بمجرد إعلان البرادعى نيته الترشح لرئاسة الجمهورية عام ٢٠١١، إذا به يتحول لرمز تتعلق به قلوب المصريين، وتحرص على دعمه النخبة والشباب ومختلف التيارات والحركات السياسية والأحزاب وجمعيات المجتمع المدنى.. إلخ،
وإذا به يصبح حديث جميع وسائل الإعلام المصرية والعربية والعالمية، المسموعة والمقروءة والمرئية، ويصوغ مؤيدوه عنه ما ألهمهم الله من تحليلات تتوقع أنه على يديه سوف يزول الحكم الشمولى، وسيحدث التغيير لا محالة، وسيرضخ النظام للضغط الجماهيرى ويضطر لتعديل المادة ٧٦ لفتح الباب أمام جميع المرشحين لرئاسة الجمهورية، وتعديل المادة ٧٧ لقصر فترة الرئاسة على مدتين فقط، وتعديل المادة ٨٨ لإعادة الإشراف القضائى لضمان نزاهة الانتخابات و.. و..،
وفى تقديرى أن كل الظروف كانت مواتية للبرادعى كى يسهم فى التجديف بسفينة المصريين صوب الديمقراطية، ويستمر نجمه ساطعاً متألقاً فى سماء الإصلاح، ويتحول لزعيم ملهم فى زمن ما أحوج الناس فيه إلى من ينقذهم من الغرق بعد أن علت أمواج الفساد والفوضى والسلب والنهب والبلطجة بكل مستوياتها، وفى البرادعى تصور الكثيرون ضالتهم، ولم لا؟
وهو الرجل المحصن بالثقافة والعلم، والمحترم فى جميع المحافل الدولية، والقادر على استكشاف حقيقة ما يدور خلف كواليس السياسة بحكم عمله رئيساً لوكالة الطاقة الذرية، والحاصل على جائزة نوبل، وكلها أمور مهدت له السبيل، كى يكون زعيماً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، كى يكون إماماً من أئمة الإصلاح أو داعية من دعاته،
لكنه للأسف الشديد بعد كل ما أوتى من فرص، لم يعد زعيماً أو إماماً أو داعية أو أياً مما كنا نتمنى، وبنفس السرعة التى دخل بها لقلوب الناس وعقولهم، دون استئذان، خرج منها أيضاً بسرعة ودون استئذان، وترك فى النفوس مرارة الأحلام التى تحولت إلى سراب، ونكسة المنتظرين لانتصار محقق تحول فجأة لهزيمة منكرة، فما الذى حدث؟ بكل صراحة، أعتقد أن البرادعى عندما فكر فى اتخاذ هذه الخطوة لم يكن جاهزاً لها ولم يحسب مخاطرها، ووافق على مقدمتها دون أن يتخيل نتائجها، ولم يكن فى ذهنه آليات بعينها يعول عليها كمنهج يقوده لرئاسة الجمهورية أو حتى تعديل الدستور،
والدليل وقوعه فى أخطاء كبيرة لا تليق برجل يريد أن يكون عموداً من أعمدة النضال السياسى فى مصر، لا تليق برجل أتته فرصة العمر ليضمن مكانة فى صفوف أعظم الزعماء، لكنه أساء استغلالها لتتوه منه البوصلة، ويتخبط فى البحث عن المجهول، أملاً فى الظفر بكل شىء، فيخسر كل شىء، ويسقط فى عزلة كنا لا نتمناها له، ومن أهم هذه الأخطاء الكبيرة:
أولاً: بدا البرادعى دائماً متناقض الرأى مضطرب الفكر يدعو للشىء ونقيضه، يرى الأحزاب الموجودة فى مصر كلها أحزاباً صورية مفتقدة للشرعية، ثم يدعو قياداتها للانضمام إليه ودعمه، يعلن أنه ليبرالى مؤيد للدولة المدنية بدعوته لتغيير المادة الثانية من الدستور التى تنص على أن الإسلام المصدر الأول للتشريع، وإذا به ينسف كل ذلك فى لحظة بتأييده حق الإخوان فى حزب يمثلهم كقوة سياسية لها تاريخ، وهو ما يعنى إقامة حكم دينى على أنقاض الدولة المدنية، الأمر الذى استثمره جيداً أمين التنظيم بالحزب الوطنى أحمد عز، عندما اتهم البرادعى برغبته فى إقامة دولة دينية على طريقة الرئيس الإيرانى أحمدى نجاد.
