عندما ظهرت الدعوة الإسلامية كان العالم منقسماً إلى قوتين عظيمتين، هما الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية البيزنطية(1) واستطاعت الدعوة الإسلامية الانتصار على هاتين القوتين، وبثت دعوتها في هذه البلاد، والقضاء على هاتين القوتين. تولى معاوية بن أبي سفيان ولاية الشام، ومكث في الحكم حوالي عشرين عاماً، من عهد الخليفة عمر بن الخطاب، حتى الخليفة عثمان بن عفان. جاء الفتح الإسلامي بينما كانت تقيم في فلسطين قبائل عربية، مثل لخم، وجزام، وقضاعة في الجنوب، والجنوب الشرقي، وحوران، والغساسنة في الشمال، والشرق، وقبائل الأشعرين، والأوس، أما وسط فلسطين وسواحلها فثمة الآراميون والنصارى، وقلة من اليهود واليونان، والرومان، والفرس.(2) يعتبر موقع فلسطين الجغرافي ممراً تجارياً مهماً بالنسبة للقوافل التي تتجه إلى شمال جزيرة العرب، مروراً بفلسطين، حيث تتابع سيرها، لتصل إلى غرب العالم القديم. سوف نتناول في هذا البحث النظم الاقتصادية التي أثرت في الاقتصاد الفلسطيني، منذ الفتح الإسلامي إلى نهاية الدولة الأموية. السياسات الاقتصادية المتبعة: اتخذت الدولة المنهج الإسلامي، في وضع التشريعات الاقتصادية الخاصة بالدولة، مستندة في ذلك إلى الأحكام والتشريعات التي وردت في القرآن الكريم، والسنة، مثل الفيء، والجزية، والزكاة، والصدقات، والغنيمة، بالإضافة إلى استناد الدولة إلى بعض التشريعات التي كانت تتبعها الدولة البيزنطية، مثل الخراج. وقام الخلفاء الراشدون بتوظيف هذه التشريعات، بما يتلاءم مع ظروف الدولة الإسلامية، وما يصلح منها لتطبيقه. في عهد الخليفة أبو بكر خلال الفترة (10-13 هـ) (632-634م) اتخذ بيت المال الخاص بالدولة الإسلامية مركزاً للإدارة المالية، وهو ما يعرف حالياً بوزارة المالية. ومن خلال هذا المركز قام بحصر جميع السياسات الأخرى للدولة، عسكرية، اجتماعية، واقتصادية. وكانت موارد بيت المال عبارة عن الزكاة، ومغانم الحرب، والفيء، والخراج، ولكل منها أحكام شرعية تختص به. قسمت بلاد الشام إلى ولايات، وأجناد، وكل ولاية من الولايات، أو جند من الأجناد، لها خراج معين، ولكل ديوان خراج صاحب مسؤول عنه، يدون في سجلات الجند التابع له، ويقوم برفعه إلى الديوان العام، في عاصمة الدولة الإسلامية، ويقوم الخليفة بالإشراف المباشر على صاحب الخراج، ويعين له موظفين لجباية الأموال من الناس. وكان ديوان الشام يكتب بالرومية، ويجمع ديوان الجند في فلسطين كل من الزكاة، والعشور، والخراج، والجزية. وفيما يلي تعريف كل منهم: الزكاة: هي نسبة معينة من المال في حدود 2.5%، تفرض على من يملك أموالاً، أو تجارة، أو ذهباً فائضاً عن حاجته، وتفرض على العقلاء، وهي فرض في الإسلام، ولم تكن تشكل مورداً رئيسياً بالنسبة لبيت المال، لأن معظم المسلمين مقاتلون، وليس لديهم مال يخرجون عنه الزكاة. وبعد الفتوحات الإسلامية ارتفعت موارد الزكاة، لزيادة قدرة المسلمين على زيادة مواردهم. ويقوم على تحصيل هذه الأموال موظف يدعي "عامل الصدقات" أو "والي الصدقات"(3) كما يقوم بجمع الأموال، أو الماشية، أو ما يخرج من الأرض من خير يتصدق بها المسلمون، غير الزكاة، ليقدموها إلى الإمام، حتى يصرفها في مصارفها الشرعية على المسلمين. الجزية: هي مبلغ معين من المال، يؤخذ على الرؤوس غير المسلمة، كالنصارى، واليهود، والسامرة وهم ما يعرفون بأهل الذمة، وتسقط عنهم هذه الجزية بإسلامهم، ولا تؤخذ هذه الجزية إلا على الراشدين والعقلاء، وكانت هناك سجلات تدون فيها أسماؤهم، وتراجع كل عام، وتصحح حسب التغيرات التي تطرأ على المجتمع. وهذه الجزية لم يستحدثها الإسلام فقد سبقهم اليونان الذين فرضوها على سكان آسيا الوسطى، حوالي القرن الخامس قبل الميلاد، كما وضع الرومان والفرس الجزية على الأمم التي أخضعوها، وكانت سبعة أمثال الجزية التي كان يأخذها المسلمون.