إن الشباب المسلم هم عصب هذه الأمة ودرعها وسواعدها التي تَبني ولا تبدد ، وهم أولى الناس بتحديد واقع هذه الأمة ومصيرها ، فإذا فسدوا فسدت الأمة ، وإذا صلحوا صلحت الأمة، ومن ثم انتصرت وحُررت مقدساتها ، وطُهرّت أعراضها، وحُفظت دماؤها.. ولكن الواقعالذي تحياه الأمة في هذه الأيام.. يكشف عن مدى الأزمة الكبيرة التي يعيشها الشباب ، من تدهور أخلاقي ،إلى اضمحلال ثقافي ، إلى ضيق في العيش ، وتفش للبطالة ، وعدم الكفاية والعدالة في توزيع الوظائف العامة والخاصة في المجتمع.. ولما استفحلت الأزمةأخذ كل شاب يفكر في الهجرة إلى الدول الأجنبية ، ويخطط للخروج ، وهو لا يزال يدرس في المرحلة الجامعية أو الثانوية.. لقد صارت ظاهرة الهجرة والاغتراب في الوقت الحاضر حديث الساعة ، وحلم الشباب المتعلم وغير المتعلم وهاجسهم، وصارت فكرة الاغتراب سائدة عند كل من تأتيه فرصة الخروج من الوطن ، وخاصة بين الباحثين والموهوبين الذين تدهورت لديهم فرص المعيشة ، وفرص البحث العلمي على حد سواء. وهذه الظاهرة تلقي بآثارها السلبية على قطاعات التعليم المختلفة ، وخصوصاً قطاع التعليم العالي والجامعي والبحث العلمي. وفي كل يوم تطلع فيه شمسه ، يعاني العالم الإسلامي من هجرة لعقول وكفايات وخبرات شابة ، فضلاً عن تلك الخبرات والكفايات التي هاجرت منذ عقود ، واستقرت في دول الغرب ، وراحت ثمراتها وجهودها ابتغاء حضارة الغرب ومدنيته..! استمرار النزيف: هذا، ولا تزال ظاهرة هروب العقول الإسلامية مستمرة من العالم النامي إلى العالم الصناعي ، ومن القلب العربي إلى المركز الصناعي الغربي ، فهناك أكثر من مليون طالب من البلدان العربية يتابعون دراستهم في الخارج ، لاسيما الخريجين الذين حصلوا على درجة الدكتوراه.. لا يعودون إلي بلادهم ، إذ يعتقدون أن الفرص هناك قليلة ، والأجر منخفض ، كما أنهم يشعرون بعدم الأمن والعدالة في بلادهم ، إذ يرون أن المؤسسات البحثية والجامعية يسودها الاستبداد والمحسوبية ، إلى جانب ضعف الإنفاق على البحث العلمي.. إن من أهم المشكلات التي تعبر عن واقع الأمة في مختلف المجتمعات الإسلامية، وتُعيق بناء مستقبل أفضل لها مشكلة هروب النخب العلمية- التي تحمل العقول والخبرات والمهارات - إلى دول الغرب، مما يؤثر في قوة الأمة الإسلامية - عموماً - فكرياً وحضارياً وتربوياً وعلمياً، علماً بأن ظاهرة هروب النخب العلمية قد استفحلت في العقود الأخيرة ، بسبب عدة أسباب سياسية واقتصادية واجتماعية وشخصية.. ثم إن أضرار هروب النخب العلمية تفوق بكثير المنافع والماديات القليلة التي تحصل عليها الأنظمة والحكومات - من عمولات وتحويل أموال - جراء هجرة العقول والنخب الشابة المسلمة.. وإن من الواجب الشرعي والوطني على الأنظمة الحاكمة العمل على استرداد هذه النخب ، وهؤلاء الباحثين المسلمين، من خلال إغرائهم بزيادة تمويل أبحاثهم ، وتوفير الحرية الأكاديمية لهم، وتكريمهم وتقديرهم مادياً ومعنوياً.. هذا إلى جانب صنع قنوات اتصال بين هذه النخب المهاجرة ـ أو الهاربة ـ والمؤسسات البحثية والجامعية في البلدان الإسلامية..! أرقام مفزعة: تشير العديد من النتائج المبنية على الدراسات الميدانية والتقارير الرسمية أن نسبة النخب الهاربة أو العقول المهاجرة ، وخاصة من الشباب قد ازدادت بدرجات متباينة.. فقد أشارت بعض هذه الدراسات إلى أن 45 بالمائة من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلدانهم.. وأن 34 بالمائة من الأطباء الأكفياء في بريطانيا هم من العرب.. كما أشارت دراسة أخرى إلى أن مصر خسرت خلال السنوات الأخيرة 450 ألف شاب من حملة المؤهلات العليا من الماجستير والدكتوراه.. ودراسات أخرى تقول : إن هناك 4102 عالم مسلم في مختلف علوم المعرفة في مراكز بحوث غربية مهمة..! وأن العالم العربي خسر 200 مليار دولار، خلال عام ( 2001)، بسبب هجرة الكفايات العلمية والعقول العربية للدول الغربية..! وأن 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون بالخارج لا يعودون إلى بلدانهم!!...الخ.. الخ . إن المشكلة جد خطيرة.. وخطيرة جداً..ولكن نقول : لو أنفقت الحكومات والأنظمة العربية على البحث العلميربع ما تنفقه على الراقصات والفنانين وألوان الترف لدى الفئات الحاكمة ما اضطر آلاف الشباب والنخب العلمية والفكرية إلى الهرب من جحيم الأنظمة العربية إلى جنة الحرية الأكاديمية في بلاد الغرب! . على الأمراء والحكام العرب أن يحترموا العقول والنخب العلمية ، على الأقل كما يحترمون الفنانات وبغايا (الفيديو كليب). وتبقى الخسارة الحضارية: إن ظاهرة هجرة العقول الإسلامية.. تمثل كبرى الأزمات التي تشخص واقع المجتمعات الإسلامية القائمة ، كما تعبر هذه الظاهرة عن مدى الأزمة الحضارية التي تُعاني منها الشعوب الإسلامية في هذا العصر.. فهذه العقول المهاجرة تؤثر سلباً في مدنية المجتمعات الإسلامية ، وفي تقنياتها ومستوى تحضرها.. كما تؤثر سلباً على مستوى الثقافة العلمية لدى المسلمين في هذا العصر.. ومن ثم تتحول المجتمعات الإسلامية إلى مجتمعات مستوردة لأفكار الغرب وثقافاته، بشكل تلقائي، بحيث تسد الفجوة الفكرية والثقافية التي سببتها العقول المهاجرة.. ومع إن الحكومات والأنظمة العربية تستفيد ببعض الفتات من وراء هذه الهجرة إلا أن العقول الإسلامية لا يمكن أن تقدَّر بمال، وإن جنت الحكومات والأنظمة العربية ملايين الدولارات ربحاً من وراء العقول والنخب الهاربة؛ من خلال عمليات تحويل الأموال وخلافه.. فهذه العقول الإسلامية التي هربت لو وجهت جهودها إلى خدمة المجتمعات الإسلامية لتغير وضعها من حال التخلف التقني إلى درجات التقدم العلمي الذي يحفظ ماء وجهها كخير أمة أخرجت للناس ، يجب أن تكون أمتنا أسوة وقدوة لغيرها من الأمم والحضارات الأخرى.. لا أمة تابعة في ذيل الأمم . المصدر : موقع الرواق