مال ، أعمال ، رجال ، أوراق ، أقوال ، توقيعات على أوراق رسمية وشخصية .. أعمال تنهمر كالمطر على شركة السيدة نفيسة ، تلك الشركة الصغيرة التي ترعرعت على يد صاحبتها بسرعة مذهلة ، وأصبحت حديث مجالس رجال الأعمال وقبلة معاملاتهم ، لما وجدوه من احترام للمواعيد ودقة في الأداء . إذ أن السيدة نفيسة تحترم نفسها وتؤدي عملها بإتقان بالغ وإبداع مذهل . فقد تربت على الجد والمثابرة وحب التفوق وكانت تذهل معلماتها حين تقدم دراساتها وأبحاثها وتحقيقاتها . وعندما كبرت نفيسة كانت توجز عباراتها وتحدد أهدافها ، فهي لا تحب الحديث عن نفسها كثيرا .. لكنها كانت تعشق الحديث مع نفسها : كنت أحلم ببضع دولارات لا تتجاوز المئات أضغطها في كفي الأيمن وكانت تنتهي طموحاتي عندما يصطدم خيالي بسقف مئات الآلاف من الدولارات . ومنذ أيام قليلة وقعت على وريقة بيضاء صغيرة ملأت موقع الصفر السادس من المليون ! وإني لأستجدي أيامي أن تعود القهقرى ، وتدس بين طياتها كل الأوراق لتبخر ذاك الفيلم الأسود الذي رأيته على غير ميعاد . وقلبت بين يديها ذاك الفيلم الأسود باحثة فيه عن خط أبيض واحد فقط عله يبعثر عتمة سواد الصورة الحالك ، فلا تجد ، وتعود بخيبة أمل فتكسي الكون والحياة وشاحا حالك السواد . ستة أصفار.. أتتني عبر وريقات ملونة ما بين الأبيض والأصفر والوردي والأخضر والأحمر . وفتحت بتراخي بعض أدراج عملها ، وأخذت تقلب أوراقها وتفكر في ماضي أيامها وحاضرها . ستة أصفار .. جعلتني محط أنظار ، الكل يتحدث إلي ويخطب ودي . يسعد من يضاحكني ويبتهج من يؤانسني . أحاول أن أصغي إلى أحاديث البلغاء فلا أجمع منها كلمات تصلح لجملة مفيدة ، أشيح بوجهي وأنظر إلى أشيائي الصماء فأسمع أحاديثها في نبضات قلبي ووجيبه . لهف نفسي هل أستطيع التماسك لحظة واحدة بعد أن ألملم أشيائي وأخرج من مكتبي ؟ وسارت خطوات وئيدة نحو مكتبها ووقف موظفو شركتها ينظرون إليها نظرات شاردة ويتحدثون إليها بعبارات مبهمة . كانوا يحاولون مواراة حزنهم العميق ، فقد تسربت نتائج تقريرات السيدة نفيسة المرضية التي أذهلت الجميع وأرجفتهم .. دخلت السيدة نفيسة مكتبها وأغلقت الباب خلفها وبدأت تلملم أشياءها التي أبت إلا أن تحدثها : نفيسة .. كم ضغطت على أزراري بأنامل نابضة واثقة لا تعرف الخطأ ، وكونت جملا مفيدة ورسمت تخطيطات رائعة ، نفيسة أرجوك لم تقومين بفصل أجزائي بأيدي مضطربة ، وتنظرين لي ولمن حولي كالذي تدور عيناه من الموت ، نفيسة هل من عودة إلي وإلى أرقامك وصفقاتك ومخططاتك ؟ لا . فقد خططت عليك أيها الوفي الذكي غير الذي خطط لي ، قل لي بربك هل تملك خطا ناصع البياض يستطيع أن يبدد عتمة فيلمي الأسود ؟ ثم نظرت إلى ساعتها ، الوقت يمر مسرعا أم بطيئا لا أدري ، ساعات قليلة ودقائق معدودة وتأتي سيارة العائلة لتنقلني إلى المستشفى ، ثم إلى غرفة العمليات لاستئصال .. وانكبت على مكتبها باكية .. ترتجف من أخمص قدميها حتى خصلات شعرها . دخلت والدتها على غير عادتها مكتب نفيسة وأمسكت بيد مديرة الشركة أمام موظفيها الذين بللوا وجوههم بالدموع .. ونظرت إلى ساعة الحائط ، وخاطبت ابنتها قائلة : انظري الوقت يمضي يا بنتي .. توكلي على الله .. ولن يضيعك أبدا .. استمعي .. هذا أذان العصر بدأ يصدح. ساعة ، وقت ، كلمات كنت استثمرها جيدا ، جمعت من خلالها ستة أصفار ، أما الآذان .. فكم تركته خلف ظهري ، وأغمضت عينيها ، تريد أن تهرب من الماضي والحاضر والمستقبل ، تريد أن تقدم على لحظاتها الحاسمة ، تريد أن ولا تريد ، أتقدم ، أتحجم ، أتبكي ، أتدعو ، أتودع ، أتقبل ، أتتجاهل ، أتبصر ، أتسمع ، أتنسى ؟! وتقدمت والدتها بهدوء مصطنع فقالت : نفيسة ، ابنتي هيا بنا . جالت نظراتها في كل المواقع ، ومسحت كل الوجوه فقد أعياها البحث عن خيط أبيض واحد . وإذ برجل ركيك الحال يدخل مبتسما مستبشرا داعيا مبتهلا مناديا : أين السيدة نفيسة ، أريد أن أبشرها ، دعوني أحدثها ، دعوني . ودخل الرجل ولم يوقف سيل كلماته المتدفق سوى إشارة السيدة نفيسة إلى أمها أن امنحيه بعض المال لكي يسكت ، وقبل أن تقدم له أي شئ قال : لا والله ما لهذا جئت ، جئت لأبشرك أن ولدي المحروق قد تعافى تماما بفضل الله أولا ثم بفضل نفقتك عليه أيتها السيدة الكريمة . واستغرق في الدعوات والابتهالات ووعد أن يدعو لها بجوار البيت العتيق . أما هي ..فقد رفعت رأسها وخاطبت نفسها قائلة : خيط أبيض واحد وقف شامخا خلف أصفاري الستة ، فأغدق علي بحارا من الطمأنينة . أسألك يا رب : أن تتقبل قليل عملي وتضاعفه ، وركزت بصرها على المليون ودخلت غرفة العمليات وهي تقول : قد أوقدت شمعة عطائي مشاعل رجائي