(4) الخراج: هو مقدار من المال، أو الحاصلات الزراعية يفرض على الأرض فحسب، وهو ما يعرف، الآن، بضريبة الأرض الزراعية، ويقدر الخراج بثلاث طرق، إما بقيمة ما تحمله الأرض من محصول، أو بمساحة الأرض الزراعية، أو بمساحة الأرض المزروعة فحسب، وكان عمر بن الخطاب يضع الخراج على مساحة الأرض، وهذا المقياس هو الذي استخدم في بلاد الشام، والخراج يفرض على خمسة أنواع من الأرض: أ- تترك الأرض لأصحابها، مقابل وضع الخراج على أرضهم، والجزية على رؤوسهم، فتصبح فيئاً للمسلمين، واعتبر الخليفة عمر بن الخطاب أرض فلسطين كلها فيئاً موقوفاً لجميع المسلمين، لأنها فتحت عنوة، ولا يجوز بيعها. ب- يفرض خراج على الأرض التي تصالح عليها المسلمون، فأصبحت أرض صلح، وأهل الصلح يعملون لحساب المسلمين، مقابل إعفائهم من الجزية، ويدفعون الخراج كأنه إيجار الأرض ولا يسقط هذا الخراج بإسلام أهلها. ت- يفرض، أيضاً، الخراج على أرض القطائع، أي التي اقتطعت من الأمراء والملوك، فقرر عمر بن الخطاب ضمها إلى بيت مال المسلمين، ووضع عليها من يتعهدها بالرعاية. وكان يؤخذ منها العشر، أو إذا كانت تسقى من أنهار المسلمين، فيؤخذ منها خراج، لأنها تؤجر مقابل مبلغ معين من المسلمين للعناية بها. ث- يؤخذ الخراج على أرض العشر، وهي الأرض التي يحييها المسلمون، بعد موتها، فتصبح لهم، وهناك مصادر ذكرت بأن في فلسطين نوعاً من هذه الأرض، ولكنها قليلة جداً، في مناطق عكار، وعسقلان.(5) ج- يوجد، أيضاً، أرض الإلجاء، وهي الأرض التي يلجأ أصحابها إلى بعض الكبراء، ليكتبوا الأرض باسمهم، ليحموها من ظلم الجباة، وتعسفهم، فيصبح صاحب الأرض مزارعاً فيها، فتؤول إلى الملجأ إليه، مع الأيام. العشور: عبارة عن ضريبة تفرض على التجارة التي تمر بأرض المسلمين، إنها الجمارك في عصرنا هذا، مع فارق واحد، يتمثل في أن الجمارك، الآن، لها تصنيفات متعددة، أما العشور فتؤخذ مرة واحدة في العام، ويقوم بجمعها موظف يدعى "صاحب المكس"، أو "العاشر"، يقيم عند حدود المدينة، والممرات التجارية، ولها نسب مختلفة.(6) والعشر (درهم واحد في كل عشرة دراهم)، ويؤخذ من التجار غير المسلمين، الذين يأتون بتجارتهم إلى ديار المسلمين. ونصف العشر (درهم واحد لكل عشرين درهم)، ويؤخذ من أهل الذمة، والذين بينهم معاهدات مع المسلمين. وربع العشر (درهم واحد لكل أربعين درهم)، ويفرض على التجار المسلمين. كما تؤخذ العشور من أهل الذمة على الخمور، التي يستخدمونها، ويتم تشكيل لجنة من رجلين من أهل الذمة، لتحديد الطريقة التي تجبى على أساسها.(7) الفيء: إنه المال الذي وصل المسلمين من الكفار، دون حرب أو قتال، وقد قضت القواعد الإسلامية بأن أربعة أخماس الفيء تذهب لبيت المال، ويقسم الخمس الباقي كما يقسم خمس الغنيمة.(8) الغنيمة: هي ما يحصل عليه المسلمين في الحروب "ضد الكفار والمشركين". وجاء في القرآن الكريم تقسيم الغنائم إلى خمس، أربعة أخماس للمقاتلين الذين أحرزوها، أما الخمس الباقي فيقسم إلى خمسة للرسول وذي القربى. وقد سقط هذا السهم، بعد وفاة الرسول، فأصبح، يوزع على اليتامى، والمساكين، وأبناء السبيل، عن طريق بيت المال. اللقيطة: هي الأموال التي لم يعلم صاحبها، أو مستحقها، أو الأموال التي يموت صاحبها، ولم يجد من يورثه، فتؤول كلها إلى بيت المال، وفي عهد الخلفاء الراشدين كانت جباية الأموال تستحوذ على اهتمام كبير منهم، لحاجة المسلمين إلى المال في الفتوحات الإسلامية، وتدعيم الدولة الإسلامية وإخماد الفتن. الأساليب المختلفة لإدارة الاقتصاد: دخل الاقتصاد الفلسطيني ضمن اقتصاد بلاد الشام، وخضع للسياسة المتبعة في الدولة الإسلامية عامة، في ذلك الوقت، وسوف نقسم الأساليب الاقتصادية المتبعة، طبقاً لسياسة الخليفة القائم على وضع النظم العامة، اقتصادية، سياسية، واجتماعية، وذلك كما يلي: أولاً: عهد الخلفاء الراشدين: 1- أبو بكر الصديق (10-13 هـ) (632-634 م) تميز عهده بأنه امتداد لعهد الرسول الكريم، عليه الصلاة والسلام، فيما استوحيت الرقابة المالية في الدولة من الشريعة الإسلامية، بدأ عهده بعدة حروب للمرتدين عن دين الإسلام، وامتناعهم عن أداء فريضة الزكاة، والتي تمثل أهم موارد الدولة، في ذلك الوقت، وكان أمامه مواصلة الفتوحات الإسلامية التي بدأها الرسول، فتميزت سياسته بالعدل، والحكمة، والأخذ بالشورى، وأحياناً كانت تمر الديمقراطية والشورى بأزمة عند إعلان الطوارئ.