كتب بابك الخرمي إلى حليفه إمبراطور الروم البيزنطيين تيوفيل بن ميخائيل بن جورجس عندما ضيقت عليه جيوش المعتصم الحصار قائلاً : ( إن ملك العرب – المعتصم – قد جهز إلي جمهور جيشه ولم يبق في أطراف بلاده من يحفظهاP فإن كنت تريد الغنيمة فانهض سريعاً إلى ما حولك من بلاده فخذها ، فإنك لا تجد أحداً يمانعك عنها .. فإن أردت الخروج إليه فاعلم أنه ليس في وجهك أحد يمنعك ) . كل ذلك طمعاً من بابك في أن يتحرك الروم للتخفيف عنه وكشف بعض ما هو فيه ، فخرج تيوفيل في سنة 223هـ بعد سنتين من رسالة بابك ، وانقض تيوفيل على مدينة زبطرة وأعمل بها السيف ، وقتل الصغير والكبير بلا إنسانية ولا رحمة ، وسبى من النساء أكثر من ألف امرأة بعد ذبح أطفالهن ، ومثل بمن صار في يده من المسلمين ، وسمل أعينهم ، وقطع آذانهم وآنافهم ، ثم أغار على ملطية فأصابها ما أصاب زبطرة ، فضج المسلمون في مناطق الثغور كلها ، واستغاثوا في المساجد والطرقات ، وبلغ الخبر المعتصم فاستعظمه ، وبلغه أن هاشمية صاحت وهي في أيدي الروم : وامعتصماه ، فأجاب وهو على سريره : لبيك لبيك ، ونادى بالنفير العام ، ونهض من ساعته . وأورد أحد المؤرخين : أن صاحب عمورية من ملوك الروم كانت عنده شريفة من ولد فاطمة رضي الله عنها ، مأسورة في خلافة المعتصم بن الرشيد فعذبها فصاحت الشريفة فعذبها ، فصاحت الشريفة : وامعتصماه ، فقال لها الملك : لا يأتي لخلاصك إلا على أبلق – فرس فيه سواد وبياض – فبلغ ذلك المعتصم فنادى في عسكره بركوب الخيل البلق ، وخرج وفي مقدمة عسكره أربعة آلاف أبلق ، وأتى عمورية وفتحها ، وخلص الشريفة وقال : ( اشهدي لي عند جدك أني أتيت لخلاصك ، وفي مقدمة عسكري أربعة آلاف أبلق ) . ولما انتهى الخبر بما جرى في الثغور إلى المعتصم فصاح في قصره : النفير النفير ، وأحضر القاضي عبد الرحمن بن إسحاق وشعيب بن سهل ومعهما ثلاث مئة وثمانية وعشرون رجلاً من أهل العدالة ، فأشهدهم على ما وقف من ضياع ، فجعل ثلثاً لولده ، وثلثاً لله ، وثلثاً لمواليه ، ثم أرسل نجدة لأهل الثغور يؤمنون الناس حتى عادوا إلى قراهم . وعندما سار المعتصم باتجاه الثغور تساءل : أي بلاد الروم أمنع وأحصن ؟ فقيل : عمورية ، لم يعرض لها أحد من المسلمين منذ كان الإسلام ، وهي عين النصرانية وبنكها ، وهي أشرف عندهم من القسطنطينية ، فسار باتجاهها ، بجهاز عظيم من السلاح والعدد وآلات الحصار والنفط ، وعندما وصل الجيش الإسلامي بلاد الروم أقام على نهر اللامس – الحد الفاصل بين الخلافة العباسية والدولة البيزنطية ، على ضفتيه كانت تتم مبادلة الأسرى – ومن ضفاف نهر اللامس سير المعتصم الأفشين شمالاً وهدفه أنقرة ، وسير خلفه أشناس ، ثم سار خلفهما ، فكان معهما قبالة أنقرة في 25 شعبان 223هـ ، ففتحها بسهولة ، اتجه بعدها إلى عمورية . واجتمعت كل العساكر بقيادة المعتصم عند عمورية ، فركب ودار حولها دورة كاملة ، وقسمها بين القواد ، جاعلاً لكل واحد منهم أبراجاً من سورها ، وذلك على قدر كثرة أصحابه وقلتهم ، وصار لكل قائد منهم ما بين البرجين إلى عشرين برجاً . أما أهل عمورية فقد تحصنوا داخل أسوار مدينتهم ، متخذين ما استطاعوا من الحيطة والاحتراز . وعلم المعتصم من عربي متنصر ، تزوج في عمورية وأقام بها ، أن موضعاً من المدينة جاءه سيل شديد ، فانهار السور في ذلك الموضع فكتب ملك الروم إلى ياطس عامله على عمورية أن يعيد ذلك الموضع ويعيد تشييده ، تحسباً لنتائج فعلته في زبطرة والثغور الإسلامية ، فتوانى باطس في بنائه وترميمه ، وعندما علم أن تيوفيل خرج من القسطنطينية إلى بعض المواقع متفقداً ، تخوف ياطس أن يمر تيوفيل على عمورية فيرى جانباً من سورها لم يرمم ، فوجه باطس الصناع والبنائين فبنوا وجه السور بالحجارة حجراً حجراً ، وتركوا وراءه من جانب المدينة حشواً ثم عقدوا فوقه الشرف ، فبدأ كما كان . ولما علم المعتصم بذلك أمر