نظرات في العصر الأموي (1 )

الناقل : SunSet | الكاتب الأصلى : د / أحمد عبد الحميد عبد الحق * | المصدر : www.altareekh.com

 
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين ، وبعد ..
 
فإن العصر الأموي يطلق على الفترة التي حكم فيها بنو أمية العالم الإسلامي ، والتي بدأت بتنازل الحسن لمعاوية ـ رضي الله عنهما ـ عن الخلافة ، وانتهت بمقتل مروان بن محمد أمام جند العباسيين بمصر (بالقرب من كنيسة بقرية بوصير 13 من ذي الحجة 132هـ = 23 من يوليو 750م .
 
وكانت حدود الدولة الإسلامية حين بدأت تلك الدولة تمتد شرقا إلى مرو ، وشمالا إلى الثغور السورية، ومصر وتونس في الغرب، ثم اتسعت إلىجورجيا من ناحية الشمال ، ومن الشرق حتى الأراضي الصينية ، وجنوباً غطت شبه الجزيرة العربية ، وتوسعتغرباً حتى أسبانيا والبرتغال .
 
وقدر الجغرافيون مساحتها بـ7460000سبعة ملايين وأربع مائة وستين ألف ميل مربع ، وهي أكبر دولة إسلامية عرفهاالتاريخ على الإطلاق..
 
وبداية نقول : إن المنافقين المعروفين بالسبئية دبروا للقضاء على الخلافة الإسلامية الراشدة بمقتل عثمان ـ رضي الله عنه ـ وأن مقتله قد أدى إلى حدوث فتنة بين المسلمين انتهت بموقعة الجمل ثم صفين ، وأن الصحابة تداركوا أنفسهم يوم صفين بعد أن راح عشرات آلاف من الأرواح الطاهرة منهم ، وأوكل علي ومعاوية ـ رضي الله عنهما ـ إلى فريق التحكيم مهمة التباحث في الخروج من تلك الأزمة ، ولكن الأشقياء الذين سموا فيما بعد باسم الخوارج لم يرق لهم أن يحل الصفاء على المسلمين ، فخرجوا على عليّ ـ رضي الله عنه ـ وخاض معهم معارك طاحنة انتهت بإضعاف قوته ، وانتهى صراعه معهم بمقتله على أيدي ابن ملجم الخبيث ـ لعنه الله ـ ..
 
فاجتمع أهل العراق بعد استشهاده على ابنه الحسن ـ رضي الله عنهما ـ لكنهم سرعان ما تآمروا عليه كما تآمروا على أبيه من قبل ، فاضطر إلى أن يراسل معاوية ، ويعرض عليه أن يتنازل له عن الخلافة ؛ حتى يجتمع شمل المسلمين ، وتحقن دماء جنودهم ..
 
وبذلك التنازل عادت وحدة المسلمين التي كان يحرص المنافقون على القضاء عليها ، وتم ذلك في ربيع الأول سنة 41 هـ ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تنبأ بذلك فقال عن الحسن رضي الله عنه : " أيها الناس إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " رواه البخاري.
 
وتفاؤلا بهذا الفعل الحميد سمي العام (41 هـ ) بعام الجماعة ، وبدأ بذلك العصر الأموي الذي نحن بصدد الحديث عنه ..  
 
هذا العصر الذي كان لا يختلف كثيرا عن العصر السابق ( الراشدي ) رغم أن الحكم الإسلامي قد تحول فيه من حكم قائم على الانتخاب والشورى إلى حكم قائم على النظام الوراثي ؛ لأن الخلفاء الأمويين التزموا فيه بواجبهم تجاه الإسلام والمسلمين وسائر شعوبهم ، وظلت حركة التوسع الإسلامي قائمة ، وتصدوا بكل حزم لكل من يسعى لنشر المعتقدات الضالة بين المسلمين .
 
فكان معاوية ـ رضي الله عنه ـ يحرص قدر إمكانه على السير على نهج الخلفاء السابقين ، وقد دخل عليه يوما أبو مريم الأزدي فقال له : حديث سمعته أخبرك به، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من ولاه الله شيئا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم، احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره " فلما سمعه منه جعل رجلا على حوائج الناس .(1). 
 
وكان يأبى أن يظهر بين الناس بأنه مميز عنهم ، فقد خرج عليهم ذات يوم فقاموا تعظيما له ، فقال لهم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار " (2).
 
