الصحابة المعتزلون للفتنة الكبرى

الناقل : SunSet | الكاتب الأصلى : MatriX | المصدر : www.borsaat.com

إليكم هذه الكتب من مؤلفات الدكتور خالد كبير علال دكتوراه دولة في التاريخ الإسلامي من جامعة الجزائر-
، من عنده شخصيا
لاستفادة الفردية في الموقع و خارجه ،و لا يجوز استغلالها للأغراض التجارية ،
و السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته .

دراسات نقدية هادفة عن مواقف الصحابة
بعد وفاة الرسول الكريم –ص –

-مواقفهم منها ، و دورهم في الحد منها
بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على الرسول الكريم ، و بعد : هذا هو البحث السابع من سلسلة دراسات نقدية هادفة عن مواقف الصحابة بعد وفاة الرسول-عليه الصلاة و السلام- . و قد خصصته لدراسة مواقف الصحابة المعتزلين للفتنة ، لما لها من أهمية بالغة في نظرتنا للفتنة و حوادثها ، و في التعرّف على مواقف و أدلة كبار الصحابة المعتزلين لها من السابقين الأولين من المهاجرين و الأنصار ، لتكون لدينا نظرة متزنة و شاملة و صحيحة ، لكل من المعتزلين للفتنة و الخائضين فيها ، من الصحابة الكرام ، رضوان الله عليهم أجمعين .
و قد اتبعت في بحثي هذا منهجا علميا موضوعيا ، جمع بين نقد الأسانيد و متونها حسب منهج أهل الحديث ، و قد اجتهدت في الالتزام به قدر المستطاع ، و حسب ما تسمح به طبيعة الروايات التاريخية التي لاتصل في ضبطها و تدوينها ما وصلت إليه الأحاديث النبوية ، من عناية فائقة تدوينا و ضبطا ، على مستوى الأسانيد و المتون .
و بحثي هذا هو محاولة لإعادة كتابة حوادث الفتنة الكبرى ، وفق منهج علمي صحيح ، لتنقيتها من الأباطيل ،و وضعها في مسارها التاريخي الصحيح .و أرجو أن يجد قبولا لدى المختصين و المثقفين على حد سواء . و أن يفتح أفاقا للبحث العلمي الموضوعي في تاريخ صدر الإسلام و قضاياه . و الله تعالى أسأل أن يجعله خالصا لوجهه الكريم ،و أن ينفع به قارئه و كل من سعى في إخراجه و توزيعه ،و أن يوفقني لإتمام إصدار باقي بحوث السلسلة ، إنه تعالى سميع مجيب ،و على كل شيء قدير ،و بالإجابة جدير .

الفصل الأول
الصحابة المعتزلون للقتال في الفتنة
تباين مواقف الصحابة من القتال في الفتنة :

لما قتل الخليفة عثمان بن عفان –رضي الله عنه – اختلف الصحابة في أمر قتلته ، فطائفة طالبت الخليفة الجديد : علي بن أبي طالب-رضي الله عنه – بالإسراع في الاقتصاص من هؤلاء القتلة ،و طائفة ثانية طالبت عليا بالاقتصاص من القتلة و جعلته شرطا لمبايعته ، و طائفة ثالثة وافقت هؤلاء في ضرورة الاقتصاص من قتلة الخليفة الشهيد ، لكنها كانت ترى ضرورة تأخيره حتى تتهيأ الظروف لتنفيذه .
فالطائفة الأولى مثّلها الصحابيان : طلحة بن عبيد الله ،و الزبير بن العوام –رضي الله عنهما – و كانا قد طلبا من علي أن يعينهما واليين ليجمعان له العساكر فلما لم يستجب لهما ، التحقا بمكة المكرمة و بها استنفرا الناس و جمعوهم للمطالبة بدم الخليفة الشهيد المقتول ظلما و عدوانا . و الطائفة الثانية هي أهل الشام ،و في مقدمتها : معاوية بن أبي سفيان و عمرو بن العاص و النعمان بن بشير –رضي الله عنهم- .
و أما الطائفة الثالثة فمثّلها الخليفة علي بن أبي طالب، و من معه كابن عباس ،و عمار بن ياسر ،و الحسن و الحسين،-رضي الله عنهم – و بما أن عليا هو الخليفة فإنه أصر على موقفه في تأجيل القصاص ،و عزم على استخدام القوة تجاه من خالفه و لم يبايعه من الطائفتين السابقتين ،و أعلن لجنده أن قراره هذا هو مجرد اجتهاد شخصي و رأي رآه أنه يحقق الطاعة و وحدة الجماعة ، و لم يدع أن معه نصوصا سمعها من رسول الله – -عليه الصلاة و السلام- .
فهذا التباين في وجهات النظر ،و الإصرار على المواقف هما اللذان جرا الطوائف الثلاث إلى الاقتتال ، مما أدى إلى ظهور طائفة رابعة اعتزلت الجميع و نأت بنفسها بعيدا عن القتال ،و عدتّه فتنة ،و دعت الناس إلى عدم المشاركة فيه . فمن مثّل هذه الطائفة ؟ و ما هي مبرراتها و أدلتها التي اعتمدت عليها في اعتزالها للفتنة ؟ .
أشهر الصحابة المعتزلين للقتال في الفتنة :
اعتزل أكثر الصحابة القتال في موقعتي الجمل و صفين في سنتي: 36-37ه ، و أبوا أن يخوضوا في دماء المسلمين ، فمنهم من اعتزل الفتنة عزلة مطلقة ،و منهم من اعتزلها و اجتهد في دعوة الناس إلى اعتزالها ، و منهم من انتسب إلى إحدى الطائفتين المتنازعتين ثم انسحب كلية من الفتنة ، و منهم من اعتزلها في الجمل و صفين ثم انظم إلى علي في حربه للخوارج ، و منهم من حمد الله تعالى على ذهاب بصره قبل أن يراها .

فمن الذين اعتزلوا الفتنة مطلقا : سعد بن أبي وقاص ، و عبد الله بن عمر ،و محمد بن مسلمة الأنصاري ،و سلمة بن الأكوع ،و سعيد بن زيد ،و صهيب بن سنان الرومي ،و أسامة بن زيد ،و أبو هريرة، و هبيب بن مغفل ،و المغيرة بن شعبة ، و عبد الله بن سعد بن أبي سرح ،و سعيد بن العاص ، و معاوية بن حديج الأمير، و زيد بن ثابت ، و كعب بن عجرة ،و سليمان بن ثمامة بن شراحيل ،و عبد الله بن مغفل ،و عبد الله بن سلام ،و أهبان بن صيفي ،و الحكم بن عمرو الغفاري - رضي الله عنهم - .

و من مواقفهم في اعتزال الفتنة : موقف الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص ، فقد جاء في خبر صحيح الإسناد ، عن عبد الرزاق ، عن معمر بن راشد ، عن أيوب السختياني ،و عن محمد بن سيرين ، أنه قيل لسعد : ألا تقاتل ، فانك من أهل الشورى ،و انت أحق بهذا الأمر من غيرك ؟ قال : (( لا أقاتل حتى تأتوني بسيف له عينان ،و لسان و شفتان ، يعرف الكافر من المؤمن ،و قد جاهدت و أنا أعرف الجهاد ،و لا أبخع نفسي إن كان رجل خيرا مني ))
و ورد في رواية أخرى أن أحد أبناء سعد بن أبي وقاص ، قال لوالده : نزلت في إبلك و غنمك و تركت الناس يتنازعون الملك ، فضرب سعد صدر ولده عمر و قال له : (( اسكت سمعتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم-يقول :إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي )) . و في رواية لأحمد بن حنبل أن سعدا قال لابنه عمر : (( أي بني أفي الفتنة تأمرني أن أكون رأسا ، لا و الله حتى أعطي سيفا إن ضربت به مؤمنا نبا عنه ،و إن ضربت به كافرا قتلته ،و قد سمعت رسول الله –صلى الله عليه و سلم- يقول : ((إن الله عز وجل يحب الغني الخفي التقي )) .
و جاء رجل إلى سعد بن أبي وقاص ،و قصّ عليه مناما رآه عن الفتنة ، ثم قال له : مع أي الطائفتين أنت ؟ فقال سعد : ما أنا مع واحدة منهما ، فقال الرجل : فما تأمرني ؟ قال : هل لك من غنم ؟ قال : لا ، فقال له سعد : فاشتر غنما ، فكن فيها حتى تنجلي الفتنة
و روى المؤرخ شمس الدين الذهبي –بلا إسناد- أن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- كان يغبط سعد بن أبي وقاص ،و عبد الله بن عمر –رضي الله عنهم – و يقول : (( لله منزل نزله سعد و ابن عمر ، لئن كان ذنبا لصغير ،و لئن كان حسنا إنه لعظيم )) . و قوله هذا صحيح المعنى و جدير بالتنويه و الاعتبار ، لأن الفتنة جرّت على المسلمين مصائب كثيرة ،و أورثتهم الفرقة و العداوة ،و البغضاء و الاقتتال ،و لم ينج منها إلا الذين اعتزلوها .

