دَوْر التعريبْ في تأصيل الثقافة الذاتيّة العربيّة

الناقل : SunSet | الكاتب الأصلى : عبد الكريم اليافي | المصدر : www.altareekh.com

 
 
يشتمل هذا البحث على قسمين: يتناول أولهما قضايا التعريب من الناحية التاريخية وهو بمثابة التوطئة وإن طالت، ويتضمن ثانيهما تشوّفات الحاضر واستشرافات المستقبل في تأصيل الثقافة الذاتية العربية من خلال التعريب وهو هدفنا في هذا البحث.‏
 
 
(1)
 
معنى التعريب:‏
 
قد يكون للفظ الواحد في كل لغة معان متعددة، وكذلك الشأن في اللغة العربية. والتعريب من الألفاظ المتعددة المعاني أي المشتركة. وهو مصدر عرّب بالتضعيف. يُقال عرّب فلان منطقه هذّبه من اللحن، وعرّب الاسم الأعجمي تفوّه به على منهاج العرب وصيره عربياً، وعرّب عن صاحبه تكلم عنه واحتج له. وقد ورد قولهم: أعرب الأعجمي وتعرّب واستعرب كل هذا للأغتم إذا فهم كلامه بالعربية. والأغتم من لا يفصح شيئاً. وللفظ عرّب معان أخرى نضرب صفحاً عن ذكرها لأنها بعيدة عن الموضوع الذي نعالجه.‏
 
ولقد تدرج لفظ عرّب بهذه المعاني المتقاربة بعض الشيء منذ القديم إلى معنى ترجمة النصوص الأجنبية , ونقلها إلى العربية, وتعليم العلوم الأجنبية بالعربية، وهو موضوعنا في هذا البحث.‏
 
الإنسانية كيان واحد:‏
 
إن الذي ينظر إلى تطور الإنسانية نظرة عامة تشمل أحقاب الزمن البعيدة حتى العصر الحاضر لا يساوره الشك في أنها كيان واحد ينمو ويتقدم وتسري فيه شريانات التكامل مشتبكة على الرغم من الخلافات الناشبة والأمراض الفتاكة والحروب المدمرة والانحرافات المضللة.
 
وليست الشعوب التي تحتويها الإنسانية منعزلاً بعضها عن بعض الانعزال كله , ولا منطوياً بعضها على نفسه انطواء مطبقاً، بل بينها دائماً نصيب من الاتصال والارتباط ضئيل أو جسيم. ومثل هذا الارتباط والاتصال والميل إلى التقارب والتعارف أشد ما كان البشر شعوراً به اليوم، إذ ازداد عددهم ازدياداً كبيراً وتقدموا في العلم والصناعة وضروب التقنية الحديثة، فانتشرت الصحف والمجلات التي تحمل أخبار المجتمعات وأحوالهم انتشاراً واسعاً، وشاعت الإذاعات التي تبث أمواجها السمعية والبصرية في الفضاء فتبلغ كل مكان.
 
وكذلك وصل الهاتفان السلكي واللاسلكي الأقطار المتباعدة وصلها الأقطار المتقاربة. ثم إن القاطرات والسيارات ناهبة المكان والسفن البخارية عابرة المحيطات والطائرات النفاثة ثم الصواريخ في المستقبل القريب تشج بين داني الأرض وقاصيها , وتيسر الأسفار والرحلات , وتختصر الأزمنة والمسافات , وتقضي مع الأقمار الصناعية إلى ضرورة التعاون العلمي والتعاون التقني الدوليين وما إليهما من شؤون.‏
 
وكما أن ارتباط الأمور الثقافية والاقتصادية والصناعية والسياسية بعضها ببعض واضح لا ريب فيه في القطر الواحد كذلك طفق يتضح في العصر الحاضر ارتباط هذه الأمور في القطر أو الدولة بأمثالها في الدولة الأخرى أو القطر الآخر، مهما أُقيمت الحوائل والسدود تلقاء الاتصال والتعاون، لأن كل تقدم للإنسانية يقتضي بطبيعة الأمور هذا التعاون والاتصال.‏
 
ثم إن حصائل العلوم في العصر الحاضر وثمرات الحضارة الراهنة ليست هي من مبتكرات شعب واحد من الشعوب أو عرق ممتاز من العروق , وإنما شاركت فيها فئات كثيرة وزمر متعددة كالجنود , مجهولين ومعروفين في غمار شعوب جمة.
 
ولئن كان لشعب أن يفتخر بالمعارف الفكرية التي قدمها والمكاسب العلمية التي حصل عليها والإتقان الذي وصل إليه فهو لا شك الشعب العربي ولا سيما في أحقاب حضارته الإسلامية. ويشهد على ذلك التراث الغني الضخم في العلوم والفنون والآداب والأخلاق والفلسفة , وهو تراث يزين مفرق الدهر بجواهره المتلألئة الخالدة.‏
 
تعريب الشعب العربي للعلوم في الحضارة العربية الإسلامية:‏
 
من مزايا الشعب العربي في حضارته الإسلامية رفعه مرتبة العلم والمعرفة فوق كل مرتبة. إنه اعتبر كلاًّ من التعلم والتعليم فرضاً، كما حثّ على النظر في آفاق الكون , وفي أسرار النفس الإنسانية , وجوانب المجتمع الإنساني بحيث يغدو كل كشف علمي في هذه الميادين تقرباً من الله , وتفهماً لكلماته التي لا تنتهي، وكما اعتبر العالم أعلى من العابد بمراتب كثيرة.
 
هذا الاتجاه جعل صفوة الناس الموهوبين من الشعب تنهد إلى تجميع تراث الشعوب الأخرى من صين وفرس ويونان , وإلى الحث على ترجمته ونقله إلى اللغة العربية. فصانوا بعملهم ذلك التراث الذي كان معرضاً للتبعثر والضياع , وسعوا لنشره وتنظيمه وتمثله والزيادة فيه ما أمكنتهم الزيادة من ثاقب فهم , ومن تجارب جديدة , ومن كشوف طريفة امتلأت بها الكتب والمؤلفات. وهذا جلي عند تصفح سجلات التاريخ وإن حاول بعض المتنطعين المتعصبين من الغربيين والأمريكيين أن يحجبوا تلك المآثر , وأن يطمسوا تلك المكارم.‏
 
وقد بلغ التعريب أوجه في زمن الخليفة العباسي المأمون. ولقد كان عصره مزهواً بالعباقرة والعلماء والمفكرين في كل علم وفن. جاء في كتاب "الغيث المسجم في شرح لامية العجم": أن المأمون لم يبتكر النقل والتعريب بل سبقه قبله كثير، فإن يحيى بن خالد البرمكي عرّب من كتب الفرس كثيراً مثل كليلة ودمنة , وعرّب لأجله كتاب المجسطي من كتب اليونان.
 
والمشهور أن أول من عرّب كتب اليونان خالد بن يزيد بن معاوية لما أولع بكتب الكيمياء. ثم يقول المؤلف: "وللتراجمة في النقل طريقان: أحدهما طريق يوحنا بن البطريق وابن الناعمة الحمصي وغيرهما , وهو أن ينظر إلى كل كلمة مفردة من الكلمات اليونانية وما تدل عليه من المعنى فيأتي بلفظة مفردة من الكلمات العربية ترادفها في الدلالة على ذلك المعنى , فيثبتها وينتقل إلى الأخرى كذلك حتى يأتي على جملة ما يريد تعريبه.
 
وهذه الطريقة رديئة لوجهين أحدهما أنه لا يوجد في الكلمات العربية كلمات تقابل جميع الكلمات اليونانية , ولهذا وقع في خلال هذا التعريب كثير من الألفاظ اليونانية على حالها.
 