(9) في عهده سوى في العطاء بين السابقين في الإسلام، وبين من أسلم بعد الفتح، ومن شهد موقعة بدر، وبين من حارب الرسول، قبل الإسلام، وبين الحر والعبد، واتخذ منهجه في هذه السياسة أن الناس سواسية في المقياس والمعيشة. في عهده لم تفتح فلسطين، ولم يكن له دور واضح في تشكيل الحياة الاقتصادية في فلسطين، لأنها كانت تحت الحكم البيزنطي، فقام بإرسال جيش لفتح بلاد الشام، ومنها فلسطين، بقيادة خالد بن سعيد بن العاص، ولكنه لم يظفر بالنصر، ثم أعد جيشاً آخر بقيادة عمرو بن العاص لفتح فلسطين وجعله والياً عليها، ويزيد بن أبى سفيان لدمشق، وأبو عبيدة بن الجراح حمص، وأوصى، إذا فتحت هذه البلاد، جعل الولاية لكل منهم، ولكنه توفى، قبل أن تفتح هذه البلاد، وتم الفتح في عهد الخليفة عمر بن الخطاب. 2- عمر بن الخطاب (13-23 هـ ) (634-644 م) بدأ حياته بالفتوحات، واتساع الدولة الإسلامية، ومنها فلسطين، وظهرت عبقرية عمر في وضع المعايير، والقواعد المالية، والإدارية، والاقتصادية، بما لا يخالف الشرع، نستطيع القول بأنه وضع أسس قيام الدولة، قام بتنظيم الدواوين، والعطايا، والخراج، والنفقات، مستعيناً بالنظم الفارسية، وجعل سجلات لأفراد الدولة وقام بتقسيمهم إلى مجاهدين والسابقين في الإسلام وآل بيت رسول الله، ونظم نفقاتهم. ومن أهم الدواوين التي قام بتنظيمها ديوان البريد، لشدة حاجته إلى المراسلات الخارجية، ومعرفة أخبار عمالة في الولايات المختلفة، والإطلاع على أحوال الجند. كما أنشأ دواوين القضاء، والإحصاء، والمحاسبة، وجعل كل ديوان بلغة أهله، أقام عليه أناساً من أجناسهم، لأنهم أعرف بذلك من العرب. في عهده قسمت بلاد الشام إلى ثلاث ولايات:(10) ولاية حمص، ولاية دمشق، ولاية فلسطين. كان أسلوبه موجزاً في إدارة بلاد الشام، ومصر، والعراق، والجزيرة العربية، اتسم بالعدل والشدة في القضاء، وهدف إلى تقوية الأمة العربية، والحيلولة دون وقوع فتن، أو حروب أهلية. ولم يعتمد أسلوب عمر على المركزية، بل على التعددية، وجعل لكل ولاية أمير، يقوم على شؤونها الإدارية، والمالية، والسياسية، وفي الأمور الدينية، أيضاً. وفي المشاكل الكبرى لابد من الرجوع إليه بصفته أمير المؤمنين، والخليفة، ليستفتوه في ما يتعرضون له من مشاكل، أما فيما يختص بالأمور العادية فكانت تخول إلى الوالي، مثل جمع الخراج، والجزية، والزكاة، والمحافظة على التعاليم الدينية، ويقوم الوالي بتولية من يراه مناسباً للقيام بهذه السياسات، وإذا أخطأ الحاكم في أمر عامل من عماله اقتص منه عمر، وقامت إدارة عمر على الشورى، فكان يجمع الصحابة، ويأخذ برأيهم في إدارة شؤون الدولة، وكان هناك مجلس شيوخ للصحابة، الذي أسس من عهد الخليفة أبو بكر. سلك عمر طريقاً مختلفاً عن سلفه في توزيع العطاء، فقام بتقسيم المجتمع إلى فئات، منها المقاتلين في سبيل الله. وفرض لهم خمسة وعشرين ألف درهم في السنة، وأزواج الرسول عشرة آلاف درهم، وأهل بدر خمسة آلاف درهم ولنسائهم خمسمائة،(11) كما منع الجنود من النزول إلى الأرض الزراعية، للعمل بها، حتى لا يظلم أهلها، وفي الوقت نفسه يتفرغ الجنود للفتوحات، وعدم الميل للكسل والحياة السهلة.(12) 3- عثمان بن عفان (23-35 هـ) (644-656 م) في عهده أصبحت المدينة عاصمة الدولة الإسلامية، تجارياً، وسياسياً، فقام بترتيب أمور التجارة، وحماية الأسواق والطرق البحرية للتجارة، وفي عهده تم تدوين القرآن الكريم، وجمع المسلمين على نسخة واحدة. واختلف أسلوب إدارة عثمان عن عمر بن الخطاب لكبر سن الأول، فهو تولى الخلافة في السبعين من عمره، مما دعاه إلى الاعتماد على مستشاريه، ومعاونيه من أقاربه، لثقته بهم، ولكنهم أساؤوا هذا التقدير من عثمان، وأخذوا يتصرفون بدون الرجوع إليه، معتمدين في ذلك إلى صلة القرابة بينهم وبينه. لنشأة عثمان أثر كبير في أسلوب إدارته، فكان يعد من الأثرياء، ولم يبخل بأمواله على المسلمين، أبداً، ولم يكن متقشفاً في سياسته كمن سبقوه، ولكنه سمح لولاته بالتوسع في الثراء والبحبوحة في العيش، لإرضائهم، مما أدى إلى انحرافات مالية جسيمة في عهده، أدت إلى إثارة الفتنة بين المسلمين، وأتت إليه الوفود من كل الولايات لمناقشته في هذه الانحرافات، وهذه ظاهرة جديدة في عهد عثمان لم نشهدها في العهدين السابقين، نتيجة أسلوب إدارته للدولة، ومنها، أيضاً، أنه أسند العمل إلى بعض الولاة من أقاربه لم يكن لهم ماض مشرف، أثناء حياة الرسول والخلفاء السابقين. كما أنه حمى المراعي وأباحها لبني أمية، وقام بالتفرقة بين