وكان المسلمون معه في راحة وعدل، وصفح وعفو كما قال ابن كثير (3)  وكان يقول : يا بني أمية فارقوا قريشا بالحلم، فوالله لقد كنت ألقى الرجل في الجاهلية فيوسعني شتما وأوسعه حلما، فأرجع وهو لي صديق، إن استنجدته أنجدني، وأثور به فيثور معي، وما وضع الحلم عن شريف شرفه، ولا زاده إلا كرما وقال: آفة الحلم الذل ، وقال: لا يبلغ الرجل مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ الرجل ذلك إلا بقوة الحلم(4).
 
وكان ينهى أمراءه عن تتبع الناس والتصنت عليهم وأخذهم بالشبهات ويذكرهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم ". (5). واستعمل زياداً على البصرة وخراسان وسجستان، ثم جمع له الهند والبحرين وعمان، وأوصاه أن يشتد على العصاة ، فقدم البصرة في آخر شهر ربيع الآخر - أو غرة جمادى الأولى - سنة خمس، والفسق بالبصرة ظاهر فاشٍ، فخطب فيهم فقال: الحمد لله على إفضاله وإحسانه، ونسأله المزيد من نعمه، اللهم كما رزقتنا نعماً، فألهمنا شكراً على نعمتك علينا.
 
أما بعد، فإن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والفجر الموقد لأهله النار، الباقي عليهم سعيرها، ما يأتي سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم، من الأمور العظام، ينبت فيها الصغير، ولا يتحاشى منها الكبير، كأن لم تسمعوا بآي الله، ولم تقرءوا كتاب الله، ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته، في الزمن السرمد الذي لا يزول.
 
أتكونون كمن طرفت عينه الدنيا، وسدت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية، ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا به؛ من ترككم هذه المواخير المنصوبة، والضعيفة المسلوبة، في النهر المبصر، والعدد غير قليل! ألم تكن منكم نهاةٌ تمنع الغواة عن دلج الليل وغارة النهار! قربتم القرابة، وباعدتم الدين، تعتذرون بغير العذر، وتغطون على المختلس، كل امرئ منكم يذب عن سفيهه، صنيع من لا يخاف عقاباً، ولا يرجو معاداً.
 
 ما أنتم بالحلماء، ولقد اتبعتم السفهاء، ولم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم، حتى انتهكوا حرم الإسلام، ثم أطرقوا وراءكم كنوساً في مكانس الريب ، حرام عليّ الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدماً وإحراقاً.
 
إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله، لينٌ في غير ضعف، وشدة في غير جبرية وعنف، وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالولي، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: انج سعد فقد هلك سعيد، أو تستقيم لي قناتكم.
 
إن كذبة المنبر تبقى مشهورة، فإذا تعلقتم عليّ بكذبة فقد حلت لكم معصيتي، وإذا سمعتموها مني فاغتمزوها في ، واعلموا أن عندي أمثالها من بيت منكم ، فأنا ضامنٌ لما ذهب له، إياي ودلج الليل، فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه، وقد أجلتكم في ذلك بقدر ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إلي ، وإياي ودعوى الجاهلية، فإني لا أجد أحداً ادعى بها إلا قطعت لسانه، وقد أحدثتم أحداثاً لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غرق قوماً غرقته، ومن حرق على قوم حرقناه، ومن نقب بيتاً نقبت عن قلبه، ومن نبش قبراً دفنته فيه حياً؛ فكفوا عني أيديكم وألسنتكم أكفف يدي وأذاي، لا يظهر من أحد منكم خلاف ما عليه عامتكم إلا ضربت عنقه.
 
وقد كانت بيني وبين أقوام إحن، فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي، فمن كان منكم محسناً فليزدد إحساناً، ومن كان مسيئاً فلينزع عن إساءته، إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعاً، ولم أهتك له ستراً، حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل لم أناظره؛ فاستأنفوا أموركم، وأعينوا على أنفسكم، فرب مبتئسٍ بقدومنا سيسر، ومسرورٍ بقدومنا سيبتئس.
 
أيها الناس، إنا أصبحنا لكم ساسةً، وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم ، واعلموا أني مهما قصرت عنه فإني لا أقصر عن ثلاث: لست محتجباً عن طالب حاجة منكم ولو أتاني طارقاً بليل؛ ولا حابساً رزقاً ولا عطاءً عن صاحبه ، ولا مجمراً لكم بعثاً.
 
فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم، فإنهم ساستكم المؤدبون لكم، وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى تصلحوا يصلحوا ، ولا تشربوا قلوبكم بغضهم، فيشتد لذلك غيظكم، ويطول له حزنكم، ولا تدركوا حاجتكم، مع إنه لو استجيب لكم كان شراً لكم. (6).
 
فخافه الناس في سلطانه خوفاً شديداً، وأمن بعضهم بعضاً، حتى كان الشيء يسقط من الرجل أو المرأة فلا يعرض له أحد حتى يأتيه صاحبه فيأخذه، وتبيت المرأة فلا تغلق عليها بابها، وساس الناس سياسةً لم ير مثلها، وهابه الناس هيبةً لم يهابوها أحداً قبله، وأدر العطاء، وبنى مدينة الرزق. (7).
 
واستعمل معاوية أيضا عبيد الله بن زياد على خراسان وقال له: إني قد عهدت إليك مثل عهدي إلى عمالي، ثم أوصيك وصية القرابة لخاصتك عندي، لا تبيعن كثيراً بقليل، وخذ لنفسك من نفسك، واكتف فيما بينك وبين عدوك بالوفاء تخف عليك المئونة وعلينا منك، وافتح بابك للناس تكن في العلم منهم أنت وهم سواء، وإذا عزمت على أمر فأخرجه إلى الناس، ولا يكن لأحد فيه مطمع، ولا يرجعن عليك وأنت تستطيع، وإذا لقيت عدوك فغلبوك على ظهر الأرض فلا يغلبوك على بطنها، وإن احتاج أصحابك إلى أن تؤاسيهم بنفسك فآسهم.
 
اتق الله ولا تؤثرن على تقوى الله شيئاً، فإن في تقواه عوضاً، وق عرضك من أن تدنسه، وإذا أعطيت عهداً فف به، ولا تبيعن كثيراً بقليل، ولا تخرجن منك أمراً حتى تبرمه، فإذا خرج فلا يردن عليك، وإذا لقيت عدوك فكن أكثر من معك، وقاسمهم على كتاب الله، ولا تطمعن أحداً في غير حقه، ولا تؤسن أحداً من حق له، ثم ودعه (8) .
 
 وولى على الحجاز سعيد بن العاص فأحسن فيهم السيرة ، وكان بهم كريما ؛ حتى روي أنه استسقى يوما في بعض طرق المدينة، فأخرج له رجل من دار ماء فشرب، ثم بعد حين رأى ذلك يعرض داره للبيع فسأل عنه لم يبيع داره ؟ فقالوا: عليه دين أربعة آلاف دينار، فبعث إلى غريمه فقال: هي لك علي، وأرسل إلى صاحب الدار فقال: استمتع بدارك (9) .
 
وكان رجل من القراء الذين يجالسونه قد افتقر وأصابته فاقة شديدة، فقالت له امرأته: إن أميرنا هذا يوصف بكرم، فلو ذكرت له حالك فلعله يسمح لك بشيء ؟ فقال: ويحك ! لا تحلقي وجهي، فألحت عليه في ذلك، فجاء فجلس إليه، فلما انصرف الناس عنه مكث الرجل جالسا في مكانه، فقال له سعيد: أظن جلوسك لحاجة ؟ فسكت الرجل، فقال سعيد لغلمانه: انصرفوا، ثم قال له سعيد: لم يبق غيرك وغيرك، فسكت، فأطفأ المصباح ثم قال له: رحمك الله لست ترى وجهي فاذكر حاجتك، فقال: أصلح الله الأمير أصابتنا فاقة وحاجة فأحببت ذكرها لك فاستحييت، فقال له: إذا أصبحت فالق وكيلي فلانا، فلما أصبح الرجل لقي الوكيل فقال له الوكيل: إن الأمير قد أمر لك بشيء فأت بمن يحمله معك، فقال: ما عندي من يحمله، ثم انصرف الرجل إلى امرأته فلامها وقال: حملتيني على بذل وجهي للأمير، فقد أمر لي بشيء يحتاج إلى من يحمله، وما أراه أمر لي إلا بدقيق أو طعام، ولو كان مالا لما احتاج إلى من يحمله، ولأعطانيه ،فقالت المرأة: فمهما أعطاك فإنه يقوتنا فخذه، فرجع الرجل إلى الوكيل فقال له الوكيل: إني أخبرت الأمير أنه ليس لك أحد يحمله، وقد أرسل بهؤلاء الثلاثة السودان يحملونه معك، فذهب الرجل، فلما وصل إلى منزله إذا على رأس كل واحد منهم عشرة آلاف دراهم ، فقال للغلمان: ضعوا ما معكم وانصرفوا، فقالوا: إن الأمير قد أطلقنا لك، فإنه ما بعث مع خادم هدية إلى أحد إلا كان الخادم الذي يحملها من جملتها. (10) .
 