الثاني أن خواص التركيب والنسب الإسنادية لا تطابق نظيرها من لغة إلى أخرى دائماً. وأيضاً يقع الخلل من جهة استعمال المجازات وهي كثيرة في جميع اللغات.‏
 
الطريق الثاني في التعريب طريق حنين بن إسحاق والجوهري وغيرهما وهو أن يؤتى إلى الجملة فيحصِّل معناها في ذهنه ويعبر عنها في اللغة الأخرى بجملة تطابقها سواء ساوت الألفاظ أم خالفتها. وهذه الطريقة أجود ولهذا لم تحتج كتب حنين بن إسحاق إلى تهذيب إلا في العلوم الرياضية لأنه لم يكن قيِّماً بها بخلاف كتب الطب والمنطق والطبيعي والإلهي فإن الذي عربه منها لم يحتج إلى إصلاح، أما أوقليدس فقد هذبه ثابت بن قرة الحراني وكذلك المجسطي والمتوسطات بينهما".‏
 
كان العلماء متعاونين يسعى الواحد منهم إلى تلمس المواهب عند الناشئة فيقدمهم ويعلي شأنهم , ويدعمهم عند المسؤولين. تلك سنَّة العلماء الحقيقيين. يرجع الفضل في ظهور ثابت بن قرة بسلالته مثلاً إلى محمد بن موسى الخوارزمي ,و يذكر صاحب الفهرست أن ثابتاً كان صيرفياً بحران، استصحبه محمد بن موسى لما انصرف من بلد الروم لأنه رآه فصيحاً. وقيل : إنه قرأ على محمد بن موسى فتعلم في داره , فوجب حقه عليه , فوصله بالمعتضد وأدخله في جملة المنجمين. وأصل رئاسة الصائبة في هذه البلاد وبحضرة الخلفاء ثابت بن قرة , ثم ثبتت أحوالهم وعلت مراتبهم وبرعوا.‏
 
إن محمد بن موسى الخوارزمي(1) يقول فيه وفي أخويه أحمد والحسن صاحب الفهرست "وهؤلاء القوم ممن تناهى في طلب العلوم القديمة , وبذل فيها الرغائب , واتعبوا نفوسهم , وأنفذوا إلى بلد الروم من أخرجها إليهم , فأحضروا النقلة من الأصقاع والأماكن بالبذل السني , فأظهروا عجائب الحكمة , وكان الغالب عليهم من العلوم الهندسة والحيل (الميكانيك) والحركات والموسيقى والنجوم.‏
 
ويدلنا نص الغيث المسجم على أن النقل لم يكن دائماً بالمستوى المناسب فكان يحتاج إلى تهذيب وإيضاح المستغلق منه، وعلى تكرير الترجمة , فقد عرّب عبد الله بن هلال الأهوازي كليلة ودمنة مرة جديدة ليحيى بن خالد البرمكي سنة 165 بعد ترجمة ابن المقفع البليغة لها. كما يدل نص الفهرست على بذل المسؤولين المال والعون في دعم العلماء والنقلة.‏
 
وكان التعريب وتهذيبه متواصلين على مدى سنين طويلة , ولسنا هنا بصدد تاريخ التعريب عند العرب، فلذلك موضع آخر. ولكنا نحبّ أن نشير إلى رغبة المسؤولين في استيضاح الدقائق من كل كتاب أيَّاً كان نوعه. فلقد نبغَ في بلاد الشام قديماً طبيب حشائشي اهتم بالعقاقير الطبية النباتية , وهو ديسقوريدس ولد في عين زربى بشمال بلاد الشام من نواحي المصيصة في قليقيا، وساح يبحث عن الحشائش في البلاد , ويتفهم خواصها , وكتب إذ ذاك كتاب الحشائش والنباتات, ترجمه بمدينة السلام اصطفن بن بسيل في زمن المتوكل من اليونانية إلى العربية، وتصفح ذلك حنين بن إسحاق، فصحح الترجمة وأجازها، فما علم اصطفن من تلك الأسماء اليونانية في وقته له اسماً في اللسان العربي فسَّره بالعربية , وما لم يعلم له في اللسان العربي اسماً تركه في الكتاب على اسمه اليوناني ؛ اتكالاً منه على أن يبعث الله بعده من يعرف ذلك ويفسره باللسان العربي .
 
إذ التسمية لا تكون إلاَّ بالتواطؤ مع أهل كل بلد على أعيان الأدوية بما رأوا، وأن يسموا ذلك إما باشتقاق وإما بغير ذلك من تواطئهم على التسمية , فاتكلَّ اصطفن على شخوص يأتون بعده ممن قد عرف أعيان الأدوية التي لم يعرف هو لها اسماً في وقته فيسميها على قدر ما سمع في ذلك الوقت، كما ورد في كتاب ابن أبي أصيبعة.‏
 
وانتقل الكتاب إلى الأندلس ثم أهدى ملك القسطنطينة إلى الملك الناصر عبد الرحمن بن محمد بالأندلس هدايا منها كتاب ديسقوريدس مكتوباً بالإغريقية , وأرسل إليه بعد ذلك راهباً يدعى نيقولا تعاون هو وجماعة من الأطباء الأندلسيين في تفسير عقاقير كتاب ديسقوريدس والدلالة على أعيانها.
 
وألَّف ابن جلجل الذي أدرك الراهب نيقولا وجماعته وصحبهم كتاباً في "تفسير أسماء الأدوية المفردة من كتاب ديسقوريدس". ولسنا نعرف بالضبط هل ترجم كتاب ديسقوريدس ترجمة جديدة بالأندلس، أو بقي الاعتماد على ترجمة اصطفن وتصحيح حنين لها.‏
 
وكان كتاب ديسقوريدس قد نقله حنين بن إسحاق من اليونانية إلى السريانية أيضاً لرئيس الأطباء بختيشوع بن جبريل، ثم نقل الكتاب من السريانية إلى العربية أبو سالم الملطي نقلاً فيه شيء من اللكنة السريانية في زمن السلطان ألبي بن تمرتاش بن إيل غازي بن أرتق أحد الملوك التركمانيين في ديار بكر وماردين وميافارقين في القرن السادس الهجري , ولما لم تكن الترجمة واضحة ولا سليمة كلف السلطان نفسه مهران بن منصور بن مهران أن ينقله مرة جديدة إلى العربية نقلاً سليماً ودقيقاً.‏
 
وأيَّاً كان الأمر فإن كتاب الطبيب الشامي الذي كتبه بالإغريقية غدا مصدراً مهماً بعده لجالينوس وليحيى النحوي ولأمثالهما في الحضارة الإغريقية المتأخرة ثم للعلماء والأطباء العرب في المشرق والمغرب , فألفوا في الأدوية المفردة كتباً استفادوا فيها من كتاب الطبيب الشامي العين زربي , وزادوا فيها عليه ما عرفوه بأنفسهم ومارسوه بخبرتهم.
 
 وحنين بن إسحاق هذا الذي مرّ ذكره آنفاً هو تلميذ الخليل بن أحمد الفراهيدي لزمه حتى برع في لسان العرب "ثم اختير للترجمة واؤتمن عليها وكان المتخير لها جعفر المتوكل على الله , ووضع له كتَّاباً نحارير عالمين بالترجمة كانوا يترجمون , ويتصفح حنين ما ترجموا كاصطفن بن يسيل وحبيش (بن الحسن الدمشقي وهو ابن أخت حنين) وموسى بن أبي خالد الترجمان ويحيى بن هارون، كما يذكر ابن جلجل في كتابه "طبقات الأطباء والحكماء".‏
 
هذه العلوم المنقولة إلى العربية غدت بالتهذيب واضحة المعاني , جلية الدلالة , جيدة البيان , فلما وصلت إلى الأجيال التالية وجدوا فيها معيناً عذباً أمدّ عقولهم وغذّى قرائحهم , فاستفاضت البحوث , وتعاظم التقدم لأن المهم في التعريب إنما هو الفكر العلمي , وغرسه في اللغة المنقول إليها ليزدهر ويؤتي ثماراً جديدة شهية.
 
 
ولقد ناسبت اللغة العربية هذا النقل حتى إن تلك العلوم أنافت بحللها العربية الجديدة الدقيقة على ما كانت عليه في اللغات السابقة.   
 
 
يقول البيروني – وكان مطلعاً على عدة لغات منها الفارسية واليونانية والسريانية والعبرية – في مقدمة كتابه "الصيدنة" – نذكر هنا هذا النص على الرغم من شهرته الواسعة -: "وإلى لسان العرب نقلت العلوم من أقطار العالم فازدانت وحلت في الأفئدة، وسرت محاسن اللغة منها في الشرايين والأوردة، وإن كانت كل أمة تستحلي لغتها التي ألفتها واعتادتها واستعملتها في مآربها مع آلافها وأشكالها. وأقيس هذا بنفسي وهي مطبوعة على لغة لو خلد بها علم لاستغرب استغراب البعير على الميزاب , والزرافة في العراب , ثم متنقلة إلى العربية والفارسية , فأنا في كل واحدة دخل ولها متكلف. والهجو بالعربية أحب إليّ من المدح بالفارسية".‏
 
ويستبين من النص طواعية العربية ودقتها , وأن العلوم نفسها لما نقلت إليها ازدادت جمالاً ورونقاً ودقة وطلاوة، وذلك لسعتها وغناها ومرونتها وأصناف الاشتقاق فيها , وضروب مقاييسها الصحيحة , وما إلى ذلك من مزاياها التي يعرفها أبناؤها الأوفياء.‏
 
بل نجد أبا الريحان في مستهل كتابه "تحديد نهاية الأماكن" يندد باستعمال الباحثين لبعض الألفاظ اليونانية التي دخلت أول الأمر إلى كتب المترجمين الأوائل ليهولوا بها على الناشئة دون أن يعرفوا المقابل العربي لها بالضبط فيقول: "ونحن نراهم يستعملون في الجدل وأصول الكلام والفقه طرقه (طرق المنطق) ولكن بألفاظهم المعتادة فلا يكرهونها.‏
 
فإذا ذكر لهم إيساغوجي وقاطيغورياس وباري أرميناس وأنولوطيقا رأيتهم يشمئزون عنه و(ينظرون نظر المغشي عليه من الموت) وحق لهم فالجناية من المترجمين. إذ لو نقلت الأسامي إلى العربية فقيل: كتاب المدخل والمقولات والعبارة والقياس والبرهان لوجدوا متسارعين إلى قبولها غير معرضين عنها".‏
 
ولقد برع العرب المسلمون بعد حركات التعريب تلك التي أشرنا إلى بعض الأمثلة منها في ميادين العلوم والآداب كلها براعة أذهلت الغربيين حين أفاقوا من سباتهم , ثم أرادوا أن يحتذوا حذو العرب ويقلدوهم , وينقلوا علومهم ومعارفهم ويلحقوا بغبار موكب حضارتهم , فوجدوا أنفسهم لما طفقوا ينهضون عاجزين عن محاكاة العرب وبلوغ شأوهم في العلوم والكتابة والبيان.
 