أشراف العرب والموالي، في المعاملة والحقوق، وإلغاء بعض امتيازات أهل الذمة. وتميز عهد عثمان بالطبقية، واتساع الهوة بين الأثرياء والفقراء، كما تميز بالتوسع في البنيان، والعمارة، وذلك لوفرة الأموال في عهده. كان والي الشام معاوية بن أبي سفيان، وهو الذي بدأ بالعصر الأموي، ولم يستمع عثمان إلى نصيحة على بن أبي طالب، كما لم يأخذ بما قاله له من نصح وإرشاد، لأن عثمان تميز باللين في معاملة عماله، عكس سياسة عمر بن الخطاب، كما أن عثمان تجاهل نصيحة أبي ذر الغفاري له، مما دعا أبا ذر إلى القيام بثورة ضد الفساد المالي، وما آل إليه حال المسلمين، من ترف، وتكالب على الدنيا، وسوء استعمال المال، والعديد من التجاوزات الاقتصادية، ونادى بالإصلاح المالي، وانتشرت هذه الأفكار في بلاد الشام، لوجود طبقتين هم الأغنياء والفقراء. والتف الفقراء حول أبي ذر الغفاري، مما أدى إلى خوف الأغنياء على أموالهم، فذهبوا إلى معاوية بن أبي سفيان، يستنجدون به، وقام معاوية باستمالة أبي ذر، لكنه لم يفلح، فقرر إبعاده إلى المدينة، عند عثمان، الذي حقق معه ولم يصل إلى شيء، فقرر نفيه إلى الربدة، حتى توفى سنة 35هـ - 656م، وكانت الفتنة مشتعلة في مصر، وجميع بلاد المسلمين، مما أدى إلى مقتل عثمان، سنة 35هـ- 656م. 4- علي بن أبي طالب (35-40 هـ) (656-661 م) تولى علي بن أبي طالب الخلافة في ظروف حرجة كانت تمر بها الدولة الإسلامية، وهي الفتنة، التي حدثت بعد مقتل عثمان، حيث ألح البعض على الخليفة الجديد بأخذ ثأر عثمان من المسلمين، الذين قتلوه، فكان يقوم بعمل تحقيق في هذا الشأن، واستغل معاوية هذه المسألة، استغلالاً سيئاً، لكي يصعد إلى السلطة، فحرض أتباع عثمان وبعض الصحابة (رضوان الله عليهم)، وعائشة (زوجة الرسول)، وطلحة، والزبير، حتى أصبح مثل "قميص عثمان" مضرباً لكل حق يراد به باطل.(13) يعتبر مقتل عثمان أول مشكلة واجهت علي بن أبي طالب، والمشكلة الثانية فهي الإصلاح المالي والإداري للدولة، الذي تغير كثيراً، في عهد أبي بكر، وعمر، وكان شغل علي الرجوع إلى هذا المنهج الإسلامي، وكيفية تحقيق العدل، كما كان. فكانت أول خطوة قام بها عزل جميع ولاة عثمان، واستبدل بهم من رآهم خيراً، فأرسل سهل بن حنيف إلى الشام، وردته خيل معاوية من تبوك، مهدداً بالقتل، إذا لم يرجع إلى المدينة، وأشارت الكتابات إلى أن هذا التمرد، الذي ساد عهد علي، كان يتزعمه معاوية في الشام. لذلك لم يستطع علي أن يصل إلى استقرار مالي، واقتصادي، أو حتى سياسي، في عهده فاتخذ قراراً جريئاً مؤداه انتزاع الأملاك التي اقتطعها عثمان لأتباعه، ومريديه، من بيت المال مما أدى إلى تنازل قليل منهم عن مناصبهم، دون مقاومة، فيما رفض الآخرون، بقيادة معاوية، الامتثال لأوامر الخليفة الجديد. بالرغم من الفترة القصيرة التي قضاها علي في الحكم، فإنه لم يتوان عن حث عماله في جميع الأمصار على إحقاق الحق، والحرص على إقامة العدل، وعدم المبالغة في أخذ الخراج، وطرق جبايته، والعمل على إنصاف الضعفاء، وإعطائهم حقوقهم المالية.. إلخ، وجميع الأسس التي قام عليها نظام أبى بكر، وعلي، ونتيجة هذه الظروف السيئة التي سادت حكم علي فإنه خرج من الدنيا بنزاهة، وشرف، وعدل، وانتهى بذلك عصر الخلفاء الراشدين. ثانياً: الدولة الأموية: 1- معاوية بن أبي سفيان (51-60 هـ) 661-680 م) اختلفت الدولة الأموية كثيراً عن عهد الخلفاء الراشدين، فكان معاوية بن أبي سفيان والياً على الشام، حين آلت إليه الخلافة، فتميز بالمرونة، أما عماله، فاشتدوا على الناس كثيراً. ومن الأمور التي ازدادت ازدهاراً في عهد معاوية:(14) ـ زيادة الاهتمام بالبريد، وتقسيم الطرق، والمنازل، وتخصيص دواب مهيأة لحمل كتب ورسائل الخليفة إلى البلدان المختلفة، أي اهتمام بتنظيم البريد، وكان بين كل منزلين أربعة فراسخ، أو أثنا عشر ميلاً، وتسمى هذه المسافة "بريداً". ـ معاوية أول من اتخذ حرساً خاصاً لنفسه، بسبب خوفه من الخارجين عليه، فأصبح، بعد ذلك، الحرس من أنظمة الدولة. ـ اتخاذ خاتم للخلافة*، حيث أنشأ له ديواناً خاصاً به، سمي "ديوان الخاتم"، وذلك لضبط الحسابات، ومراجعتها جيداً، أكثر من مرة، قبل أن تختم. ـ زاد في عطاء أهل الشام** [وأهل فلسطين] وترميم أسوار القدس وقبة الصخرة. السياسات