في يومٍ غادرتهُ الشمسُ إلى خلف السّحابِ الأسود ، هاجرتُ وأسرتي إليهم .. نحملُ أحزان الغربةِ ، ونخفي في حقائبنا حفنةً من ترابِ الوطن ، كي نقبّلها بصمتٍ ونبللها بدموعٍ كلّما لفّنا الحنين .. أتيتهم طفلةً تحملُ بسمتها النّقيّة ، كبرعمِ زهر ، أصافحهم بودّ ، وأنقشُ الفرح على وجوههم ، أعيشُ معهم بوئامٍ كأيّ فتاة غربيّة .. فأنا واحدةٌ منهم ، ولدتُ هنا في أرضهم ، فكانت لي وطناً آخر غير ذلك الوطنٌ المولود في قلبي ، ذلك الوطن الشامخ الواسع الذي أحمله معي أينما رحلتُ ، وأرمقُ خارطته بزهوٍ وأنا أهتف : -إنها من أجمل اللوحات التي علّقتها في غرفتي ! كم جمعتني بهم من ذكرياتٍ على مقاعدِ الدراسة ، وكم كانَ يثني عليّ أساتذتي ويلفّني إعجابٌ لا تخفيه عيون التلاميذ ، يتحوّلُ إلى سيل أسئلةٍ لا تنتهي بعدَ الدروس ، أجيبُ عليها بكلّ حبِّ ، فقد أوصتني أمّي وقالت : - يا حنين لا تبخلي ، فأنت الكريمة بنتُ الكرم ! ثمّ أستأذنُ بلطفٍ وأمضي ، غريبة أنا في شوارعِ مدينتي ، وطني هناك ، وفي دفء بيتي ،أعودُ مثقلة بصمتٍ ، ألقي التحيّة وأختفي في غرفتي ، أدفنُ وجهي في وسادتي ، وأمطرها دموعاً كلّما زارتني أشواقي العربيّة ، لمئذنةٍ في مدينتي ، لتسبيحٍ بصوتِ جدّتي ، لسربِ حمامٍ يحلّق عالياً ثمّ يعود .. وهل أعود ؟ آه .. ما أقسى غربتي ! لم أدرك أن الأيام مضتْ سريعاً ، وأني كبرتُ فما عدت طفلة ، حتى رأيته بين يدي أمّي تمسكه بحرصٍ ثم تغطّي به شعري ، وتبكي أمي وهي تتمتم : - هويّتكِ هنا يا حبيبتي ، وعنوانك ، احرصي على جمالكِ لا يضيع ! وأبكي أنا بكاء الفرح ! فقد تحققت أمنيتي بأن أرتديه ، كان حلماً يراودني ، وكم جرّبته خلسةً بعيداً عن ناظري أمّي ، وكم دعوتُ الله أن أحظى به . أنا الآن به ياسمينةً حقيقيّة ، أو زهرة نسرين .. قد أختلفُ به عن قريناتي ، ولكنهنّ سيتقبّلن .. خطواتي إلى المدرسة تسابقني ، ولكنّ شعور الخوفِ يعصفُ بقلبي الصغير .. لقد حدثَ ما لم أتوقعه ! ليتني لم آتِ اليوم إلى هنا ! أصواتهم الحاقدة تلاحقني .. - حنين أنت قبيحة - ستتحوّلين إلى كسولة غبيّة .. - منظركِ مضحكٌ بهذا الشيء ، لم لا تنزعيه وننتهي من هذه القضيّة ! دموعي ترجمت لأمّي كلّ ما وددتُ قوله .. فنظرت إليّ بعمقٍ وقالت : - أتحبين يا حنين أن تنزعيه ؟ لكِ ما تريدين ! لم أكن لحظة عودتي من المدرسة أحمل كمّ المشاعر التي داهمتني عند سؤال أمّي .. صحيح أني قد وضعت حجابي لساعاتٍ ، لكنني حلّقت به بعيداً جداً إلى حيثُ لم أتوقع ! شعرتُ بهِ أنني عابدة حقيقيّة ، تحملُ كلّ معانٍ للطهر والصفاء والنقاء ، وأنّه كان حارسي الذي يحميني من عيونٍ جائعة ، فيحتويني .. كان دفئاً غامراً يأسرني ، وهو عنواني ، عنوان المرأة المسلمة الذي أضعته منذ ولدتُ وحتى هذه اللحظة في كلّ النساء اللواتي عرفتُ ماعدا أمّي ! لمّا ارتديتُه تعمّق الإسلامُ في داخلي ، واستشعرتٌ رضا الله تعالى عنّي .. فهل أترك كنزي هذا وأضعفُ أمام كلماتٍ حاقدة .. أمضيتُ ليلةً عصيبة في التفكير .. لكنني استيقظتُ نشيطة ، دخلتُ المدرسة بحجابي وابتسامتي ، أجبتُ بفرحٍ على أسئلة المتطفّلين والمتطفّلات ، وفرضتُ احترامي من جديد في هذا المكان .. وكان الإسلامُ ضيفاً جديداً يزور القلوب ، وسأعملُ حتماً كي يسكنها !