يعتمد الإسلام في بناء الفرد المسلم على أسلوب فريد ، وهوحرصه الشديد على توحيد القوتين الكبيرتين في الإنسان : قوة الروح ، وقوة الجسد ، ليعملا معًا لصالح الفرد ، ولصالح الجماعة ، تفاديًا للإزدواجية التي تعمل في أغلب الأحيان على تقوية أحد الجانبين على حساب الجانب الآخر ، الأمر الذي يعود بأسوأ النتائج على الفرد ، وعلى المجتمع ، وتصيب إحدى هاتين القوتين بالشلل ، أو توجهها لغير الوجهة السليمة التي كان يجب أن تتجه إليها . ولم تهتم الديانات أو المذاهب الأخرى - التي عرفتها البشرية خلال مسيرتها الطويلة - بالفرد ، مثلما اهتم الإسلام به ، فلقد حرص الإسلام على أن يحمل راية التوجيه ، والراعاية والعناية بأبنائه ، كما حرص علىأن يكونوا في أرفع المستويات الإنسانية ، من حيث : صحة الجسد ، وسلامة العقل ، وطهارة الروح ، وأن يمثلوا في مختلف أطوار حياتهم الإنسان الحق ، الإنسان الجدير بحمل هذا الإسم ، والجدير بحمل الأمانة التي وضعها - المولى سبحانه وتعالى - على عاتقه ، حينما استخلفه على الأرض . والصحة النفسية ترتبط غاية الارتباط بقدرة الفرد على التوافق مع نفسه ، ومع المجتمع الذي يعيش فيه ، وهذا يؤدي - بالضرورة - إلى التمتع بحياة هادئة سوية ، مليئة بالتحمس ، وخالية من التأسي والاضطراب . وهذا يعني أن يرضى الفرد عن نفسه ، وأن يتقبل ذلك ، كما يتقبل الآخرين ، فلا يظهر منه ما يدل على عدم التوافق الاجتماعي ، كما أنه يسلك سلوكًا شاذًا ، بل يسلك سلوكًا اجتماعيًا معقولاً ، يتسم بالإتزان ، ويتصف بالإيجابية ، والقدرة على مواجهة المواقف ، ومجابهة المشاكل التي تقابل الفرد ، في مختلف نواحي حياته . وبناء على هذا فالصحة النفسية لا تعطى للفرد ، ولكنه يكتسبها بجده واجتهاده ، فكل فرد بالغ عاقل مسؤول مسؤولية كاملة عن صحته النفسية ، ومسؤول عن نموها وزيادتها باستمرار . وللصحة النفسية مظاهر سلوكية تبدو واضحة في تصرفات الأفراد ، وسوف نتناول أهم المظاهر التي تبدو على الفرد الذي يتمتع بالصحة النفسية في موضوعنا هذا .
الإرادة إذا جعل الإنسان صلته بالحق سبحانه وتعالى سندًا دائمًا ، ووكيلاً ، ومعينًا ، ومرجعًا ، فإن هذه الصلة تجعله على الرغم من ضعفه أمام بعض ميوله الجامحة ، ورغباته الطائشة ، يستخدم عقله ، وإرادته في الضبط الذاتي . والإرادة هي (الميل إلى العمل ) ، فهي بذلك تدخل تحت حيز النزوع ، ومن الخطأ الشائع بين الذين كتبوا في علم النفس قديمًا أنهم قصروا النزوع على الإرادة ، فقالوا : إن الظواهر النفسية عبارة عن :" إدراك ، ووجدان ، ونزوع وإرادة . وليس الأمر كذلك ، فهناك نوع من السلوك ينزع إليه الفرد بالفطرة ، وهناك طائفة أخرى من الأعمال ينزع الأفراد إلى أدائها عن طريق العادة ، وهناك مجموعة من الأشياء يفعلها الفرد مستجيبًا إلى الميل الوجداني في داخله ، فالنزوع إذن نزوع فطري ، أي غريزي .. أو نزوع عادي ، أو نزوع إرادي . والعمل الإداري الكامل المتكامل يسير في أربع خطوات وهي : الشعور بالغرض ، والروية ، والعزم ، والتنفيذ . وأن الفرد الذي يتمتع بالصحة النفسية عادة ما يكون له إرادة ، وهذه الإرادة التي يستمدها من الإيمان بالحق سبحانه وتعالى ، هي صمام الأمان لكل سلوك أو انفعال ، وقد تجلت قوة المولى سبحانه وتعالى حين أوجد الإنسان وعنده طاقة الإرادة ، ليرجح بها بين المتقابلين ، ويختار من بين الضدين ، والإنسان السوي من كان كلامه بإرادة ، وصدق الحق سبحانه عز وجل حيث يقول في كتابه الكريم : ( ونفس وما سواها ، قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها ) (الشمس : 7 - 10) . أما الأفراد المضطربون نفسيًا فلا يمكنهم التحكم في تصرفاتهم ، وأفعالهم ، وانفعالاتهم وكذلك المضطربون عقليًا ، ومن ثم فلا إرادة لهم .