التي اتبعها معاوية جعلت الكثيرين يلتفون حوله، لحبهم للدنيا، فأعانوه بعملهم، ومقدرتهم على إدارة الدولة، فقام بترتيب الدولة بطريقة جديدة، وأقام على بابه الحجاب والشرطة بشكل متشدد، لتنظيم دخول الناس عليه وتلافى الفوضى، كما اتخذ مقصورة يصلي فيها، بعيداً عن الناس، وجعل لنفسه مرتبة للجلوس عليها، وعلل ذلك بأنه (بدن)، فاتخذها المسلمون، من بعده، وتنافسوا عليها، إلى أن أصبحت كراسي للعرش، وتميزت سياسته بالمصلحة العامة للمسلمين ولو تعارضت مع بعض تعاليم الدين، مستنداً في رأيه، أن ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن.(15) كما حول نظام الحكم من شورى إلى ميراث متأثراً بالنظام البيزنطي الرومي، أو الساساني الفارسي. ولم يطبق هذه الأنظمة، كما هي، لأنها قامت بعيدة عن روح الإسلام والعقول العربية، ولكنه أبقى على التقاليد العربية، وما تتميز به من سلطان، وعاد بها إلى الجاهلية، التي جعلت لشيخ القبيلة السلطان المطلق في تصريف الأمور، وهذه السياسة جعلت الفقهاء ينظرون إلى الخلفاء الأمويين كأنهم ملوك مستبدون، راشدين. واستعانوا بمستشارين، من المسلمين، ومن غير المسلمين، فكان لمعاوية مستشار يدعى الرومي وسرجون الرومي***. اهتم معاوية بالصناعات البحرية، قبل أن يتولى الخلافة، وذلك من عهد عثمان حيث طلب من عثمان أن يغزو الروم، بحراً، فوافق عثمان، وأخذ المسلمون في ركوب البحر لاحقاً، وبلغ الأسطول الأموي، في وقت ما، نحواً من ألفي سفينة،(16) كما كانت له أعمال هامة منذ عهد عثمان رضي الله عنه أنه أنشأ أمارة للأسطول العربي تتولى الإشراف على الموانئ وصناعة السفن البحرية الحربية. هذه السياسات الجديدة احتاجت إلى تمويل، فقرر زيادة الضرائب، عما كانت عليه في عهد الخلفاء الراشدين، فأصبحت الجزية والزكاة من أهم موارد الدولة في عهده لاتساع الدولة الإسلامية، وزيادة ما يدفعه السكان في البلاد المفتوحة، وكان لكل عمالة (أمارة) بيت مالها الخاص، تدفع منه نفقات الدولة، وما زاد على ذلك، أرسل إلى بيت مال المسلمين. وقام معاوية بإدخال تطوير على القضاء كالتالي: ـ للمظالم قضاة مستقلون يقضون بين الناس، وحل المشاكل التي تتعلق بأمور الدين. ـ محتسب يقوم بالفصل بين الناس، فيما يتعلق بالحقوق العامة، وأمور آداب الطريق، والأسواق. ـ صاحب مظالم، يفصل فيما يستعصي على القاضي، والمحتسب القيام به. كما جعل لأصحاب الديانات الأخرى، وأهل الذمة قضاة من دينهم، يفصلون في أمورهم. ومن الأشياء التي لم يقبلها الكثير في عهده أنه جعل الملك في أسرته، بعد أن كان شورى، فقام باستخلاف ابنه، يزيد قبل وفاة معاوية نفسه. 2- يزيد بن معاوية (60-63 هـ) (680- 683 م) تولى الحكم، بعد وفاة والده، ولم يدم حكمه طويلاً، فاستمر 3 سنوات و8 أشهر، ولم يقم بتغيير في سياسة والده، غير أنه قام بعدة فتوحات قليلة. 3- معاوية بن يزيد بن معاوية (64هـ / 683 م) استخلف يزيد قبل وفاته، ابنه معاوية، ولم يستمر طويلاً في الحكم، لمرضه، توفى، بعد أربعين يوماً من تسلمه الحكم.(17) وتولى الحكم على بلاد الشام، وكانت هناك بيعة أخرى، في مكة، والحجاز، لعبد الله بن الزبير. 4- مروان بن الحكم (64-73 هـ ) (683-685 م) عندما توفى معاوية الثاني، مر الشام بأزمة على الخلافة، وكان حسان بن ثابت، أمير فلسطين آنذاك، وهو من مؤيدي بني أمية لأنهم أعطوه الأمارة، فقام بمبايعة مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية. وتولى مروان بن الحكم أمارة الشام ومصر، ولم يتجاوزهما حتى مات، وكان عبد الله بن الزبير في الحجاز، والعراق، ولم يترك بصمة واضحة في الشام، ولكنه واصل الحكم بالطريقة التي كانت سائدة، سوى أنه كانت هناك حروب على الخلافة بين المسلمين. 