و أما محمد بن مسلمة الأنصاري –رضي الله عنه – فقد اعتزل موقعتي الجمل و صفين و اتخذ سيفا من خشب ، و خرج من المدينة إلى بادية الرّبذة و أقام بها ، و كان ذلك بأمر نبوي ، على ما ذكره الحافظ الذهبي .و هو من نجباء الصحابة ، شهد بدرا و المشاهد الأخرى . و هو الذي قال فيه رسول الله –صلى الله عليه و سلم-: (( لا تضرّه الفتنة )) و في رواية (( لا تضرّك الفتنة )) .
و في رواية للتابعي أبي بردة بن أبي موسى (ت104ه) أنه مر-أيام الفتنة- بمحمد بن مسلمة بالربذة ، فقال له : لو خرجت إلى الناس فأمرت و نهيت ، فقال له : قال لي النبي –عليه الصلاة و السلام- (( يا محمد ستكون فرقة و فتنة و اختلاف ، فاكسر سيفك ،و اقطع وترك ،و اجلس في بيتك )) ففعلت ما أمرني . و هناك أربعة أحاديث أخرى متشابهة المتون ، فيها أمر نبوي صريح ، لمحمد بن مسلمة باعتزال الفتنة و عدم الخوض فيها ، أولها أن الرسول –صلى الله عليه و سلم – قال له : (( إذا رأيت الناس يقتتلون على الدنيا فاعمد بسيفك على أعظم صخرة في الحرة ، فاضربه بها ، ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة ، أو منية قاضية )) ، ثم قال محمد بن مسلمة : ففعلت ما أمرني به رسول الله –صلى الله عليه و سلم )) .

و الحديث الثاني ، فيه أن رسول الله –صلى الله عليه و سلم- أعطى سيفا لمحمد بن مسلمة ، -رضي الله عنه – و قال له : (( جاهد بهذا ، في سبيل الله ، فإذا اختلفت أعناق الناس ، فاضرب به الحجر ، ثم ادخل بيتك ، فكن حلسا ملقى ، حتى تأتيك يد خاطئة ، أو منية قاضية )) .
و في الحديث الثالث ، أن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه- جاء –أيام الفتنة-إلى محمد بن مسلمة ، و قال له : (( ما خلفك عن هذا الأمر ؟ فقال له : دفع إلي ابن عمك –يعني الرسول – سيفا و قال لي : قاتل به ما قوتل العدو ، فإذا رأيت الناس يقتل بعضهم بعضا ، فاعمد به إلى صخرة فاضربه بها ، ثم ألزم بيتك حتى تأتيك منية قاضية ، أو يد خاطئة )) فقال علي خلّو عنه .

و آخرها –أي الحديث الرابع- فيه أن رسول الله –عليه الصلاة و السلام – قال لمحمد بن مسلمة: (( إنها ستكون فتنة و فرقة و اختلاف ، فإذا كان كذلك فأت بسيفك أُحدا فاضربه حتى ينقطع ، ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة ، أو منية قاضية )) ، ثم قال محمد بن مسلمة –أيام الفتنة- : فقد فعلت ما قاله لي رسول الله –عليه الصلاة و السلام - .

و منهم –أيضا- أسامة بن زيد –رضي الله عنه- فإنه عندما أرسل مولاه حرملة إلى علي بن أبي طالب زمن الفتنة ، قال لمولاه عن علي ، إنه يسألك عن تخلفي عنه ، فقل له يقول لك : (( لو كنت في شدق الأسد لأحببت أن أكون معك فيه ، لكن هذا الأمر لم أره )) .و في رواية أخرى عن معمر بن راشد عن الشهاب الزهري ، أن عليا لقي أسامة –رضي الله عنهما – فقال له : ما كنا نعدك إلا من أنفسنا يا أسامة ، فلم لا تدخل معنا –أي في القتال- فقال له : يا أبا حسن ، إنك و الله لو أخذت بمشفر –أي الشفة- الأسد لأخذت بمشفره الآخر معك حتى نهلك جميعا ، أو نحيا جميعا ، و أما هذا الأمر الذي أنت فيه ، فو الله لا أدخل فيه )) .
و أما الصحابي سلمة بن الأكوع ، - رضي الله عنه- فإنه لما استشهد عثمان –رضي الله عنه- و حدثت الفتنة اعتزل الناس ،و خرج من المدينة إلى بادية الرّبذة و سكنها ، و تأهل بها و لم يلابس شيئا من الفتنة . و عندما قيل له : لماذا تعرّبت –أي أصبح أعرابيا- قال : إن رسول الله –صلى الله عليه و سلم- أذن لي في التعرّب و سكن البادية .
و منهم الصحابي الجليل : أبو هريرة -رضي الله عنه- فقد اعتزل الفتنة و لم يلابسها ،و يبدوا أنه اتخذ هذا الموقف تمسكا بالحديث المشهور عن اعتزال الفتنة ، لأنه هو أحد رواته ، فقد جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة ، أن رسول الله –صلى الله عليه و سلم- قال : (( ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم ،و القائم فيها خير من الماشي ، و الماشي فيها خير من الساعي ،و من تشرّف لها تستشرفه ، فمن وجد فيها ملجأ أو معاذا فليعذبه )) .
و منهم –أيضا- الصحابي أهبان بن صيفي البصري –رضي الله عنه- فإنه عندما اعتزل الفتنة ، جاءه علي بن أبي طالب-رضي الله عنه- و طلب منه أن يلتحق به ، فقال له : نعم ثم دعا جارية له بأن تأتيه بسيفه ، فأخرجته فإذا هو من خشب ، و قال لعلي : (( إن خليلي ابن عمك -صلى الله عليه و سلم-عهد إلي إذا كانت الفتنة بين المسلمين ، فاتخذ سيفا من خشب ، فإن شئت خرجت معك ، قال علي : لا حاجة لي فيك و لا في سيفك .

و منهم الصحابي عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- ، فقد حرص على ألا يقترب من الفتنة أبدا ،و لا يكون سببا في قتل أحد ، و كان يقول : من قال حي على الصلاة أجبته ، و من قال : حي على قتل أخيك المسلم و أخذ ماله ، فلا .و عندما كلّفه علي بن أبي طالب-بعدما بايعه الناس- بالذهاب إلى الشام ليتولى إمارته ، اعتذر له و ترجاه بأن يعفيه ، فلم يقبل منه ، فظل ابن عمر يبحث عن المعاذير ، و استعان عليه بأخته حفصة أم المؤمنين –رضي الله عنها- ثم خرج ليلا إلى مكة فارا دون علم من علي ، فلما سمع بأمره سكن .

