إن أول قدوم للإسلام في جنوب السودان كان بواسطة الجنود والموظفين في الإدارة التركية المصرية المشتركة للسودان، وينسب الفضل والريادة في قدوم الإسلام إلي جنوب السودان( للكابتن سليم) وجنوده، وكان قائدا للبارجة البحرية التي ألقت مرساتها في قوندو كورو – إحدي قري الصيد في منطقة الباريا ،وذلك في عام 1841م . وكما هو الأمر الشائع عند المسلمين فإنهم يمارسون عباداتهم حيثما رحلوا وحلوا ، لذلك فان كابتن سليم ومن رافقه إلي جنوب السودان قد قدموا الإسلام للأهالي من خلال أداء الصلوات اليومية في قوندوكورو . وهذا ظاهر في روايات الذين شهدوا وقائع الإدارة المصرية التركية (21 ـ1885) إن موظفين بريطانيين مثل( شارل غردون وأمين باشا) الذين حكموا الاستوائية من قبل الأتراك في فترات مختلفة أشاروا إلي اعتناق الأهالي للإسلام من خلال اختلاطهم بالجنود والموظفين في الحاميات التي أنشأت علي النيل من التوفيقية في أعالي النيل إلي فوايرا في ريفي بور وداخل يوغندا اليوم ، وقد أثبتت الوثائق أنه في لادو حاضرة محافظة الاستوائية (التي أسسها شارلس غردون حاكم المحافظة في العام 1874) قد قام مجموعة من القادة المحليين في العام 1881 بحضور احتفالات العيد الصغير ،وهو عيد الفطر المبارك ،والذي يختم به صيام شهر رمضان المبارك ،وهذا يشير إلي أنه كان هناك بالفعل أعداد من المسلمين في الجنوب ،والذين ربما اعتنقوا الإسلام تلقائيا . من هنا يمكن أن يقال : إن قواعد الإسلام قد أرسيت خلال فترة الحكم المصري التركي . ونخلص إلى أن الإسلام قدم ورسخ ونشر في جنوب السودان خلال فترة متطاولة بواسطة الجنود والموظفين في الإدارات الثلاث المصرية التركية ، المهدية ،والمصرية ـ الإنجليزية ، وبواسطة التجار الذين عاشوا هناك خلال الإدارات الثلاث . حقوق المسلمين الدينية في ظل اتفاقية السلام : إن دستور السودان الانتقالي ، والذي استمد بعض بنوده من اتفاقية السلام الشامل للتاسع من يناير2005م والموقعة في نيفاشا كينيا بين حكومة السودان والحركة الشعبية بتحرير السودان واضح جدا فيما يتعلق بحقوق أهل السودان الدينية سواء كانوا مسلمين أو نصارى . إن المادة السادسة تقول :إن الدولة سوف تحترم الحقوق الدينية الآتية : التجمعات من أجل العبادة ، والمعتقد وتأسيس وإدارة أماكن لهذه الأغراض . في هذا النص يمكن أن نستنتج أن للمسلمين بناء المساجد للصلوات تماما مثلما أن النصارى أيضا من حقهم بناء الكنائس من أجل العبادة ،ونفس المادة من الدستور الانتقالي تقول : إن المواطنين يمكنهم تعليم دياناتهم ومعتقداتهم في الأماكن المناسبة لذلك ، وهذا يعني أن المسلمين يحق لهم بناء المدارس وكذلك النصارى لهم الحق المماثل لتعليم أتباعهم ديانتهم . وعلي أي حال منذ بداية تطبيق اتفاقية السلام الشامل بجدية لم يحدث اختلاف أساسي حول الدعوة إلي الإسلام في جنوب السودان . وقد وردت تصريحات لقادة جنوب السودان في الفترة بعد توقيع الاتفاقية يطمئنون المسلمون أن معتقدهم سوف ينال حقه من الاحترام ، وأن لهم الحق في ممارسته وفقا لما جاء