فرصة أغلى من الذهب كانت أمام الحكومة العراقية لتثبت صلاحيتها للحكم ، ولكسب ثقة أبناء الشعب أو ما تبقى منها ، و ردم الهوة الكبيرة بين الحكومة وبين رعاياها الذين تولد لديهم إحساس لا يلامون عليه من أن الحكومة لا تعبأ باحتياجاتهم ، وأن الوعود الانتخابية كغيرها من الوعود ذهبت حتى قبل أن تصلها أدراج الريح.. فرصة للملمة الجراح والمضي فوقها بخطى أكثر ثقة... خطى العدالة. ساعات حاسمة لا يمكن قياسها بمقياس الزمن حيث كان بالإمكان أن تكون عرسا عراقيا حقيقيا ، به تفرح كل أطياف الشعب المسكين.. الذي لم يذق معنى الفرح مذ أن صرخ صرخة الولادة الأولى ، إن دولاب الحياة قد يضع بين يديك من الظروف والمغريات والتسهيلات ما إنك لو تصرفت بحكمه لا تخلو من دهاء فستكون كبيرا ، وربما كبيرا جدا في عيون خصومك قبل الأصدقاء ... وهكذا هي الدنيا لا تنتظر أحدا .. تذهب بفرصها ، ويكبر بها من يحسن فن الارتقاء ، ويصغر من لا يستطيع أن يرفع بصره فوق أقدامه. أن يكون بين يديك حكم أكثر من ثلاثين سنة بكل ما تحمل من ظلم واستبداد وقمع ، وبكل ما تنطوي عليه من أسرار ومغامرات وضحايا من الأقصى إلى الأقصى... أن يسقط عندك دكتاتور يعني أن الدولة كلها بين يديك ، فأصبح تحت تصرفك ماضي كان من المستحيل عودته حتى بحت حناجر من غنى ( ألا ليت الشباب يعود يوما ) لكن سقوط طاغية بهذه الطريقة يعني تحدي المستحيل ، وعودة الماضي للاستفادة منه قدر محاكمته.. لكشف الأرصدة من دماء الأطفال.. للبوح بمقابر جديدة... للوقوف على أسئلة ما كان يجب أن تدفن من جديد لتنهض أسئلة نحن في غنى عنها . تم احتلال العراق وشكلت المحكمة التي اختارت جزئية من جرائم صدام لتحكم عليه بالاعدام ، رغم كل ما يمكن إثارته عن المحكمة وظروف تأسيسها واستقلاليتها .....الخ تبقى الكلمة الأخيرة للقضاء هو من يقرر العقوبة ومدى ملاءمتها للوقائع الجرمية المعروضه أمامه. وكل هذا كان يمكن تحاشيه لو أن الحكومة كانت فعلا حكومة.. على اعتبار أن الغالبية العظمى من الشعب العراقي يدركون تماما مغامرات وإجرامية من أعدم ، لا يمكن حتى هذه اللحظة أن يأتي من يقول : إن صدام كان بريئا . المهم الذي حدث حدث وفرصة صناعة الكبار قد لا تتكرر ، نفذ حكم الإعدام بصدام وسط تساولات كبيرة جدا ليس حول استحقاقه هذه العقوبه أم لا ، بل حول السرعة و التوقيت و الأجواء العامة عند التنفيذ. إن إعدام صدام بهذه الطريقة كانت خدمة له ، قدمها من أقدم على تنفيذ الإعدام ، أن تفتح الأرض فمها فتبتلع أسرارا ، وربما خيانات للشعب بكامله ، بل الأكثر أن تتحول تلك المجازر إلى بطولات هي فعلا سخرية القدر ، إن إعدام صدام بتلك الطريقة تجاوز لكل رغبات العراقيين في الكشف عن المزيد. الآن وقد نفذ الإعدام كعقوبة لرجل حكم العراق بالدم والنار يحق لنا أن نقف قليلا عند الغاية الرئيسة التي شرعت من أجلها العقوبة ، بالتأكيد إن الفلسفة الحقيقة من العقوبه ليس فكرة الانتقام ، وربما هذا هو الاساس الذي يقف وراء فكرة إقامة مؤسسة الدولة ، وتجاوز فكرة الفردية على اعتبار أن الدولة لا ينبغي عليها أن تجعل من ممارسة وظيفتها فرصه للانتقام من رعاياها ، أما الفرد فإن فكرة الانتقام والأخذ بالثأر لا تغيب عنه كثيرا ، فالغاية الرئيسية من العقوبة تحقيق العدالة من جهة ، وحماية المجتمع عن طريق فكرة الردع من جهة أخرى. ففكرة العدالة تتحق ليس من خلال تنفيذ العقوبه فقط ، بل إن تنفيذ العقوبة آخر مرحلة في تحقيق العدالة ، وإن ما يكون قبل تنفيذها مهم جدا لإقامتها ، حيث إن كشف كل الملابسات والدوافع و الشركاء والمحرضيين