و آخرهم الصحابي عبد الله بن سعد بن أبي سرح –رضي الله عنه- ، كان واليا لعثمان بن عفان- رضي الله عنه- على مصر ، فلما سمع باستشهاده سنة 35ه اعتزل الفتنة ،و التحق بفلسطين فرارا من منها - أي الفتنة- فبقي بها إلى أن وافته المنية ، و هو في الصلاة ، سنة 36ه .
و من مظاهر الاعتزال الجماعي للفتنة ، أنه روي أن علي بن أبي طالب عندما ندب أهل المدينة للخروج معه للقتال لم يوافقوه ،و أبوا الخروج معه ، فكلّم عبد الله بن عمر شخصيا للخروج معه ، فقال له : أنا رجل من المدينة . ثم كرر عليهم دعوته للسير معه عندما سمع بخروج أهل مكة إلى البصرة ، فتثاقل عنه أكثرهم ،و استجاب له ما بين : 4-7 من البدريين .
و أما الصحابة الذين اعتزلوا الفتنة ،و كان لهم فيها نشاط بارز في دعوة الناس إلى اعتزالها ، فأولهم أبو موسى الأشعري –رضي الله عنه – فكان يجمع الناس في الكوفة ،و يحذرهم من المشاركة في الفتنة ،و يذكّرهم بما سمعه من رسول الله –صلى الله عليه و سلم- في دعوته لاعتزال الفتن . فمن ذلك أنه كان يقول لهم : يا أيها الناس إن هذه الفتنة ، فتنة باقرة كداء البطن ، لا ندري أنى تؤتى ، تأتيكم من مأمنكم ،و تدع الحليم كأنه ابن أمس ، قطّعوا أرحامكم ، و انتصلوا رماحكم .
و عندما حل عمار بن ياسر –رضي الله عنه – بالكوفة و شرع في استنفار الناس ليلتحقوا بجيش علي ، أنكر عليه أبو موسى الأشعري ، و أبو مسعود البدري –رضي الله عنهما – فعله ، و قالا له : ما رأينا منك أمرا منذ أسلمت أكره عندنا من إسراعك في هذا الأمر . فقال عمار : ما رأيت منكما منذ أسلمتما أمرا أكره عندي من إبطائكما عن هذا الأمر .
و من الأحاديث النبوية التي رواها أبو موسى الأشعري في صده للناس عن الفتنة ثلاثة أحاديث ، أولها أن رسول الله –صلى الله عليه و سلم- قال عن أيام الفتنة : (( كسّروا قسيّكم ،و قطّعوا أوتاركم ،و ألزموا أجواف البيوت ، و كونوا فيها كالخيّر من بني آدم )) . و ثانيها أن أبا موسى الأشعري خطب في الناس زمن الفتنة ، فكان مما قاله لهم : (( قال رسول الله –صلى الله عليه و سلم- إن من بين أيديكم فتنا كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل فيها مؤمنا و يمسي كافرا ، و يمسي مؤمنا و يصبح كافرا ، القاعد فيها خير من القائم ،و القائم فيها خير من الماشي ، و الماشي فيها خير من الساعي )) . و ثالثها قوله عليه الصلاة و السلام : (( إذا التقى المسلمان بسيفهما ، فالقاتل و المقتول في النار )) ، فقيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : (( إنه كان حريصا على قتل أخيه )) .

و رُوي أن عليا و أصحابه كانوا منزعجين من نشاط أبي موسى الأشعري ، في دعوته للناس باعتزال الطائفتين المؤمنتين المتقاتلتين ، لأن عمله هذا كان يصد الناس عن الالتحاق بهم . فمن ذلك خبران ، أولهما ما رواه الطبري بقوله : حدثنا عمر بن شبّة ، حدثنا أبو الحسن-المديني- حدثنا بشير بن عاصم عن ابن أبي ليلى ، عن أبيه أنه قال : لما سمع علي بن أبي طالب بأن واليه على الكوفة أبا موسى الأشعري يدعوا الناس إلى اعتزال الفتنة ، بعث إليه كتابا مع هاشم ابن عتبة ، يخبره فيه أنه أرسل إليه هاشم بن عتبة ليحرّض أهل الكوفة على الالتحاق به ، ثم قال لأبي موسى : (( فإني لم أولك الذي أنت فيه إلا لتكون من أعواني على الحق )) ، فلما وصل الكتاب إلى أبي موسى لم يستجب لعلي فيما أمره به من تجميع الناس و الوقوف معه . فكتب هاشم بن عتبة إلى علي يقول له عن أبي موسى : (( إني قد قدمت على رجل غال ظاهر الغل و الشنآن ))- أي البغض- فأرسل إليه علي بن أبي طالب ، ابنه الحسن و عمار بن ياسر –رضي الله عنهم- ليستنفرا له الناس ، و بعث قرظة بن كعب الأنصاري أميرا على الكوفة خلفا لأبي موسى و كتب إليه يقول : (( إلى أبي موسى ، أما بعد فقد كنت أرى أن بعدك عن هذا الأمر ، الذي لم يجعل لك منه نصيبا ، سيمنعك من رد أمري . . . فاعتزل عملنا مذموما مدحورا ،و فإن لم تفعل فإني قد أمرته –أي قرظة بن كعب- أن ينابذك ، فإن نابذته فظفر بك أن يقطّعك آرابا )) ، فلما وصل الكتاب إلى أبي موسى اعتزل الإمارة .
فهذه الرواية صريحة في أن أبا موسى الأشعري كان يعمل على عكس سياسة علي بن أبي طالب ، مما جعله ينزعج منه و يذمه ،و يهدده باستخدام القوة ضده ، إن هو لم يعتزل إمارة الكوفة . و أن أبا موسى قد أزعج عليا و أصحابه عندما حث الناس على اعتزال الفتنة ،و عدم القتال مع أي طائفة من الطائفتين المتنازعتين . لكنني مع ذلك استبعد هذه الرواية ،و اعتقد أنها غير صحيحة في كثير مما ذكرته ، و ذلك لأمرين ، أولهما أن في إسنادها : ابن أبي ليلى عن أبيه ، و هو ليس بالقوي ،و مضطرب الحديث ،و لم يسمع من والده شيئا ، لأنه لم يدركه ، فقد توفي والده و هو طفل صغير . و هذا يعني أن إسناد الرواية ضعيف ، فيه انقطاع و إرسال .
و الثاني أن متن الرواية فيه ما ينكر و يستهجن و يستبعد ، فهي زعمت أن أبا موسى الأشعري –رضي الله عنه- كان ظاهر الغل و البغض لعلي و أصحابه ، و هذا غير صحيح ، لأن أبا موسى سبق و أن ذكرنا أنه لم يكن يذم أحدا من المسلمين ، و إنما كان يحذّرهم من الفتنة ،و يثبّطهم عن المشاركة فيها شفقة عليهم .

كما أن في جواب علي لأبي موسى –رضي الله عنهما- شدة و مبالغة في الذم و التهديد و التوعّد بعزله و محاربته و تقطيعه إربا إربا إن هو أصر على بقائه أميرا على الكوفة . و هذا التصرّف-في اعتقادي- لا مبرر له و بعيد أن يصدر عن صحابي جليل كعلي بن أبي طالب ، تجاه صحابي جليل مسالم يدعوا إلى حقن دماء المسلمين .

و الرواية الثانية هي الأخرى للطبري ،و فيها أن نصر بن مزاحم قال : حدثنا عمر بن سعيد ، قال حدثني رجل عن نعيم ، عن أبي مريم الثقفي ، قال : عندما كان عمار بن ياسر و أبو موسى الأشعري يتجادلان في مسجد الكوفة دخل غلمان لأبي موسى المسجد و هم يصرخون ،و يقولون أن الأشتر النخعي دخل قصر الإمارة و ضربهم و أخرجهم ، فخرج أبو موسى من المسجد و دخل قصر الإمارة ، فصاح عليه الأشتر قائلا : اخرج من قصرنا ، لا أم لك ، أخرج الله نفسك ، فو الله إنك لمن المنافقين قديما )) ، فقال له أبو موسى : اجلني هذه العشية ، فقال : هي لك ،و لا تبيتن في القصر الليلة . ثم دخل الناس القصر ينتهبون متاع أبي موسى ، فمنعهم الأشتر و أخرجهم من القصر ،و قال : إني قد أخرجته ، فكف الناس عنه .
هذه الرواية هي الأخرى فيها تصوير ، لما كان يقوم به أبو موسى الأشعري في التصدي للفتنة و دعوة الناس إلى اعتزالها ،و رد فعل بعض أصحاب علي تجاه ما يقوم به ضد سياستهم ؛ لكنها –أي الرواية- لا تصح ، لأن في إسنادها : نصر بن مزاحم ، وهو كذاب متروك ، واهي الحديث رافضي جلد . و في الإسناد – أيضا- مجهول ، قال عنه عمر بن سعيد : حدثني رجل عن نعيم . فمن هو هذا الرجل ؟ فهو إذن مجهول العين و الحال .

