شهر شعبان

الناقل : elmasry | الكاتب الأصلى : سعيد عبدالعظيم | المصدر : www.alsalafway.com

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،
أما بعد،
فبعد أيام قلائل يُهل علينا شهر شعبان، ونسأل الله -تعالى- أن يهله علينا وعليكم بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام.
وإذا كان الإنسان يستعد لحر الصيف وبرد الشتاء، فأولى به أن يستعد لمواسم الفضل، وخصوصاً مع سرعة مرور وانقضاء الأيام حتى بتنا نستشعر القرب من أن تكون السنة كالشهر والشهر كالأسبوع والأسبوع كاليوم، واليوم كاحتراق السعفة، على نحو ما ورد في الأخبار.
وهذا يتطلب منا الاجتهاد في العلم والعمل، واغتنام فرصة الزمن الشريف في كل ما يقرب من رضوان الله (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ . إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء:89).
فشهر شعبان شهر بين رجب ورمضان يغفل عنه الناس، وفيه ترفع الأعمال لرب العالمين، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر من صيامه، ويقول: (فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ) [رواه النسائي، وحسنه الألباني].
وإذا كان رجب هو شهر الزرع فشعبان هو شهر السقيا، ورمضان هو شهر الحصاد، ولا يحصد الإنسان إلا ما زرع، فمن زرع خيرا حصد خيراً، قال -تعالى-: (وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ) (البقرة:223)، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) (آل عمران:30).
الإنسان بحاجة لتهيئة قبل مجيء رمضان، وشعبان بمثابة فرصة عظيمة للتدريب على الصلاة والصيام وتلاوة القرآن والدعوة إلى الله. وباصطلاح الرياضيين فلابد من التسخين قبل دخول المباراة حتى لا يحدث للإنسان شد عضلي، ورغم أنف امرئ أدرك رمضان ولم يُغفر له.
وقد كان سلفنا الصالح يدعون ربهم ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ثم يدعونه ستة أشهر أخرى أن يتقبله منهم، وذلك لعظم يقظتهم وإدراكهم لحرمة الزمان والمكان، وحرصهم على كل يثقل الميزان ويرضي الرحمن.
إن أيام شعبان فرصة عظيمة لنفض غبار الغفلة عن النفوس والقلوب، والاجتهاد في طاعة علام الغيوب. فرصة للدعوة ولتذكير الناس بالأشهر العربية التي ارتبطت بها الأحكام الشرعية، قال -تعالى-: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) (التوبة:36).
هذه الأحكام لم ترتبط بمارس وإبريل، بل ارتبطت بشعبان ورمضان، ونحن لم نتعلم من الأشهر الإفرنجية إلا عيد الميلاد، وعيد الأم، وكذبة إبريل، ونسينا ما ارتبط بشعبان مثلاً من أنه شهر تُرفع فيه الأعمال لله، ويكثر فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- من الصيام.
فهذه فرصة عظيمة لتذكير الأمة بحرمة الأيام المباركات، وخصوصاً مع هذه اليقظة وهذه العودة المحمودة لدين الله.
هذا الشهر فرصة لتربية إيمانية ودعوة لغرس معاني المراقبة لا نحتاج معها لمناهج تربوية فلسفية ولمنظرين كبار في معاني السلوك، فمن كانت حرمة الأيام منه على بال، وجد خير ذلك في أقواله وأفعاله.
فالعبد إذا استشعر أن الأعمال ترفع فيه لرب العالمين، فهل يقبل أن يبارز الله بالحرب وتصعد له الكفريات والضلالات؟!
لابد من إعداد النفس، وتهيئة الإخوة لاستقبال الرواد الذين تمتلئ بهم المساجد في رمضان بحيث يصبحون عناصر دعوية صالحة، فلا ينفضون منه المسجد بعد رمضان. ونحن لا نخلق الفرص وأيضا لا نضيعها.