ونعرف ذلك من خلال الفقرات التي كتبها شاعر إيطاليا الكبير بترارك في غضون القرن الرابع عشر الميلادي يندد فيها ببني قومه , ويستنهض هممهم , ويهيب بهم , ويبث في أنفسهم الثقة والعزيمة.
 
يقول هذا الشاعر: "ماذا؟ لقد استطاع شيشرون أن يكون خطيباً بعد ديمستن , واستطاع فرجيل أن يكون شاعراً بعد هوميروس، وبعد العرب لا يسمح لأحد بالكتابة! لقد جارينا اليونان غالباً، وتجاوزناهم أحياناً , وبذلك جارينا وتجاوزنا غالبية الأُمم، وتقولون: إننا لا نستطيع الوصول إلى شأو العرب. يا للجنون! ويا للخبال! بل يا لعبقرية إيطاليا الغافية أو المنطفئة!"(2).‏
 
إن تلك العلوم والمعارف والآداب وغيرها من مضامين الحضارة العربية الإسلامية أغار عليها الغرب أي إغارة ونهبها أي نهب , وذلك بالدراسة والتفهم والترجمة والنقل.
 
وهو ما نستطيع أن ندعوه بالتغريب مقابل لفظ التعريب. فلقد هرع رواد العلم من الأوربيين من كل فج عميق إلى الأندلس خاصة يردون مناهل العلم الزاخرة المتدفقة في ظلال الحكم العربي السمح. ويعرف المطلعون على حركات النقل أسماء التراجم المشهورين وجماعاتهم الذين كانوا يترجمون إلى اللاتينية كل ما وقع بأيديهم من الكتب.
 
 حسبنا هنا أن نشير إلى ذلك إشارة عابرة, ولكنا نذكر أنهم تجاوزوا ترجمة الكتب العلمية والفلسفية إلى ترجمة كتب ثانوية بمجرد أنها عربية. من جملة ما رأيناه في معرض المعهد الألماني لكتب التراث العربي المترجمة إلى اللاتينية، وذلك في إبَّان ندوة الحوار العربي الأوربي المعقودة في نيسان الفائت 1983، متن الإجرومية في النحو العربي , وكتاب باللاتينية في تعليم النحو العربي , ومجموعة أمثال عربية. فكيف كان شأن كتب الطب والعلوم المختلفة؟!‏
 
هذا كله لنبين تداول الشعوب للعلوم والمعارف التي كان للعرب الشأو الأعلى والمأثرة الكبرى في صونها وجلائها وإغنائها بالبحوث والكشوف, حتى إن الحضارة الغربية الحديثة مدينة لهم في ذلك, ولقد جاء في القرآن الكريم (وتلك الأيام نداولها بين الناس) (3-140) أي نصرّف ما فيها من النعم والنقم. نعطي هؤلاء تارة وأولئك طوراً. فليست الأحوال مستقرة وإنما هي رهينة بالتغير الدائم والتبدل الدائب.
 
 ولقد مرت صروف تاريخية واجتماعية توارى العرب فيها عن ركب الحضارة. ثم نبهتهم المحن والآفات وأطلعتهم على ما بلغوه من دركات التأخر. فإذا هم يتطلعون بأبصارهم وبصائرهم إلى ميدان التقدم، ويتشوّفون بمطامحهم إلى اللحاق بركب الحضارة المغذ في سيره.‏
 
وسر الحضارة والتقدم إنما يكمن في المعارف والعلوم والصنائع التي كان العرب قديماً أربابها ثم انتقلت إلى غيرهم. ولهذا يفيدهم أن يدركوا مدى التأخر الكبير الذي صاروا إليه , وأن يعزموا أمورهم بالتعاون والأعمال الموزونة المخططة على تلافيه.‏
 
نحن أشرنا إلى أن نقل العلوم عن العرب كان أحد الأسباب في نهضة الغرب , ويُضاف إلى ذلك التعاون والعمل الجاد والأخلاق المتينة التي حملتهم على تحري ينابيع المعرفة وامتياحها والإفادة منها , مع مواءمة الصروف الاقتصادية لكل ذلك. فالنقل إذن أحد الأسباب المهمة الذي لولاه لما استطاعت اللغة اللاتينية واللغات الأوربية التي خلفتها أن تكون مطية المعرفة ووسيلة من وسائل العلم والتقدم.‏
 
وقد أصبحنا نحن العرب اليوم تجاه الغرب والشرق في مرحلة تشبه إلى مدى بعيد المرحلة التي كان الغربيون فيها ينظرون إلى العرب على أنهم المتفوقون في شتى الميادين. ولا شكّ أن الصروف تغيّرت. وقد يقع بين المرحلتين تشابه كما يقع بينهما تفاوت. ولكن تلقي العلم واستيعابه ونقل أصوله إلى اللغة العربية وتعريب التعليم الجامعي هي إحدى الوسائل الكبرى للتقدم والتطور الصحيح.‏
 
(2)
 
دور تعريب التعليم الجامعي في تطوير العلم العربي ونشره وبثه بين الجماهير:‏
 
 
الجامعات صوامع المعرفة , وأنبار العلم , وينابيع التفكير , ومصادر التجديد , إذا كان التعليم العالي فيها باللغة القومية. ذلك أنه فيها يتخرج رجال الفكر والأطباء المهندسون والمحامون وأصحاب القانون والصيدلانيون والإداريون والقادة والأساتذة والمعلمون والمتخصصون في ضروب العلم والمعرفة.  
 
 
ولا شك أنهم إذا جروا على ممارسة التفكير والإعراب عن بنات أفكارهم , وثمرات قرائحهم بلغتهم القومية العربية أدى ذلك إلى تطور العلم العربي، لأنه لا شيء إلا وهو رهن الحركة الدائبة والصيرورة المستمرة.
 
وإنما تتم الصيرورة والحركة الحيويتان بالممارسة والمزاولة والتعامل والتعهد , وفقدانهما معناه الجمود والموت. ثم إن كلاًّ من أولئك المفكرين الممارسين ينتسب إلى أسرة وله أصدقاء ورصفاء , ويختلف إلى أندية وجماعات , ويشارك في مناقشات , ويزاول التفكير والبحث أيَّاً كان مداهما وأغوارهما.
 
فإذا جرى على التعبير والإعراب عن أفكاره في بحوثه ومناقشاته وتعليمه وكتاباته بلغته القومية وبشكل سليم صحيح ما أمكن أفضى ذلك إلى الارتفاع بلغة الجماهير.
 
 والناس – كما نوّه ابن خلدون – مولعون بالاقتداء, فهم يقتدون بمن هم أعلى منهم مكانة وثقافة ومرتبة , ويلتقطون تعبيراتهم ومفرداتهم التي يستعملونها , ويتأثرون ببيانهم الذي يسمعونه أو يقرؤونه.
 
ولذلك كله كان من الطبيعي أن يكون تعريب التعليم العالي سبباً لذيوع العلم العربي وتطوره ولنشره وبثه بين الجماهير. يضاف إلى ذلك ما يتعلق بوسائل الاتصال من مجلات وصحف وإذاعة سمعية وبصرية, فإن أولئك المتخرجين بحكم تحصيلهم باللغة القومية ودربتهم عليها يتيسر لهم الإعراب عن أفكارهم وعن معلوماتهم وعمّا يجول في عقولهم , ويتلامح في خواطرهم وأمانيهم بهذه اللغة التي ما فتئوا يمارسونها، كما يتيسر الارتفاع التدريجي بها.
 