ثانياً: كثيراً ما جانبه الحس السياسى فى تصريحات أصدرها فى غير وقتها، كهجومه على عبدالناصر باعتباره السبب الأوحد فى النكسة، مما أثار حفيظة الناصريين ضده، ثم دعوته لإلغاء بند الخمسين فى المائة للعمال والفلاحين تحت قبة البرلمان، ثم تأكيده لجريدة «الدستور» مؤخراً، على أن مصر يمكن تغييرها فى يوم وليلة، وأنه غير محترف سياسياً، ويمارس السياسة كهواية فقط، ولا أعرف بالضبط،
كيف يمكن لمصر المثقلة بهذه الجروح أن تشفى فى يوم وليلة؟ كيف يمكن أن تتحول فيها الفوضى العارمة إلى نظام، وهوان الناس على أنفسهم إلى عزة، وفقرهم وعوزهم إلى رفاهية فى يوم وليلة! كيف يمكن أن تدار مصر، الحضارة، التاريخ، الموقع الاستراتيجى، بثقلها الإقليمى والدولى بغير محترفى السياسة؟ وهل يعقل أن تصدر مثل هذه التصريحات الغريبة من رجل يهيئ نفسه لأن يكون رئيساً لمصر مستقبلاً؟ ألم يكن له مستشارون يراجعهم ويراجعونه فيما يصح أن يقوله، وما لا يصح؟
ثالثاً»: عدم تفعيله لمبدأ الشراكة وانفراده بآرائه وتكرار رحلاته إلى الخارج إما للاستجمام أو كتابة مذكرات حياته أو إلقاء محاضرات أو إراحة للرأس أو إيثار السلامة أو.. أو، وكأنه يريد زعامة مصر بالنية أو بالوكالة، وكأنه يريد زعامة مصر بجلوسه فى برجه العاجى هناك بعيداً بعيداً،
والناس هنا تدافع تثور تغضب تلفق لهم التهم تسحل تشرب المر، المهم أنها تحاول وعليه وضع بصمته المباركة مع نزول الستار، وهو ما اعتبره مؤسسو الجمعية الوطنية للتغيير، التى يرأسها البرادعى نفسه، انتهاكاً للحراك السياسى وتعالياً غير مبرر على مسيرة الإصلاح، اضطر بسببه الإعلامى القدير حمدى قنديل إلى وصف البرادعى بالسائح، كما اضطر السياسى العظيم الدكتور حسن نافعة لتقديم استقالته كمنسق عام للجمعية ثم عدوله عنها حرصاً على المصلحة العامة.
رابعاً: عدم مشاركة البرادعى فى كثير من الفعاليات الشعبية، فى الاعتصامات فى المظاهرات فى الاحتجاجات فى المؤتمرات، وإن شارك ففى حدود ضيقة للغاية إذا ما قورنت بمشاركات غيره من النشطاء السياسيين.
ولكل هذه الأخطاء، نزف البرادعى شعبيته فخسر الأحزاب برفضه الاعتراف بها، وخسر المتشددين الإسلاميين الذين رأوا فى ليبراليته ودعوته للدولة المدنية أكبر خطر على الإسلام، وخسر الليبراليين بمهادنته للإخوان وارتمائه فى أحضانهم، خاصة بعد انتخابات الشورى الأخيرة، وخسر التعاطف الشعبى بسبب عزلته التى فرضها على نفسه راضياً مرضياً، وخسر حصنه الأخير بانشقاق مؤسسى الجمعية الوطنية للتغيير عليه واستنكارهم إحساسه الزائد بنفسه، وهم الذين يرجع إليهم أكبر الفضل فى تدعيمه ومؤازرته وإضفاء المصداقية عليه.
كنا نتمنى أن يبقى البرادعى الرمز والإنسان ليضىء لنا ظلمات هذه الأيام الصعبة، لكن أخطاءه غير المحسوبة بشرت بعكس الطريق الذى تطلعنا للسير فيه، وقلصت فينا الأمل وأصابتنا بالإحباط وأعادتنا جميعاً إلى حيث بدأنا نفتش عن مناضل سياسى جديد يفجر فينا مكامن التمرد السلمى فى وجه الاستبداد والمستبدين، بعد أن سقط البرادعى فى بحر الظلمات.