ولا يليق بنا أن نكون مسبوقين بحيث يدخل علينا رمضان فنستأنف تهيئة المساجد لصلاة التراويح والكلمات التي تُقال بعد وبين الصلوات، ومن ينهض بمهمة الزكاة، ومن يصلي بالناس في التراويح والتهجد ومن يقوم بالإفطارات.
كل ذلك لابد له من إعداد مسبق؛ فالله -جل وعلا- يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه.
لابد من بذل المزيد من الجهد في توضيح أحكام الصيام والدروس المستفادة منه، وتحذير الناس من كل ما يخدش صيامهم، كقول الزور والتبرج وترك الصلاة والعروض المستمرة للأفلام، والجلوس على المقاهي.
أي أننا نحتاج لأن نتعلم ونتفقه حتى نعلم الناس ما جهلوه من دين الله، وخصوصاً في مثل هذه الأيام المباركات التي تهفو فيه النفوس للطاعات، وحتى نخلص بثمرة التقوى التي لا ينجو إلا أهلها، قال -تعالى-: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً) (مريم:72).
يحتاج كل مسلم أن يتعاهد كتاب ربه، وبصفة خاصة من يؤم الناس، نعم كان ذكوان يصلي بأم المؤمنين عائشة من المصحف في رمضان -كما ذكر ابن قدامة في المغني-، ولا يختلف على أن الصلاة من الحفظ أفضل وأولى، وخصوصاً والمسجد يمتلئ بالحفاظ في رمضان.
وبالجملة فشعبان بمثابة مقدمة لرمضان، وهو فرصة عظيمة لتهيئة النفوس بالعلم النافع والعمل الصالح، ومتابعة الفرائض بالنوافل، والقيام بواجب الدعوة إلى الله.
ونضيف هنا بعض المسائل الهامة تكميلاً للفائدة:
أولاً: كانت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- تقضي أياماً من رمضان في شعبان؛ وذلك لعظيم حق النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ولأن القضاء على التراخي، لا يجب تعجيله.
فإذا بقي على رمضان القادم بعدد أيام القضاء من رمضان الماضي فالواجب المبادرة والإسراع بقضاء ما عليه.
ومن أتى عليه رمضان الثاني، ولم يقض، وكان معذوراً بالتأخير فعليه القضاء بعد انتهاء رمضان، أما من تكاسل وتراخى حتى دخل عليه رمضان الثاني فعليه القضاء والفدية (يعطم عن كل يوم مسكينا)
ثانياً: الصيام في شعبان بالنسبة لرمضان كالنافلة مع الفريضة، والصيام شأنه كالصلاة والحج، منه فريضة وتطوع. والتطوع قد يأتي قبل أو بعد الفريضة؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يكثر من صيام شعبان، ويقول: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ) [رواه مسلم].
ويصح الجمع بين نية القضاء والإكثار من التطوع في شعبان، وهي مسألة التشريك في النية.
وأفضل الصيام صيام داود، (كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلاَ يَفِرُّ إِذَا لاَقَى) [متفق عليه].
ولو صام الإنسان الاثنين والخميس والثلاثة أيام البيض أو شعبان كله فلا بأس؛ إذ البعض سرد الصيام إلا الأيام التي نهينا عن صيامها، كأيام العيد.
وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، ولو توافق اليوم الأخير من شعبان مع الأيام التي اعتدتَ صيامها كالاثنين والخميس فلا كراهة في صيامه.
ويجوز الصيام في النصف الثاني من شعبان بلا كراهة، وخصوصاً بالنسبة لمن صام في النصف الأول منه، وقد ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصوم أكثره، بل كان يصومه كله، والأعمال ترفع فيه في النصف الثاني كما ترفع في النصف الأول، والغفلة واقعة في النصف الثاني والأول، والنهي الثابت عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين يفيد جواز الصيام في النصف الثاني من شعبان. وقد اعتاد البعض الصيام في غير ذلك من أيام العام كالاثنين والخميس، فكيف يمتنع مثل هذا عن الصيام في النصف الثاني.