إن الجماهير مهما تقلبت السياسات تابعة لأولي الرأي والثقافة والعلم في الغالب. وهذه التبعية إنما تتم بطريق التفاهم العميق وهو اللغة القومية. وليست التبعية مقصورة على الجماهير بل هي حاصلة لدى النشء. والناشئ الذي يشب وهو يسمع لغة صقلها العلم وهذبتها المعرفة يغدو متمرساً بها , ولافتاً لمفرداتها ومتفتحاً عقله وملكاته للإفادة من مضامينها العلمية والفكرية والفنية .
 
 ولهذا نرى أن النهوض بالفكر لدى الشعب يتهيأ من الأعلى أي على طريق التثقيف والتعليم في الجامعات , وإعداد رجال الفكر والعلم من أطباء ومهندسين ومحامين وأساتذة وأدباء وغيرهم. وهذا لا يتحصل إلا إذا كان التعليم العالي باللغة القومية , وتمكن كل مختص من تبوؤ المكان المناسب له.‏
 
ولقد أدركت الشعوب هذه المزية فعمدت على الأغلب إلى التعليم في جامعاتها ومعاهدها العالية بلغاتها القومية , حتى لو كانت هذه اللغات ذوات حظوظ ضئيلة ومتفاوتة من التقدم بالقياس إلى بعض اللغات الحديثة الشائعة التي يرجع سر تقدمها إلى تقدم أبنائها لا إلى خصائصها الذاتية.
 
ذلك أن للغات خصائص ذاتية جوهرية , وخصائص عارضة سطحية, فالخصائص العارضة متعلقة بالمرحلة الاجتماعية والثقافية التي وصل إليها الشعب. فإذا تقدم الشعب تقدمت لغته بتقدمه, والخصائص الذاتية ما كان أصيلاً في اللغة من مرونة وغنى وطواعية وسهولة اشتقاق ونحت وقياس وتقبل.
 
وفي رأينا لا توجد لغة فوق الأرض تعدل اللغة العربية في هذه المزايا , وفي غيرها أيضاً , ويكفي ما سبقت الإشارة إليه آنفاً في قول البيروني وهو أن العلوم لما نقلت إلى العربية زادت جمالاً ورونقاً ودقة , وهو من أخبر العلماء في صنوف العلوم , وفي شتى اللغات إذ كان مطلعاً عليها وعارفاً لها وممارساً لبعضها في الكتابة والتأليف.
 
وذلك على الرغم من بعض الصعوبات التي صادفها المترجمون للعلوم قديماً عند نقلها إلى العربية , كما يحصل دائماً عند نقل بعض النباتات من إقليم إلى إقليم , وتدجين بعض الحيوانات في مناخ جديد حملت إليه , ورغب في انتشارها للاستفادة منها والتباهي بها فيه.
 
ولكن تلك الصعوبات لم تلبث أن توارت حين انتقل الفكر العلمي من وراء الترجمة والتعريب إلى الناشئة العربية حينئذ , وواتى الجو البياني الجديد ذلك الفكر فنما وازدهر ازدهاراً إذ ذاك لا مثيل له.‏
 
دور تعريب التعليم العالي في القضاء على الاستلاب الثقافي, وعلى الشعور بالتبعية والعجز عن الإبداع:‏
 
يشعر المتعلمون والمثقفون من العرب تجاه علوم الغرب وفنونه بمشاعر قصور عميق وتأخر كبير تشبه المشاعر التي ندد بها الشاعر الإيطالي بترارك إبان النضهة الغربية إزاء ثقافة العرب وبيانهم, فقد أزرى ذلك الشاعر بمواقف أبناء قومه الفاشلة وبإقرارهم بالعجز عن مضاهاة العرب ومجاراتهم , ومع ذلك لم يلبث الإيطاليون وكذلك الإسبانيون أن تخلصوا من تلك المشاعر بالإرادة والعزيمة والعمل , فأشعلوا أولى نيران النهضة في أوربة على الرغم من الاضطراب والخلل في بواكير أعمالهم وكتاباتهم , وعلى الرغم من انتحالهم مضامين الفكر العلمي العربي أو تقليدهم له.
 
والمطلع على تاريخ لغاتهم الحديثة اطلاعاً مفصلاً يعجب من مدى عجمتها واختلاطها واضطراب مفرداتها ومصطلحاتها ليخلص إلى أن الزمن كفيل بصقل ذلك الاضطراب , وإصلاح ذلك الخلل , وتصحيح الزيغ , وتجاوز الاختلاط , وإيضاح العجمة , والإبهام والاستغلاق إذا رزق الشعب ولو إلى حدٍ مناسب حسن التوجيه واحترام الثقافة وحظ التعاون وجمال الصبر.
 
كان لفظ الفيلسوف إذا أطلق في أوائل النهضة الأوربية مرادفاً للفظ العربي , ولكن الأوربيين لم يلبثوا حين لحقوا بركب الحضارة العربية أن حاولوا طمس مصادر معلوماتهم وثقافاتهم وأصول جذا الأنوار في مشاعل مدنيتهم الباكرة.‏
 
إن العرب اليوم يكاد المرء الضئيل الثقافة فيهم وهو الذي لم يتقن علوم الغرب اتقاناً كافياً , ولم يطلع اطلاعاً مناسباً على تراث قومه التليد يهوله التقدم الكبير الذي وصل إليه الغربيون , ويوشك أن يستخذي تلقاءهم.
 
ولقد شهدنا بعض الأساتذة ممن لم يتمكنوا من لغتهم القومية , ولم يتقنوا اللغة الأجنبية ولا العلم الأجنبي يرطنون ببعض الألفاظ الأجنبية في خلال دروسهم ظناً منهم أن ذلك يعليهم في نظر طلابهم ويحجب ضعفهم في المادة التي أوكل إليهم تعليمها.
 
إن الشخص الذي وصل إلى سن الشباب وإلى درجة لا بأس بها من العلم دون أن يتقن لغته يدل عدم إتقانه اللغة التي نشأ عليها , وتلقى التعبير فيها على ضعف في الملكات الفكرية لا يستره حفظه للمصطلحات الأجنبية التي اضطر إلى حفظها دون معرفة أصولها وترابطها.
 
وعلى خلافه الشخص الذي ألمّ إلماماً كافياً بقواعد لغته وبأصول التعبير الصحيح فيها يسهل عليه في الغالب التبريز في إتقان اللغات الأخرى , وفي العلوم أيضاً لأن معرفته لغته في سن نشوئه دليل على جودة ملكاته الفكرية و"مؤشر" كما يُقال في الإحصاء إلى حسن مواهبه الأصيلة.
 
ولهذا كان كل شعور بالعجز دليل الوهن والأفن وعدم الكفاية العقلية, بل نرى فوق ذلك أن المصاعب التي قد يصادفها المثقف في ميدان الإبداع والابتكار نوع من التحدث لملكاته وقواه الفكرية، وكثيراً ما أفاد التحدي في إبراز القيم الشخصية , وفي شحذ مواهب الأفراد والجماعات. وشد ما قيل بين الناس من أن الحاجة أم الاختراع. ونحن نقول: إن الصعوبة المعترضة والصبر على التغلب عليها مفتاح النجاح.‏
 
هذا وإذا تقدم الغرب في الوسائل التقنية والعلوم المادية فإننا ما زلنا نزعم أن الشرق متقدم على الغرب في القيم الإنسانية والمزايا الروحية والشمائل الاجتماعية من علائق التعاطف في الأسرة , ومن محبة الإنسان للإنسان , ومن إعلاء شأن العلم والمعرفة, ومن غوث الملهوف , وعون الضعيف , وهداية الحائر , ومديد المعونة للعاجز , والبر بالشيوخ والوالدين , والحدب على الصغار , والتمسك بالمثل الأخلاقية.
 
وإذا وجدنا لذلك شذوذاً فإنه طرأ بطريق الإذاعات والسينما والقصص السيئة "السادية". إن إثارة الرعب والتقتيل الجماعي,والصمت عن الإجرام ,والتمييز العنصري, وعبادة الدرهم والدينار, وغش الشعوب ,وتخريب حضاراتها ,كل هذه الأمور بعيدة من مفاهيم الشرق وتصوراته.
 