5- عبد الملك بن مروان بن الحكم (73-86 هـ ) (685- 705 م) تولى الحكم بعد والده، وكانت الدولة الإسلامية في خلافات واضطرابات كثيراً، لوجود خلافة في الحجاز لعبد الله بن الزبير. تميز عبد الملك بالحكمة والأدب، وعد من فقهاء المدينة، وهو الذي وطد ملك بني أمية بعد معاوية، بعلمه، وحسن إدارته للأمور، وبدء عهده بمواجهة الفتن والخوارج، ممن يطلبون الثأر لدم الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان عبد الله بن الزبير، وإلى مكة والحجاز، فانتصر عليه عبد الملك، وعلى والي العراق، وخلت الساحة لعبد الملك. أنشأ عبد الملك ديواناً جديداً متماشياً مع روح الرفاهية، التي سادت عهده، وهو ديوان (الطراز)، أي رسم أسماء الملوك، والسلاطين، والعلامات الملكية الخاصة، على الأقمشة، والأثواب، والديباجة الخاصة بهم. وأيضاً ديوان (الطومار)، وهو خاص بحفظ الأوراق الرسمية التي تكتب عليها الرسائل السلطانية والوثائق الدولية. كما حدث تطور في عملية صك العملة، فعبد الملك أول من صك العملة العربية الإسلامية، وكانت تساوي أثنين وعشرين قيراطاً إلا حبة بالشامي، وكانت تسمى (الدمشقية).(18) وأقام داراً في دمشق لضرب النقود، وأمر بسحب العملة الأجنبية من جميع أنحاء الدولة، وضرب عملة جديدة، بدلاً منها. ففي عهد عمر ضرب الدراهم على النمط الفارسي، وكتب عليها (محمد رسول الله) (الحمد لله). وفي عهد معاوية ضرب الدنانير والدراهم، ولكن لا تزال الدنانير البيزنطية والدراهم الفارسية تسيطر على النظام الإسلامي، فكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف الثقفي بضرب دراهم على خمسة عشر قيراطاً من قراريط الدنانير، وضرب هو عملة من الذهب والفضة تنافس العملة البيزنطية، وأمر بنشرها في سائر بلاد المسلمين وذلك في عام 76هـ- 687م.(19) وكانت منها أنواع متعددة. - الهبيرية، نسبة لعمر بن هبيرة. - الخالدية، نسبة لخالد ابن عبد الله القسري. - اليوسفية، نسبة إلى الحجاج بن يوسف الثقفي. نقشت على هذه العملات بعض الآيات القرآنية، مما أثار غضب الروم، على المسلمين، ولكنه أدى إلى تقوية الدولة الإسلامية، وتدعيمها واستقلالها.(20) كما قام عبد الملك بن مروان بتعريب الدواوين، وكان ديوان الشام يكتب باليونانية، وديوان فارس بالفارسية، وديوان مصر بالقبطية، فأمر عبد الملك بنقلها جميعاً إلى العربية، وهذه كانت أول مرة يعرب فيها الدواوين، مما أدى إلى تقليص نفوذ أهل الذمة والمسلمين من الأعاجم الذين يعملون بهذه الدواوين، وأدت هذه الخطوة إلى ظهور ثورة أدبية، ساعدت على ظهور طبقة الكتاب والمفكرين. كما أنه أمر بتنقيط القرآن الكريم. ومن الأساليب المهمة التي اتبعها عبد الملك بن مروان اهتمامه بالعمران، فقام ببناء مسجد الصخرة، وترميم المسجد الأقصى وتوسيعه، وخصص لذلك خراج مصر، في سبع سنين، وبنى مسجد عمر بن الخطاب، حيث صلى عمر، كما أمر بتعبيد الطرق الرئيسية بين القرى المختلفة لبلاد الشام. بالإضافة إلى اهتمامه بوضع معايير خاصة بالأوزان وهي ما تعرف بالصنج، وهي لم تكن معروفة من قبل، وكان الناس يزنون الأشياء ببعضها. في ظل هذه التغيرات في عهد عبد الملك، كان لابد من إيجاد تمويل، فقام بفرض ضرائب جديدة، لمواجهة هذه النفقات منها (ضريبة الصحف)، التي تكتب عليها المعاملات الرسمية (وضريبة النكاح)، وهي الرسوم التي تدفع، الآن عند عقد القران (وضريبة أجرة البيوت)، وهي تمثل العوائد، الآن، (وضريبة الجزية، والخراج) فقد زاد على الأقباط قيراطاً، وكان معاوية سبقه في ذلك، ولكنه لم يجد إقبالاً من عماله على تنفيذ ذلك، لنهي رسول الله عن ذلك، حتى جاء عهد عبد الملك، فزادها. كانت هذه الضرائب غير مطبقة وغير مسموح بها في عهد الخلفاء الراشدين، ولكن لحاجة الدولة لهذه الأموال تم تطبيقها، وكانت تحسب الجزية كما تحسب الضرائب، الآن، حيث يتم عد أيام السنة، وطرح الإجازات الرسمية، منها والأعياد، واستبعاد النفقات الخاصة بالطعام، والكسوة أي ما يسمى (حد الإعفاء الآن)* ***وتفرض الجزية على باقي المبلغ، دون التفرقة بين غني أو فقير، وكانت في عهد عبد الملك أربعة دنانير، في العام.(21) مما دفع بعض الكتاب يروا أن، الذي وضع أسس الدولة الأموية هو عبد الملك بن مروان، وليس معاوية الأول. 6- الوليد بن عبد الملك بن مروان (86-96 هـ) (705-715 م) تولى الوليد الخلافة بعد أبيه، كعادة بني أمية، أوصاه والده بذلك، وأمر بأن يقطع رقبة من يقول لا على خلافته، هكذا بدأ حكمه بالشدة لدرجة الظلم، كما أنه عرف بضعفه في اللغة العربية، وبالرغم من هذه البداية إلا أنه ترك بصمة واضحة في تاريخ بني أمية، وتاريخ الحضارة الإسلامية، فتميز بولعه الشديد بالعمران، وإشادة المساجد، والأماكن العامة، وأخذ بإتمام ما بدأه والده، وتحديثه. قام الوليد ببناء مسجد الرسول، من جديد، وأدخل عليه توسيعات، شملت حجرات زوجاته، وقام بترصيعه بالفسيفساء، كما قام بتوسيع بناء المسجد الأموي في دمشق،(22) وهو تحفة معمارية رائعة قائمة للآن، وانفق عليه 400 صندوق في كل صندوق أربعة عشر ألف دينار.