بضرب خيمته تجاه هذا الموضع ، ونصب المجانيق عليه ، وبدأت المجانيق الضخمة مع آلات الحصار الأخرى تعمل عملها ، فانفرج السور من ذلك الموضع ، فلما رأى أهل عمورية انفراج السور دعموه بالأخشاب الضخمة كل واحدة إلى جانب الأخرى لا فرجة بينهما ، فكان الحجر إذا وقع على الخشب تكسر فيهرع المحاضرون لتدعيم السور بأخشاب ضخمة جديدة ليحموا السور من الانهيار . وعندما توالت قذائف المجانيق على هذا الموضع الواهن انصدع السور فكتب ياطس إلى تيوفيل كتاباً يعلمه فيه بأمر السور وحرج الموقف وقوة الحصار ، ووجه الكتاب مع رجل يتقن العربية ومعه غلام رومي ، فانكشف أمر الرجلين للمعتصم ، واستمر جند المعتصم يبيتون بالتناوب على ظهور الدواب في السلاح ودوابهم بسروجها حتى انهدم السور ما بين برجين ، من الموضع الذي وصف للمعتصم أنه لم يحكم عمله . ودوى في فضاء عمورية صوت اهتزت له جنباتها ، إثر تهدم جانب السور ، فطاف رجال المسلمين يبشرونهم أن الصوت الذي سمع ، صوت السور فطيبوا نفساً بالنصر . لقد فعلت المجانيق فعلتها في السور وتنبه المعتصم إلى سعة الخندق المحيط بعمورية وطول سورها ، فأمر ببناء مجانيق ضخمة كبيرة يعمل على كل منها أربعة رجال ، وللوصول إلى السور كان لا بد من ردم أجزاء من الخندق ، فدفع لكل جندي شاة لينتفع من لحمها وليحشو جلدها تراباً ، ثم جمـع (سلاح المهندسين ) الجلود المملوءة تراباً وطرحها في الخندق . كما أمر المعتصم مفارز الفعلة بأن تردم جوانب من الخندق المحيط بسور عمورية مستفيدة من جلود الغنم المملوءة تراباً ، كي يمكن الدبابات من الوصول إلى السور، وكلف مفارز من الرجالة بحماية العاملين وبردم الخندق ، وحماية العاملين في الدبابات أثناء قيامها بالواجبات المترتبة على كل منها . وطرح العاملون من الفعلة الجلود فلم تقع مستوية منضدة بسبب تكثيف الروم رميهم الحجارة على العاملين بردم الخندق فجاءت الجلود في الخندق غير مستوية فطرحوا فوقها التراب حتى أصبحت مستوية . وفي صباح يوم جديد من الحصار بدأ القتال على الثلمة التي فتحت في السور ولكن الموضع كان ضيقاً لم يمكنهم من اختراق الثلمة فأمر المعتصم بالمنجنيقات الكبار التي كانت متفرقة حول السور فجمع بعضها إلى بعض ، وجعلها تجاه الثلمة ، وأمر أن يرمى ذلك الموضع لتتسع الثلمة ، ويسهل العبور ، وبقي الرمي ثلاثة أيام فاتسع لهم الموضع المنثلم ، واستخدمت أكباش الدبابات أيضاً لتوسيع الثلمة . وركب المعتصم حتى جاء فوقف حذاء البرج الذي يقاتل فيه ياطس فصاح بعض الجند العرب : يا ياطس ، هذا أمير المؤمنين ، فصاح الروم من فوق البرج : ليس ياطس هاهنا ، فغضب المعتصم لكذبهم وتوعد فصاحوا : هذا ياطس ، هذا ياطس ، فصعد جندي على أحد السلالم التي هيئت أثناء الحصار ، وقال لياطس : هذا أمير المؤمنين فانزل على حكمه ، فخرج ياطس من البرج متقلداً سيفاً حتى وقف على البرج والمعتصم ينظر إليه فخلع سيفه من عنقه ، ودفعه إلى الجندي العربي الذي صعد إليه ، ثم نزل ياطس ليقف بين يدي المعتصم ، معلناً سقوط عمورية بيد المعتصم وجنده . لقد سقطت عمورية بعد أهم معركة عربية استخدمت فيها أدوات الحصار الضخمة الكبيرة كالدبابات والمجانيق والسلالم والأبراج على اختلاف أشكالها وأنواعها ، وذلك بعد حصار دام خمسة وخمسين يوماً ، من سادس رمضان إلى أواخر شوال سنة 223هـ . ثم أمر المعتصم بطرح النار في عمورية من سائر نواحيها ، فأحرقت وهدمت ، وجاء ببابها الرئيسي إلى سامراء ، وعاد بعدها المعتصم بغنائم كبيرة جـداً إلى ( طرسوس ) ، ومنها إلى (سامراء ) منتصراً ظافراً ، راداً على تيوفيل فعلته كاسراً مخالبه التي تطاولت على( زبطرة ) ، ومستجيباً لصيحة الهاشمية الحـرة ( وامعتصماه ) ، جاءها على خيل بلق ، فخلصها وقتل الرومي الذي لطمها ، ثم أمر ببناء زبطرة وشحنها بالرجال والعتاد والميرة ، فرامها الروم بعد ذلك فلم يقدروا عليها .