و من نشاط أبي موسى الأشعري –رضي الله عنه- في تسكين الفتنة بين الطائفتين المؤمنتين المتقاتلتين ، إنه قبل أن يكون أحد الحكمين في قضية التحكيم بعد معركة صفين ، فمثّل أهل العراق في اجتماعه بممثل أهل الشام عمرو بن العاص –رضي الله عنه- فقام الاثنان بدورهما كاملا ،و اتفقا على و ثيقة عمل لوضع حد للفتنة .
و أما الصحابي الثاني ، فهو عمران بن حصين –رضي الله عنه- فقد اعتزل الفتنة و دعا الناس إلى اعتزالها ، و نهاهم عن بيع السلاح فيها .و قال ابن جرير الطبري : حدثنا عمرو بن علي- أبو حفص الصيرفي- حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا أبو نعامة العدوي ، عن حجير بن الربيع ، أنه قال : قال لي عمران بن حصين ، سر إلى قومك و اجمع ما يكونون ، فقم فيهم قائما ، فقل أرسلني إليكم عمران بن حصين صاحب رسول الله –صلى الله عليه و سلم- يقرأ عليكم السلام ، ثم ادعوهم إلى اعتزال الفتنة ، و إن اعتزالها على رأس جبل لرعي المعز ، هو أحب إلى عمران بن حصين، من أن يرمي بسهم واحد بين الفريقين . فلما ذهب إلى قومه و أخبرهم بما قاله لهم عمران بن حصين لم يسمعوا له ،و أصروا على الخوض في الفتنة و القتال فيها
و الصحابي الثالث هو أبو بكرة نفيع بن الحارث – رضي الله عنه – اعتزل الفتنة و لم ينظم إلي أية طائفة .و عندما التقى بالأحنف بن قيس حاملا سيفه ،و متوجها إلى الالتحاق بجيش علي بن أبي طالب ، أوقفه و أقنعه بالعدول عن رأيه ، بعدما أخبره أن رسول الله –صلى الله عليه و سلم- قال : (( إذا تواجه المسلمان بسيفهما ، فالقاتل و المقتول في النار ، فقيل : يا رسول الله ، هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : إنه أراد قتل صاحبه )) و في رواية : (( إنه كان حريصا على قتل صاحبه )) .
و هو قد روي حديثا نبويا فيه أمر باعتزال الفتنة ، و مفاده أن الرسول -عليه الصلاة و السلام – قال : (( ستكون فتنة يكون المضطجع فيها خيرا من الجالس ،و الجالس خيرا من القائم ،و القائم خيرا من الماشي ،و الماشي خيرا من الساعي ، )) فقال له أبو بكرة : يا رسول الله ما تأمرني ؟ قال : (( من كانت له إبل فليلتحق بإبله ،و من كانت له غنم فليلتحق بغنمه ،و من كانت له أرض فليلتحق بأرضه ،)) فقال له أبو بكرة : فمن لم يكن له شيء من ذلك ؟ قال : (( فليعمد إلي سيفه فليضربه بحده على حرة ، ثم لينجوا ما استطاع النجاء )) .
و الصحابي الرابع هو عبد الله بن سلام –رضي الله عنه- فقد اعتزل الفتنة و لم يلابسها ، و عندما رأى علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- قد قرر الخروج إلى العراق و تهيأ له ، نهاه عن ذلك ،و قال له : ألزم منبر رسول الله –صلى الله عليه و سلم- فإن تركته لا تراه أبدا . فقال علي لأصحابه : إنه رجل صالح منا )) .و في رواية أخرى أنه نصحه بعدم الخروج من المدينة ،و قال له : لئن خرجت منها لا ترجع إليها ،و لا يعود إليها سلطان المسلمين . فلم يعجب قوله بعض أصحاب علي ، فسبوه فتدخل علي و قال لهم : دعوه فنعم الرجل من أصحاب الرسول –عليه الصلاة و السلام- .
و أما الصحابة الذين انتسبوا إلى إحدى الطائفتين ثم انسحبوا كلية من الفتنة ، فمنهم اثنان هما : أبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري ،و جرير بن عبد الله البجلي –رضي الله عنهما- ، الأول ولاه علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- إمارة الكوفة عندما انصرف إلى صفين . لكن أبا مسعود لم يكن راضيا عما يجري في هذه الفتنة ، فكان يخطب في الناس و يقول لهم إنه لا يحب أن تقتتل الطائفتان ،و أنه يرجو أن يحقن الله تعالى دماءهم ، و يصلح ذات بينهم . و كان يقول أيضا : (( ما أود أن تظهر إحدى الطائفتين على الأخرى ، فقيل له ماذا تريد ؟ قال : أن يكون بينهم الصلح . فلما قدم علي إلى الكوفة ،و سمع به ، قال له : اعتزل عملنا . فقال له أبو مسعود لما ؟ قال علي : إنا وجدناك لا تعقل عقلة . قال أبو مسعود : أما أنا فقد بقي من عقلي أن الآخر شر )) .

و أنه أيضا وقف مع أبي موسى الأشعري –رضي الله عنهما- في دعوة الناس إلى اعتزال الفتنة ، تمسكا بما ورد من الأحاديث النبوية في اعتزال الفتنة و عدم حمل السلاح على المسلم . و قد صحّ أنهما أنكرا على عمار بن ياسر –رضي الله عنه- عندما قدم إلى الكوفة ليستنفر الناس على القتال ، فقالا له : ما رأينا منك أمرا منذ أسلمت ، أكره عندنا من إسراعك في هذا الأمر . فقال عمر : ما رأيت منكما منذ أسلمتما ، أمرا أكره عندي من إبطائكما عن هذا الأمر .
و أما الثاني: جرير بن عبد الله ، فقد أرسله علي بن أبي طالب ، إلى معاوية بن أبي سفيان –رضي الله عنهما- يدعوه لمبايعته ، ثم اعتزل الفريقين و لم يشارك في الفتنة .و يروى أن جريرا عندما اعتزل الطائفتين ، أرسل إليه علي بن أبي طالب ، يقول له : نعم ما رأيت من مفارقتك معاوية ، و إني أنزلك بمنزلة رسول الله –صلى الله عليه و سلم – التي أنزلكها )) ، فرد عليه جرير بقوله : (( إن رسول الله – صلى الله عليه و سلم- بعثني إلى اليمن أقاتلهم حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوا حرمت دماؤهم و أموالهم )) ، لذا فأنا لا أقاتل من يقول لا إله إلا الله .


و أما الصحابي الذي اعتزل القتال في الفتنة ثم التحق بعلي بن أبي طالب –رضي الله عنه- في النهروان ، فهو أبو أيوب خالد بن يزيد الأنصاري –رضي الله عنه- و ذلك أنه اعتزل الطائفتين المتقاتلتين في معركتي الجمل و صفين ، ثم التحق بعلي عندما أرسلته إليه أم المؤمنين أم سلمة –رضي الله عنها – فحضر معه معركة النهروان في حربه للخوارج .

و ختاما لمواقف الصحابة المعتزلين للفتنة ، أذكّر هنا بأن الصحابي الذي فرح بذهاب بصره قبل حدوث الفتنة ، هو : أبو أسيد مالك بن ربيعة الساعدي -رضي الله عنه- ، و ذلك أنه فقد بصره قبل استشهاد عثمان بن عفان- رضي الله عنه- فلما حدثت الفتنة قال : (( الحمد لله الذي متعني ببصري في حياة النبي-صلى الله عليه و سلم- ، فلم أراد الله الفتنة في عباده كف بصري عنها )) .

و يتبيّن مما ذكرناه عن الصحابة المعتزلين للقتال في الفتنة ، أنهم اتخذوا موقفا مغايرا للطائفتين المؤمنتين المتقاتلتين ، فتميزوا به و مدحتهم الأحاديث النبوية لأجله ، و صوّبت موقفهم من الفتنة . و أنهم ساهموا في تحجيم الفتنة و التخفيف من حدتها ، بفضل جهودهم في دعوة الناس إلى اعتزالها ،و تجنيبهم الاكتواء بنارها .و أن من بين المعتزلين للفتنة صحابة كبار من السابقين الأولين من المهاجرين و الأنصار ، كسعد ابن أبي وقاص ،و عبد الله بن عمر ،و محمد بن مسلمة ، و سعيد بن زيد –رضي الله عنهم- و قد كانت معهم أحاديث نبوية صحيحة صريحة في ذم الفتنة و الحث على اعتزالها .

