لن أضيف جديدا إلى عشرات المقالات التى كتبت، تعليقا على واقعة قتل الشاب السكندرى «خالد سعيد»، على أيدى مخبرى الشرطة، ولا إلى عشرات – بل مئات وربما آلاف - التعليقات التى ازدحمت بها شبكة الإنترنت، ولا إلى المقالات فى الصحافة الأجنبية، ولا إلى البيانات التى صدرت من منظمة العفو الدولية أو الخارجية الأمريكية وغيرهما من الجهات الدولية، ولا إلى حالة الغضبة الاستثنائية واللافتة التى انتابت الجمهور المصرى –خاصة الشباب - إزاء تلك الجريمة البشعة، التى أصبحت – سواء أراد البعض أم لم يرد - رمزا على تجاوزات بعض رجال الشرطة، والتى يبدو أنها بلغت حدا يصعب – للأسف - السكوت عنه.
إننى فقط سوف أتناول بالتعليق رد فعل وزارة الداخلية إزاء التوتر ثم الضجة التى أثيرت فى الإسكندرية، عقب ذيوع خبر ما حدث، وما تلاها من ردود أفعال غاضبة، سرعان ما تصاعدت وتضاعفت بسرعة من دائرة الإسكندرية، إلى مصر كلها، ثم إلى العالم أجمع.
لقد تمثل رد الفعل ذلك فى بيان أصدرته الوزارة، يروى تفاصيل الواقعة من وجهة نظرها.
وكان هذا البيان نفسه أحد أسباب تفاقم الغضب والسخط الشعبى والجماهيرى، ليس فقط ضد الداخلية، بل وضد النظام السياسى كله، وهو ما تبلور – على نحو مدهش ولافت - فى مدينة الإسكندرية خاصة.
واتساقا مع ما جاء فى ذلك البيان، يبدو أن الوزارة لم تشرع فى إجراء تحقيق داخلى، أو محاسبة المسؤولين عما حدث، حيث إنها لم تعترف – فى البيان - بحدوث أى تقصير أصلا. وحتى لحظة كتابة هذا المقال، لم يصل إلى علمى أى تصرف من الوزارة غير إصدارها ذلك البيان.
ولأن أى بيان تصدره وزارة الداخلية، فى أى بلد متحضر فى شأن قضية أصبحت محل اهتمام الرأى العام، هو وثيقة شديدة الأهمية، تعكس طبيعة نظام الحكم ككل، وطبيعة علاقة وزارة الداخلية بسلطات الدولة وبالرأى العام، والإعلام، فقد اهتممت كثيرا بقراءة هذا البيان، وتفحصه، وتحليل مضمونه.
إن أول ما يواجه قارئ هذا البيان ويصدمه أنه أتى - من السطر الأول فيه- بصيغة «متعجرفة» و«متعالية»، ومستنكرة أن يجرؤ إنسان على محاسبة وزارة الداخلية أو رجال الشرطة؟! إن أولى علامات «الدولة» المدنية المتحضرة هى سيادة القانون، وخضوع الجميع –حكاما ومحكومين - للمساءلة القانونية عن أعمالهم، فضلا عن المساءلة السياسية والشعبية، وذلك فقط هو ما يحول دون تغول أو شطط سلطة بعينها، أو جهاز بعينه، ويحفظ السيادة – فعليا - للشعب!.
ولكن نظرة سريعة للبيان من أوله إلى آخره توحى بمنطق وذهنية يرفضان ذلك تماما! ففى بداية «البيان» –الذى يفترض أن يكون هدفه أن يسرد بموضوعية واتزان وبلهجة مهنية الحقائق كما تراها وزارة الداخلية -يعاجل القارئ بعبارة: «صرح مصدر أمنى بأنه على نحو مخالف للحقائق، وينطوى على مغالطة صارخة.. تمادت بعض العناصر».. إلخ، أى أن وزارة الداخلية - التى عبرت عن رأيها من خلال اصطلاح غامض يسمى «مصدر أمنى»، والتى يفترض أنها الطرف المطلوب منه أن يوضح موقفه إزاء شكوك واتهامات مشروعة- تستكثر أن يوجه إليها اتهامات أو تساؤلات؟! ممن؟!..
«من بعض العناصر ودوائر بعينها»؟ ومرة ثانية: من هى تلك العناصر؟ هل هى عناصر أجنبية معادية؟ هل هى «دوائر» إرهابية أو خارجة على القانون.. أليست لها صفة أو اسم؟ أم أن العجرفة والتعالى يستلزمان الاستهانة بتلك الدوائر والعناصر؟
ثم استطرد البيان يتهم تلك «العناصر» بأنها روجت الادعاء بأن «رجال شرطة سريين قد تعدوا على المواطن خالد سعيد.. وعن قصد واضح تمادى هذا الادعاء»؟!! إن وصف الاتهامات بأنها «ادعاءات» فيه – مرة أخرى- عجرفة واستنكاف عن مساءلة - لا أقول وزير الداخلية، ولا أى لواء بها أو حتى ضابط- وإنما عن مساءلة مخبرين سريين يعلم كل مصرى الشوائب التى تكتنف طريقة عمل بعض عناصرهم.
ثم لماذا نفترض –ابتداء - أن هناك «قصدا واضحا» من تلك العناصر إزاء رجال الشرطة؟ لماذا؟ هل هناك ثأر مبيت بينهما؟ ألا يفترض أن رجال الشرطة هم حماة أمن المواطن، ويسهرون على سلامته وأمنه؟ فلماذا إذن هذا الشعور بأن هناك «بطحة» على رأس الشرطة؟! ولماذا هذه اللهجة العصبية؟!