فلا داعي لتنفير العباد عن طاعة ربهم دون وجه حق؛ فنحن بحاجة لكثرة المطيعين، والصائم له دعوة ما ترد، وها هي الأمة تُقبل على دين ربها، فلابد من إعانتها على ذلك.
وقد لُوحِظَ أن الكثرة تكفُّ عن الصيام إذا دخل النصف الثاني من شعبان، فالسلوك مرآة الفكر -كما هو معلوم-، ونحن بحاجة ماسة لتصويب المفاهيم.
ثالثاً: لا يجوز إحياء ليلة النصف من شعبان بالصلاة والدعاء عقب صلاة المغرب؛ فإن إحياءها بذلك لم يكن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا في عهد الصحابة -رضوان الله عليهم-، وإنما اشتهر علن خالد بن معدان ومكحول الشامي من التابعين أنهما كانا يجتهدان في العبادة ليلة النصف من شعبان، والأحاديث الواردة في شأن هذه الليلة ضعيفة وبعضها موضوع كما ذكر ابن رجب وابن تميمة وغيرهما.
والحديث الضعيف إنما يُعمل به في العبادات التي ثبت أصلها بأدلة صحيحة، والحديث الذي فيه: (إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَقُومُوا لَيْلَهَا وَصُومُوا يَوْمَهَا) [رواه ابن ماجه، وقال الألباني: موضوع السند]، قال الإمام أحمد: ليس بشيء.
والعبادات توقيفية تؤخذ دون زيادة ودون نقصان، وبالتالي فالاجتماع على صلاة الرغائب التي يصليها الناس في أول خميس من رجب، وفي النصف من شعبان تُعد من جملة البدع.
والنوايا الطيبة لابد فيها من صحة العمل، وتخصيص ليلة النصف بالقيام، ويوم النصف بالصيام لاعتقاد فضيلة خاصة هو الذي يُنهى عنه، وإلا فلا حرج على من اجتهد في غير ذلك من الليالي أن يجتهد في هذه الليلة، ولا حرج على من صام في شعبان أن يصوم يوم النصف منه.
وصيام الثلاثة أيام البيض من كل شهر عربي مستحبة، فمن صام الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر من رجب وربيع كيف ينهي عن صيام النصف من شعبان على هذا الوجه؟
وشبيه بذلك تخصيص رجب بالصيام والخميس الأول منه بزيارة المقابر، ويوم 27 بالصيام والاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج؛ فاعتقاد الفضل لهذه الأيام هو الذي يُنهى عنه، وإلا فالبعض سرد الصيام في رجب وغيره، وهو أحد الأشهر الحرم، وزيارة المقابر مشروعة بالليل والنهار، في الخميس وغيره.
ولو صام الإنسان السابع والعشرين من رجب كما يصوم السادس والعشرين مثلاً فلا حرج.
نقول هذا الكلام لأن البعض إذا سمع أن صيام النصف من شعبان وقيامه بدعة قد يمتنع بالكلية عن الصيام والقيام دون أن ينتبه إلى أن الكلام يتعلق باعتقاد الفضيلة وتخصيص الصيام والقيام لأجل ذلك.
وبذلك تجتمع المسائل، فالحق وسط بين طرفين، بين من يقول للناس لا تصوموا النصف من شعبان ولا تقوموا ليلته، وبين من يحيي هذه الليلة بصلاة مخصوصة، ويعتقد أن صيام النصف له فضل زائد.
رابعاً: خرج الإمام أحمد والنسائي من حديث أسامة بن زيد قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم الأيام يسرد حتى نقول لا يفطر ويفطر الأيام حتى لا يكاد يصوم إلا يومين من الجمعة إن كانا في صيامه وإلا صامهما ولم يكن يصوم من الشهور ما يصوم من شعبان فقلت يا رسول الله إنك تصوم حتى لا تكاد تفطر وتفطر حتى لا تكاد تصوم إلا يومين إن دخلا في صيامك وإلا صمتهما؟ قال: أي يومين قلت: يوم الاثنين ويوم الخميس قال: ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم قلت: ولم أرك تصوم من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع الأعمال فيه إلى رب العالمين عز وجل فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم)
 
