة التي يعانيها المرضى .
كذلك على المسلم أن يتذكر إخوانه الفقراء وخصوصاً الأرامل واليتامى الذي لا يستطيعون أن يعيشوا فرحة العيد كما يعيشها غيرهم من الأغنياء والموسرين والمقتدرين ، فيتصدق عليهم ولو بأقل القليل ليدخل الفرحة على قلوبهم ، حتى يستطيعوا الخروج للعيد ومعايدة جيرانهم وأهليهم ، فالمسلم أخو المسلم ، يشعر بما يشعر به أخوه ، من فقر وحاجة ، فيعطي ذا الحاجة ، ويعين الملهوف ، ويجبر مصيبة المصاب ، ويهنئ صاحب الفرح ، فالمؤمنون في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد الواحد ، وهم كذلك بإذن الله تعالى ، والحمد لله الذي منَّ علينا بهذا الدين العظيم ، دين الرأفة والشفقة والمحبة والمودة ، دين التكافل الاجتماعي ، والتعاون البناء على البر والتقوى ، دين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، دين خير كله ، وفلاح كله ، ونصر كله ، دين يحث على التعاون والتآخي ، فالحمد لله على نعمة الإسلام .

6- صلة الأرحام :
في هذه الأيام الفاضلة ، أيام عيد الفطر المبارك ، يحسن التذكير بصلة الأرحام ، فصلة الرحم سعة في الرزق ، وطول في الأجل ، وبركة في العمر ، كما صح الخبر عن نبي البشر ، وأما قاطع الرحم فهو ملعون في كتاب الله ، وعلى لسان محمد صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : " والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار " ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خلق الله تعالى الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن عز وجل ، فقال : مه ؟ فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة ، فقال تعالى : ألا ترضين أن أصل من وصلك ، وأقطع من قطعك ؟ قالت : بلى ، قال : فذاك لك " قال أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم " [ متفق عليه ] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من ذنب أجدر أن يعجل الله العقوبة لصاحبه في الدنيا مع ما يدخره له من العقوبة في الآخرة ، من البغي وقطيعة الرحم " [ حديث صحيح أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجة وأحمد ] ، فاجتهدوا في صلة أرحامكم ، وصلوا آباءكم وأمهاتكم ، وأبنائكم وبناتكم ، وإخوانكم وأخواتكم ، وأعمامكم وعماتكم ، وأخوالكم وخالاتكم ، وكل من له حق عليكم ، وليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها ، فصلوا أرحامكم ، ولو قطعوكم ، فبرءوا ساحتكم أمام الله تعالى بوصل الرحم ، ولا يمنعنكم من قطعكم ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رجلاً قال : يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني ، وأحسن إليهم ويسيئون إلي ، وأحلم عنهم ويجهلون علي ، فقال : " لئن كنت كما قلت ، فكأنما تسفهم المل ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك " [ أخرجه مسلم ] .

7- الفرح الزائد واستماع الحرام :
جميع الناس يظهر الفرح والسرور بيوم العيد ، فهو يوم فرح ولا شك ، لكن ما نشاهده من فرح زائد ، يظهره بعض ضعاف النفوس وخصوصاً من الشباب فهذا لا يليق بالمسلم الصادق ، فنرى الشباب في الشوارع وعلى الأرصفة في حركات سخيفة ماجنة ، لا تمت للدين بصلة ، وهم يتراقصون ويترنمون على أصوات الموسيقى المحرمة ، واستماع للفساق والفاسقات ممن نسوا الله تعالى ، وتركوا أوامره وفعلوا نواهيه ، ومنهم من تراه بسيارته يجوب الشوارع بسرعة جنونية أو يفعل حركات بهلوانية مريعة مخيفة لإمتاع المشاهدين من جماهير المغفلين ، ولا ريب أن ذلك منكر عظيم ، وأمر خطير ، فأعياد المسلمين ليست مجرد لهو ولعب وطرب وغناء وطبول ، وحفلات راقصة ، ولكنها صلاة وذكر وشكر لله تعالى ، أما أعياد الكفار فهي مشتملة على الغناء والطبول والرقص واللعب ، وليس في أعيادهم صلاة ، فليس إظهار الفرح بتلك الصور المخجلة الفاضحة القادحة في الدين والمخلة بالشرف والحياء ، رجال يتشبهون بالنساء ، ونساء في الشوارع والأسواق ، ونساء خراجات ولاجات ، كاسيات عاريات ، لا يرجون لله وقاراً ، فعباءات على الكتف وأخرى ذات الزمام وكاشفة المفاصل والعظام ، وملابس كاشفة عن الساقين والفخذين ، وأنقبة مظهرة للزينة ، مبينة للعينين والخدين ، وعطور وأطياب مذهبة لألباب الرجال ، فأي دين هذا ؟ وأي شرع هذا ؟ وأي إسلام يدعون هذا ؟ وناهيك بالأطفال ، فهم يسهرون إلى بزوغ الفجر ، وقد أشغلتهم مغريات الحياة من ألعاب نارية ، وإزعاج للجيران ، وتمرد وعصيان ، والآباء والأمهات تراهم سكارى وما هم بسكارى ، ولكن الإهمال واللامبالاة أعمت بصائرهم ، وأنستهم أبوتهم وأمانتهم التي ائتمنهم الله عليها من النساء والذرية ، فسبحان الله الخالق العظيم ، ما أحلمه على العصاة والمجرمين ، قال تعالى : " ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستئخرون ساعة ولا يستقدمون " [ النحل 61 ] .

