تعد مسألة (الاختلاط) من المسائل التي تأتي على رأس أولويات التيار التغريـبـي في بلاد المسلمين؛ لأنها تسهل له مهمته القائمة على سلخ المجتمع المسلم من دينه وأخلاقه، وجعله مجرد تابع ذليل للغرب يشكلونه كيفما شاؤوا ويغرقونه من خلال هذا (الاختلاط) في الشهوات المحرمة التي تزيد من تقييده وتبعيته وانصرافه عن معالي الأمور.
وينفذ أصحاب هذه الدعاوى إلى المجتمع المسلم من ثغرة أن مظاهر التطور والرقي تقتضي الاختلاط للعمل، ولا يخفى على كل لبيب مدى التناقض في كلامهم حين يقولون إن خروج المرأة من بيتها ومخالطتها الرجال الأجانب للعمل وغيره هو من ضرورات التطور والمدنية.
ويلتفون بزعمهم السعي لفهم مظاهر التطور هذه واستيعابها وفق مبادئ الإسلام بعيداً عن روح الخوف والحذر وسد الذرائع، تلك الروح التي سادت في عصور الانحطاط وكبَّلت المجتمع الإسلامي.
ونحن نعد ادعاءهم أن روح الخوف والحذر وسد الذرائع إنما سادت في عصور الانحطاط وكبَّلت المجتمع الإسلامي؛ مغالطة عجيبة، فسد الذرائع ـ وهو تحريم ما يُتذرع ويُتوصل بواسطته إلى الحرام- أصلٌ من أصول الشريعة وقاعدة من قواعدها الكلية التي عُمِلَ بها في الكتاب والسنة. فمثاله في الكتاب: نَهْيُ الله عز وجل عن سب آلهة المشركين مع كونه من مقتضيات إفراده سبحانه بالألوهية، وذلك لكون هذا السبب ذريعة إلى أن يسبوا الله عدواً وكفراً على وجه المقابلة، قال تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم)
ومثاله من السنة: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الاحتكار، لئلا يتخذ ذريعة إلى رفع الأسعار وعدم وجود السلع في الأسواق مما يسبب الضرر للأفراد.
وقد عمل المسلمون بهذا الأصل – سد الذرائع- منذ تاريخ الإسلام، ومن ذلك على سبيل المثال: اتفاق الصحابة رضي الله عنهم وعامة الفقهاء على قتل الجماعة بالواحد، وإن كان أصل القصاص يمنع ذلك، لئلا يكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء. وكذلك اتفاق الصحابة على جمع عثمان رضي الله عنه للمصحف على حرف واحد من الأحرف السبعة لئلا يكون ذريعة إلى الاختلاف في القرآن.
فيكف يسوغ القول ـ بعد كل ما تقدم- بأن الأخذ بسد الذرائع إنما ساد في عصور الانحطاط؟!!، وكيف يكون الأخذ بأصل من أصول الشريعة مكبلاً للمجتمع الإسلامي؟!! إن كان ذلك مكبلاً لأحد فهو للمتبرمين من أصول الشريعة وأحكامها.
وفي الربط بين الأخذ بسد الذرائع وعصور الانحطاط ما لا يخفى من الاستخفاف بالمحافظين على دينهم الحريصين على الالتزام بأحكامه.
ونختم هنا بكلمة جامعة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ المفتي العام السابق بالمملكة العربية السعودية فيها رد بليغ على دعاة خروج المرأة من بيتها ومشاركتها الرجل في ميدان عمله، حيث يقول تغمده الله بواسع رحمته: "إن الدعوة إلى نزول المرأة للعمل في ميدان الرجل المؤدي إلى الاختلاط سواء كان ذلك على جهة التصريح أو التلويح بحجة أن ذلك من مقتضيات العصر ومتطلبات الحضارة أمر خطير جداً له تبعاته الخطيرة وثمراته المرة وعواقبه الوخيمة رغم مصادمته للنصوص الشرعية، التي تأمر المرأة بالقرار في بيتها والقيام بالأعمال التي تخصها في بيتها ونحوه. ومن أراد أن يعرف عن كثب ما جناه الاختلاط من المفاسد التي لا تحصى فلينظر إلى تلك المجتمعات التي وقعت في هذا البلاء العظيم اختياراً أو اضطراراً بإنصاف من نفسه وتجرد للحق عما عداه، يجد التذمر على المستوى الفردي والجماعي والتحسر على انفلات المرأة من بيتها وتفكك الأسر، ونجد ذلك واضحاً على لسان الكثير من الكُتَّاب، بل في جميع وسائل الإعلام وما ذلك إلا لأن هذا هدم للمجتمع وتقويض لبنائه.