(23) واستخدم في بنائه السلاسل الذهبية، والأحجار الكريمة، وكل فنون العمارة التي أذهلت الفرس والروم، آنذاك، وأخذ الناس يتحدثون عن هذا البناء كثيراً، وأكمل بناؤه، من بعده، أخوه سليمان بن عبد الملك. من الناحية الاجتماعية قام بوضع الأساس الذي يعرف الآن "الشؤون الاجتماعية والمعاشات والتأمينات"، اهتم بالمجذومين، وخصص لهم أماكن، لرعايتهم، حتى لا يخرجوا على الناس بعاهاتهم، ورتب لهم أرزاق.(24) وهذا النظام طبق أيضاً على الأيتام والمكفوفين من حفظة القرآن جعل لهم أرزاق منتظمة وأجزل في العطاء على أهل الشام، فأحبوه كثيراً، وهو الذي أقام لهم أطعمة رمضان. في ظل هذا الأسلوب المتميز لإدارة الدولة في عهد الوليد، عم الرخاء بين الناس، والسعة في الرزق، وزادت الفتوحات الإسلامية، حتى شملت الأندلس والسند، وأصدر أوامره إلى عماله في جميع الولايات بالاهتمام ببناء المساجد، وتزيينها، وتعبيد الطرق، وخاصة المؤدية إلى بيت المقدس، والأماكن الدينية، في جميع أنحاء فلسطين، والطرق المؤدية إلى الحجاز، للحج، وحفر آبار المياه في هذه الطرق، لتخدم الناس، وخصص لها موظفين، للعناية بها، والاهتمام بشؤونها، فأصبحت هذه الفترة، بالنسبة للأمة الإسلامية، فترة رفاهية. 7- سليمان عبد الملك بن مروان (96-99 هـ) (715-717 م) لم يستمر سليمان في الحكم طويلاً، لكنه اتبع سياسة أخيه ووالده، فاهتم بالعمران، ففي فلسطين قام ببناء مدينة الرملة، على أنقاض مدينة قديمة، واتخذها مقراً للخلافة، ولا تزال منارة المسجد باقية، حتى الآن، تشهد على عظمة هذا البناء، كما قام ببناء مسجد حلب الأعظم، في مدينة حلب. 8- عمر بن عبد العزيز (99-101 هـ) (717-720 م) تولى الحكم، لمدة سنتين وخمسة أشهر، ملأ الأرض فيها عدلاً، فأعاد عهد الخلفاء الراشدين، وأحياه، ولم يتبع سياسة بني أمية، فهو حفيد عمر بن الخطاب، أخذ برد الأموال التي كان أخذها الأمويون من الناس بغير وجه حق، والأمراء الذين في الحكم، وأخذوا هدايا أو عطايا، قام بردها إلى بيت المال.(25) كما قام بانتزاع الأرض المفتوحة من أيدي بني أمية، وجعلها للذين يفلحون فيها، ويزرعونها، وفرض عليها خراج، كباقي الأرض الزراعية، مما جعل من الفلاحين أثرياء، وأدى ذلك إلى تدفق أموال الخراج إلى بيت مال المسلمين، وأسعد الناس بذلك العمل، مما أثار حفيظة بني أمية، ولكنه لم يكن يأبه بذلك، لأنه كان يراعى الله في ذلك العمل، ويهدف من وراءه إقامة العدل بين الناس، وأن يعم الرخاء على الجميع، وتخفيف المظالم عن الناس، وخففها عن غير المسلمين، كما ألغى قوانين الاحتيال والمواربة التي وضعها عمال، بني أمية، لإجبار أهل الذمة الذين دخلوا الإسلام الاستمرار في دفع الخراج والجزية، فألغى هذه الجزية التي فرضها الأمويين على المسلمين. كما قام برد المظالم لأصحابها، كالضياع، التي استولى عليها بني أمية، والإقطاعيات، والحوانيت المغتصبة، وساوى بين بني أمية وغيرهم في العطاء، وأعاد توزيع الثروة، على أساس العدل والإحسان، فأثرى الناس في الشام، ومصر، والحجاز، والعراق، وخراسان، وبلاد ما وراء النهر من بحر الظلمات في أقصى الغرب إلى الصين، في أقصى الشرق.(26) وقام ببناء المساجد والحوانيت للفقراء، لكي يأكلوا منها، واهتم بالمرضى والمحتاجين، واختفى في عهده الجوع والحاجة، حتى أن دافع الزكاة لا يجد من يأخذها منه، وقام برفع رواتب العمال، ولما سئل عن ذلك، قال أردت أن أغنيهم عن الخيانة.(27) فتميزت فترة حكمه بأنها كانت الأولى من نوعها، حتى أنها اختلفت عن عهد الخلفاء الراشدين، وذلك لوفرة المال، الذي لم يكن متوافراً، على مر العصور السابقة له. 9- يزيد بن عبد الملك بن مروان (501-105 هـ) (720-724 م) لم يشأ بنو أمية ترك الأمور كما هي في عهد عمر بن عبد العزيز، ولكنهم أخذوا الحكم سريعاً، وقاموا بتولية يزيد، وكان فاسداً ماجناً، فأعاد الأمور كما كانت عليه، في فترة حكم أسلافه، ولم يضف جديداً إلى الدولة الأموية، ولكنه اهتم باللهو، فانصرف الناس، في عهده، عن العبادة. 