قد تضمن هذا الحديث ذكر صيام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من جميع السنة وصيامه من أيام الأسبوع وصيامه من شهور السنة فأما صيامه من السنة فكان يسرد الصوم أحيانا والفطر أحيانا فيصوم حتى يقال: لا يفطر ويفطر حتى يقال: لا يصوم.
 وقد روي ذلك أيضا عن عائشة وابن عباس وأنس وغيرهم ففي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم) وفيهما عن ابن عباس قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم إذا صام حتى يقول القائل: لا والله لا يفطر ويفطر إذا فطر حتى يقول القائل: لا والله لا يصوم).
وفيهما عن أنس أنه سئل عن صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (ما كنت أحب أن أراه من الشهر صائما إلا رأيته ولا مفطرا إلا رأيته ولا من الليل قائما إلا رأيته ولا نائما إلا رأيته)، ولمسلم عنه قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى يقال: قد صام قد صام ويفطر حتى يقال: قد أفطر قد أفطر).
وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينكر على من يسرد صوم الدهر ولا يفطر منه ويخبر عن نفسه: أنه لا يفعل ذلك.
ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: (أتصوم النهار وتقوم الليل؟ قال: نعم فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأمس النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني).
وفيهما عن أنس: (أن نفرا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قال بعضهم: لا أتزوج النساء وقال بعضهم: لا آكل اللحم وقال بعضهم: لا أنام على فراش فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فخطب وقال: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)، وخرجه النسائي وزاد فيه: وقال بعضهم: أصوم ولا أفطر.
خامساًً: هل الصيام في شعبان أفضل أم الصيام في المحرم وغيره؟
قال ابن رجب في لطائف المعارف:
في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياماً منه في شعبان) زاد البخاري في رواية: (كان يصوم شعبان كله)، ولمسلم في رواية: (كان يصوم شعبان كله كان يصوم شعبان إلا قليلا)، وفي رواية النسائي: عن عائشة قالت: (كان أحب الشهور إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يصوم شعبان كان يصله برمضان)، وعنها وعن أم سلمة قالتا: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم شعبان إلا قليلا بل كان يصومه كله)، وعن أم سلمة قالت: (ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان).
وقد رجح طائفة من العلماء منهم ابن المبارك وغيره: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يستكمل صيام شعبان، وإنما كان يصوم أكثره ويشهد له ما في صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (ما علمته تعني النبي -صلى الله عليه وسلم- صام شهرا كله إلا رمضان)، وفي رواية له أيضا عنها قالت: (ما رأيته صام شهرا كاملا منذ قدم المدينة إلا أن يكون رمضان)، وفي رواية له أيضا: أنها قالت: (لا أعلم نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قرأ القرآن كله في ليلة ولا صام شهرا كاملا غير رمضان) وفي رواية له أيضا قالت: (ما رأيته قام ليلة حتى الصباح ولا صام شهرا متتابعا إلا رمضان).
وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: (ما صام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شهرا كاملا غير رمضان).
وكان ابن عباس يكره أن يصوم شهرا كاملا غير رمضان، وروى عبد الرزاق في كتابه عن ابن جريج عن عطاء قال: كان ابن عباس ينهى عن صيام الشهر كاملا ويقول: «ليصمه إلا أياما»، وكان ينهي عن إفراد اليوم كلما مر به، وعن صيام الأيام المعلومة، وكان يقول: «لا تصم أياما معلومة».
فإن قيل: فكيف كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخص شعبان بصيام التطوع فيه مع أنه قال: (أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم
فالجواب: أن جماعة من الناس أجابوا عن ذلك بأجوبة غير قوية لاعتقادهم أن صيام المحرم والأشهر الحرم أفضل من شعبان كما صرح به الشافعية وغيرهم. والأظهر خلاف ذلك، وأن صيام شعبان أفضل من صيام الأشهر الحرم، ويدل على ذلك ما خرجه الترمذي من حديث أنس سئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أي الصيام أفضل بعد رمضان؟ قال: شعبان تعظيما لرمضان) وفي إسناده مقال، وفي سنن ابن ماجه: (أن أسامة كان يصوم الأشهر الحرم، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: صم شوالاً. فترك الأشهر الحرم، فكان يصوم شوالا حتى مات) وفي إسناده إرسال، وقد روي من وجه آخر يعضده.
فهذا نص في تفضيل صيام شوال على صيام الأشهر الحرم، وإنما كان كذلك لأنه يلي رمضان من بعده، كما أن شعبان يليه من قبله.
وشعبان أفضل لصيام النبي -صلى الله عليه وسلم- له دون شوال، فإذا كان صيام شوال أفضل من الأشهر الحرم فلأن يكون صوم شعبان أفضل بطريق الأولى. فظهر بهذا أفضل التطوع ما كان قريبا من رمضان قبله وبعده، وذلك يلتحق بصيام رمضان لقربه منه، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها، فيلتحق بالفرائض في الفضل، وهي تكملة لنقص الفرائض، وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده.
فكما أن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالصلاة فكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بعد منه، ويكون قوله -صلى الله عليه وسلم-: (أفضل الصيام بعد رمضان المحرم) محمولا على التطوع المطلق بالصيام، فأما ما قبل رمضان وبعده فإن يلتحق في الفضل كما أن قوله في تمام الحديث (وأفضل الصلاة بعد المكتوبة: قيام الليل)
إنما أريد به تفضيل قيام الليل على التطوع المطلق دون السنن الرواتب عند جمهور العلماء، خلافا لبعض الشافعية، والله أعلم.
فإن قيل: فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما) ولم يصم كذلك، بل كان يصوم سردا ويفطر سردا، ويصوم شعبان، وكل اثنين وخميس؟
قيل: صيام داود الذي فضله النبي -صلى الله عليه وسلم- على الصيام قد فسره النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث آخر بأنه صوم شطر الدهر وكان صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا جمع يبلغ نصف الدهر أو يزيد عليه، وقد كان يصوم مع ما سبق ذكره يوم عاشوراء، أو تسع ذي الحجة، وإنما كان يفرق صيامه ولا يصوم يوما ويفطر يوما لأنه كان يتحرى صيام الأوقات الفاضلة.
ولا يضر تفريق الصيام والفطر أكثر من يوم ويوم، إذا كان القصد به التقوِّي على ما هو أفضل من الصيام، من أداء الرسالة وتبليغها والجهاد عليها، والقيام بحقوقها، فكان صيام يوم وفطر يوم يضعفه عن ذلك، ولهذا سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي قتادة عمن يصوم يوما ويفطر يومين؟ قال: (وددت أني طوقت ذلك)
 