وكان سعيد هذا يقول لابنه : يا بني! أخزى الله المعروف إذا لم يكن ابتداءً عن غير مسألة، فأما إذا أتاك تكاد ترى دمه في وجهه، ومخاطراً لا يدري أتعطيه أم تمنعه، فوالله لو خرجت له من جميع مالك ما كافأته. (11) .
 
وخطب يوما فقال: من رزقه الله رزقا حسنا فليكن أسعد الناس به، إنما يتركه لأحد رجلين، إما مصلح فيسعد بما جمعت له وتخيب أنت .. (12)
 
وكان أمراء معاوية حريصون على أن يستمعوا لنصح الصالحين ، قال الحسن البصري: دخل عبيد الله بن زياد على معقل بن يسار يعوده في مرضه الذي مات فيه، فقال له معقل: إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو لم أكن على حالتي هذه لم أحدثك به، سمعته يقول: " من استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحة لم يجد رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة مائة عام "(13) .
 
وكانت الفتوح الإسلامية في عهده قائمة، وكان يغزو الروم في كل سنة مرتين، مرة في الصيف ومرة في الشتاء ، وقد اعتاد غزوهم منذ أن كان أميرا في خلافة عمر رضي الله عنه ، ولم تتوقف إلا في أوقات الخلاف بينه وبين علي ـ رضي الله عنهما ـ أي قبل أن يلي الخلافة ، وفي هذه الفترة حاول ملك الروم أن يستغل هذا الصراع وجهز جيوشه لغزو الشام ، فكتب معاوية إليه: والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين لأصطلحن أنا وابن عمي عليك ولأخرجنك من جميع بلادك، ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت ، فعند ذلك خاف ملك الروم وانكف، وبعث يطلب الهدنة (14) .
 
وقد بعث سنة تسع وأربعين يزيد ابنه غازيا فزحف حتى بلغ القسطنطينية ، ومعه جماعات من سادات الصحابة ، منهم ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وأبو أيوب الأنصاري ـ رضي الله عنهم ـ   خرج كل هؤلاء طمعا في الظفر بالفضل الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : " أول جيش يغزون مدينة قيصر مغفور لهم " صحيح البخاري . (15).
 
وأرسل في سنة 50 عقبة بن نافع الفهري ففتح بلاد إفريقية، واختط القيروان - وكانت غيضة تأوي إليها السباع والوحوش والحيات العظام، فدعا الله تعالى فلم يبق فيها شيء من ذلك ، حتى إن السباع صارت تخرج منها تحمل أولادها، والحيات يخرجن من أجحارهن هوارب ، فأسلم خلق كثير من البربر لما رءوا ذلك (16) .
 
وأرسل سنة ثلاث وخمسين جنادة بن أبي أمية الأزدي ففتح جزيرة ردوس في البحر المتوسط ، فنزلها المسلمون وزرعوا أرضها ، واتخذوا بها أموالاً ومواشي يرعونها حولها، واتخذوا لهم ناطورٌ يحذرهم ما في البحر ممن يريدهم بكيد، وكان معاوية يدر لهم الأرزاق والعطاء ، وصار هؤلاء فيما بعد من أشد الناس على الروم، وكان يعترضونهم في البحر فيقطعون الطريق على سفنهم(17).
 
وأمر عبيد الله بن زياد بعد أن ولاه خراسان بغزو الترك ، فكان هو أول من قطع إليهم جبال بخارى ، ففتح كثيرا بلاد سمرقند وبخارى .
 