في الدستور . وقد نقل عن رئيس حكومة الجنوب الفريق سلفاكير ميارديت أثناء مخاطبته لحشد إفطار رمضان المقام في جوبا في السنة 1427هـ أنه أكد للمسلمين في جنوب السودان احترام معتقداتهم ،وأنه لهم أن يؤدوها كما جاء في الدستور الانتقالي بدون خوف ؛ لأن الدستور قد أعطي حرية العبادة لكل المواطنين . ولكن أثناء هذه الفترة القصيرة من الحرية الدينية التي ضمنت في الدستور الانتقالي وبعد التوقيع علي اتفاقية السلام الشامل فقد ترامي إلي سمع المسلمين في الجنوب بعض الكلمات غير الموفقة من بعض القيادات المؤثرة في حكومة الجنوب حول الإسلام . إحدى هذه المقولات وردت علي لسان رئيس المجلس التشريعي بعد اتفاقية السلام الشامل الذي صرح لبعض مسلمي الجنوب الذين جاءوا إليه في زيارة مجاملة أن دينهم معترف به ،وأن أولئك النفر الذين كان آباؤهم وأجدادهم وأجداد أجدادهم مسلمين هم وحدهم دون غيرهم الأتباع الحقيقيون للإسلام ، أما أبناء الجنوب الذين اعتنقوا الإسلام أثناء الحرب أو اعتنقوه حديثا فليسوا مسلمين حقيقيين ، وأن الآخرين يجب أن يكونوا منهم علي حذر . إن كل من يعتنق ديانة سواء كانت الإسلام أو النصرانية فعلي الدولة واجب حمايته ؛ لأن الدافع للانضمام لأي دين دافع روحي شخصي ، والله وحده هو الذي يحكم علي السرائر ، هناك أفعال أخرى واتجاهات في مستويات أدني في حكومة جنوب السودان تثير القلق للمسلمين حول حقوقهم الدينية وحمايتها . أوردت الصحف في الخرطوم تقريرا عن أمر صدر من مسئول حكومي في ملكال حاضرة ولاية أعلى النيل لطالبات المداري الإسلامية للإقلاع عن لبس غطاء الرأس (الطرحة) أو الوشاح في أثناء الدراسة ، هذا الأمر واجه مقاومة من الفتيات اللائي لم يرين في زيهن أي وجه للخطأ . لكن بعد ورود الخبر في الصحافة أنكرته الحكومة في ملكال ، إلا أن رئيس الإدارة المسيحية في وزارة الإرشاد والأوقاف الاتحادية أكد أن تقريرا مثل هذا قد ورد إلي مكتبه حتى يقدم النصح والمشورة للمسئولين حول الحرية الدينية . كذلك الأمر في ياي فقد نقل عن مسئول حكومي كبير أنه قد أمر المؤذن الذي ينادي للصلاة ألا يؤذن لأن ذلك يزعج الآخرين ، ونفس الشيء ورد في تقرير من رمبيك ، غير أن المسئولين في رمبيك قالوا : إنهم أوقفوا هذه الوظيفة (الأذان) لتجنب النزاع بين مجموعتين متنافستين من المسلمين كل واحدة تدعي المسؤولية عن إدارة المسجد الكبير في المدينة . هذا الإجراء – كما تدعي الحكومة – مؤقت تواصلت الصلوات كالمعتاد بعد تجاوز الأشكال . أما في جوبا فإن والي الاستوائية الوسطي هو ووزير التربية في حكومته في مطلع 2007م أغلقوا فرعا من جامعة القرآن الكريم في جوبا بدعوي أن المبني الذي تشغله الجامعة يخص مدرسة ثانوية للبنات . وهذا لم يكن صحيحا لأن المبني المعني قد تم تشييده علم 1963م في فترة حكم إبراهيم عبود لإيواء مدرسة ثانوية إسلامية (معهد علمي) لمسلمي الجنوب ، وحجر الأساس المنحوت في الجدار الأمامي للمبني يشير إلي ذلك . أما المبني الذي شيد أثناء فترة حكم عبود ليكون مدرسة ثانوية للبنات فهو الحرم