فهم النفس ومعرفتها تعد قدرة الفرد على فهم نفسه ومعرفتها من المظاهر الأاسية للصحة النفسية ، فالفرد المستقر نفسيًا غالبًا ما يكون لديه القدرة على فهم ذاته ومعرفتها ، ويكون هذا الفرد مدركًا لنواحي القوة والضعف في نفسه . ولقد حث الإسلام على التفكير ، فطلب من الإنسان أن يفكر في نفسه ، وفي عجيب خلقه ، ودقة تكوينه ، وهو بذلك يدفع الناس إلى دراسة النفس ، ومعرفة أسرارها ، حتى يمكنهم من أن يعرفوا قدرة الخالق سبحانه وتعالى ، ووظيفتهم في هذه الحياة ، ليعملوا على أدائها بصورة تقربهم من المولى سبحانه عز وجل ، حيث يقول سبحانه وهو أصدق القائلين : ( أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والرض وما بينهما إلاى بالحق وأجل مسمى ، وإن كثيرًا من الناس بلقاء ربهم لكافرون ) (الروم : 8) . إن معرفة الإنسان لنفسه تساعده على ضبط أهوائها ، ووقايتها من الغواية ، والابتعاد بها عن الإنحراف ، ومن ثم تتكون لديه الشخصية المتكاملة . والشخصية المتكاملة تتميز بأنها قادرة على التكيف السليم مع نفسها ، ومع أفراد المجتمع ، وهي تتفاعل باتزان واعتدال وثقة بنفسها ، مؤكدة لذاتها في غير تطرف ، موفقة بين دوافعها الفطرية وإرادة المجتمع ، وفقًا لما يسوده من مبادئ وقيم ومثل . ويتصف صاحب الشخصية المتكاملة بقدرته على إقامة علاقات إيجابية بناءة في المجتمع ، وقدرته على السلوك السوي الخالي من التناقضات ، وقردته على احتمال الشدائد والصعاب ومواجهتها ، وثبات انفعالاته واعتدالها ، وعدم إحساسه بالتوتر والقلق ، وقدرته على الإنتاج ، والإحساس المستمر بالرضا والسعادة .
الإيجابية من المظاهر الأساسية للصحة النفسية الإيجابية من جانب الفرد ، فالفرد الذي يتمتع بالصحة النفسية عادة ما يتمكن من بذل الجهد الموجه للبناء في مختلف الاتجاهات ، كما أنه لا يقف عاجزًا أمام العقبات والمشكلات التي تواجهه في حياته اليومية ، ومثل هذا الفرد لا يشعر بالعجز وقلة الحيلة في حياته ، بل هو دائم الكفاح والسعي . والعلاقة بينه وبين بيئته علاقة أخذ وعطاء ، بل هي علاقة فعل وانفعال ، وتأثير متبادل وصراع موصول ، وهو في تفاعله مع بيئته يتأثر وينفعل بشتى الانفعالات ، ويرغب ويدبر ، ويقدر ويصمم ، ويتعلم وينفذ ، ويعي ما تعلمه ، كما أنه يعبر عن أفكاره ومشاعره باللفظ مرة ، وبالحركة والإشارة مرة أخرى ، ويحاول أن يسلك أنواعًا مختلفة من السلوك ، ويصيب ويخطئ . إن كل هذا يحدث للفرد وهو يشق طريقه في الحياة طمعًا في عمل يؤديه ، أو مركز اجتماعي يصبو إليه ، أو أسرة يقيمها ويرعاها ، أو جماعات مختلفة يندمج فيها ، ويشترك في نشاطها ، أو نوع من الإصلاح يعقد العزم على تنفيذه ، في إيجابية وحرص . أما الفرد الذي لا يتمتع بالإيجابية فعادة ما يقف عاجزًا أمام فشل ، وأمام أي مشكلة مهما كانت بسيطة أو صغيرة .
