يمكننا القول : إن المغول في عهودهم الأولى، لم يملكوا الثقافة التي تحثهم على كتابة تاريخهم، ولولا «اليساق»، أو الكتاب السري، الذي وضعه جنكيزخان لتنظيم شئون شعبه، والبلاد الواسعة التي ضمّنها إلى مملكته، والذي احتوى على قوانين الدولة، لما ظهر أي تدوين مهم بشكل عام للتاريخ المغولي، فهذه القبائل «البريرية» والتي أطلق عليها الأوربيون اسم تارتاروس «هي مكان في العالم السفلي عند الإغريق،تعاقب فيه الروح التي ارتكبت آثاما على الأرض»، انصرفت إلى القتل والسلب في بداية غزواتها للعالم الإسلامي، ويبدو أنها قد بدأت بالتطور الفكري مع عهد هولاكو، الذي بنى دولة في الشرق، واهتم بالعلوم، وذلك تحت تأثير الحضارات التي احتكت بها القبائل المغولية، أثناء وبعد حكم جنكيزخان.. والمغول بشكل عام كانوا عبارة عن مجموعة من القبائل التي كانت تنتقل في بيئة طبيعية صعبة، بحثاً عن الماء والكلأ شمال صحراء «كبي» أو«غوبي»، (صحراء رملية تقع في أواسط آسيا، وهي تمتد جنوب منغوليا وإقليم يكان سووسين كيانغ في الصين)، وكانوا يعملون في الصيد وتربية الماشية، وهذا ما أكده ابن الأثير أثناء ذكره لجهات المغول عندما قال: إنهم لا يحتاجون إلى ميرة ومدد يأتيهم، فإنهم معهم الأغنام، البقر، وغير ذلك من الدواب يأكلون لحومها لا غير .. فهم إذا نزلوا منزلا لا يحتاجون إلى شيء من خارج». هذه القبائل اختلف في سبب تسميتها،لكن من المعتقد أن هذه التسمية ظهرت في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، وأن هذا الاسم كان لزعيم قبيلة العرق الأصفر، وقد استطاع هذا الزعيم أن يسيطر على الحكم، فخضعت له بعض العشائر، فأطلق اسم مغول عليها. وظهر اسم مغل ومغول في المصادر الإسلامية في البداية على المناطق التي حكمها جنكيزخان، بينما ينقل المؤرخ حسن إبراهيم حسن أن أصل التتر والمغول يعود إلى أحد ملوك التتر، والذي عرف باسم النجاخان، وقد رزق بتوأمين - دعا أحدهما «تتارخان» والآخر «مغل خان» وأن الصراع قام بين أحفادهما في عهد «إيلخان» الذي أصبح ملكاً على المغل، و«سنج خان» ملك التتار. لكن الأقرب إلى الظن هو أن اسم المغول، الذي لا يزال إلى اليوم لا يعرف معناه بالتحديد، مشتق من كلمة Mong الصينية، أي باسل وشجاع، إلا أنهم عرفوا باسم التتار، وهؤلاء التتار كان ظهورهم التاريخي مع بداية القرن السادس الميلادي، بينما ظهر المغول مع بداية القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، وكان التتار قد سيطروا آنذاك على مساحات واسعة، وبحيث إن سلطتهم أصبحت تهدد حتى شعوب الصين الشمالية، في حين كان المغول عبارة عن أقوام يدينون بعبادة الشمس، ويعيشون في ضيق شديد، بعيداً عن أي تحضر إنساني، إلى أن جاء جنكيزخان فاهتم بأمرهم،وحسّن من أحوالهم، ثم عمل على توحيدهم تحت إمرته. موطنهم: كانت القبائل التي ينسب إليها التتار والمغول توجد شمال صحراء «غوبي» في منغوليا، حول بحيرة بايكال (تقع في أقصى شمال منغوليا)، وامتد وجودهم حتى البحر الأسود ، أما قبيلتا التتار والمغول، فقد وجدتا في الشمال الغربي من الصين ، ونقل عن ابن كثير عن مواطن المغول قوله : «إنهم كانوا يسكنون جبال طمغاج في أرض الصين». أما الأويراتية، هي فئة من فئات المغول، فقد كانت غربي بحيرة بايكال،التي قامت إلى جنوبها مملكة تركية هي الكرايت، وهي عبارة عن قبائل دانت بالمسيحية النسطورية «ينسبون إلى نسطور (380 - 