مقارنة بين الصحابة المعتزلين للفتنة و الخائضين فيها :

ذكرنا في المبحث السابق طائفة من الصحابة المعتزلين للفتنة ، و قد بلغ عددهم ستا و عشرين ( 26) صحابيا ، من بينهم : خمسة عشر ( 15) صحابيا ، هم من أعيان الصحابة و أعلامهم ، من المهاجرين و الأنصار ، و للتذكير بهم و مقارنتهم بالصحابة الخائضين في الفتنة ، نورد جدولا مقارنا يضم أشهر أولئك و هؤلاء ، كما هو مبيّن في الجدول الآتي :




جدول مقارن لأشهر الصحابة المعتزلين للفتنة و الخائضين فيها
المعتزلون للفتنة أهل الكوفة أصحاب الجمل و الشام
سعد علي طلحة
سعيد بن زيد ابن عباس الزبير
ابن عمر عمار بن ياسر عبد الله بن الزبير
أسامة بن زيد الحسن بن علي معاوية
محمد بن مسلمة الحسين بن علي عمرو بن العاص
عبد الله بن سلام سهل بن حنيف عبد الله بن عمرو بن العاص
جرير بن عبد الله عثمان بن حنيف النعمان بن بشير
أبو موسى الأشعري جابر بن عبد الله أبو غادية الجهني
أبو مسعود البدري خوات بن جبير حبيب بن مسلمة
أبو هريرة عدي بن حاتم أبو الأعور السلمي
أبو بكرة - -
أهبان بن صيفي - -
عمران بن حصين - -
زيد بن ثابت - -
صهيب بن سنان - -


واضح من الجدول أعلاه أن الصحابة المعتزلين للفتنة هم أكثر عددا ،و فيهم أعيان مشهورون لا يوجد مثلهم في الطائفتين الأخريين ، كسعد بن أبي وقاص ،و أبي هريرة ،و عبد الله بن عمر،و أبي موسى الأشعري ،و صهيب بن سنان الرومي ،و عمران بن حصين ،و أسامة بن زيد –رضي الله عنهم- و من بينهم ثلاثة مشهود لهم بالجنة ، و هم : سعد بن أبي وقاص ، و عبد الله بن سلام ، و سعيد بن زيد
و أما الصحابة من أهل العراق –أصحاب علي- فالمشهور منهم قليل ، كما هو موضح في الجدول ، على رأسهم : علي بن أبي طالب ،و ابن عباس ،و عمار بن ياسر ،و الحسن و الحسين – رضي الله عنهم- من بينهم واحد مشهود له بالجنة هو الإمام علي .
و نفس الشيء يقال عن الصحابة من أصحاب الجمل و الشام ، فالمشهور منهم قليل كما هو مبيّن في الجدول ، و على رأسهم : طلحة بن عبيد الله ،و الزبير بن العوام ، و معاوية بن أبي سفيان ،و عمرو بن العاص ، - رضي الله عنهم – و يوجد من بينهم اثنان مشهود لهما بالجنة ، هما : طلحة و الزبير ،و هما بالضبط من أصحاب الجمل ، أما أهل الشام فلا يوجد فيهم من هو مشهود له بالجنة .

و ختاما لهذا الفصل يتبين لنا منه ، أن الصحابة الكرام قد تباينت مواقفهم من القتال في الفتنة ، فطائفتان خاضتا فيها ،و طائفة ثالثة اعتزلتها ،و دعت الناس إلى اعتزالها ، متمسكة بأحاديث نبوية صحيحة صريحة في ذم الفتنة و الحث على اعتزالها ، و تصويب موقف المعتزلين لها . و أن من بين هذه الطائفة -أي الثالثة- صحابة كبار من السابقين الأولين من المهاجرين و الأنصار ، ساهموا في تخفيف حدة الفتنة ، و مثّل موقفهم بديلا عن الحرب تبناه كثير من المسلمين و وجدوا فيه السلامة و الأمان .

الفصل الثاني
ردود و مناقشات حول الصحابة المعتزلين للفتنة
خصصت هذا الفصل لدراسة و مناقشة خمس قضايا هامة تخص الصحابة المعتزلين للفتنة ، نتطرّق إليها فيما يأتي تباعا ، إن شاء الله تعالى.
أولا : مجموع الصحابة المعتزلين للفتنة :
ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني، أن جمهور الصحابة خاضوا في الفتنة ،و قاتلوا فيها . و هذا يعني أن قلة من الصحابة اعتزلت القتال ،و أكثريتهم خاضته . فهل قوله هذا صحيح ؟
لا أوافقه فيما قاله ،و اعتقد أنه أخطأ في فيما ذهب إليه ، لأنة توجد شواهد تاريخية صحيحة تخالفه . أولها رواية صحيحة الإسناد ذكرها معمر بن راشد ، عن أيوب السختياني ، عن محمد بن سيرين أنه قال : لما حدثت الفتنة كان عدد الصحابة عشرة آلاف ، لم (( يخف منهم أربعون رجلا )) .و نفس الرواية ذكرها أبو بكر الخلال بإسناد صحييح ، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل ، عن أبيه ، عن اسماعيل-ابن علية- عن أيوب- السختياني- عن محمد بن سيرين ، أن قال : (( هاجت الفتنة و أصحاب رسول الله –صلى الله عليه و سلم- عشرة آلاف ، فما حضر فيها مائة ، بل لم يبلغوا ثلاثين )) . فهتان الروايتان صريحتان في أن من جملة عشرة آلاف صحابي لم يشارك منهم في الفتنة إلا قلة قليلة لا تصل إلى أربعين شخصا .
و أما ما رواه الحاكم النيسابوري بإسناده عن محمد بن علي الصنعاني ، عن اسحاق بن إبراهيم ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، عن محمد بن سيرين ، أنه قال : ثارت الفتنة و الصحابة عددهم 10 آلاف ، لم يخف فيها منهم إلا أربعون رجلا . و وقف مع علي بن أبي طالب مائتان و بضع و أربعون رجلا من أهل بدر ، منهم : أبو أيوب ،و سهل بن حنيف ،و عمار بن ياسر .فهو خبر لا يصح -بهذه الصيغة -، متنا و لا إسنادا ، فمتنها متناقض ، لأنه نص على أنه لم يشارك في الفتنة إلا أربعون صحابيا ، ثم يذكر مباشرة أن أكثر من 240 صحابيا بدريا و قفوا مع علي بن أبي طالب ! أليس هذا تناقض صارخ ؟ ! و هذا المتن المتناقض ترده أيضا ، الروايتان الصحيحتان اللتان سبقا ذكرهما عن محمد بن سيرين .
و أما إسنادها ، فمن رجاله : إسحاق بن إبراهيم بن عباد الديري (ت 283ه) ، و هو ضعيف ، روى عن عبد الرزاق أحاديث منكرة و رواية الحاكم هذه تعرضت –على ما يبدو- للتلاعب و التحريف على يد بعض رواتها ، قد يكون إسحاق بن إبراهيم بن عباد الديري ، و ربما تعرضت لذلك خطأ لا عمدا . و ذلك أن الرواية في أصلها عند معمر بن راشد تختلف عن رواية الحاكم ، و فيها أن محمد بن سيرين قال : لما حدثت الفتنة ، كان عدد الصحابة 10 آلاف ، لم (( يخف منهم أربعون رجلا )) ، ثم قال معمر- مباشرة – و قال غيره خف مع علي بن أبي طالب ، مائتان و بضعة و أربعون ، من أهل بدر ، منهم : أبو أيوب ،و سهل بن حنيف ، و عمار بن ياسر . فرواية معمر الأصلية ، فيها روايتان ، الأولى عن محمد بن سيرين و فيها مجموع الصحابة و عدد من شارك منهم في الفتنة . و الثانية خاصة بالذين قاتلوا مع علي من الصحابة ، و قد رواها معمر عن غير محمد بن سيرين ، و هذا الغير مجهول ، و قد عبر عنه معمر بقوله : (( و قال غيره )) دون أن يعرفنا به . لكن رواية الحاكم أدمجت الخبرين في رواية واحدة هي لابن سيرين ، لذلك جاءت متناقضة . مع العلم أن الخبر الثاني الذي ورد في رواية معمر ، لا يصح لأنه يفتقد إلى الإسناد ،و متنه ترده الروايتان الصحيحتان اللتان سبقا ذكرهما ،و لأنه أيضا يرده الخبر الأول الصحيح عن ابن سيرين في رواية معمر بن راشد .

و الشاهد الثاني ، ما رواه أبو بكر الخلال بإسناد صحيح ، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل ، عن أبيه ، عن سفيان ، عن منصور بن عبد الرحمن ، عن الشعبي أنه قال : (( لم يشهد الجمل من أصحاب النبي – عليه الصلاة و السلام- غير علي ،و عمار ،و طلحة ،و الزبير ، فإن جاؤوا بخامس فأنا كذاب )) . و نفس الرواية ذكرها احمد بن حنبل ، عن إسماعيل بن علية ، عن منصور بن عند الرحمن ، عن الشعبي . و رواها أيضا ابن أبي شيبة عن ابن علية ، عن منصور بن عبد الرحمن ، عن الشعبي .