وهكذا مضى أيام خلافته بين العدل بين الرعية وبين الجهاد والغزو في سبيل الله ، وقد سئل في أول خلافته عمن يستحق منصب الخلافة بعده فقال : يكون بين جماعة، إما كريم قريش سعيد بن العاص، وإما فتى قريش حياء ودهاء وسخاء عبد الله بن عامر، وإما الحسن بن علي رجل سيد كريم، وإما القارئ لكتاب الله الفقيه في دين الله الشديد في حدود الله مروان بن الحكم، وإما الرجل الفقيه عبد الله بن عمر، وإما عبد الله بن الزبير.
 
لكنه على ما يبدو ـ وبعد وفاة الحسن ـ رأى أن الظروف غير مهيأة لأن يختار المسلمون بأنفسهم رجلا مناسبا بعد تغلغل الفكري الشيعي والخوارجي في قلوب كثير من الناس ، وبعد أن غلبت العصبية ، فاجتهد في أن يوصي ليزيد ابنه من بعده ، ويؤيد ذلك أنه قال لعبد الله بن عمر: إني خفت أن أذر الرعية من بعدي كالغنم المطيرة ليس لها راع (18) .. فقال له عبد الله : إذا بايعه الناس كلهم بايعته ، ولو كان عبدا مجدع الأطراف...
 
ووافق أكثر الصحابة وأبناؤهم معاوية على رأيه وبايعوا له على إمرة يزيد بعده ، فقال له معاوية : ماذا أنت فاعل إن وليت ؟ قال: كنت والله عاملا فيهم عمل عمر بن الخطاب ، فقال معاوية: سبحان الله يا بني والله لقد جهدت على سيرة عثمان بن عفان فما أطقتها ، فكيف بك وسيرة عمر ؟.
 
 فلما حضره الموت - وذلك في سنة ستين - وكان يزيد غائباً، دعا بالضحاك بن قيس الفهري - وكان صاحب شرطته - ومسلم بن عقبة المري، فأوصى إليهما فقال: بلغا يزيد وصيتي، انظر أهل الحجاز فإنهم أصلك، فأكرم من قدم عليك منهم، وتعاهد من غاب، وانظر أهل العراق، فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملاً فافعل، فإن عزل عامل أحب إلي من أن تشهر عليك مائة ألف سيف، وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك، فإن نابك شيء من عدوك فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم، فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم أخذوا بغير أخلاقهم،  ... ثم أغمي عليه، ثم أفاق، فقال: لمن حضره من أهله: اتقوا الله عز وجل، فإن الله سبحانه يقي من اتقاه، ولا واقي لمن لا يتقي الله؛ ثم قضى(19).
 
وإلى لقاء مع الحلقة القادة إن شاء الله إن كان في العمر بقية
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
الهوامش :
 
*مدير موقع التاريخ الالكتروني
1 ـ البداية والنهاية - (ج 8 / ص 134) والحديث رواه أبو داود في سننه .
2 ـ البداية والنهاية - (ج 8 / ص 135) والحديث رواه الطبراني في المعجم الكبير .
3 ـ انظر : البداية والنهاية - (ج 8 / ص 145)..
4 ـ البداية والنهاية - (ج 8 / ص 134)..
5 ـ صحيح ابن حبان - (24 / 49)
6 ـ تاريخ الرسل والملوك - (ج 3 / ص 181)..
7 ـ تاريخ الرسل والملوك - (ج 3 / ص 182)..
8 ـ تاريخ الرسل والملوك - (ج 3 / ص 208)..
البداية والنهاية - (ج 8 / ص 92).
10 ـ البداية والنهاية - (ج 8 / ص 92وما بعدها )..
11 ـ مختصر تاريخ دمشق - (ج 3 / ص 306).
12 ـ البداية والنهاية - (ج 8 / ص 94)..
13 ـ البداية والنهاية - (ج 8 / ص 111) والحديث في مسند عبد الله بن المبارك .
14 ـ البداية والنهاية - (ج 8 / ص 127).. 
15 ـالبداية والنهاية - (ج 8 / ص 36) وما بعدها ..
16 تاريخ الرسل والملوك - (ج 3 / ص 180).. 
17 تاريخ الرسل والملوك - (ج 3 / ص 187)..
18البداية والنهاية - (ج 8 / ص 87)
19 تاريخ الرسل والملوك - (ج 3 / ص 223).
 
المصدر : موقع التاريخ