451م) وهو بطريرك القسطنطينية الذي قال بأقنومين في السيد المسيح»، وتسمى ملكها باسم «وانغ» أي ملك باللغة الصينية. وكانت لهم السيطرة والنفوذ على القبائل المغولية، حتى إن ملكهم طغرل تغلب على عمه وسيطر على العرش بمساعدة زعيم مغولي يدعى يسوكاي، والد جنكيزخان، وكان يحظى برضا أسرة كين في شمال الصين لوقوفه سداً أمام القبائل التترية التي كانت تشكل خطراً على دولتهم. كما وجدت قبائل في شمال جبال (الطاي)، هي النيمان، التي اعتنقت الديانة المسيحية النسطورية ، وقد استفاد هؤلاء من وجود الأيغور الترك إلى الجنوب منهم، فتأثروا بحضارتهم المتميزة، والمتطورة عن بقية القبائل، وبالقرب منهم وجدت قبائل كرايت التي أوردناها سالفاً ، وإلى الشمال من الكرايت وجد المركيت، وكانوا ينزلون على حوض نهر سلنجا الأوسط والأدنى، وتنسب إلى هذه القبيلة والدة جنكيزخان وزوجته. أما قبيلة البرجقين التي ولد فيها جنكيزخان فقد اتخذت من منابع أنهار تولاوأونون، وكيرولين، من جبال منتاي، حيث الغابات، موطناً لها. وتباين الصينيون التتار وقبائل المغول بحسب تطورهم في ثلاث مجموعات: التتار البيض، وسكناهم بالقرب من سور الصين، والتتار السود ومنازلهم شمال صحراء غوبي، والتتار المتوحشون تجمعوا فيما وراء بحيرة بايكال في منطقة الغابات، واعتمدوا على الصيد وإليهم ينسب جنكيزخان. البيئة وأسلوب الحياة : كان المغول في بداية حياتهم يعتمدون على الرعي والصيد، لواقع سكنهم في مناطق برية واسعة، حيث السهوب والغابات ، هذه الحياة البسيطة بنمطها خلقت شعباً همجياً وجهته الصراع مع قوى الطبيعة ضمن بيئة «السلطة فيها للأقوى». فالمغولي إذاً كان يولد في بيئة صعبة تدفعه بأن يكون على أهبة الاستعداد في أي لحظة لخوض الحرب، أو للقيام بغزوة ما أو للصيد، لتأمين القوت اليومي. وقد ورد في التاريخ السري للمغول المعروف باسم (اليوان السري) الموضوع من قبل جنكيزخان «بأن رائحة كريهة تنبعث من الملابس السوداوية اللون التي يرتديها المغول» ويبدو أن سبب ذلك يعود لكونهم كانوا يرتدون الجلود والفراء، وأما «الأغنياء بينهم، فيبطنون معاطفهم الشتوية بجلود السمامير والثعالب والقواقيم والسناجب». وهذه الحياة أيضاً جعلتهم «سريعي الحركة، تصل إليهم أخبار الأمم كافة ، ولا تصل أخبارهم إلى تلك الأمم، وقلما ينجح جاسوس من التمكن منهم، لأن الغريب لا يشبههم، وإذا أرادوا وجهة، كتموا أمرهم، ونهضوا دفعة... نساؤهم يقاتلن.. غالب سلاحهم النشاب، يطعنون بالسيوف أكثر مما يضربون بها». ويؤكد ذلك ابن الأثير، بقوله : «إن عناصرهم بارعة في استعمال الخناجر والسهام والسيوف، حتى إنهم كان باستطاعتهم إطلاقها من فوق الجياد وهي مسرعة كالسهم، كما تعودوا على شظف العيش، فكانوا يأكلون كل شيء، كلاب، فئران، وقطط، خنازير وغيرها» .. ونظراً للحياة القبلية التي عاشها المغول فقد كان لكل منهم ملك يدعى (خان أو قان)، وبعضهم اعتمد الزعماء (باكي أو بكي) وبسبب الحروب بينهم فإن بعض القبائل كانت تلجأ إلى حماية نفسها، عبر التقارب من قبيلة أكثر قوة، فتشكل بالتالي قوة، تمنع أي قبيلة أخرى من الاعتداء عليها. ديانتهم : كانت معظم قبائل المغول تؤمن بالمفاهيم القديمة حول تكوين العالم، وقد ارتكزت مبادئ ديانتهم على الشامانية، وهي ديانة بدائية، كانت تعتقد بأن العالم مؤلف من طبقات متعاقبة، وكانوا يعتبرون أن السماء هي مملكة النور الذي هو الإله الصالح،ومقر