وقد كان عبد الله بن عمرو بن العاص لما كبر يسرد الفطر أحيانا ليتقوى به على الصيام، ثم يعود فيصوم ما فاته محافظة على ما فارق عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من صيام شطر الدهر.
 
فحصل للنبي -صلى الله عليه وسلم- أجر صيام شطر الدهر وأزيد منه بصيامه المتفرق، وحصل له أجر تتابع الصيام بتمنيه لذلك، وإنما عاقه عنه الاشتغال بما هو أهم منه وأفضل، والله أعلم.
 
سادساً: تخصيص شعبان دون غيره من الشهور بالصيام لمعانٍ، ذكرها ابن رجب في لطائف المعارف، قال:
 
وقد ظهر بما ذكرناه وجه صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- لشعبان دون غيره من الشهور وفيه معان أُخَر، وقد ذكر منها النبي في حديث أسامة معنيين:
 
أحدهما: أنه (شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان)، يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان الشهر الحرام وشهر الصيام اشتغل الناس بهما عنه فصار مغفولا عنه.
 
وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيامه؛ لأنه شهر حرام وليس كذلك، وروى ابن وهب قال: حدثنا معاوية بن صالح عن أزهر بن سعد عن أبيه عن عائشة قالت: (ذُكِر لرسول الله ناس يصومون رجبا؟ فقال: فأين هم عن شعبان)
 
وفي قوله: (يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان) إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه إما مطلقا أو لخصوصية فيه لا يتفطن لها أكثر الناس فيشتغلون بالمشهور عنه ويفوتون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم.
 
وفيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة وأن ذلك محبوب لله -عز وجل-، كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشاءين بالصلاة ويقولون: هي ساعة غفلة؛ ولذلك فضل القيام في وسط الليل المشمول الغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الليلة فكن).
 
ولهذا المعنى كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يؤخر العشاء إلى نصف الليل وإنما علل ترك ذلك لخشية المشقة على الناس ولما خرج على أصحابه وهم ينتظرونه لصلاة العشاء قال لهم: (ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم) وفي هذا إشارة إلى فضيلة التفرد بذكر الله في وقت من الأوقات لا يوجد فيه ذاكر له.
ولهذا ورد في فضل الذكر في الأسواق ما ورد من الحديث المرفوع والآثار الموقوفة حتى قال أبو صالح: إن الله ليضحك ممن يذكره في السوق وسبب ذلك أنه ذكر في موطن الغفلة بين أهل الغفلة وفي حديث أبي ذر المرفوع: (ثلاثة يحبهم الله قوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به فوضعوا رؤوسهم فقام أحدهم يتملقني ويتلو آياتي وقوم كانوا في سرية فانهزموا فتقدم أحدهم فلقي العدو فصبر حتى قتل وذكر أيضا قوما جاءهم سائل فسألهم فلم يعطوه فانفرد أحدهم حتى أعطاه سرا)
 
فهؤلاء الثلاثة انفردوا عن رفقتهم بمعاملة الله سراً بينهم وبينه، فأحبهم الله، فكذلك من يذكر الله في غفلة الناس، أو من يصوم في أيام غفلة الناس عن الصيام.
 
وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد:
منها: أنه يكون أخفى، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل، لا سيما الصيام فإنه سر بين العبد وربه، ولهذا قيل: إنه ليس فيه رياء وقد صام بعض السلف أربعين سنة لا يعلم به أحد كان يخرج من بيته إلى سوقه ومعه رغيفان فيتصدق بهما ويصوم فيظن أهله أنه أكلهما ويظن أهل السوق أنه أكل في بيته.
 
وكانوا يستحبون لمن صام أن يظهر ما يخفي به صيامه، فعن ابن مسعود: أنه قال: إذا أصبحتم صياما فأصبحوا مدهنين. وقال قتادة: يستحب للصائم أن يدهن حتى تذهب عنه غبرة الصيام. وقال أبو التياح: أدركت أبي ومشيخة الحي إذا صام أحدهم ادهن ولبس صالح ثيابه.
 
ويروى أن عيسى بن مريم -عليه السلام- قال: (إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن لحيته وليمسح شفتيه من دهنه حتى ينظر الناظر إليه فيرى أنه ليس بصائم)
 
اشتهر بعض الصالحين بكثرة الصيام فكان يجتهد في إظهار فطره للناس حتى كان يقوم يوم الجمعة والناس مجتمعون في مسجد الجامع، فيأخذ إبريقا فيضع بلبلته في فيه ويمصه ولا يزدرد منه شيئا ويبقى ساعة كذلك ينظر الناس إليه فيظنون أنه يشرب الماء وما دخل إلى حلقه منه شيء.
 
كم ستر الصادقون أحوالهم وريح الصدق ينم عليهم، ريح الصيام أطيب من ريح المسك تستنشقه قلوب المؤمنين وإن خفي، وكلما طالت عليه المدة ازدادت قوة ريحه.
 
كم أكتم حبكم عن الأغـــــيار   والدمع يذيع في الهوى أسراري
 
كم أستركم هتكتموا أسراري   من يخفــي في الهوى لهيب النار
 
ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه رداءها علانية
 
وهبني كتمت السر وقلـت غيـــره   أتخــفى على أهل القلوب السرائر
 
أبى ذاك أن السر في الوجه ناطق   وإن بضمير القلب في العين ظاهر
 
ومنها: أنه أشق على النفوس: وأفضل الأعمال أشقها على النفوس. وسبب ذلك أن النفوس تتأسى بما تشاهد من أحوال أبناء الجنس فإذا كثرت يقظة الناس وطاعاتهم كثر أهل الطاعة لكثرة المقتدين بهم فسهلت الطاعات، وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسى بهم عموم الناس فيشق على نفوس المستيقظين طاعاتهم لقلة من يقتدون بهم فيها ولهذا المعنى قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (للعامل منهم أجر خمسين منكم إنكم تجدون على الخير أعوانا ولا يجدون)
 
وقال -عليه الصلاة والسلام-: (بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء)، وفي رواية قيل: (ومن الغرباء: قال الذين يصلحون إذا فسد الناس).
 
وفي صحيح مسلم من حديث معقل بن يسار عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (العبادة في الهرج كالهجرة إليّ)، وخرجه الإمام أحمد ولفظه: (العبادة في الفتنة كالهجرة إلي).
 
وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم ولا يرجعون إلى دين فيكون حالهم شبيها بحال الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه ويعبد ربه ويتبع مراضيه ويجتنب مساخطه كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مؤمنا به، متبعا لأوامره مجتنبا لنواهيه.
 
ومنها: أن المفرد بالطاعة عن أهل المعاصي والغفلة قد يدفع البلاء عن الناس كلهم فكأنه يحميهم ويدافع عنهم، وفي حديث ابن عمر الذي رويناه في جزء ابن عرفة مرفوعا: (ذاكر الله في الغافلين كالذي يقاتل عن الفارين وذاكر الله في الغافلين كالشجرة الخضراء في وسط الشجر الذي تحات ورقه من الصرير -والصرير: البرد الشديد-، وذاكر الله في الغافلين يغفر له بعدد كل رطب ويابس وذاكر الله في الغافلين يعرف مقعده في الجنة)
 
قال بعض السلف: ذاكر الله في الغافلين كمثل الذي يحمي الفئة المنهزمة، ولولا من يذكر الله في غفلة الناس لهلك الناس.
 
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.