10- هشام بن عبد الملك (105-125هـ) (724-743 م) نظم الدواوين، وضبط الحسابات، بعناية فائقة، فأصبحت مالية الدولة تسير في انتظام شامل، الموارد المالية منتظمة، والنفقات قليلة، لأنه تميز بإمساك اليد، والحرص في النفقات، ولم يكن بخيلاً، ففي عهده قامت العصبية بين عرب الشمال وعرب الجنوب، وذلك لأنه لم يكن يحسن اختيار عماله في البلاد المختلفة. 11- الوليد بن يزيد (125-126 هـ) (743-744 م) وكان يشبه أباه، يزيد بن عبد الملك، بالإضافة إلى أنه شرب الخمر، فلم يصلح لإدارة الدولة، وبدأ الفساد والضعف في الدولة الأموية، فتولى الدولة بعده ابنه يزيد الناقص، وسمي بذلك، لأنه كان ينقص عطاء الجيش عما كان عليه، واستمر في الحكم سبعين ليلة، ثم تلاه أخوه إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك، ولكنه لم يستمر طويلاً. 12- مروان بن محمد (127-132 هـ) (744-750 م) آخر خلفاء بني أمية، فكانت هناك ثورات متعددة شملت الشام كله، بالإضافة إلى تجدد ثورات الخوارج، وثورات الحجاز، والصراع الشيعي في خراسان، وكانت الظروف كلها ضده وقبعت وراء فشله، في وقت ضعفت فيه الدولة الأموية. العلاقات الاقتصادية الخارجية وآثرها على الاقتصاد الفلسطيني: امتازت فلسطين بموقع جغرافي متميز، يربط بين الشرق والغرب، ويعتبر ميناء غزة حركة ربط لمركز التجارة في شمال الجزيرة العربية بالبحر المتوسط، كما أنها الجسر بين الشمال في سوريا وفينيقيا وما وراءهما، وبين الجنوب مصر وشمال الجزيرة العربية، وما وراءهما. وأهم الطرق التجارية، التي كانت تستخدم في العهد الأموي، خاصة طريق البحر، الذي يبدأ من غزة على حدود مصر، ويصل إلى مرج ابن عامر بفلسطين، الذي كانت تلتقي عنده جميع القوافل التجارية، من شمال الأردن، والغور، ودمشق، وصور، لتتجه إلى عكا. ويتوسط فلسطين من الشمال إلى الجنوب جبال الجليل، وجبال نابلس، وجبال القدس، والخليل، وهذا يؤدي إلى اختلاف الزراعات فيها، والنباتات الطبيعية، وحتى تربية الحيوانات، فكانت تزرع بأشجار الزيتون والعديد من الزراعات. تعتبر القدس ذات موقع جغرافي خاص جعلها مركزاً عالمياً للتجارة، لما تتمتع به من مكانة دينية بالنسبة للديانات السماوية الثلاثة، وتعتبر حجاً لكل منهم، ففي مواسم الحج تمتلئ القدس بجميع المنتجات التجارية، والصناعية، والمواد الغذائية، مما أعطى فلسطين مكانة اقتصادية متميزة هامة في العالم. في الفترة التي يتناولها البحث لم يرد في المصادر المختلفة إحصائيات رقمية لحجم التبادل التجاري بين فلسطين والدول المختلفة، ولا حتى بلاد الشام عامة، ولكن الدراسات تناولت أنواع السلع الموجودة، في تلك الفترة، ونوعية التبادل التجاري وطرقه، ولم يكن معروفاً في تلك الفترة، سوى طريقين للتبادل التجاري البري عن طريق القوافل التجارية، والبحر عن طريق السفن، التي استخدمتها الدولة الإسلامية، في العهد الأموي. تم تبادل سلع مختلفة، كالأقمشة، والمفروشات بين مصر، وفلسطين، وآسيا الصغرى، واليونان، عبر مينائي غزة، وعكا، حتى عمان. بالإضافة إلى التبادل التجاري بين فلسطين، وبلاد الحجاز، والعراق، باعتبارهما حدود الدولة الإسلامية، في عهد الخلفاء الراشدين، ومع اتساع الدولة الإسلامية، في العهد الأموي، زادت حركة التبادل التجاري بين الدولة الإسلامية. وأدى تطبيق شرائح العشور، كما ذكرنا، إلى إنعاش التجارة، لوجود نسبة منخفضة على بضائع التجار المسلمين. كما كان للرومان فضل كبير في تعبيد الطرق التجارية التي كانوا يسيطرون عليها، ومنها فلسطين، فترتب على هذه الصناعة ظهور طبقة من العمال المهرة في هذا المجال، ساعدوا الدولة الإسلامية، فيما بعد، في تطوير، وشق الطرق الجديدة. تم تبادل السلع الغذائية، والصناعية، مثل زيت الزيتون الذي تشتهر به فلسطين، ويستخرج من زراعة أشجار الزيتون، والبلسم، وكانت تستورد الأخشاب، والنحاس، من آسيا الصغرى والقسطنطينية، كي يتم تصنيعها في فلسطين. تميزت بعض أراضي فلسطين بالخصوبة، واشتهرت بزراعة الموالح، وأشجار الزيتون، وكانت الحمضيات تمثل جزءاً كبيراً من صادرات فلسطين، كما اشتهرت بزراعة البطيخ، والشعير، والذرة، والسمسم. وقد ساعد وجود البحر الميت بها على استخراج القار، الذي يستخدم في صناعة السفن، وبعض المعادن الأخرى. ش