وباللهجة نفسها –يستطرد هذا البيان الغريب، بعد أن حكى الواقعة محل البحث، ليقول «إن تلك الادعاءات المغرضة قد تجاهلت عن عمد جميع الحقائق، وتمادت فى الترويج والكذب والتضليل؟!! فى محاولة للإساءة لجهاز وطنى يضطلع بمهامه رجال الشرطة بكل مثابرة ودأب، التزاما منهم بالإسهام فى إنفاذ القانون، وحماية المصالح العامة والخاصة».
والتساؤل البسيط هنا: ما علاقة هذا الكلام بالواقعة موضع البحث؟! وهل انحراف فرد أو اثنين من الشرطة يسىء إليها كلها؟ ألا يوجد منحرفون فى كل الفئات: الأطباء، المهندسين، القضاة، المحامين، المحاسبين، الصحفيين.. إلخ، أم أن رجال الشرطة –خاصة- هم من طينة تختلف عن طينة البشر، ويتمتعون بالكمال، مع أن الكمال (كما تعلمون!) لله وحده.
غير أن ثانى ما يلفت النظر فى هذا البيان –الذى هو بيان رسمى من جانب وزارة سيادية لها أهميتها الخاصة - يتضمن، بعد هذا التذكير المطول بأهمية ومكانة ودور الشرطة، عددا من «المعلومات» التى يبدو حتى الآن أن هناك شكا كثيرا فى صحتها:
أولاها: إن فردى الشرطة شاهدا خالد سعيد أثناء ملاحظتهما للحالة الأمنية.. إلخ. (أى أنهما لم يذهبا إليه عمدا داخل مقهى الإنترنت) وهذا غالبا غير صحيح.
ثانيتها: إن البيان لم يوضح لماذا ذهبا إليه أصلا؟ والأغلب أنهما ذهبا لمعاقبته على محاولته نشر مقطع فيديو على الإنترنت، يبين أحد ضباط قسم سيدى جابر وهو يقوم بتوزيع المخدرات والأسلاب على مخبرين وآخرين.
ثالثتها: إن خالد سعيد مات بسبب ابتلاعه لفافة من مادة مخدرة، وليس بسبب الضرب الوحشى الذى تعرض له؟! (وهذا ما ننتظر نتيجة تحقيقات النيابة والطب الشرعى بشأنه).
رابعتها: إن هذا الأمر أكده شهود خمسة ورجل الإسعاف، وهذا أيضا كلام مشكوك فيه، ومشكوك فى هوية هؤلاء الشهود (وهذا كذلك ما ننتظر تحقيقات النيابة بشأنه)؟!.
خامستها: إن هذا الشاب صدرت ضده عدة أحكام، فضلا عن تهربه من الخدمة العسكرية. ولكن ثبت أنه قضى بالفعل خدمته العسكرية، خاصة فى مديرية أمن الإسكندرية! ولمدة عامين و١٧ يوما، وشهادة تجنيده موجودة! مما يشكك فى القضايا الأخرى المنسوبة إليه! والتى أثارتها أسرته بالفعل.
من ناحية ثالثة، اهتم بيان وزارة الداخلية بأن ينسب للشاب «خالد» كل ما يتصور من العيوب والموبقات والتهم.. إلخ. ولكن ما علاقة ذلك بما حدث له؟ ولنفترض أنه كان مجرما عريقا فى الإجرام، فهل يسوغ ذلك للشرطة أن تقتله؟! إن البيان فى الواقع –وبدون قصد- يبدو أنه يحاول أن يبرر قتل خالد.
وأخيرا، فإن جوهر التساؤل الذى سوف يظل يطرح من جانب جميع الأطراف المهتمة بتلك القضية هو: لماذا حدث ما حدث؟ ولماذا فعل مخبرو قسم سيدى جابر ما فعلوه؟ وهل كان ذلك بأوامر؟ وهل جوهر القضية، ومربط الفرس، هو أن خالد سعيد وقع فى يده ذلك الشريط (الذى شاهده الآن العالم كله!) والذى يدين ضابط شرطة سيدى جابر والعاملين فيه بتعاطى المخدرات، أو بيعها وتوزيعها؟ ما مدى صحة هذا الشريط؟ وهل خضع ما جاء فيه للمحاسبة أم لا؟
ذلك هو السؤال الأخير المعلق، الذى تجاهله تماما البيان الحماسى للداخلية، والذى يستحق بيانا آخر. ما ذلك الذى كان يحدث داخل القسم؟ ومن صوره؟ وكيف تسرب ذلك الفيديو؟ وإذا كان خالد الذى حاول نشر الفيديو على الإنترنت قد عوقب بقتله، فماذا يا ترى ما حدث للذين ظهروا فى الفيلم وللذين صوروه داخل القسم؟!
أسئلة كثيرة، سوف تحسن وزارة الداخلية صنيعا، لنفسها وللوطن، إن هى أجابت عنها بوضوح وشفافية وتقدير للمسؤولية.
أى بيان تصدره وزارة الداخلية فى أى بلد متحضر، هو وثيقة شديدة الأهمية تعكس طبيعة نظام الحكم
هناك أسئلة كثيرة سوف تحسن وزارة الداخلية صنيعا لنفسها وللوطن إن هى أجابت عنها بوضوح وشفافية