(مقارنة بين المنهج الإسلامي والمنهج المادي ـ أولاً : الصبغة الدينية) إذا أمعنا النظر إلى المنهج الإسلامي في بناء الاُسرة وعقدنا مقارنة بينه وبين المنهج المادي ، نستطيع أن نستخلص عدة فروق جوهرية بين المنهجين ، من حيث طبيعة كل منهج والخصائص التي يتصف بها ، والآثار الناجمة عنه ، وهي قضية جديرة بالاهتمام والدراسة حتى يزول الغبش عن عيون الذين انبهروا بمناهج الغرب واخذوا يسيرون في ركبه ولو على حساب دينهم وقيمهم ، ويضيق المجال هنا عن الغوص في التفاصيل ، وحسبنا أن نستعرض الخطوط العامة الفاصلة بين المنهجين ، والتي تتمثل بالنقاط التالية : لاشكّ بأنّ الصبغة الدينية هي من أبرز ما يتميز به المنهج الإسلامي في مجال الاُسرة ، فمن المعلوم أن التشريع الإسلامي ـ عموماً ـ وما يتعلق منه بالاُسرة على وجه الخصوص إلهي المصدر ويتمثل بالوحي ، أما المنهج المادي فهو من صنع البشر أنفسهم ، الذين لايمكنهم الانسلاخ عن طبائعهم البشرية ، وعليه فهو يعكس مصالحهم ، وينسجم مع أهوائهم وشهواتهم ، ويكون ـ في غالب الأحيان ـ قاصراً وعرضة للتبدل الدائم. ولما كان الدين يشكل قطب الرحى في توجهات الإسلام الاجتماعية نجد التأكيد على التماثل الديني بين الزوجين عند تكوين الاُسرة. فالإسلام ـ كما هو معلوم ـ يُحرّم زواج المسلمين من عبدة الأوثان والأصنام من أتباع الديانات الوضعية ، أي الذين يعبدون الشمس والقمر والأشجار وما إلى ذلك ، فكل هؤلاء أشركوا مع الله إلهاً سواه ، قال تعالى : «وَلأ تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأََمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِن مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أعْجَبَتْكُمْ وَلأ تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا» (1). فلم يبح الإسلام زواج المسلم من مشركة ؛ لأن الزواج سكينة ومودة ، ولا يمكن أن يتحققا مع الاختلاف الشاسع في الاعتقاد ، ثم إن هكذا زواج سوف يؤثر على دين الأولاد ، الذين هم مسلمون تبعاً لأبيهم ولكن وجودهم بجنب أُمهم المشركة سوف يؤدّي إلى زعزعة عقائدهم وقيمهم. من جانب آخر لا يسمح الإسلام للمسلمة بالزواج من غير المسلم حتى ولو كان من أهل الكتاب ، وذلك لأنّ الزواج يقتضي قيمومة الرجل على زوجته ، ولا يجوز شرعاً أن يكون للرجل الكافر سلطان على المرأة المسلمة ، لقوله تعالى : «وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً» (2). واللافت للنظر أن الإسلام يجوّز للرجل الزواج من الكتابية ـ على الرأي القائل بجوازه ـ وذلك لأنّ المرأة غالباً ما تتأثر بأدب زوجها وديانته ، ولو أنّ المرأة غير المسلمة طعنت في دين زوجها المسلم ، فإنه يستطيع الدفاع عن دينه بما له من قيمومة ، وبإمكانه أن يتخلّص منها بالطلاق الذي هو في عصمته. وفي هذا الصدد يقول الإمام الصادق عليه السلام : « تزوّجـوا في الشّكـاك ولاتزوّجـوهم ؛ لأنّ المـرأة تأخـذ مـن أدب الرّجل ويقهرها على دينه » (3). وينبغي الإشارة إلى أن الزواج القائم على الدين يزداد قوّة ومنعة بمرور الزمان ، فحين تضعف أو تخمد فورة الشباب عند أحد الزوجين أو كليهما أو حين تعصف أعاصير المشاكل في عشّ الزوجية ، يبرز عنصر الدين ويساهم في بقاء الحب ودوام المودة. على هذا الصعيد نجد أن التزام المنهج الاسلامي بالصبغة الدينية يجعل من الجزاء المترتب على مخالفة التشريع الإسلامي دنيوياً واُخروياً معاً ، بينما نجد أنّ الجزاء في التشريع الوضعي يكون دنيوياً ، وعلى ضوء هذا الفارق في الجزاء بين المنهجين نجد أن خضوع الإنسان