أداء الواجبات وتحمل المسؤولية إذا قام كل فرد بواجبه ، وحصل على حقوقه ، صح نفسيًا وجسديًا وارتقى اجتماعيًا ، بيد أن النفس الإنسانية - في أغلب الأحيان تميل إلى تحصيل حقوقها أكثر مما تميل إلى أداء واجباتها ، وتركها على هذه الحال يفسدها ويضعفها ، ويقودها إلى الإنحراف ، ويخل بموازين الحياة ، التي تقوم على الأخذ والعطاء ، والعدل بين الواجبات والحقوق ، فبقدر ما يأخذ الفرد من حقوق يعطي واجبات ، لأن واجباته حقوق لغيره عليه ، وحقوقه واجبات على غيره له . ومن هنا اقتضت الصحة النفسية التزام الفرد بعمل واجباته ، وتعود نفسه على النهوض بها ، وعدم التقاعس عنها ، فالنفس كالطفل إذا تعودت على الخير نشأت عليها وسعدت به ، وإذا تعودت على الشر شقيت وهلكت . وإلزام النفس بعمل الواجبات وترك الإنحرافات عملية نفسية إرادية ، تتضمن أفكار ومشاعر المسؤولية والرضا ، والصدق والأمانة ، وتدفع إلى الإنجاز والتفوق ، فيشعر الفرد بالكفاءة والجدارة ، ويحصل على الاستحسان والتقدير ، ويرضى عن نفسه ، وعن الناس ، وعن الحياة التي يحياها . وبناء على ذلك كانت رسالة الإسلام هي العمل على صوغ الإنسان المجتمعي الفاضل ، المؤمن بصدق ، سواء أحب لم كره ، كما يقول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ، ولأن النس إنما هم : [ إما أخ في الدين ، أو نظير في الخلق ] ، على حد قول الإمام علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه .
الانفعالات المناسبة تعتبر الانفعالات محور الحياة النفسية ، فهي توابل الحياة ، وهي تلازم الفرد في تعلمه المستمر ، وفي سعيه الدائم للتوافق والتكيف . والانفعالات ليست عيبًا كما يظن البعض ، بل إننا لنذهب إلى أبعد من ذلك ، إلى القول بأن عدم الانفعال في مواقف تقتضي من الفرد أن يغضب أو أن يحزن ، يعتبر مظهراً من مظاهر الاضطراب النفسي ، وانخفاض مستوى الصحة النفسية . إن للانفعالات أهمية كبرى في حفظ حياة الكائن الحي ، لأنها رد فعل طبيعي يقوم به الفرد ، لمواجهة المواقف الطارئة التي تعترضه ، وعن طريقها يتمكن من مقاومة المواقف الخطرة ، أو الهروب منها . بيد أن كثرة الانفعالات ، والإسراف فيها يضر بصحة الإنسان النفسية والجسدة ، واضطراب الناحية الانفعالية عند الإنسان يعد من الأسباب الهامة في نشوء كثير من أعراض الأمراض الجسدية ، والتخلص من القلق هو طريق العلاج ، وفي القرآن الكريم الكثير من الآيات الكريمة التي تساعد الإنسان على السيطرة على انفعالاته المختلفة والمتعددة .
وللطاقة الانفعالية في حياة الأفراد آثارها الحسنة والسيئة ، ومن هنا يجب أن تقام دعائم الحياة الانفعالية للأفراد على أسس نفسية سليمة ، تدفع الفرد نحو العمل والطموح ، وتكون مصدرًا قويًا لاستمتاع الفدر بحياته ، في آمالها والآمها ، وفي مسراتها وأحزانها . إن الحياة التي نحياها لا تخلو من استمتاع بالآمال والمسرات ، وكفاح ومجالده للآلام والأحزان ، وذلك عن طريق الثقة بالنفس ، والانتصار على المخاوف والوساوس . والفرد الذي يتمتع بالصحة النفسية عادة ما تكون انفالاته مناسبة ، أي على قدر المواقف التي تواجه الفرد ، دو أدنى مغالات أو نقص .