الأرواح المؤمنة، وهذه السماء تقسم على 17 طبقة عليا، أما العالم السفلي فهو على الأرض التي نعيش عليها، وهي مكان الظلمات، حيث الأشرار ومسكن الشياطين وعملها. تهتم بالأطفال، وأتوغان آلهة الأرض، وأوتوكان آلهة الجبل، كما تؤمن تلك القبائل بعادات غريبة، كالتأمل في رأس خروف لمعرفة الحظ، وببعض المعتقدات الخرافية الأخرى. كما كان للشامانية كهنة أطلق عليهم اسم «الشامانيين» كانوا يحملون طبلاً شد عليه جلد ثورأسود، وكان نفوذهم واسعاً، حتى إن جنكيزخان عمد إلى إقصائهم، أو قتل البعض منهم للتخلص من نفوذهم، إلا أن دورهم اقتصر فيما بعد على التنبؤ قبل أي معركة. وذكر ابن الأثير ديانة المغول بقوله: «إنهم يسجدون للشمس عند طلوعها، ولا يحرّمون شيئاً، فإنهم يأكلون جميع الدواب، حتى الكلاب، والخنازير، وغيرها، ولا يعرفون نكاحاً، بلالمرأة يأتيها غير واحد من الرجال، فإذا جاء الولد لا يُعرف أباه». وقد عرف المغول ديانات أخرى وتأثروا بها، وخصوصا السماوية منها، فقد تحول بعضهم نحو الديانة اليهودية، والمسيحية، وحتى الإسلام، وقد ساهم تسامحهم الديني في الحفاظ على أثر هذه الديانات السماوية ووجودها، وقد كانت «للياسا» التي وضعها جنكيزخان، هي الغطاء الشرعي لكل عمل يقومون به مهما كان، على ألا يخرج من قانون الياسة. وينقل القلقشندي عن الصاحب علاء الدين الجويني قوله: «إن الظاهر من عمومم مذهبهم الإدانة بوحدانية الله تعالى، وأنه خلق السموات والأرض، وأنه يحيي ويميت، ويغني ويفقر، يعطي ويمنع ، وأنه على كل شيء قدير، وأن منهم من دان باليهودية،والمسيحية، ومنهم ترك كل شيء ، وبعضهم تقرّب عبر الأصنام، كما أن بعضهم اعتنق النسطورية، أو البوذية، أو الإسلام». ومن المعروف أن دخول الإسلام إلى بلاد الترك كان في زمن الخلفاءالراشدين والأمويين، إلا أن أهم حدث كان مع تسلم قتيبة بن مسلم ولاية خراسان (705 : 715هـ/ 1305 - 1315م)، مع الفتوحات التي حققها هذا القائد العربي شرقاً. واستمر هذا الامتداد الإسلامي مع امتداد نفوذ سلطة السامانيين نحوآسيا الوسطى في القرنين التاسع والعاشر الميلادي (820 - 1000م). كما عرفت الطاوية في بلاط جنكيزخان، وكان أتباع هذه الديانة كثراً، ونفوذ النسطوريين كان واضحاً في بلاط جنيكزخان من خلال المستشار النسطوري للخان تشنكاي الكراييستي، كما كان للبطريرك تشابخشون أعظم بطاركة الطاوية دوره الفعال، حيث تأثر الخان ببعض مبادئ هذه الديانة، كما عرف بلاط الخان جعفر خوجة، وحسن دانشمند حاجب المسلمين. أما حرية العبادة فتبدو من خلال تخطيط العاصمة قراقورم، (معناه الرمل الأسود بالتركية وقراقورم كانت قاعدة التتار)، والتي ضمت بالإضافة إلى مركز الحاكم وأقاربه، مسجداً، ومعبداً بوذياً، ويعتقد بوجود كنيسة أيضاً، وقد استمرت هذه المدينة قائمة حتى عام 790هـ/1388م، عندما دمرها الصينيون. قانون إلياسا: يعتبر قانون «إلياسا» أو «اليسق»، النظام الأساسي الذي كانت تسير عليه العناصر المغولية الخاضعة لحكم وسلطة جنكيزخان ، هذا القانون بالغ الصرامة والشدة، نظم الحياة وفرض وجود هذه القوة البدوية الجديدة على بقية الحضارات المتمدنة. والجدير بالذكر أنه كان للمغول قبل جنكيزخان بعض العادات والتقاليد المتبعة منذ زمن بعيد، هذه العادات والتقاليد دفعت جنكيزخان إلى تعديلها، وحذف بعضها، وإضافة البعض الآخر حتى أصبحت قانوناً رسمياً دوِّن وحفظ عند أمراء المغول، ويبدو