للقانون الوضعي على نحو قهري في الغالب ، لذا يحاول هذا الإنسان الإفلات منه بشتى الأساليب وخصوصاً إذا أمن العقاب. أما خضوع الإنسان المسلم للتشريع السماوي فيكون على الأغلب اختيارياً وطوعياً ؛ لأنّه نابع من خوف العقاب الاُخروي. جاء في صحيح مسلم : « إنّ امرأة أتت نبيّ الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي حُبلى من الزنا ، فقالت : يا نبي الله أصبت حدّاً فأقمه عليَّ ! فدعا نبيّ الله وليّها ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : « أحسن إليها ، فإذا وضعت فأتني بها ، ففعل ، فأمر بها نبيّ الله فشُكّت عليها ثيابها ، ثمّ أمر بها فرُجمت ، ثم صلّى عليها. فقال له عمر : تصلّي عليها يانبي الله وقد زنت؟! فقال صلى الله عليه وآله وسلم : لقد تابت توبة لو قسّمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم ، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى (4) ». فهذه المرأة تشكل مصداقاً فريداً للتسليم الطوعي للمنهج الإلهي ، وهو أمر يفتقد إليه المنهج المادي حيث يسعى المجرمون للهروب من شباك القانون بشتى الحيل والسبل. إن عنصر التقوى الذي يتصف به المنهج الإسلامي يشكّل الضمان الأكيد لحياة اُسرية سليمة تقوم على حسن العشرة بين أفراد الاُسرة إمّا خوفاً من العقاب أو رغبة في الثواب الاخرويين ، ولأجل ذلك كان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلمينصح الشباب المسلم أن لا يختاروا حسن وجه المرأة على حسن دينها (5)، وكان أهل البيت عليهم السلام ينصحون الآباء بتزويج أبنائهم من المتدينين الأتقياء (6)؛ لأنّ التدين والتقوى يردعان الإنسان عن الظلم ويسوقانه إلى مكارم الأخلاق وخصال الخير. وفي مقابل ذلك نرى أن افتقار المنهج المادي للوازع الديني قد مزَّق الرباط الاُسري وأضعف المناعة النفسية لأفراد العائلة الغربية ، وعلى سبيل الاستشهاد تحدث الدكتور ( إمبروس كنج ) الطبيب الاستشاري في مستشفى لندن لبحوث الأمراض السارية بين الشباب البريطاني ، عن سلبيات المنهج العلماني الذي يدير ظهره للدين إنّ أكثرية الشعب في بريطانيا لا تؤمن بدين ، وأن الأسباب في المشكلة الاجتماعية الحاضرة هي رفض الأوضاع والمستويات التي تفكر الهيئات الدينية في الاحتفاظ بها ، وأضاف : إنّ الذين نصبوا من أنفسهم رواداً للفكر العلماني أخفقوا في إعطاء بديل عن الأسس الدينية المحافظة على الاُسرة » (7). وتكاد تجمع المراجع الاجتماعية على أن السبب الوحيد وراء تفكك الاُسرة هو ضعف التوجيه الديني ، وابتعاد البشرية عن تطبيق مبادىَ الدين ، وإزاء ذلك فقد أكد المؤتمر الدولي الأول لمكافحة الجريمة الذي انعقد في عام 1955م على ضرورة استخدام العقيدة الدينية كسلاح للحد من انتشار واستفحال ظاهرة الجريمة » (8). مما تقدم تبين لنا بأن أهم ما يمتاز به المنهج الاسلامي بالمقارنة مع المنهج المادي أنّه ذو صبغة دينية .. : «صِبغةَ اللهِ وَمَن أحسنُ مِنَ اللهِ صِبغة» (9). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) سورة البقرة : 2 / 221. (2) سورة النساء : 4 / 141. (3) بحار الأنوار 103 : 377 عن نوادر أحمد بن محمد. (4) صحيح مسلم 3 : 1324. (5) اُنظر : كنز العمال / المتقي الهندي 16 : 301 / 44590. (6) اُنظر : مكارم الاخلاق / الطبرسي : 204. (7) كيف تسعد الحياة الزوجية / هادي المدرسي : 192. (8) اُنظر : دراسات معمقة في الفقه الجنائي المقارن / د. عبدالوهاب حومد : 50. (9) سورة البقرة : 2 / 138. المصدر : كتاب / الأسرة في المجتمع الإسلامي / مركز الرسالة