هذه الرواية أسانيدها صحيحة ، و قد نصت على أنه لم يشارك من الصحابة في موقعة الجمل إلا أربعة فقط ، لا خامس لهم . و هذا يعني أن الغالبية الساحقة من الصحابة قد اعتزلوا الفتنة في هذه الموقعة . لكن مع ذلك فإن هذه الرواية –أي رواية الشعبي- بعيدة عن الحقيقة و يصعب قبولها بتلك الصيغة ، و ذلك أن الشعبي أكد على أنه لم يشارك في الجمل إلا أربعة من الصحابة ، فإن جاء غيره بخامس فهو –أي الشعبي – كذاب . لكن نحن نعلم أنه من المعروف أن صحابة آخرين كانوا مع علي بن أبي طالب في موقعة الجمل ، و منهم : عبد الله بن عباس ، و الحسن و الحسين ، و سهل بن حنيف ، و عثمان بن حنيف . و لا شك أن الشعبي لم يكن يجهل أن هؤلاء كانوا مع علي بن أبي طالب ، يوم الجمل . فلماذا إذن قال ذلك ؟ .

قد يقال أن الشعبي أراد بذلك كبار الصحابة السابقين من المهاجرين و الأنصار ، و هم : علي و عمار ، و طلحة و الزبير ، و لم يكن يقصد صغارهم . و هذا احتمال وارد جدا ، لكن الرواية ترده ، فهي قد ذكرت الصحابة مطلقا دون تمييز ، و حددتهم بأربعة لا خامس لهم . لكن الذي يثبت ذلك الاحتمال ،و يفسر مقصود الشعبي ،و يرجح بأن الرواية قد حدث فيها سقط و التباس ، هو أن الطبري روى بإسناده عن الشعبي أنه قال : (( بالله الذي لا إله إلا هو ما نهض في تلك الفتنة-دون تحديد للمعركة- إلا ستة بدريين ما لهم من سابع ، أو سبعة ما لهم ثامن )) . و في رواية أخرى عن الشعبي أنه قال : (( بالله الذي لا إله إلا هو ، ما نهض في ذلك الأمر إلا ستة بدريين، ما لهم من سابع )) . فواضح من هاتين الروايتين أن الشعبي لم يكن يقصد مطلق الصحابة ، و إنما قصد البدريين فقط ، و قد حددهم بستة إلى سبعة ، شاركوا في الفتنة- الجمل و صفين- و كان قد حددهم بأربعة فقط شاركوا في موقعة الجمل ، حسب روايته الأولى . و بذلك يكون ما رواه الشعبي دليل آخر على أن غالبية كبار الصحابة قد اعتزلوا الفتنة ،و لم يلابسها إلا قليل منهم .

و الشاهد الثالث هو أن الصحابة المعروفين الذين شاركوا في الفتنة ،و المذكورة أسماؤهم في التواريخ و التراجم ، عددهم محدود جدا ، و قد أحصيت منهم نحو 35 صحابيا . و هذا يعني أن غالبيتهم قد اعتزلوا الفتنة ، فلو كان عددهم فيها كبيرا لعرفنا منهم أكثر من 35 صحابيا أضعافا مضاعفة . و أما ما رواه اليعقوبي (ت 292 ه) من أنه شارك مع علي 1100صحابي ، و قدرهم المسعودي ( ت346 ه) ب : 2800 صحابي . فهو زعم باطل لا دليل عليه ، لأن الروايات الصحيحة السابقة الذكر ، تبطل ما زعمه اليعقوبي و المسعودي . و لأن المصنفات الأخرى التي أرخت للفتنة لم تذكر ذلك العدد الكبير ، لا من حيث الأسماء و لا من حيث العدد . كما أن مبالغة هذين المؤرخين في العدد من و رائها النزعة الشيعية ، فهما شيعيان متطرفان كما هو واضح في كتابيهما ، و الشيعة عند المحقيقين لا وزن لرواياتهم ، لأنهم يتعمدون الكذب .
كما أنه لا يخفى علينا أن المؤرخّين اليعقوبي و المسعودي ، لم يذكرا للخبر – الذي زعماه- إسنادا ، لكي ننقده و نتعرف على صحته من سقمه . و بما أنهما لم يذكرا الإسناد فروايتاهما مردودتان ، لأنهما فقدتا شرطا أساسيا من شروط نقد الخبر لتمييز صحيحه من سقيمه . و حتى إذا افترضنا جدلا صحة ما زعمه اليعقوبي و المسعودي ، فإن عدد الصحابة المشاركين في الفتنة يبقى قليلا ، و المعتزلون لها يبقى عددهم كبيرا ، لأن مجموع عدد الصحابة –عند بداية الفتنة- قدر ب: 10 آلاف ، فأين 2800 صحابي الذين زعم المسعودي أنهم كانوا مع علي ، من ذلك المجموع العام ؟ ! .
و الشاهد الرابع هو أن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- لما طلب من أهل المدينة الخروج معه للتصدي لأهل مكة و الشام ، تثاقل عنه أكثرهم ،و لم يستجب له إلا ما بين : 4-7 من البدريين . و هذا يعني أن المدينة - عاصمة الخلافة الإسلامية - ، التي كان يسكنها كثير من الصحابة ، لم يخرج منهم مع علي إلا عدد قليل .