ولقد قال متصوف إسلامي قديم "الطرق إلى الله بعدد نفوس بني آدم" ومعنى ذلك أن كل نفس ذات طريق خاص ,تستطيع إذا سلكته أن ترقى إلى النجاح والخير وإفادة المجتمع. وكذلك الشعوب فلكل شعب مزايا يستطيع أن يظهرها في تحقيق مواهبه إن لم تحل دونه حوائل داخلية أو خارجية ,ولم تضلله تربية خاطئة ,ولا زيغ ناكب ,ولم يضيعه استلاب لحقيقته الإنسانية.‏
 
وهكذا لا مجال للاستلاب الثقافي إذا تم التعليم باللغة القومية ,وانتشرت الأفكار والثقافة والعلوم ,ونمت المواهب بين الناس ,وتحققت ملكاتهم الإنسانية الحقيقية السليمة. وعلى العكس يقضي التعليم باللغة الأجنبية على هذه الملكات والمواهب ,ويجعلها ذيلاً للحضارة الأجنبية ,وملحقة بها إلحاق العمال في البلاد الرأسمالية بأصحاب المصانع وأرباب رؤوس الأموال.‏
 
دور تعريب التعليم العالي في تطوير اللغة العربية وتجديدها, وتحقيق قدرتها الكاملة على استيعاب العلوم الحديثة.‏
 
لا بدّ في تعريب التعليم العالي ونقل العلوم والمعارف الحديثة إلى ظلال اللغة العربية الوارفة من إحياء ألفاظ قديمة ,واستحداث مصطلحات جديدة, تفي بحاجات الدلالات ,وتؤدي حقائق التصورات والمفاهيم المستجدة ,وتواتي الأغراض الفكرية.‏
 
وهذا كله يؤدي إلى تطور اللغة العربية ,وإلى حقن نسغ جديد يزيد في حيويتها وغناها ,ويضمن تدفقها وثراءها في شتى المجالات ,وتحقيق استيعابها لأغراض الحضارة الحديثة في ميادينها المختلفة.
 
وهذا شأن اللغات جميعها سواء في غابرها وفي حاضرها , إذ لا مندوحة لها عن قيام صلات واشجة بينها وبين اللغات الأخرى. وقد تطغى لغة على لغة ,وقد تزيد الواحدة في ثراء الأخرى وغناها.
 
ولكل لغة أيَّاً كانت مزايا تنفرد بها, وهذه المزايا تناسب وجهاً أو أكثر من وجوه التعبير العلمي والأدبي. كنا في مقال سابق(3) شبهنا اختلاف وجوه التعبير في اللغات باختلاف مزايا نظم العد من عشري وثلاثي واثنيني واثني عشري وستيني وغيرها.
 
ومن المعروف صعوبة إفادة الثلث تاماً في الكسور العشرية ,وتسهل إفادته في الجملة الثلاثية التي أساسها الثلاثة دون العشرة. وكذلك النصف تسهل إفادته التامة في الجملة العشرية ,وفي الجملة الاثنينية ,وتصعب في الجملة الثلاثية, وهكذا دواليك إذا توسعنا في أنواع الجمل والنظم الحسابية وإفادة الكسور فيها. ومع ذيوع الجملة العشرية أو نظام العد العشري نجد في العصر الحاضر أهمية النظام الاثنيني في ميدان الحاسبات الإلكترونية.‏
 
وهكذا اللغات. لكل لغة مزايا وإفادات تختص بها ,وربما لا يوجد لها أشباه في بعض اللغات الأخرى. ولكن هذا مجرد تشبيه نريد به الحث على تعرف مزايا اللغة العربية والاستفادة منها. ولا تمكن هذه الاستفادة إلا بعد تعلمها, وبذل الجهود فيه ,والأخذ عن الأكفياء كما صنع حنين بن إسحاق حين نهض من بغداد إلى بلاد فارس ليلزم الخليل بن أحمد إمام اللغة في عصره.‏
 
ولما جرت حركة الترجمة من اليونانية إلى السريانية ثم إلى العربية بلغت السريانية عصرها الذهبيّ إبان ذلك العهد. وكذلك بلغت اللغة العبرية عصرها الذهبي في ظلال الحضارة العربية الأندلسية حين استقت من الشعر العربي أكثر بحوره, ومن النحو العربي أغلب قواعده ,كما أخذت عن العربية كثيراً من المفردات والتعابير الفكرية والفلسفية ,ولا سيّما حين نشأ مفكرها المشهور موسى بن ميمون الذي كتب في العربية والعبرية سواء.‏
 
أما اللغة العربية فغناها الأصيل وثراؤها الجم أدخل عليها مع ذلك عند نقل العلوم القديمة إليها نصيباً من عمق التعبير وسعة البيان, جعلها تتطور بأساليبها مع الاحتفاظ بأصالتها الذاتية وخصائصها المثلى.‏
 
ولما أن اشتد نقل العلوم العربية إلى اللغة اللاتينية سابقاً أثر ذلك في ثراء اللغة اللاتينية تأثيراً شديداً حتى إنه غدا العلماء يميزون فيها لغتين: اللاتينية القديمة واللاتينية المتأخرة.
 
وينبغي ههنا أن ننص أمراً غفل عنه بعض اللغويين الحديثين ومحققي كتب التراث العربي حين يحققون لفظاً في اللاتينية له شبيه في العربية , فيجعلون إلى ادعاء اللفظ اللاتيني أصلاً. والحقيقة هي العكس وهو أن اللفظ اللاتيني آت من العربي دخل عند حركة النقل الأوربي.
 
وكذلك الأمر في اللغة العبرية وفي اللغة السريانية. بل إنه صحيح إلى حد في اللغة اليونانية أيضاً لأن الحروب السجال التي وقعت بين الروم والعرب ولا سيما إبان الدولة الحمدانية أدت إلى تسرب ألفاظ متعددة من العربية إلى الإغريقية, كما يشهد بذلك بعض المستشرقين الذين اختصوا بعلاقات الروم والعرب في العصور الوسطى كالمستشرق الفرنسي ماريوس كنار.‏
 
إن التعريب وسيلة لثراء اللغة العربية بالمصطلحات الحديثة ,ولبث حركة الحياة الجديدة في أوصالها. ولكن لا بد في ذلك من الانتباه لخصائص العربية ومزاياها في الدقة ,والإيجاز والبلاغة ,وسلامة التعبير ,وجلاء البيان دون أن تندس في أوصالها ركاكة التعبير الأجنبية ,وتتسرب إليها فهاهتها وطبيعة كيانها اليابس القائم على الحروف والعبارات الاصطلاحية كما تقوم الأخشاب المنصوبة على المسامير المدقوقة فيها، ولولا الطلاء الحضاري الزائف عليها لما كانت مستساغة لفقدان النسغ الحي, زد على ذلك تفاوت اللفظ والكتابة فيها ,حتى إن أبناءها يكتبون شيئاً ويلفظون غيره.
 
ونحن ندرك المبالغة في كلامنا هذا. ولكن المبالغة هي التي تفضح الطلاء المموّه الظاهر. إن أفضل التطور في الكائن الحي ما يجعله محافظاً على مزاياه وخصائصه الجيدة ,وما يزيد هذه الخصائص والمزايا ثراء.
 
وإلا فإن في قصة الغراب الذي أراد أن يقلد مشية الحجلة لعبرة للمتأملين, وكذلك لا بد من التخطيط السليم في أمور التعريب بالنظر إلى اتساع البلاد العربية الواسعة ذوات الثقافات الأجنبية المختلفة ,فإذا لم ينتظم التعريب ناظم سويٌ غدا فوضى , ونشأت لغيات ولهجات محلية خطيرة تجعل التفاهم بين أبناء الوطن الواحد وبين مثقفيهم عسيراً. وفي حكاية تعدد اللغات في برج بابل عبرة أخرى ما تزال ماثلة لأولي البصائر.‏
 
المهم قبل كل شيء في التعريب إتقان اللغة العربية, ولا يصعب بعد الإتقان أن يكون شأن المصطلحات ثانوياً حتى لو استعملت بألفاظها الأجنبية وقتياً ومرحلياً ,كما استعمل العرب ألفاظ الجيومطريا والارتماطيقي والبيوطيقا وغيرها مما نجده في التراث العربي ,وكما استعملوا في مصطلحات المنطق ألفاظاً يونانية جعلت عالماً كبيراً مثل البيروني يتهكم على مستعمليها كما سلف آنفاً ,إذ سرعان ما تجاوزوا تلك الألفاظ الثقيلة الممجوجة ,ووجدوا مقابلات لها سهلة جلية سائغة.
 
وأبو الريحان هذا هو الذي اقترح مؤرخ العلوم الأمريكي سارتون إطلاق اسمه على النصف الأول من القرن الحادي عشر الميلادي بأن يدعى عصر البيروني في إطار تطور تاريخ العلم العالمي. وهو الذي اعتبره المستشرق الألماني زخاو أعظم عقلية عرفها التاريخ.‏
 
دور تعريب التعليم العالي في نشر اللغة العربية والعلم العربي والثقافة العربية خارج إطار الوطن العربي ولا سيما في البلاد الإسلامية.‏
 
ثمّة وشائج تاريخية وثيقة بين التراث العربي وتراث كثير من البلدان الأجنبية ولا سيما الإسلامية ؛لأن شعوب هذه البلدان قد شاركت في تألق الحضارة العربية وعلومها وفنونها وصناعاتها.
 