الحالي لجامعة جوبا ، وما نحت علي حجر الأساس في مبني الإدارة يشير إلي هذا بوضوح ، صحيح أن جامعة القران الكريم في جوبا يجب أن تقتني قطعة أرض تقيم عليها مبانيها ، أما المباني موضوع النزاع فيجب أن تؤول إلي هيئة مسلمي جنوب السودان لتحسن استغلالها معهدا علميا . هناك أفراد آخرون في الجنوب يغمزون المسلمين الذين اعتنقوا الإسلام في سنوات الحرب ، ويصفونهم (بالأشخاص الذين دمغوا علي أفخاذهم ومؤخراتهم) ، وهذا وضع آخر يولد جو من الخوف وسط المسلمين حديثي الإسلام ويبث إشارات خاطئة لغيرهم أنه لا يوجد أية حماية لمعتنق جديد للإسلام . الدعوة الإسلامية في جنوب السودان: أ / التجارب السابقة : بما أنه أول دين يقدم إلى جنوب السودان من خارجه فإن الدعوة إليه واجهت عددا من الصعوبات : أولا فإن سكان الجنوب متعددو اللغات ويتكلمون أكثر من مائة لغة ولهجة وجلها متباينة مما يضع حاجزا لغويا سميكا يمنع التواصل بين بعضهم البعض . أما اللغة العربية التي نزل بها القرآن فلم تكن واسعة الانتشار بين أهالي المنطقة ؛ مما صعب فهم نصوص القرآن . كذلك فان الغالبية العظمي من الذين اعتنقوا الإسلام من سكان المنطقة كانوا أميين ، هذا أدى إلى محدودية في نشر الدعوة وسط هؤلاء ، وكان أمين باشا حاكم ولاية الاستوائية قد أمر بتشييد أول خلوة في عام 1881م في مددينة لادو ، لتعليم الأطفال في حاضرته . وكان من الصعب وجود أي (إمام) أو معلم مسلم لتعليم العقائد ؛ وبسبب هذا فإن كبار السن الذين اعتنقوا الإسلام في لادو كانوا يتلقون الدروس علي أيدي الضباط والموظفين في رئاسة المحافظة . هذه الصعوبات جعلت الدعوة إلي الإسلام بين أهل الجنوب في أضعف حالاتها ، أما أثناء الإدارة الانجليزية المصرية للجنوب فإن حركة التصوف كانت تستخدم كمحرك قوي لنشر الإسلام وسط المواطنين المحليين ، وفي بحر الغزال وفي الرنك في شمال أعلى النيل فإن هذا الأسلوب في الدعوة قد كانت له نتائج إيجابية ب / في الظرف الحالي : إن الدعوة الآن تمارس من خلال البث الإذاعي في برامج توعية حول الإسلام ، وباستخدام اللغة العربية واللغة الإنجليزية ، فإن البرامج الإذاعية حول الإسلام تقدم من محطات البث خصوصا في أيام الجمع واحتفالات الأعياد من جوبا ، ملكال وواو . وهذه حتى الآن هي أقوي الوسائل التي تجعل المستمعين يتعرفون علي المزيد من الإسلام . كما أن البث التلفازي كذلك يصدر من استوديوهات في جوبا واويل ، وتساهم البرامج الإسلامية التي تصدر من هذه المحطات في التوعية الدينية للمشاهدين . أما الصحف فتطبع إصدارات خاصة في مواسم الصوم في رمضان المبارك وموسم الحج ؛ مما يكون له أعظم الأثر علي قرائها . الملاحظات والتوصيات : بالرغم من أن بداية ظهوره في جنوب السودان كانت في النصف الأخير من القرن التاسع عشر إلا أن الإسلام لم يتسع في الانتشار بسبب النقص الشديد في المعلمين المسلمين خاصة من مواطني الجنوب ذاته . في مطلع الخمسينات التحق بعض المسلمين من جنوب السودان بالأزهر الشريف – المؤسسة الإسلامية بالقاهرة – في مستويات الوسطي