و أخيرا يُستنتج مما ذكرناه أن الغالبية العظمى من الصحابة قد اعتزلوا الفتنة ، ما عدا قلة قليلة منهم قد شاركت فيها ، يقدر عددها بالأربعين صحابيا ، و قد يزيد على ذلك أو يقل .مما يثبت أن ما قاله الحافظ ابن حجر العسقلاني من أن جمهور الصحابة قد شاركوا في الفتنة ، هو غير صحيح تماما .
ثانيا : هل كان المعتزلون للفتنة على خطأ ؟ :
ذهب الباحث أبو الأعلى المودودي إلى القول بأن الصحابة المعتزلين للفتنة ، كانت نواياهم حسنة أملا في درئها ، لكن موقفهم منها أدى إلى تفاقمها ،و بث الشك في قلوب الناس ، و كان على الأمة أن تتعاون مع علي بن أبي طالب لاستعادة الأمن و السلام للخلافة . و هذا يعني أن المعتزلين كانوا على خطأ في اعتزالهم للفتنة ،و أنهم ساهموا في تفاقمها . فهل ما ذهب إليه المودودي صحيح ؟ . لا أوافقه على كل ما قاله ، و ردي عليه سيتركز فيما يأتي :
أولا إن كبار الصحابة المعتزلين للفتنة ، كانت معهم أحاديث نبوية صحيحة صريحة – سبق ذكرها – في الحث على اعتزال الفتنة ،و قد مدحهم فيها رسول الله –صلى الله عليه و سلم- و صوّب موقفهم منها . لذا فهؤلاء لم يكن في وسعهم ترك الأحاديث التي سمعوها من النبي- عليه الصلاة و السلام- ، ثم الالتحاق بالفتنة ليخوضوا في دماء المسلمين .
و ثانيا أنه صح عن رسول الله –صلى الله عليه و سلم –أنه حث على اعتزال الفتنة ، في قوله : (( ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم ،و القائم فيها خير من الماشي ، و الماشي فيها خير من الساعي ، من تشرّف لها تستشرفه ، فمن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به )) . و في حديث آخر قال فيه عليه الصلاة و السلام ، للحسن بن علي : (( ابني هذا سيد ، و لعل الله يصلح به بين فئتين من المسلمين )) . و واضح من هذين الحديثين أن اعتزال الفتنة هو الصواب ، و هو المطلوب شرعا ،و أن الصلح محبوب عند الله تعالى ،و أولى من القتال الذي خاضته الطائفتان الأخريان .
و ثالثا أن المعتزلين للفتنة قد احتجوا بأحاديث نبوية صحيحة تمسكوا بها دعما لموقفهم ، لكن الخائضين في الفتنة لم تكن معهم نصوص شرعية كالتي عند المعتزلين ، تأمرهم بالقتال في الفتنة و إنما اعتمدوا على اجتهاداتهم و آرائهم ، و مثال ذلك أن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه – عندما غادر المدينة متوجها إلى العراق ، قال له أحد أتباعه : (( اخبرنا عن مسيرك هذا ، أعهد عهده إليك رسول الله –صلى الله عليه و سلم- أم رأي رأيته ؟ فقال علي : ما عهد إلينا رسول الله –صلى الله عليه و سلم- بشيء ، و لكنه رأي رأيته )) . و في رواية أخرى أن عليا خطب في الناس فقال : (( إن رسول الله –صلى الله عليه و سلم- لم يعهد إلينا في الإمارة شيئا ،و لكن رأي رأيناه )) . فمن الأولى بالصواب ، المعتزلون للفتنة المتمسكون بالأحاديث النبوية ، أم الخائضون فيها المعتمدون على الرأي و الاجتهاد و لا أحاديث معهم ؟ !
و رابعا أن مما يدل على أن المعتزلين للفتنة كانوا على صواب في موقفهم منها ، هو أن بعض كبار الذين خاضوا في الفتنة ، ندموا على خوضهم فيها ، منهم : علي و ابنه الحسن – رضي الله عنهما - فقد صحّ أن علي قال لابته الحسن –يوم الجمل- يا حسن ليت أباك مات قبل عشرين سنة . فقال له الحسن : قد كنت أنهاك عن هذا . فرد عليه : يا بني لم أر أن الأمر يبلغ هذا . و في رواية أخرى أنه ضم الحسن إلى صدره و قال : إن لله يا حسن ، أي خير يرجى بعد هذا ؟ . و يروى أنه قال للحسن ليالي صفين : يا حسن ما ظن أبوك أن الأمر يبلغ هذا . هذا و غيره هو الذي أوجب على علي بن أبي طالب أنه لو استقبل من أمره ما استدبر، ما فعل ما فعل .
و خامسا أن مما يصوّب موقف المعتزلين للفتنة ، أن هذه الفتنة لم تحقق للمسلمين مصلحة في دينهم و لا في دنياهم ، فنقص الخير و ازداد الشر ،و سفكت الدماء ،و قويت العداوة و البغضاء ، و تفرّقت الأمة شيعا و أحزابا ،و لم يجتمع الناس على إمام واحد ، و ضعفت طائفة علي التي كانت أقرب إلى الحق ،و قويت طائفة معاوية . و معلوم أن الفعل الذي تكون مصلحته راجحة على مفسدته يحصل به من الخير أعظم مما يحصل من عدمه ، فترك القتال كان أفضل و أصلح و أخير .
و سادسا أن مما يدل على صواب موقف المعتزلين للفتنة ، أنهم باعتزالهم لها فعلوا المأمور و المستحب شرعا ، اعتمادا على ما كان معهم من الأحاديث النبوية ، عكس الخائضين في الفتنة ، الذين لم يكن خوضهم فيها واجبا و لا مستحبا ، و كان تركهم له خير من فعله ، لأنه قتال فتنة .
و سابعا أن كثيرا من كبار الصحابة السابقين من المهاجرين و الأنصار ، كسعد ، و أبي هريرة ، و ابن عمر ، و سعيد بن زيد ،و صهيب ، و محمد بن مسلمة ، و غيرهم رضي الله عنهم ، قد اعتزلوا الفتنة و لم يوافقوا عليا و طلحة و الزبير –رضي الله عنهم- في خوضهم للفتنة . و هؤلاء الأكابر –المعتزلون للفتنة – على حبهم لعلي و تقديمهم له لم يوافقوه على أمر القتال ، و لم ينظموا إليه . فدل كل ذلك على أن موقفهم هو الأصح و الأولى بالاتباع .
و بصفة عامة فان مشاركة المعتزلين للفتنة في القتال بجانب علي بن أبي طالب ، ما كانت لتضع حدا للحرب على ما ذهب إليه أبو الأعلى المودودي ، بل تزيدها ضراوة ، لأن كل أطراف الحرب كانت مصرة على مواقفها . أفليس عدم خوضهم فيها أضعفها و جنّب كثيرا من الناس الاكتواء بها ؟ . مع العلم أن المعتزلين للحرب لم ينكروا حق علي في الخلافة و أهليته لها ، و إنما خالفوه عندما عزم على القتال ، و هم لم يكونوا على استعداد للخوض معه في دماء المسلمين ،و ترك قناعاتهم و ما سمعوه من رسول الله –صلى الله عليه و سلم- ،و يتبعون عليا في رأي رآه ندم عليه فيما بعد ،و خالفه فيه كثير من كبار الصحابة . و هو –أي علي – في خوضه للقتال لم يحقق ما كان يرجوه ، فلا هو اقتص من قتلة عثمان ،و لا انتصر على أهل الشام ، و لا تحكّم في جيشه . و لماذا لا يقال - أيضا- إنه كان في مقدور علي أن يضع يده مع المعتزلين للقتال ، و يتعاون مع المطالبين بدم عثمان ، ليقتص من المجرمين ، و تسقط حجة المطالبين بالاقتصاص كشرط للبيعة ، و بذلك يعود الأمن و السلام للخلافة الإسلامية ؟ ، لكنه لم يفعل ذلك .

و ختاما لما ذكرناه في هذا المبحث ، يتبين لنا منه أن موقف الصحابة المعتزلين للقتال في الفتنة ، كان صوابا تدعمه أدلة كثيرة على مستوى النصوص الشرعية ،و الشواهد النظرية و العملية .
ثالثا : هل ندم ابن عمر على اعتزاله للفتنة ؟ :
ذكر ابن عبد البر أن الأخبار صحت ، من أن الصحابي عبد الله بن عمر - رضي الله عنه – ندم على اعتزاله للفتنة ،و أنه قال : ما آسى على شيء ، كما آسى أني لم أقاتل الفئة الباغية مع علي بن أبي طالب . فهل صحيح أنه ندم على عدم مشاركته في القتال مع علي ؟ هذا ما أجيب عنه من مناقشتي لما قاله ابن عبد البر .

أولا فقد روي عن عبد الله ابن عمر – رضي الله عنه – ما يعارض ذلك ، فإنه قال –بعد الفتنة - : (( كففت يدي ، فلم اندم ،و المقاتل على الحق أفضل )) . و ثانيا أن تلك الرواية ذكرها ابن عبد البر بلا إسناد ، و هي إن صحت فمن المحتمل جدا أن ابن عمر يقصد بالفئة الباغية الخوارج الذين خرجوا على علي بن أبي طالب و حاربهم ، و هم الذين صحت الأحاديث النبوية في ذمهم و تصويب موقف من قاتلهم .
و ثالثا أنه صحّ الخبر عن ابن عمر أنه قصد بالفئة الباغية الطاغية الحجاج بن يوسف الثقفي ، فقد روي عن روح بن عباد ، عن العوام بن حوشب ، عن عياش العامري ، عن سعيد بن جبير ، أنه قال : (( لما احتضر ابن عمر ، قال : ما آسى على شيء من الدنيا إلا على ثلاث : ضمأ الهواجر ،و مكابدة الليل ، و أني لم أقاتل الفئة الباغية التي نزلت بنا ، يعني الحجاج )) .

و رابعا أنه لا يمكن أن يترك عبد لله بن عمر الأحاديث النبوية الكثيرة ، التي ذمت الفتنة ، و حثت على اعتزالها ، و صوّبت موقف المعتزلين لها ، ثم هو يتخذ موقفا مغايرا لذلك و هو من أشد الصحابة تمسكا بالسنة كما هو مشهور عنه .

و خامسا أنه لا يعقل و من المستبعد جدا أيضا ، أن يندم عبد الله بن عمر -رضي الله - على عدم مشاركته في الفتنة بجانب علي بن أبي طالب ، و علي و ابنه الحسن – رضي الله عنهما – قد ندما على ما أقدما عليه في الفتنة ، و قد سبق و أن أثبتنا ذلك .
و سادسا أنه من المستبعد جدا أن يندم ابن عمر على عدم فعل عمل مكروه ، طهّر الله يده منه ، و هو فعل ليس بواجب و لا بمستحب ، لأنه قتال فتنة غير مأمور به ،و تركه خير من فعله . و لأنه أيضا جرّ على المسلمين الويلات و المآسي . فهل يندم ابن عمر على ذلك و هو الذي صح عنه أنه كان يقول – أيام الفتنة - : (( من قال حي الصلاة أجبته ، و من قال : حي على قتل المسلم ،و أخذ ماله ، فلا )) .

