ليل من الهزيمة

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : محمد الأحمد | المصدر : www.bab.com

 
 

 


     آهات مجنونة بالليل تخدش حياءه الفطري، وتبدد بعض سكونه المهيمن على الأرجاء. وسبات عميق بالنهار يطيح بنشوته ويجعله قاصراً.. (متى يأتي الصباح وأراه؟) حدَّق في الظلمة، أحدَّ بصره وغرسه في تلافيفها. عاد البصر إليه يشكو الانكسار.
سلاح قديم وجواد لاهث، وبقايا فارس مكدود.. كيف يداوي جراحاته؟!
نظراتهم تؤرقه، أسهم مسمومة يصوبون رؤوسها بدقة متناهية تنغرز في كبريائه، ينزف وتتناثر أشلاؤه أمامهم. تنبسط أساريرهم، تغمرهم فرحة عارمة تثير حنقه فيزدادون سعادة مجنونة تكاد تتفلت منهم إلى حد البوح.. لا يتكلمون، لكن أصواتهم الحبيسة كأنما يسمعها، تصل إليه، وتضج في أذنيه صهيلاً ينذر بهزيمة نكراء.. «لماذا هذا بالذات الذي يقف النظام عاجزاً أمامه؟! لماذا تختلط الأوراق، تقتلع الحروف من جذورها، تلعب الكلمات لعبة الكراسي، وتضيع في دوامة التحوير حتى تفقد معناها وتنسى شهادة الميلاد؟! لماذا؟..».
يتعرى، يرجمونه بالشرر المتطاير يقدحونه من أعينهم ليتحول سياطاً تجلد الغطرسة الكامنة في أعماقه.. (يفعل بي كل هذا؟! متى يأتي الصباح وأراه؟).. يا ليل الانشطار.. يا ليل الهزيمة والانكسار.. يا ليل الذل متى غده؟! لابد أن يضع حداً لهذه المهاترات، لم يبق شيء يخاف عليه، تحطم الإطار وغدت الصورة باهتة.. فلينس الندوب الكثيرة، وليلتفت إلى الجرح الغائر -الذي بدا كبئر عميقة- يردمه، يسد فراغاته، ويلم شمل فلوله المنهزمة عله يسترجع شيئاً من المهابة.. كيف مرت تلك الصباحات التي يعجز عن حصرها؟! وهذا الصباح كأنه لن يأتي!
***
طرق الباب بضحكاته المستهترة، تسلل عطره الفواح إلى الغرفة فسبقه بالدخول دون استئذان.. أما هو فما إن صافحت أنفه رائحة الفريسة حتى تحفز وجرد السيف من غمده ولم ينس أن يستثير جميع دفاعاته.. عذابات الماضي والحاضر كلها اجتمعت في تلك النظرة الفاحصة التي التهم بها ذلك الواقف أمامه.
صباح الخير.. صباح الفل:
(أي صباح!، وأي خير!، وأي فل؟! من يخبر تلك الزهرة الزكية العطرة بأنها غدت شعاراً للزيف.. للتملق.. للنفاق؟!).
رد باقتضاب:أهلاً...
أمسك المكتب بكل قوته وكأنما يستجديه أن يمتص ثورته، يضغط على أعصابه لئلا تفلت منه فتنهار الحصون والقلاع، ويبقى في العراء وحيداً تنهشه النظرات المحمومة، وتلتذ بنكهة التشفي.. عليه أن يمسك بزمام المبادرة.. الضربة الأولى مفتاح النصر المؤزر..
- بصراحة. بقاؤك هنا غير مرغوب فيه.
- ما الأسباب؟!
- أنت تعرفها جيداً.. غيابك المتكرر، مظهرك غير اللائق، طريقة كلامك، نظرات زملائك الدونية..وما خفي كان أعظم!
- ماذا تقصد؟!
- باختصار نحن لسنا في ملهى.. شتان ما بين القمة والقاع. بنيان سامق الذرى وإعصار مدمر لا يلتقيان.. عاصفة هوجاء تسكن فيك، تهدد الغرس باقتلاعه من الجذور.
- أنا فنان.. والفن رسالة..
- أجل أنت فنان، غداً ستأتي وبيدك العود والجميع خلفك يردد (ليلنا.. وأشواق تغني حولنا) يا لها من رسالة عظيمة!
- وتسخر أيضاً!
- لا.. بل هي الحقيقة. لسنا في حاجة إلى مزيد من.. لقد اكتفينا منذ زمن بعيد!
اتسعت الشقة بينهما وتباعدت المسافات، تاه الآخر في صحراء الغيظ، البراكين تغلي وتبحث عن فوهة، المتاهات كثبان رملية، والجفاف يغتال الصوت.. سكون رهيب، فالصمت سلاح فعال يُفقد الانتصار بعض بهجته.
***
وقف أمامه شامخاً -لأول مرة يراه بهذا الطول- فض مظروفاً وأخرج منه ورقه بسطها على المكتب.
- لن تستطيع زحزحتي من هنا...
صفعة جديدة يتلقاها أدارت الدنيا أمام ناظريه. طعنة في الظهر لم يكن يتوقعها. اعتصره الألم، ودخل في دهاليز الحزن المظلمة، الحروف تتراقص، تُخرج ألسنتها، وتفوح غدراً وخيانة.
«تقتضي المصلحة العامة أن يبقى المذكور على رأس العمل وفي نفس المكان، الغياب ظروف طارئة يجب أن تدرج ضمن الأعذار المقبولة..».
عندما رأى التوقيع أيقن بالهزيمة..
(فلتحيا المصلحة العامة، ولتسقط العقول المتحجرة التي تقف سداً منيعاً أمام تقدمنا، وتحجب عنا نور الشمس.. وداعاً لعصور الظلام والانغلاق، ومرحباً بعصر التنوير والانفتاح!)
هل ينتظر حتى يملي المنتصر شروطه؟!
(عزيزة أنتِ، لن أدعك تتمرغين في الأوحال).
ترجل عن الجواد وألقى بالسيف الصدىء المثلوم بعيداً.. بعيداً.