لقد التقينا في إحدى زياراتنا لبلغاريا وفداً هندياً أخبرنا أحد أعضائه وهو غير مسلم أنه لما كان صبياً صغيراً أرسله والده إلى مدرسة عربية بالهند ,إذ كانت اللغة العربية معتبرة إذ ذاك لغة الحضارة ,ثم حلت اللغة الإنكليزية التجارية المستعمرة محل اللغة التي تنادي بأن الخلق كلهم عيال الله ,فأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله.‏
 
كانت اللغة العربية حقبة طويلة من الزمان لغة تلك الشعوب العلمية والفكرية, ولذلك نجد أن لغات تلك الشعوب قد استمدت من العربية ألفاظاً حضارية ومصطلحات علمية كثيرة. ومثَل هذه اللغات في العصر الحاضر مثَل اللغة العربية في الحاجة إلى نسغ جديد يجري في عروقها ,ويقوّي مناعتها ,ويبث فيها الحداثة والمرونة والطواعية.
 
 ولما كان جزء لا بأس به منها آتياً من العربية ,ولا سيما ماكان منه حضارياً وفلسفياً ودينياً وعلمياً لزم أن تقوم بذلك الأخت الكبرى لتلك اللغات وهي العربية ,فتعمد إلى وضع المصطلحات المستجدة ,وضرب المثل الصالح في التعبير السليم والبيان الصحيح الموائم للأغراض الحديثة والأفكار الجديدة.
 
 وقد بلونا ذلك حين وضعنا نحن والمرحوم الدكتور الشافعي النص العربي للمعجم الديمغرافي المتعدد اللغات ,وسبقنا في ذلك طائفة من البلدان حتى المتقدمة منها في اعتماد ذلك المعجم العالمي الذي ظهر أول الأمر باللغات الثلاث الإنكليزية والفرنسية والإسبانية، لغات منظمة الأمم الرسمية إذ ذاك. فإذا بالاتحاد العالمي للدراسة العلمية للسكان يكتب إلينا يستعلم طريقة الحصول على المعجم العربي لأن بلداناً أخرى هي تركيا وإيران وباكستان وأندونيسيا رغبت في اقتنائه ابتغاء الاستفادة منه لوضع النص بلغتها القومية.
 
 ونحن على يقين بأن اللغة العربية بين جميع اللغات قادرة على القيام بأعباء التعريب من كل نوع نظراً لغناها , وتعدد سبل البيان فيها ودقتها , وملاءمتها لشتى الأغراض على أن ينهض به ويشرف عليه الأكفياء أهل العلم والمعرفة.‏
 
دور التعليم العالي في مزج الثقافات الأجنبية المتعددة في بوتقة ثقافية عربية متكاملة موحدة ,وفي الخلاص من تنازع الثقافات الأجنبية وتعارضها في إطار الجامعات ومؤسسات التعليم العالي العربية.‏
 
لقد أُتيح لنا أن نزور كثيراً من البلاد الحديثة الرأسمالية والاشتراكية؛ ونظراً لاتساع رقعة الوطن العربي ومكانته الاستراتيجية والاقتصادية والجغرافية والديمغرافية نشأت لدويلاته علاقات متعددة بتلك البلاد. من نتائج هذه العلاقات البعثات والمنح العلمية الكثيرة، رسمية وغير رسمية، جماعية وفردية، تحمل أبناء الوطن العربي وناشئته لتلقي العلوم في تلك المجتمعات الحديثة.
 
وجدنا الشبان العرب في تلك المجتمعات يقبلون على تلقي العلوم ,ولهم دوي وهينمة كدوي جماعات النحل وأثوالها المترامية على رحيق الأزهار ,تمتص منه ما يشبع رغباتها وينقع طموحها. قد يقع انحراف أو تهافت أو خطأ في الإرسال وفي التمتع بالمنح ,وهذا شيء طبيعي يمكن تقليله وحصره ,ولكن تلك الكثرة ومطامح الناشئة في تلقي العلوم تفتح أبواب الأمل ونوافذه على مصاريعها لمن كان له قلب.‏
 
ولما كانت البلدان الأجنبية متفاوتة اللغات متعددة الرؤى كان المتخرجون العرب فيها متسمين بذلك التعدد والاختلاف والتفاوت, ولكن يجمعهم تحصيل العلم ومقدار الإتقان الذي حصلوا عليه, ومبلغ الثقافة التي تحلُّوا بها, وهؤلاء حين يرجعون إلى بلادهم التي ترحب بهم ,والتي هي المناخ الطبيعي لتكامل مواهبهم ,وتمام نضجهم وشموخ أنفسهم , ومرتكز فخارهم ,يغدون كالمختبر الحقيقي لامتزاج الثقافات في بوتقة عربية موحدة, سواء كان ذلك في الجامعات والمعاهد التثقيفية ,وفي مباءات البحث والتنقيب. وذلك كما تصهر الفلزات والمعادن الثمينة نفياً للخبث وإبعاداً للزيف والشوائب عنها. وفي ذلك أقوم السبل للوصول إلى ثقافة عربية علمية حديثة تمهد للابتكار وللتقدم في ركب المدنية الراهن.‏
 
دور تعريب التعليم العالي في توليد نظرة حضارية عربية واحدة أصيلة وحديثة.‏
 
من تعدد الثقافات الأجنبية التي تحملها الأجبيال العربية المثقفة تثقيفاً عالياً صحيحاً وانصهارها في بوتقة تعريب التعليم الجامعي تتولد سبيكة أو أشابه من الجواهر الفكرية الراقية تنشأ عنها بالإضافة إلى الثقافة العربية التراثية نظرة حضارية عربية أصيلة وحديثة.
 
ذلك أن الاقتباس من الثقافات الأخرى مع الحفاظ على الأصالة القومية كالاقتباس من شعل النيران يزيد التوقد ويبث الحركة والتوثب الفكريين نحو الأعلى في مجاراة الأُمم الحديثة الأخرى. ولما كانت البلاد العربية غنية بمكانتها المتنوعة الغزيرة غدت تتسع اتساعاً وافياً لمختلف الثقافات الأجنبية , وهي قادرة على تمثلها مع الزمن.
 
 يبدو الزمن هنا ذا قيمة كبرى في التطور, وكما أن الأغراس في الحدائق تحتاج إلى برهة للتلاؤم هي والشروط الخارجية من تربة ورطوبة وحرارة وتغذية ورعاية وتعهد دائم لكي تنمو وتقوى وتتفرع وتزهر وتؤتي بالثمار الزكية ,تحتاج الأجيال إلى فترات زمنية ذات إيقاع مناسب لكي تتفاعل ثقافاتها وتتهيأ للنهوض والتفتح وإنشاء حضارة جديدة ذات كيان أصيل.
 
هكذا تم نهوض الأُمم وظهورها بالتدرج على صعيد الحضارة العالمية, ولكنه تم أيضاً بالدعم الفعّال من قِبل المسؤولين والتعهد الدائم لنسغ الحضارة المتولد وتشجيع الأكفياء في كل ميدان، بل بمشاركة المسؤولين أنفسهم في تلك العلوم والمعارف لكي يضربوا الأمثلة الصالحة , ويكونوا القدوة المثلى في الحث على العلم ,وتكريم أربابه ورجالاته وإعلاء شأن الإبداع والابتكار.
 
 لقد كان الأمير خالد بن يزيد من كبار المهتمين بالعلوم، الحراص على الإلمام بدقائقها, وكان الخليفة المأمون له مجالس علمية يخوض في كل فن يجري ببحثه فيها, وكان يقدم العلماء ,ويسبغ عليهم أفضل التقدير والتكريم, وكذلك نجد مثل هذا في عهود الخلفاء الأندلسيين ,ولدى الملوك الفاطميين والأيوبيين، إذ لا تقدم يحصل دون إعلاء شأن العلم وتكريم العلماء, على أن التاريخ والتراث والأعراف العربية من حقائقها دعم ذلك الاتجاه وتجسيده, فلا غرو أن يولي المسؤولون في أجواز الوطن العربي دور العلم وبيوته رعايتهم الكريمة وتعهدهم الثري المثمر.‏
 
دور تعريب التعليم العالي في رفع الدراسات العليا وفي إعداد الهيئة التدريسية الجامعية إعداداً ملائماً لحاجات الوطن العربي ,وفي الحد من عدد البعثات العلمية إلى الخارج ,ومن هجرة الكفايات العلمية بالتالي.‏
 
إذا تولدت تلك الأشابه أو السبيكة المشار إليها آنفاً من صهر الثقافات المتعددة في الوطن العربي تكوّن لدى الأجيال العربية معارف توازي معارف الأمم الحديثة في العلوم والفنون ,وأصبح لهذه المعارف ينابيع ثرة عذبة في جامعات البلاد ومعاهدها ,تفجرها الأجيال العربية أنفسها ,ويردها الطلاب يمتاحون من معينها الفرات, بل يكونون هم أنفسهم تلك الينابيع بما أوتوا من تثقيف صحيح ,وتعليم منهجي رفيع ,وحصانة ذاتية في التفكير ,وزكانة ملهمة في التأمل والبحث والتنقيب، لا كما هو حاصل الآن من إعادة ببغاوية لمعلومات الغرب أو الشرق, واجترار آلي لمعارفهما ,وعدم النفوذ من خلالها إلى سر الإبداع والاختراع.
 