تقبل الذات وتقبل الآخرين
إن الفرد الذي يتمتع بالصحة النفسية يتقبل ذاته ـ لأن الفرد في هذه الحالة يكون راضيًا كل الرضا عن كل سلوك يصدر عنه . والرضا عملية نفسية سهلة إذا سارت الأمور كما نريد ، وصعبة إذا كانت على غير ما نريد ، فعلى الفرد أن يرضى عن نفسه في كل الأحوال ، حتى يحميها من مشاعر السخط والضجر ، والملل والسأم ، والعجز والإنهزامية ، فالرضا عملية نفسية إرادية ، ومصدر كل سعادة ، وعلامة كل صحة . ويشمل الرضا مختلف مجالات الحياة ، ولا يتناقض مع الطموح ، والرغبة في التقدم ، والتطلع إلى الأفضل والأحسن ، فكل فرد مطالب بتنمية نفسه ، وتحسين حياته بالتنافس في كل عمل يؤديه وينفعه . وإذا لم يكن الفرد راضيًا عن بعض جوانب من تصرفاته وسلوكه ، عمد إلى تغيير أهدافه ، وتعديل سلوكه ، بما يتناسب مع قدراته وظروفه . وأن تقبل الفرد لذاته يوصله إلى تقبل الآخرين ، وتقبل الاخرين معناه . ألا يحاول الفرد أن يصنع الناس على هواه ، بل عليه أن يتعامل مع هؤلاء الناس بكل ما فيهم من كمال ونقص ومزايا وعيوب ، وأن يتقبل الآخرين حتى ولو كانوا مختلفين عنه في الفكر ، أو السلوك ، أو المعتقد .
التفاؤل والمقصود بالتفاؤل هو : توقع النجاح والفوز في المستقبل القريب ، والاستبشار به في المستقبل البعيد .. ولا يكون ذلك إلا بالاعتماد على المولى سبحانه وتعالى ، والثقة فيه . وأعلى مراتب التفاؤل توقع الشفاء عند المرض ، والنجاح عند الفشل ، والنصر عند الهزيمة ن وتوقع تفريج الكروب ، ودفع المصائب ، وزوال النوازل ، عند وقوعها . فالتفاؤل في هذه المواقف عملية نفسية إرادية ، تولد أفكار ومشاعر الرضا والتحمل ، والأمل والثقة ، وتطرف أفكار ومشاعر اليأس والانهزامية والعجز . والمتفائل يفسر الأزمات تفسيرًا حسنًا ، ويبعث في نفسه الأمن والطمأنينة ، وينشط أجهزة المناعة النفسية والجسدية ، وهذا يجعل التفاؤل طريق الصحة والسلامة والوقاية . ويتفق علماء النفس على ضرورة أن يعيش الفرد يومه متفائلاً ، حتى في الظروف الصعبة ، ولا يقلق على المستقبل ، فلكل مشكلة احتمالات لحلها ، وعلى الفرد أن يجهز نفسه لأسوأ الاحتمالات ، ثم يحاول تحسين هذا الأسوأ بهدوء وتعقل . بيد أنه من الأحوط ألا يفرط أو يغالي الفرد في التفاؤل ، إذ أن ذلك من الأمور غير المستحبة ، التي قد تدفع بالفرد إلى المغامرة ، وعدم أخذ الحيطة والحذر في حياته . ويعتبر التشاؤم في نفس الوقت مظهرًا من مظاهر انخفاض الصحة النفسية لدى الفرد ، لأن التشاؤم يستنزف طاقة الفرد ، ويقلل من نشاطه ، ويضعف من دوافعه ، ولذلك فإن التفاؤل المعتدل يعد من مظاهر الصحة النفسية .