و بناء على ما ذكرناه يتبين لنا منه أن ما روي عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنه – من أنه ندم على اعتزاله للفتنة و عدم قتاله بجانب علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – هو خبر مستبعدا جدا ، و أن الأصح أنه لم يندم على موقفه ، وأنه قصد بالفئة الباغية الحجاج بن يوسف و حزبه .
رابعا : هل أخطأ سعد بن أبي وقاص في اعتزاله للفتنة ؟ :
روى الحاكم النيسابوري عن أبي زكريا يحيى بن محمد العنبري ، عن إبراهيم بن أبي طالب ، عن علي بن المنذر ، عن ابن فضيل ، عن مسلم الملائي ، عن خثيمة بن عبد الرحمن ، أنه قال : سمعت رجلا قال لسعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – أن عليا يقع فيك لتخلفك عنه ، فقال سعد : (( و الله إنه لرأي رأيته ، و أخطأ رأي )) ، ثم قال سعد : إن عليا أعطي ثلاثا لئن أكون أعطيتُ إحداهن أحب إلي من الدنيا و ما فيها ، منها قول الرسول- صلى الله عليه و سلم – لعلي : (( من كنت مولاه فلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، و عاد من عاداه )) . فهل ما رواه الحاكم عن سعد بن أبي وقاص صحيح ؟ .
أولا إن إسناد تلك الرواية غير صحيح ، لأن من رجاله : مسلم بن كيسان الملائي ، و هو ليس بثقة ،و متروك الحديث . و هذا وحده دليل كاف لرد الرواية كلية ، لأنها فقدت شرطا أساسيا من شروط صحة الخبر .

و ثانيا أن الحديث الذي ورد في الرواية أنكره كثير من العلماء ، و من صححه منهم صحح منه القسم الأول منه فقط ، و هو : (( من كنت مولاه فعلي مولاه )) ، و قالوا أن الجزء الثاني زاده الناس . و هذا يعني أن الرواية موضوعة تلاعب بها الرواة و ادخلوا فيها ذلك الحديث غير الصحيح .و مما يزيد ذلك تأكيدا أنه لو صح ذلك الحديث لما تخلف سعد بن أبي وقاص ، و كبار الصحابة المعتزلين للفتنة ، عن الالتحاق بعلي بن أبي طالب ؛ و بما أنهم تخلفوا عن فعلا ، دلّ ذلك على بطلان الرواية و الحديث معا .

و ثالثا أنه مما يزيد تلك الرواية ضعفا و استبعادا أنها ذكرت أن سعدا قال : (( إن عليا أعطي ثلاثا لئن أكون أعطيت إحداهن ، أحب إلي من الدنيا و ما فيها )) و هذا كلام لا يصدق على سعد ، لأنه فعلا أعطي أحسن من ذلك ، و أعظم مما في الدنيا ، و هي الجنة ، فقد بشره بها رسول الله -عليه الصلاة و السلام - .
و رابعا أن مما يضعف تلك الرواية أيضا ، أن سعدا في اعتزاله للفتنة لم يكن شاكا و لا مترددا في موقفه من الفتنة ، بل كان مقتنعا به داعيا إليه ، فعندما جاءه ابنه عمر – و هو معتزل للفتنة -يدعوه للمشاركة في الفتنة ، ضرب على صدره ، و قال له : اسكت ، سمعت رسول الله – عليه الصلاة و السلام- يقول : (( إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي )) . و عندما جاءه رجل – أيام الفتنة – و قال له : مع أي الطائفتين أنت ؟ قال : ما أنا مع واحد منهما . فقال الرجل : فما تأمرني ؟ قال سعد : هل لك من غنم ؟ قال الرجل : لا ، فقال سعد : فاشتر غنما فكن فيها حتى تنجلي الفتنة .

و خلاصة ما ذكرناه ، أن ما رواه الحاكم النيسابوري من أن سعد بن أبي وقاص –رضي الله عنه – اعترف بأنه كان على خطأ في اعتزله للفتنة ، هو خبر غير صحيح ، لم يثبت إسنادا و لا متنا .
خامسا : هل شارك الصحابي أبو أيوب في موقعتي الجمل و صفين ؟

سبق و أن ذكرنا أن الصحابي أبا أيوب الأنصاري – رضي الله عنه – كان من بين الصحابة المعتزلين للفتنة ، لكن ابن عبد البر ذكر أن ابن الكلبي و ابن إسحاق قالا أن أبا أيوب شهد الجمل و صفين مع علي ابن أبي طالب – رضي الله عنه . و روى غيره أن أبا أيوب في التحاقه بعلي في الجمل و صفين ، كان يردد حديثا عن رسول الله –عليه الصلاة و السلام- يقول فيه : (( إن رسول الله عهد إلينا أن نقاتل مع علي الناكثين -أي أصحاب الجمل – فقد قاتلناهم ، و القاسطين -أي أهل الشام –فهذا وجهنا إليهم ، و المارقين –أي الخوارج - فلم أرهم بعد )) . فهل يصح ذلك عن أبي أيوب ؟ .

أولا إن رواية ابن عبد البر ، عن ابن الكلبي ، و ابن إسحاق ، ضعيفة الإسناد ، لأن هشام بن محمد الكلبي متروك رافضي ، ليس بثقة . و محمد بن إسحاق بن يسار متهم بالكذب ، و كثرة التدليس ، و قال عنه الدارقطني : لا يحتج به .

و ثانيا أنه توجد روايات تاريخية أخرى تخالف ما رواه ابن عبد البر ، و تؤكد على أن الصحابي أبا أيوب الأنصاري – رضي الله عنه – لم يشهد مع علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – معركة صفين ، و إنما التحق به عند قتاله للخوارج في موقعة النهروان .

و ثالثا أن الحديث الذي رُوي أن أبا أيوب الأنصاري كان يردده في قتاله مع علي بن أبي طالب ، في معركتي الجمل و صفين ، هو حديث غير صحيح ، رده أهل الحديث ، و ذكره بعضهم ، -كابن الجوزي ،و السيوطي ، و الشوكاني - في الأحاديث الموضوعة .

و بذلك يتبين لنا جليا أن ما رواه ابن عبد البر عن أبي أيوب الأنصاري –رضي الله عنه – من أنه التحق بجيش علي فبل معركة النهروان ، و أنه كان يردد حديث الناكثين و القاسطين ، هو خبر لم يثبت ، و أن الأصح أن أبا أيوب اعتزل الجمل و صفين ، و لم يلتحق بعلي إلا في معركة النهروان سنة 38ه .

و ختاما لما ذكرناه في هذا الفصل ، يتبين لنا منه أن الغالبية الساحقة من الصحابة قد اعتزلوا الفتنة ، و إن قلة قليلة منهم قد خاضت فيها .و أن هؤلاء المعتزلين لها كانوا على صواب في موقفهم منها ، متمسكين بما كان معهم من الأحاديث النبوية عن ذم الفتنة و اعتزالها . و تبين أيضا أن ما قيل عن ندم ابن عمر عن اعتزاله للفتنة ، و أن سعدا اعترف بخطئه في موقفه منها ، هو أمر لم يثبت ، و أن الصحيح أنهما بقيا على موقفهما الأول من الفتنة .






الخاتمة

توصلت من دراسة قضايا هذا البحث إلى جملة نتائج ، منها : إن الصحابة المعتزلين للقتال في الفتنة يمثلون الغالبية الساحقة من الصحابة الكرام ، و كانت معهم أحاديث نبوية صحيحة صريحة في ذم الفتنة و الحث على اعتزالها ، و تصويب موقف من ابتعد عنها . و قد كان على رأس هؤلاء صحابة كبار من السابقين الأولين من المهاجرين و الأنصار ، ساهموا بفاعلية في التخفيف من حدة الفتنة ، و دعوة الناس إلى اعتزالها . و أما الصحابة الخائضون فيها – أي الفتنة - فكان عددهم قليلا قد يصل إلى أربعين صحابيا ، أو يقل عن ذلك و أو يزيد بقليل .

و تبين أيضا أن الصحابة المعتزلين للفتنة كان موقفهم منها صحيحا صوابا ، أيدته الأحاديث النبوية الصحيحة الكثيرة التي سبق ذكرها ، و دعمته الآثار السلبية المدمرة التي انجرت عن القتال في الفتنة ، فزاد الشر و قل الخير ، و تفرّق الناس شيعا و أحزابا ، و أصبح بأسهم بينهم شديد ، و تكبدوا في أنفسهم خسائر بشرية كبيرة .

نرجو الدعاء لكل من ساهم

تم بحمد الله تعالى