لا شك أن تعريب التعليم العالي يستلزم حسن التأليف في العربية, ذلك أن التعريب لا يعني بحال من الأحوال التعليم بلغة عامية محلية لا أصول لها ولا قواعد, بل هي تختلف من قطر إلى آخر, وتتفاوت من صقع إلى غيره بحيث لا تستطيع الناشئة متى جد الجد أن يفهم بعضها بعضاً.
 
وإنما المراد بالتعريب التعليم بلغة عربية سهلة سائغة دقيقة صحيحة جلية, لقد حدثني زميل في إحدى الكليات وهو أستاذ لإحدى مواد الكيمياء أن له بنتاً ناشئة تدرس شهادة الكيمياء في كلية أخرى ,أراد ذات يوم أن ينظر في الأمالي التي تتلقاها في كليتها فلم يفهم منها شيئاً لأنها أمليت بلغة عامية ,وكتبت عشوا بتلك اللغة. نحن نجرؤ فنقول: إن التعليم باللغة العامية أسوأ منه بلغة أجنبية، لأن اللغة الأجنبية ذات قواعد وأصول ومجال واسع في التأليف والمتابعة. وليس كذلك اللغة العامية المحلية.‏
 
إن أكبر أخطار الاستعمار التشكيك في صلوح اللغة العربية لاستيعاب التعبير والمصطلحات الحديثة ,والخفض من قيمة هذه اللغة.
 
المهم أول الأمر وعلى رأس الطريق هو إتقان اللغة العربية إتقاناً كافياً فلا يسمح لمن يتولى التدريس ألا يكون لديه مثل هذا الإتقان,وليس ذلك بعسير, إن إتقان اللغة القومية شاهد على كفاية الأستاذ كما أن عدم إتقانها يحملنا على الشك في قيمة ما حصَّل من علوم أجنبية.
 
اللغة في مجال التعريب قبل كل شيء آخر هي مفتاح العلوم الأخرى, وإذا نمت اللغة العربية في المستقبل نمواً صحيحاً غدت تلقَّن للأجيال تلقيناً كما تلقَّن اللغات الحديثة الأجنبية, فاللغة تتوارث وتعلَّم بالتلقين والسماع والممارسة أكثر منها بالتعمق في أصولها وقواعدها .
 
هذا التعمق مقصور على نخبة من الناس. ولكن الناشئة والطلاب وسائر الناس يتلقونها صحيحة سليمة من أفواه الأساتذة والمعلمين والعلماء والأنبياء. وعندئذ يفكرون ويتحدثون ويتناقشون ويكتبون ويؤلفون بلغتهم الحية لا تعمية فيها ولا إبهام ولا غموض إلا إذا أريد ذلك، وإن كان لا غنية لهم عن الإلمام ببعض القواعد. وهم بطبيعة الأمر ما دام العلم مبذولاً وسائغاً شرابه في جامعاتهم لا يحتاجون إلى انتجاع بلاد أخرى لطلب العلم إلا في مجال التبادل الثقافي الحقيقي الذي يقف العلماء من شتى الأقطار على صعيده مواقف متساوية ومتتامة.‏
 
هذا ولا شيء أشق على المرء، إذا غدا الجو الذي يعيش فيه حميداً وصالحاً لتكامل مواهبه واستمرار بحوثه وظهور كفاياته، من الغربة عن وطنه واقتلاع جذوره منه. وهكذا يضعف تيار هجرة الكفايات إلى بلاد أخرى. وإنما تقع الهجرة النازحة إذا نافت الشروط المحيطة بالمرء تفتُّح مواهبه وحرية تفكيره ,وشعر فيها بشل نشاطه ,وعدم القدرة على تحقيق مطامحه ,وعلى حماية نفسه وأسرته.
 
الحرية والتعاون والمحبة, وحماية الأنفس,وتعهد المواهب الفكرية ,وتبوؤ الشخص المناسب المكان المناسب شروط أولى لغيض هجرة الكفايات الفكرية. إن أهم خصائص الإنسان الفكر, وأعلى ملذاته العليا ممارسة هذه الخصائص ,فإذا حيل بينه وبين هذه الممارسة ,أو كانت هذه الممارسة في خطر عليه ,يمم وجهه شطر بلد آخر يحفظ له كرامته ويوفر له الحماية. وهذا أيضاً من طبيعة التراث, ألم يخاطب الشاعر القديم نفسه:‏
 
وإن نبت بك أرض فكل أرض وطن‏
 
أو لم يهتف الشنفرى الجاهلي بذلك في مطلع قصيدته المشهورة:‏
 
أقيموا بني أمي صدور مطيِّكم ...فإني إلى قوم سواكم لأميل‏
 
مخاطر الغزو الثقافي الأجنبي الذي يمكن أن يتسلل خلال التعريب:‏
 
بين الثقافات عامة تزاحم وتنافس ناشئان عن العنجهية القومية وعن عدم التوازن الثقافي الفكري لأنه قد يكون الباحث مختصاً في مجال يحسن العمل فيه دون أن يكون لديه حصيلة كافية في الفلسفة الإنسانية والأخلاق، فيكون ذلك مدعاة له إلى طمس بعض الحقائق وإلى التحيز لنحلته ,ولبني قومه دون مسوّغ.
 
والكمال في الدنيا نادر, والنفوس الإنسانية متفاوتة المنازع والاتجاهات, وهكذا نجد أن الثقافات الأجنبية ثغرات فاغرة الأفواه على المثقف المطلع أن يتحامى الانزلاق إليها والتردي فيها.
 
إن التراث الغربي مثلاً على الرغم من كونه في السابق عيالاً على الثقافة العربية نجده في العصر الحاضر غالباً مقطوع الصلة بتاريخ تلك الثقافة مربوطاً رأساً بالثقافة اليونانية, يدعوها أحياناً بالمعجزة مع إنها مقتبسة من حضارات الرافدين ووادي النيل.
 
المعجزة الكبرى هي الحضارة العربية الإسلامية في تقدم العلوم الإنسانية والفكرية ,والتنويه بحقوق الإنسان أيَّاً كان لونه وأصله ,وبالمساواة ,وبإعلاء شأن العلم والمعرفة.
 
نحن لا ننكر مزايا علماء الغرب ولا مفكريهم ولكن إقرارنا بها لا يمنع من تعرف قيم العلماء العرب ,واتساع آفاقهم, وعلو شأنهم ,وسمو أهدافهم, وشموخ قيمهم ,وتحقيقاتهم العظيمة الواسعة في كل ميدان من ميادين المعرفة والعلم، كالطب والرياضيات والفلك والفلسفة والأدب وغيره.
 
يكفي أن نذكر هنا ما نوه به المستشرق السوفياتي كراتشكوفسكي، وأمثاله قليل، في مدخل كتابه "تاريخ الأدب الجغرافي العربي: "إن المكانة المرموقة التي تشغلها الحضارة العربية في تاريخ البشرية لأمر مسلم به من الجميع في عصرنا, هذا وقد وضح بجلاء في الخمسين عاماً الأخيرة ,فضل العرب في تطوير جميع تلك العلوم التي اشتقت لأنفسها طرقاً ومسالك جديدة في العصور الوسطى وما زالت حية إلى أيامنا هذه ,أعني علوم الفيزياء والرياضيات والكيمياء والبيولوجيا والجيولوجيا, أما فيما يتعلق بالأدب الفني العالمي فإن العرب قد أسهموا فيه بنصيب وافر يمثل جزءاً أساسياً من التراث العام للبشرية، كما امتدَّ تأثيرهم كذلك إلى عدد كبير من المصنفات والفنون الأدبية التي نشأت في بيئات غير عربية".‏
 
التوازن بين الأصالة والتفتح على الخبرة العالمية:‏
 
مما سبق يظهر أن المهم في تعريب التعليم الجامعي نقل العلوم الأجنبية الحديثة إلى اللغة العربية وتعليمها,والتأليف فيها بلغة عربية مبينة سليمة حتى يتهيأ البحث والتفكير والكتابة في المستقبل القريب بهذه اللغة التي كانت مطية الفكر العالمي أحقاباً طوالاً في الغابر. هذا هو المهم.‏
 
ولكن الأهم إرساخ التفكير العلمي في أذهان الأجيال العربية المقبلة بحيث يغدو التفكير العلمي, والتعبير العربي صنوين متحدين ملتحمين حافزين على الإبداع والابتكار إلى جانب الاطلاع الدائم على ما يستجد من بحوث علمية على الصعيد الإنساني العالمي باللغات الأجنبية المتقدمة.‏
 
لقد جرى لنا سابقاً حديث مع أستاذ ياباني للأدب المقارن في جامعة طوكيو ذكر لنا في خلاله أن له نظرية خاصة حول مشاركة اليابان في التقدم العلمي والتكنولوجي الراهن, فهو يرجعها إلى طبيعة اللغة اليابانية على الرغم من أن هذه اللغة من أصعب اللغات قاطبة.
 