أن جنكيزخان قد تأثر أثناء وضعه لهذا القانون بالديانات المختلفة، والتي كانت معروفة عند المغول حينها، وخصوصاً النسطورية والطاوية والإسلام، وهذا ما يظهر من خلال نص القانون نفسه، حيث يبدو أثر الطاوية، تلك الديانة الصينية، المتسامحة، الداعية إلى المحبة،واحترام الصغير للكبير، ومساعدة الغني للفقير. أما الأثر الإسلامي فظهر في إسقاط المؤن والكلف عن العلويين، وعن الفقهاء، والفقراء، والزهّاد، والمؤذنين، والأطباء، وأرباب العلوم. أما بقية الشرائع فقد جمعت من مختلف العقائد المعروفة عندهم، وقد أصدره سنة 603هـ/ 1206م، بعيد تتويجه أيلخانا (معناها الخان التابع، واتخذه هولاكوكي يميز مركزه عن مركز أخيه قوبيلاي خان)، وحرص فيه على أن يلغي القبلية، ويوحد المغول بعيداً عن أي سلطة أو زعيم سلطة وزعامة الخان نفسه. والصرامة التي تميزت بها أحكام الياسا كانت هي الكفيلة بإخضاع تلك القبائل الهمجية، وترويضها وإبعاد الفوضى، وبهذا الأسلوب استطاع توحيد المغول، ونظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والمحكومين ببعضهم البعض، كما نظم علاقات الأفراد. وياسا، هي كلمة مغولية الأصل، تعني القاعدة أو القانون أو الحاكم، وقد وردت على أكثر من وجه في العربية والفارسية، فنجدها ياسا أوياسه، وقد تظهر على الشكل التالي: يساق أو ياساق أو يسق، وهو الحكم الذي يصدر من الأمير أو الحاكم، وقد دون بالاويغوري، وأطلق على هذا القانون اسم: كتاب الياسا الكبير، الذي كان مرجعاً يتم العودة إليه عند جلوس الخان الجديد على عرشه، أو عند انعقاد المجلس المغولي الأعلى. وأهم ما ورد في هذا القانون الذي أورده القلقشندي: 1 - من وجد عبداً هارباً أو أسيراً قد هرب، ولم يرده إلى صاحبه قتل. 2 - من أطعم أسير قوم أو كساه بغير إذنهم قتل. 3 - من وقع حمله أو قوسه أو شيء من متاعه وهو يكر أو يفر في حالة قتال وكان وراءه شخص فإنه ينزل ويناول صاحبه ما سقط منه، فإن لم ينزل ولم يناوله قتل. 4 - لا يأكل أحد من أحد حتى يأكل منه المناول أولا، ولو كان المناول أميراً، ومن يناوله أسيرا. 5 - لا يختص أحد بأكل شيء وغيره يراه، بل يشركه معه في أكله. 6 - لا يتميز أحد منهم بالشبع على أصحابه، وإن مرّ أحدهم بقوم وهم يأكلون، فله أن ينزل ويأكل معهم وليس لأحد أن يمنعه. 7 - منعهم من غسل ثيابهم، بل يلبسونها حتى تبلى. 8 - منع أن يقال لشيء أنه نجس، فإن جميع الأشياء طاهرة. 9 - ألزمهم ألا يتعصبوا لشيء من المذاهب. 10 - منع من تفخيم الألفاظ وروائع الألقاب، فلا يخاطب الشخص مهما علت مكانته إلا باسمه فقط. 11 - ألزم القائم بعده بعرض العسكر وأسلحتها إذا أراد الخروج إلى القتال، وأن يعرض كل ساقربة (قائد) عسكره، وينظر حتى الإبرة والخيط فمن وجده قد قصر في شيء مما يحتاج إليه عند عرضه إياه، عاقبه. 12 - إلزام نساء العسكر بالقيام بما على الرجال في مدة غيبتهم في القتال. 13 - تنظيم حلقات الصيد، لما لها من أهمية في التدريب على أساليب الحرب، كما اعتبر أن الزاني يقتل، ومن يعين أحد خصمين على الآخر يقتل، ومن بال في الماء يقتل، ومن أعطى بضاعة فخسر، ثم أعطى ثانية فخسر، ثم أعطى ثالثة فخسر، يقتل ، وذكر أيضاً أن من ذَبَحَ ذَبْحَ المسلمين يقتل. فقد كان المغول يعمدون إلى لف قوائم الحيوان للذبح وشق جوفه، حيث يدخل أحدهم يده إلى قلبه، فيمرسه في يده حتى يموت. المصدر : مجلة العربي الكويتية ـ العدد 617