والثانوي والجامعة ، ولكن يبدو أنه وبسبب رفض الوحدة مع مصر توقف ذلك. وكانت هذه ضربة موجهة نحو الإسلام في الجنوب في ما تلا من السنوات ، ولقد سعي إبراهيم عبود 58-64 في فترة حكمه لنشر الإسلام في الجنوب ، ولكن نسبة لسوء التخطيط وضعف المساعي فان البرنامج فشل. ثم بعد سنوات من مساعي إبراهيم عبود قام الجنوبيون المسلمون بإنشاء المنظمات والهيئات ، منها هيئة مسلمي جنوب السودان والمجلس الأعلى للدعوة ، إلا أنه وحتى هذه اللحظة فإن أحدا لم ينشئ معهدا أو يضع برنامجا متسع الآفاق لنشر الدعوة والعقائد الإسلامية . وطالما أن الحاجة ماسة لإعادة هيكلة وتنظيم المسلمين في الجنوب فإن فكرة مثل إنشاء قيادة جديدة أو بث الحياة في شرايين المنظمات القديمة يجب أن تدعم لأن قيادات هيئة مسلمي جنوب السودان والمجلس العالي للدعوة ظلت لسنوات في حالة خمول بلا حراك ، ولم تقدم شيئا للإسلام في الجنوب . 1 / طالما أن البث الإذاعي والبث التلفازي قد اثبتا جدارة وتأثيرا في السنوات الماضية في التوعية الإسلامية للمستمعين فإنه يتوجب علي المسلمين في الجنوب أن يقوموا بحملة جمع أموال ، وأن يحصلوا علي التراخيص لشراء وإقامة محطات بث إذاعي وتلفازي في مدن مثل جوبا ، واو ، ملكال ، رمبيك الخ ....وان تقوم بإنتاج وبث برامجها الدعوية الخاصة . 2/ علي مسلمي جنوب السودان الشروع في إصدار الصحف والنشرات والمجلات الإسلامية كوسائل دعوية ، وعند الضرورة فعليهم بجانب اللغتين العربية والانجليزية واستخدام اللغات المحلية مثل الدينكا ، الباريا ، كرايش وغيرها من الإصدارات الدعوية . 3 / علي المسئولين الحكوميين معاملة المسلمين في جنوب السودان بالتساوي ، سواء كانوا منحدرين من أسر عريقة في الإسلام أو كانوا من القادمين الجدد ، وذلك لأن الدستور الانتقالي قد منح الحق في العبادة واعتناق أي دين لكل المواطنين . 4 / على أهل الحكم التحلي بالانضباط والتسامح عند التعامل مع المسائل المتعلقة بالأديان ؛ لان استخدام تعابير مثيرة مثل (الختم علي المؤخرة والأفخاذ) إذا أريد بها المسلمون حديثو الإسلام فإنها تحمل إهانة شديدة لهم . 5 / أن اختيار الدين أمر شخصي والله وحده هو الذي يحكم علي اختيار الأفراد بالصلاح أو الفساد . الخاتمة : إن الدعوة هي المفتاح لنمو الدين لذلك فعلي مسلمي جنوب السودان الا ينتظروا فليس هنالك من سياتي لينوب عنهم في تنمية عقائدهم وتدينهم . إن الدعوة تحتاج إلى تخطيط محكم ، والي تدريب والي تمويل ،ولتطبيق ذلك فإن مجهودات وطاقات الشباب المسلم – الذين تخرجوا من الجامعات في مجالات الدعوة ،وعلوم القرءان والإعلام والعلوم المشابهة – لابد من توظيفها لهذا الغرض وذلك بعد تكوين إدارة قوية للمنظمات الإسلامية في الجنوب نظرا لان المنظمات والهيئات القديمة لا تقدم شيئا في هذا المجال . قدمت هذه الورقة في الندوة العلمية المتخصصة في قضايا الدعوة الإسلامية بعنوان الدعوة الإسلامية جنوب السودان والحقوق الدينية للمسلمين في ظل اتفاقية السلام - ترجمة سعد احمد سعد المصدر : موقع السودان الإسلامي