الاستقرار في الأسرة والعمل إن الفرد الذي يتمتع بالصحة النفسية عادة ما يكون مستقرًا في حياته الأسرية ، وفي العمل ، فالأسرة هي مأوى الفرد ومصدر استقراره ، فإن كان متزوجًا سُعد في زواجه ، واكتفى بزوجة واحدة ، وأما الفرد الذي لا يتمتع بصحة نفسصية فكثيرًا ما ينتقل من زوجة لأخرى ، سعيًا وراء الاستقرار ، ولكن هذا الاستقرار بعيد عن متناول يده ، إذ العيب فيه هو ، والاضطراب فيه هو ، ولكنه لا يدري ذلك . والفرد المتمتع بصحة نفسية غالبًا ما يكون أكثر قدرة على الاستمرار في عمله ، ولا يقدم على تغيير هذا العمل ، إلا إذا وجد عملاً آخر ، فيه إشباع له أكثر من الناحية الإجتماعية ، أو النفسية ، أو العقلية ، أو المادية . أما الفرد الذي لا يتمتع بالصحة النفسية فإنه يجد من الصعوبة بمكان الاستقرار في عمل معين ، كما انه يجد صعوبة في إقامة علاقات مفيدة ومثمرة مع زملائه في العمل .
القدرة على الانتباه والإدراك والتركيز إن تعامل الفرد مع بيئته ، يتطلب منه أولاً وبالضرورة أن يتعرف على هذه البيئة ، حتى يتسنى له أن يتكيف معها ، وأن يستغلها الاستغلال المناسب ، وان يحمي نفسه من أخطارها ، وأن يشترك في أوجه نشاطها . والأساس الأول لهذه المعرفة هو أن ينتبه الفرد إلى كل ما يهمه من هذه البيئة ، وأن يدركه بحواسه ، حتى يستطيع أن يؤثر فيها ، وأن يسيطر عليها بعقله ، وعضلاته ، فالانتباه والإدراك الحسي هما الخطوة الأولى في اتصال الفرد ببيئته ، وتكيفه معها . والانتباه والإدراك الحسي عمليتان متلازمتان في العادة ، فإذا كان الانتباه هو (تركيز الشعور في شيء ) ، فإن الإدراك هو (معرفة هذا الشيء) ، فالانتباه يسبق الإدراك ويمهد له ، أي : أنه يهيء الفرد للإدراك ، او كأن الانتباه يرتاد ويتحسسن ، والإدراك يكشف ويعرف ، والفرد المستمتع بالصحة النفسية هو الذي يستطيع توجيه الشعور وتركيزه في شيء معين ، استعدادًا لملاحظته او التفكير فيه ، أو أدائه .
قدرة الفرد على أن يُحبْ ويُحب إن الحب عاطفة سامية من أرقى العواطف البشرية ، وهو يلعب دورًا هامًا في حياة الإنسان ، فهو أساس تكوين الأسرة ، ورعاية الأبناء ، وهو أساس التآلف بين الناس ، وتكوين العلاقات الإنسانية الحميمة ، وهو الرباط الوثيق الذي يربط الإنسان بخالقه سبحانته . ويجعله يخلص في عبادته ، وفي اتباع منهجه . ويتفق علماء النفس على أن حب الإنسان للناس نابع من حبه لنفسه ، وحبه لنفسه نابع من حب الناس له ، فالعلاقة بين حب النفس وحب الناس علاقة تأثير متبادل . والحب المتبادل يشبع حاجات نفسية ، واجتماعية ، وجسدية ، لكل من المحب والمحبوب ، ولقد ذهب علماء المناعة النفسية إلى أن مشاعر المودة والمحبة تنشط أجهزة المناعة النفسية والجسدية وتنمي القدرة على مواجهة الأزمات ، ومقاومة الأمراض ، إن حب الناس يجعل افنسان يعيش في انسجام مع الآخرين ، مع التوازن التام بين حب الفرد لنفسه وحبه للناس ، والقرآن الكريم يطلب من المؤمنين جميعًا أن يعتصموا بحبل المولى سبحانه وتعالى ولا يتفرقوا . ولقد أثنى الحق - سبحانه عز وجل - على الأنصار ، الذين أحبوا إخوانهم المهاجرين ، وآثروهم على أنفسهم ، فقال : ( والذين تبؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شُح نفسه فأولئك هم المفلحون ) (الحشر : 9) . فالمسلمون إخوة يسيرون لتحقيق هدف واحد في هذه الحياة ، ولا يمكن أن يتم هذا إلا بالحب الكامل ، والمصطفى صلوات الله وسلامه عليه يقول : [ والذي نفسي بيده : لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم .. أفشوا السلام بينكم ] (رواه مسلم) . ولا بد أن يسبق حب الله تبارك وتعالى وحب رسوله صلوات الله وسلامه عليه حب كل شيء ، وهذا ما يوضحه القرآن الكريم ، في قول المولى تبارك وتعالى : ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارةً تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ) (التوبة : 24) .