والأدلة الصحيحة الصريحة الدالة على تحريم الخلوة بالأجنبية وتحريم النظر إليها وتحريم الوسائل الموصلة إلى الوقوع فيما حرَّم الله أدلة كثيرة قاضية بتحريم الاختلاط لأنه يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه.
وإخراج المرأة من بيتها الذي هو مملكتها ومنطلقها الحيوي في هذه الحياة إخراج لها عما تقتضيه فطرتها وطبيعتها التي جبلها الله عليها، فالدعوة إلى نزول المرأة في الميادين التي تخص الرجال أمر خطير على المجتمع الإسلامي، ومن أعظم آثاره الاختلاط الذي يعتبر من أعظم وسائل الزنا الذي يفتك بالمجتمع ويهدم قيمه وأخلاقه.
ومعلوم أن الله تبارك وتعالى جعل للمرأة تركيباً خاصاً يختلف تماماً عن تركيب الرجل، هيأها بها للقيام بالأعمال التي في داخل بيتها والأعمال التي بين بنات جنسها.
ومعنى هذا: أن إقحام المرأة لميدان الرجال الخاص بهم يعتبر إخراجاً لها عن تركيبها وطبيعتها، وفي هذا جناية كبيرة على المرأة وقضاء على معنوياتها وتحطيم، ويتعدى ذلك إلى أولاد الجيل من ذكور وإناث، إذ أنهم يفقدون التربية والحنان والعطف، فالذي يقوم بهذا الدور وهو الأم قد فصلت منه وعُزلت تماماً عن مملكتها التي لا يمكن أن تجد الراحة والاستقرار والطمأنينة إلا فيها، وواقع المجتمعات التي تورطت في هذا أصدق شاهد على ما نقول. والإسلام جعل لكل من الزوجين واجبات خاصة على كل واحد منهما أن يقوم بدوره ليكتمل بذلك بناء المجتمع في داخل البيت وخارجه،
فالرجل يقوم بالنفقة والاكتساب، والمرأة تقوم بتربية الأولاد والعطف والحنان والرضاعة والحضانة والأعمال التي تناسبها لتعليم البنات وإدارة مدارسهن والتطبيب والتمريض لهن ونحو ذلك من الأعمال المختصة بالنساء، فترك واجبات البيت من قِبَلْ المرأة يعتبر ضياعاً للبيت بمن فيه، ويترتب عليه تفكك الأسرة حسياً ومعنوياً، وعند ذلك يصبح المجتمع شكلاً وصورة لا حقيقة ومعنى. قال الله جل وعلا: (الرجال قوّامون على النساء بما فضَّل الله بعضهم على بعضٍ وبما أنفقوا من أموالهم)، فسنة الله في خلقه أن القوامة للرجل على المرأة؛ وللرجل فضل عليها كما دلت الآية الكريمة على ذلك.
وأمر الله سبحانه المرأة بقرارها في بيتها ونهيها عن التبرج معناه: النهي عن الاختلاط وهو اجتماع الرجال بالنساء الأجنبيات في مكان واحد بحكم العمل أو البيع أو الشراء أو النـزهة أو السفر أو نحو ذلك، لأن اقتحام المرأة لهذا الميدان يؤدي بها إلى الوقوع في المنهي عنه، وفي ذلك مخالفة لأمر الله وتضييع لحقوق الله المطلوب شرعاً من المسلمة أن تقوم بها".