ومن سنن العيد المهجورة ما يلي :
1- التكبير يوم العيد ، ابتداء من دخول ليلة العيد وانتهاءً بصلاة العيد
، قال الله تعالى : " ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون " .
وصيغة التكبير الثابتة عن الصحابة : الله أكبر الله أكبر ، الله أكبر كبيرا .
و ( الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ، الله أكبر ولله الحمد ) ، وما عدا ذلك من صيغ التكبير والزيادات التي نسمعها فالله أعلم أنها لم تصح .
2- الاغتسال لصلاة العيد ولبس أحسن الثياب والتطيب .
3- الأكل قبل الخروج من المنزل على تمرات أو غيرها قبل الذهاب لصلاة العيد .
4- الجهر في التكبير في الذهاب إلى صلاة العيد .
5- الذهاب من طريق إلى المصلى والعودة من طريق آخر .
6- صلاة العيد في المصلى إذ هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصلاة في المسجد لسبب أو لآخر جائزة .
7- اصطحاب النساء والأطفال والصبيان دون استثناء حتى الحيض و العواتق وذوات الخدور كما جاء في صحيح مسلم .
8- الاستماع إلى خطبة العيد .
9- التهنئة بالعيد فعن جبير بن نفير قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقى يوم العيد يقول بعضهم لبعض : تقبل منا ومنك ، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله : [ اسناده حسن ] .

من بدع العيد :
1- الزيادة في التكبير على الصيغ الواردة عن الصحابة كما سبق .
2- التكبير بالعيد بالمسجد أو المصلى بالصيغ الجماعية على شكل فريقين يكبرالفريق الأول ويجيب الفريق الآخر ، وهذه طريقة محدثة والمطلوب أن يكبر كل واحد بانفراد ولو حصل اتفاق فلا ضير و أما على الطريق المسموعة يكبر فريق و الآخر يستمع حتى يأتي دوره فهو بدعة .
3- تخصيص زيارة القبور يوم العيد ، وتقديم الحلوى و الورود و الأكاليل و نحوها على المقابر ، كل ذلك من البدع .وأما زيارة القبور فهي مندوبة بدون تخصيص موعد محدد .
4- تبادل بطاقات التهاني المسماة ( بطاقة المعايدة ) أو كروت المعايدة فهذا من تقليد النصارى وعاداتهم ، و لقد نبه على ذلك سماحة العلامة المحدث الألباني رحمه الله .