في جريمة معينه خطوة لابد منها لتحقيق العدالة ، حتى يستشعر الناس أنه لا يوجد استهانه بحقوقهم ، وتتلاشى فكرة الانتقام لديهم تدريجيا عند إدراكهم وجود دولة ، ومن ضمنها حكومة حريصة على حقوقهم حرص الأب على أبنائه. فالحديث عن العدالة في قضية شائكة ومعقدة مثل قضية صدام يحتم علينا الوقوف عند طبيعة الانتهاكات التي ارتكبت ضد الشعب العراقي ، وعدم الوقوف عند جريمة واحدة ، إذا كان الحكم بالإعدام على صدام عادلا في قضية الدجيل فإن تحقيق العدالة لعموم الشعب كان يقتضي تأجيل تنفيذ الحكم حتى ينظر في قضايا أخرى أكثر إجرامية وأشد قسوة ، كقضية حلبجة مثلا ،أنا كعراقي كنت أتمنى أن يستمر التحقيق في قضية ما تسمى بالأنفال مع وجود صدام على قيد الحياة ، لماذا في لحظة ما قررت الحكومه أو بعض منها بتر العداله ، وحرمان طائفة كبيرة من الناس الوقوف عند حقيقة ما جرى ؟. الكثير من الناس كانوا يبحثون عن تصديق أو تكذيب لما يشاع من وجود أطراف محلية أو إقليمية ، أو حتى دولية ، كانت على علاقة بما حدث من مأساة بحق أهلنا في الشمال ، لماذا كان الإسراع في تناسي تلك الهياكل الطاهرة ؟ ألا يستحق أطفال حلبجه أن يساهموا في تحقيق العداله؟؟ ألم يكن حريا بالحكومة أن تقدم لهم ولنا برهانا أن العدل قادم لا محالة؟ لماذا كان الخوف؟ لم يكن بالإمكان تبرئة صدام فهو ابتداء قد حكم علية بالاعدام في قضية الدجيل ، حتى على افتراض صحة ما يشاع من التدخل لماذا لم يذكر صدام ذلك في جلسات المحكمه الأولى؟ ..هل لأن الحقيقة فعلا هو أنه وحده من شارك بتلك المأساة ؟ أم أنه قرر أن يموت مجرما فقط أفضل له من أن يموت مجرما وخائنا لشعبه ؟ لان التدخلات الإقليمية والمحلية والدولية على افتراض وجودها ما كانت لتتم لولا دعم صدام لها ، وإلا هل يستطيع أحد أن يفسر لنا سر صمت صدام كل هذه السنين رغم كل ما كتب من تقارير حقوقية عن تلك المأساة ، أم أن الحكومة المنتخبة استكثرت على الشعب أن يعرف حقيقة موته ولو مرة واحده ، إنني أستغرب كيف قبلت الزعامات الكردية ذلك . من جهة أخرى فان فكرة الردع هي الهدف الثاني المرجو من العقوبة ، فهي الضمانة الرادعة للفرد نفسه أو للمجتمع, تحول دون العود مرة أخرى إلى السلوك الإجرامي والاستهانة بحق الشعب بالعيش بأمان وهدوء. بالتأكيد فإنه في عقوبة الإعدام فإن الردع لا يمكن تصور تحققه لدى الجاني نفسه فهو ينفذ في الجاني تحقيقا للعدالة ، ويحقق الردع بالنسبة لآخرين أفرادا أو جماعات ، فالمصير نفسه ينتظرهم إذا ما كرروا الأفعال ، ففي القصاص حياة للمجتمع ، إن تنفيذ عقوبة الاعدام بالطريقة التي شاهدناها يزعزع فكرة الردع ، فعندما تقوم جماعة مسلحة متهمة من قبل الشعب العراقي بتنفيذ أو حتى بالإشراف على التنفيذ فهي إشارة واضحة لهم أنه فوق القانون ، وأن ما يقومون به مبارك من قبل الحكومة. فضلا عن ذلك ما رافق الإعدام من عبارات تعطي إشارة للمواطن العادي أن الحكومة لديها رغبة في الانتقام وليس تحقيق العدالة ، كما أنها تقزم معاناة شعب بكامله لتجعلها وكأنها كانت محصورة ضد جماعة ينظر إليها الكثير بعين الريبة والاتهام. ما حدث فعلا لا يليق بالعراق....ولكن لماذا؟؟؟. هكذا ببساطه طويت تلك الصفحة لتفتح صفحات جديدة أخرى .... عنوانها المهم... لماذا ؟ فعلا كان أمام الحكومة فرصة لاستخدام إعدام صدام ورقة رابحة لها لدى العراقيين ، إذا لم أقل كلهم فأكيد بغالبيتهم العظمى... .بل حرمتهم ـ ولا أعرف لماذا ـ من عرس عراقي كان ممكن أن يكون . فتحي محمد fathimohamad@yahoo.com 4-1-2007 مدريد المصدر : موقع التاريخ