الاستمتاع بالحياة إن الحياة عبارة عن مجموعة من المتناقضات ، وعلى الإنسان أن يعايشها بمتناقضاتها ، بل وعليه أن يستمتع بها . ولا شك في أن قدرة الفرد على أن يحيا حياة يشعر فيها بالرضا والارتياح تتوقف إلى حد كبير على مدى ما يتمتع به من صحة نفسية سليمة ، بحيث لا يصبح من المغالات أن يقال : إن من يتمتع بصحة نفسية سليمة هو من يستطيع أن يحيا هذه الحياة مستمتعًا بها ، راضيًا عنها ، متقبلاً لها ، قادرًا على تشكيلها وفق إرادته ، بحيث يصير هو صانعها وليس أسيرًا لها . ولقد دعا القرآن الكريم إلى تنظيم الدوافع الموجودة لدى الإنسان ، وتوجيهها التوجيه الصحيح ، حتى يستطيع الإنسان أن يتمتع بحياته تمتعًا سليم ، يقول الحق تبارك وتعالى : ( يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيبًا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوٌ مبين ، إنما يأمركم بالسوء والفحجشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) (البقرة : 168 و 169) . ويقول سبحانه وتعالى : ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ، قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقومٍ يعلمون ) (الأعراف : 31 و 32) . إن الاستمتاع بصحة نفسية طيبة ، وما يتبع ذلك من استمتاع بالحياة يتوقف إلى حد كبير على عدد من العوامل التي تؤثر على نشاط الفرد ، سواء ارتبطت هذه العوامل بماضي الفرد ، أو حاضره ، أو ما يتوقعه في مستقبله ، وسواء ارتبطت هذه العوامل بالفرد نفسه ن أو بالحياة التي يعيشها ، فإن تلك العوامل جميعها تحدد نوع النشاط الذي يقوم به الفرد ، وكل ذلك يؤثر في استجابة الفرد لما تأتي به الحياة .
وبعد فإن معظم الجهود المبذولة في سبيل تحقيق الصحة النفسية للأفراد في البلدان التي تهتم بالصحة النفسية له طابع وقائي ، فالاهتمام يتركز في الأسلوب الذي يتبع لتحقيق الصحة النفسية للفرد ، والحياة التي يجب أن يعيشها ، والظروف المناسبة التي تحيطه بها ، بغية تحقيق أمنه ، وطمأنينته النفسية . والجهد الوقائي لتحقيق الصحة النفسية مسؤولية جماعية ، فهو مسؤولية الأسرة في المقام الأول ، ثم مسؤولية المدرسة ، ثم مسؤولية المجتمع ، ثم مسؤولية منشآت العمل ، ومسؤولية المنظمات الاجتماعية ، وعملية التكيف والتوافق السوي تعتبر محور وأساس الصحة النفسية ، وعملية التوافق تتمثل في سعي الفرد الدائم للملاءمة والمواءمة بين مطالبه وظروفه ، ومطالب وظروف البيئة المحيطة به ، فكثيرًا ما يوجد الفرد في ظروف أو في بيئة لا تشبع كل حاجاته ومتطلباته . كما أن هذه الظروف وهذه البيئة قد تعوق إشباع الفرد لحاجاته النفسية والاجتماعية ، ومثل هذه الأوضاع تفرض على الفرد بذلك الجهد المستمر ، والمثابرة في وجه الصعوبات التي تواجهه في حياته سعيًا وراء حلها ، وهذه تعتبر صورة من سلوك الفرد السوي ، للوصول إلى التكيف والتوافق ، وإلى حياة سعيدة طبيعية .
المصدر : الشبكة الإسلامية .