من معاصي العيد :
كم هي المعاصي والذنوب ، بل الكبائر التي يقع فيها المسلمون اليوم لا سيما في أوقات الأفراح ، كأيام الزفاف ، وأيام الأعياد وغير ذلك ، ولا شك أن تلك المعاصي نذير شؤم وخراب على المسلمين عامة ، وعلى أصحابها خاصة ، ومن تلك المعاصي المنتشرة في ايام الأعياد خاصة :
1- تزين بعض الرجال بحلق اللحى إذ الواجب إعفاؤها في كل وقت .
2- المصافحة بين الرجال و النساء الأجنبيات ( غير المحارم ) إذ هذا من المحرمات والكبائر .
3- الإسراف المحرم من بذل الأموال الطائلة في المفرقعات والألعاب النارية دون جدوى ، وحري أن تصرف هذه المبالغ على الفقراء والمساكين والمحتاجين وما أكثرهم وما أحوجهم .
4- انتشار ظاهرة اللعب بالميسر والمقامرة في بعض الدول يوم العيد وخاصة عند الصغار وهذا من الكبائر العظيمة فعلى اللآباء مراقبة ابنائهم وتحذيرهم من ذلك .
5- خروج بعض النساء اللاتي لا دين لهن ، وهن متبرجات بزينة ، متنقبات أو سافرات ، ومن المعلوم أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج إلى الرجال متبرجة متزينة متعطرة ، حتى لا تحصل الفتنة منها وبها , فكم حصل من جرّاء التساهل بذلك من أمور لا تحمد عقباها . قال الله تعالى : " ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى " [ الأحزاب : 33 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " أيما امرأة استعطرت ، فمرت على القوم ، ليجدوا ريحها فهي زانية " [ أخرجه أحمد والثلاثة وقال الترمذي حسن صحيح . وصححه ابن خزيمة وابن حبان ] . وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت : " لما نزلت : " يدنين عليهن من جلابيبهن " [ الأحزاب : 39 ] ، خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان ، من الأكسية " [ أخرجه أبو داود وصححه الألباني ] .

فعلى المسلم أن يحذر من الاختلاط المحرم بين الرجال والنساء ، لأنه منكر عظيم ، وجرم خطير ، وهو أمر محرم كل وقت وحين . كما تحرم المصافحة بين المرأة والرجل الأجنبي ، وهي عادة قبيحة مذمومة ، فإذا كان النظر إلى الأجنبية محرماً فالمصافحة أعظم فتنة . ولما طلبت النساء المؤمنات من النبي صلى الله عليه وسلم في المبايعة على الإسلام أن يصافحهن امتنع وقال : " إني لا أصافح النساء " [ أخرجه مالك وأحمد والنسائي والترمذي بنحوه ، وقال : حسن صحيح . وصححه ابن حبان ] . قال ابن عبد البر رحمه الله في قوله صلى الله عليه وسلم : " إني لا أصافح النساء " ، دليل على أنه لا يجوز للرجل أن يباشر امرأة لا تحل له , ولا يمسها بيده ولا يصافحها . وفي حديث معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له " [ أخرجه الطبراني والبيهقي , وقال المنذري : رجال الطبراني ثقات رجال الصحيح . وصححه الألباني ] .
6- العيد مناسبة طيبة لتصفية القلوب ، وإزالة الشوائب عن النفوس ، وتنقية الخواطر مما علق بها من بغضاء أوشحناء , فلنغتنم هذه الفرصة , ولنجدد المحبة , وتحل المسامحة والعفو محل العتب والهجران ، مع جميع الناس من الأقارب والأصدقاء والجيران ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً " [ أخرجه مسلم ] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث , يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا , وخيرهما الذي يبدأ بالسلام " [ متفق عليه من حديث أبي أيوب رضي الله عنه ] ، ورواه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وزاد : " فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار " [ وصححه الألباني ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه " [ رواه أبو داود , وصححه الألباني ] .