وصعوبتها يعانيها أبناؤها كما يعانيها الغرباء إذا أرادوا تعلمها, وذلك أن اللغة اليابانية حروفها مقطعية مقتبسة من اللغة الصينية,مضافاً إليها بعض الحروف الخاصة التي تتعلق بقضايا الإعراب النحوي, ولما كانت الحروف الصينية رموزاً مختزلة تدل على الأشياء والمعاني استطاع الياباني إذا طالع كتاباً صينياً أن يفهم مقاصده ويصل إلى مضمونه وفحواه من خلال تلك الصور والرموز المقطعية المشتركة دون أن يعرف اللغة الصينية أو يتكلم بها.
 
وهكذا قرأ اليابانيون الحضارة الأوربية واستطاعوا في رأيه أن يتجاوزوا أشكالها إلى المعاني الماثلة وراءها ,وإلى التفكير الأساسي الذي تولدت عنه, لا نريد أن نناقش هذه النظرية التي ربما كان أساسها واهياً, إذ يهمل صاحبها الصروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي حملت اليابان إلى ذلك التقدم السريع.
 
ولكن غرضنا هو الإلماع بالتفتح الإنساني العقلي على آفاق العلم ,وتقوية المواهب المطلة على ساحات الإبداع والابتكار مع المحافظة على الذات القومية التي هي ركن الأصالة وعدم الضياع.
 
فالأصالة الحقيقية تستدعي التفتح إذن على الخبرات العالمية ,كما أن التفتح يقوي الأصالة ويدعمها, إذ هي بحاجة إلى نسغ حي دائم يجري في عروق أفراد الشعب الموهوبين, وإلا غدت الأصالة يبساً عقيماً وهشيماً تذروه الرياح, وتقوقعاً يدخلها في عالم المستحاثات.‏
 
أهمية توضيح الهوية الثقافية الذاتية ومقومات توليدها وبيانها:‏
 
في رأينا أن الشعوب كالأفراد يتمم بعضها في التباس القيم الرفيعة العليا وتحقيقها من سياسة حكيمة وأخلاق كريمة وعلوم دقيقة ,تكشف حقائق الكون وتنسقها وتقترب اقتراباً جدلياً منها في الحين بعد الحين والعصر تلو العصر.‏
 
وكما تصيب الأمراض والعوائق الأفراد ,وكما أنهم رهائن الصروف التاريخية والاجتماعية والاقتصادية كذلك شأن الشعوب. ومن أكبر العوائق وأدهى الأمراض العوادي الطبيعية والاجتماعية كالغارات والحروب والاستغلال والاستعمار واضطراب السياسة ,وفساد الأخلاق ,وما إلى ذلك من كوارث ومآس كان يمكن تجنبها ,وتوحيد الجهود للتغلب عليها.‏
 
إن الإنسان أخو الإنسان أيَّاً كان يشده ويدعمه ,ويكون وسيلة من وسائل إسعاده ما دام الإنسان اجتماعياً بالطبع ,أو مدنياً كما يقول علماء العرب قديماً، وكذلك الشعوب, فهي قادرة على التعاون بالتغلب على الآفات المنتشرة في الوقت الحاضر, كاجتياح القوي للضعيف ,وسرقة الأراضي من تحت أرجل قطانها ,والاستغلال وسوء التغذية والتأخر وتلوث البيئات ,وبعض الأمراض المستعصية.‏
 
وكما أن المرء لنجاحه ينبغي أن يتعرف مواهبه وملكاته ,وما يستطيع أن يحسن (اِعرف نفسك بنفسك على حد قول سقراط، من عرف نفسه فقد عرف ربه على حد قول يحيى بن معاذ الرازي). كذلك نجاح الأمة في إدراك مزاياها الجغرافية والاقتصادية والبشرية والديمغرافية والفكرية والروحية والسعي لتحقيقها والإفادة منها.‏
 
وعندنا أن البلاد العربية كثيرة المزايا جمة النعم، ولكنها لا تستطيع أن تتعرف هوياتها الثقافية الذاتية ومقومات تحقيقها إلا في إطار تعاونها القومي, وهذا التعاون مرحلة مهمة في شأن التعريب والتعليم ,ثم في إطار التعاون العالمي الذي هي مدعوة كلها مجتمعة للمشاركة فيه وفي الحضارة الراهنة مشاركة الند للند ,لا مشاركة البلد المنفرد بشكل الأجير المستغل للمجموعة العالمية.‏
 
إن كل شيء في العصر الحديث عصر الصواريخ وكشف الفضاء والتقدم العلمي والتكنولوجي الهائل يدعو إلى الحوار والتفاهم والتعاون الحقيقي بين الدول والشعوب جميعها. فكيف لا يتم ذلك وقبل كل شيء بين الشعوب والدول الأشقاء ذوات التاريخ المشترك ,والحاضر المتشابه بمشكلاته, والمستقبل المطل بملامحه وحسناته وثمراته.‏
 
إن كلامنا على المستقبل الجميل ربما بدا ضرباً من التخيل ,ولكن أي حقيقة علمية لم يتقدمها التخيل والتشوّف والتحفز نحو السعي والعمل ورأب الصدوع ولمّ الشتات؟‏
 
الخلاصة أن اللغة العربية هي الوطن الروحي للعرب جميعاً, وإن من أفضل الأعمال الاجتماعية والثقافية والسياسية رعايتها والنهوض بها بجميع الوسائل, ومن أهم هذه الوسائل تعريب التعليم الجامعي, وهو أدعى القضايا للدعم والتخطيط وبذلك الجهود المتضافرة. ولكنه إن لم يحسن تعهده والسهر عليه قد يفضي باللغة إلى التخلع واللكنة والركاكة والوهن.‏
 
إنا لنأمل في ختام الحديث أن يكون التفرق سبباً للتجمع، والتدابر مؤدياً إلى التعاون, والاستلاب حافزاً على تحقيق القيم الأصيلة، وركاكة اللسان سبيلاً إلى تصحيح البيان، والمصاعب الطارئة محكاً لإظهار القيم الإنسانية.‏
 
وصفوة القول أن دراسة التراث العربي يطلعنا فيما يطلعنا على أن العرب قديماً سرعان ما أتقنوا نقل المعارف الأجنبية، وذلك بفضل لغتهم الدقيقة المطواع ,وتمكنهم منها (ملازمة حنين بن إسحاق للفراهيدي مثلاً) مع اطلاعهم على اللغات الأجنبية ,ومع ممارستهم للمعارف المنقولة ومعاناتهم لها.‏
 
ويساورنا اليقين أن الأجيال العربية الحديثة والمقبلة ستنقل عاجلاً أو آجلاً المعارف العالمية إلى لغتهم الأصيلة ,ويؤصلون تلك المعارف تأصيلاً عربياً ,ويتجاوزونها إلى المبتكر الطريف.‏
 
وهل ينبت الخطيَّ إلا وشجيه .....وتغرس إلا في منابتها النخل‏
 
.............................
 
*الحواشي:‏
 
(1)-هو غير محمد بن موسى الخوارزمي صاحب "كتاب الجبر والمقابلة" مؤسس علم الجبر وهذا العالم هو الذي يحتفل العالم به هذا العام لمرور ما يقرب من اثني عشر قرناً على ميلاده.‏
 
(2)-ذكر النص غاستون بوتول في التوطئة لترجمة دوسلان مقدمة ابن خلدون إلى الفرنسية.‏
 
(3)-عنوانه: "تجربتي في تعريب المصطلحات العلمية" مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق ج4 (1399 هـ - 1979م).‏
 
(*)-هذا وقد استعملنا في بحثنا لفظ دور استعمالاً متكرراً لشيوعه وإيحائه وهو لفظ مولد بهذا المعنى الذي هو الشأن والمكانة.‏
 
المصدر : مجلة التراث العربي -دمشق العدد : 13 و14 - السنة الرابعة - محرم وربيع الثاني 1404 تشرين الأول "اكتوبر" و كانون الثاني "يناير1984م