رابعاً / المحافظة على الأعمال الصالحة بعد رمضان :
هاأنتم أيها المسلمون قد ودعتم شهر رمضان مرتحلاً عنكم بما حملتموه من أعمال وأقوال ، فهو شاهد لكم أو عليكم ، فهنيئاً لمن كان هذا الشهر شاهداً له ، وويل لمن كان شهر رمضان خصمه وعدوه ، والعار والشنار لمن كان رمضان شاهداً عليه ، ووالله إنها لخسارة لا تعدلها خسارة ، أن يوفق العبد لإدراك مواسم العطاء والفضل الجزيل من المنان الكريم ، ثم يخرج منها صفر اليدين ، بل ومن المسلمين من خرج شهر رمضان وحمله معاص وأوزاراً ، وآثاماً ثقالاً ، تنوء بحملها الجبال الراسيات ، حملها بظلمه وجهله ، فأي مصيبة بعد مصيبة المسلم في دينه ، وأي فاجعة بعد فجيعة المسلم في تفريطه وتسويفه ، فمن كان مقصراً مفرطاً في رمضان ، فليتدارك نفسه بالتوبة النصوح والإقبال على الله تعالى غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول ، ومن كان عاصياً مذنباً مسرفاً على نفسه فليرجع إلى ربه تبارك وتعالى ، وليستغفر الله على ما مضى ، قبل أن يفجأه الموت فيأتيه من ربه اليقين ، فباب التوبة مفتوح ، ولقد أوصى الله تعالى عبادة بالتوبة من كل الذنوب صغيرها وكبيرها ، ووعد على ذلك بقبولها ، فقال جل من قائل عظيماً : " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى " ، وقال تعالى : " قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم " فتدبروا رحمكم الله تلك الشروط العظيمة في الآية السابقة ، من تاب توبة نصوحاً بكامل شروطها ، وآمن بما في الكتاب والسنة ، وعمل الأعمال الصالحة وابتعد عن غيرها من الأعمال القبيحة المحرمة ، ثم استقام على منهج الله تعالى ، ووفق سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فهذا هو التائب الحق الذي عاد بعد الغياب ، واستقام بعد العتاب ، فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ، الكل يذنب ويقصر ، والكل يخطئ ويفرط ، وخير الخطائين التوابون ، فأين تلك الدموع التي انهمرت من خشية الله في رمضان ، وأين تلك القلوب التي وجلت خوفاً من الله ، وأين تلك الأقدام التي تفطرت واقفة رغبة فيما عند الله ، فمن وفق في شهر رمضان للصيام والقيام فليزدد من الأعمال الصالحة بعد رمضان ، فإن رب رمضان هو رب باقي الشهور ، فمن كان يعبد رمضان فإن رمضان قد انقضى وفات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، واعلموا أن الله مطلع عليكم وسيجزيكم بأعمالكم فإن كانت خيراً فهنيئاً وسعادة ، وإن كانت غير ذلك فذلاً وتعاسة .
وبئس القوم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان ، ثم إذا انقضى رمضان عادوا لما كانوا عليه من لغو القول ولغط اللسان ، وقبيح الفعال ، ويعتقدون أن رمضان سيكفر كل ما فعلوه من الموبقات وترك الواجبات وفعل المحرمات التي اقترفوها خلال العام ولم يعلموا أن تكفير الصغائر مقروناً باجتناب الكبائر قال الله تعالى : " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر " ، فاحذروا عباد الله أن تنقضوا العهد مع الله ، واحذروا من الحرام فعلاً وسماعاً ، واعلموا أن عذاب الله أشد من أن يتحمله لحماً وعظماً ، فاحذروا الأغاني والمعازف ، وأقلعوا عن مشاهدة الحرام عبر الشاشات المسمومة التي يدسها لكم أعداؤكم ، وتوبوا إلى الله من إسبال الثياب وحلق اللحى ، واحذروا عقوبة العقوق ، وعليكم بأداء الحقوق ، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها .
المؤمن الصادق يودع هذا الشهر بكل حزن وأسى ، والمنافق يودع شهر رمضان بكل فرح وسرور ، فالمؤمن يودعه راجياً من ربه قبوله بما استودعه فيه من العبادة والطاعة ، طالباً من الله أن يتقبله منه وأن يعيده عليه أعواماً عديدة وأزمنة مديدة ، وراجياً من ربه فضله وأجره ، والمنافق يودع شهر رمضان بالغبطة والفرحة لينطلق إلى المعاصي والشهوات ، ولذلك فالمؤمن يتبع شهر رمضان بالاستغفار والتكبير والإكثار من ذكر الله تعالى في كل أحواله ، وأما المنافق فيتبع شهر الغفران بالمعاصي واللهو واللعب وحفلات الأغاني وسماع المعازف والطبول ، فرحاً بفراق شهر العتق من النيران ، فشتان ما بين الفريقين ، فريق في الجنة وفريق في السعير ، فكونوا من أتباع سيد المرسلين ، ولا تتبعوا سنن المنحلين من الفاسقين والمجرمين ، الذين لا هم لهم إلا إخراج المسلمين من عقيدتهم وإبعادهم عن دينهم ، قال تعالى : " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم " .
وفي الختام أسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين لما يحب ويرضى ، وأن يجمع كلمتهم على الحق والدين ، وان يجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين ، وأسأله سبحانه أن يتقبل منا صيام رمضان وقيامه على ما كان فيه من تساهلٍ وتقصير ، وأن يتجاوز عن سيئاتنا ، وأن يرفع درجاتنا ، ويمحو حوباتنا ، وأن يعيد علينا شهر رمضان أعواماً عديدة ، وأزمنة مديدة ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، والحمد لله رب العالمين ، وأصلي وأسلم على الحبيب محمد ، النبي الممجد وعلى آله وصحبه أجمعين

المصدر- صيد الفوائد