شهدت مصر الأسبوع الماضى، تجربتين انتخابيتين متناقضتين تمام التناقض.. الأولى حدثت داخل حزب الوفد، حيث نافس الدكتور السيد البدوى، عضو الهيئة العليا للوفد، رئيس الحزب، وقتذاك، محمود أباظة.. وكانت معركة انتخابية حامية الوطيس ومشرفة بكل المقاييس.. فرغم قصر زمن المعركة الانتخابية إلا أنها لفتت انتباه الرأى العام المصرى كله، فأفردت محطات التليفزيون لها مساحات زمنية كبيرة، وعقدت مناظرات بينهما لأول مرة فى مصر.. وكان من الصعب التكهن بالنتيجة قبل إعلانها..
وكان ذلك سبباً آخر من أسباب حالة الترقب العامة فى الشارع المصرى.. وانتهت الانتخابات بفوز الدكتور السيد البدوى برئاسة حزب الوفد، وكانت نسبة الإقبال على التصويت تزيد على ٨٠%.. ولم تسجل حالات تزوير أو خروج عن الاحترام..
ولم يتراشق المتنافسان بالألفاظ الخارجة والأوصاف الجارحة.. وكانت أول انتخابات يخرج فيها رئيس كان يمسك بزمام الأمور فى يده وقت الانتخابات.. فلم يزد ذلك محمود أباظة إلا احتراماً وتقديراً.. وفاز السيد البدوى برئاسة الوفد فلم يزده ذلك إلا تواضعاً ووقاراً.
هذا النموذج الانتخابى الذى جرى فى الوفد هو ما كنا نشاهده فى انتخابات الدول الديمقراطية الحقيقية، ونشعر بالغيرة لعدم حدوثه عندنا.. ففى الانتخابات الأمريكية يصعب التكهن باسم الرئيس أو الحزب الذى سيفوز فى الانتخابات، وفى الانتخابات البريطانية تحدث دائماً مفاجآت، ومنها الإطاحة بجوردون براون رئيس الوزراء مؤخراً.. ولا يملك الرئيس الموجود فى السلطة أن يتلاعب بالنتائج، ولا تستطيع الحكومة القائمة أن تستخدم سلطتها لتزييف إرادة الناخبين.
هذه هى الديمقراطية الحقيقية التى تؤدى حتماً للتغيير، والتى تجعل المواطن يشعر بالانتماء وبقدرته على التأثير، وهى التى تجعله يشعر بقيمة رأيه والإدلاء بصوته فى صندوق الانتخاب، وتدفعه للمشاركة.. هكذا يكون الانتخاب فى النظم الديمقراطية.
أما التجربة الثانية، التى حدثت فى مصر الأسبوع الماضى، فكانت تجربة انتخابات التجديد النصفى لمجلس الشورى.. وهى التجربة التى أعادتنا سريعاً إلى أرض الواقع.. فلم يزد الإقبال فيها رسمياً على ٣٠%، وشهدت تجاوزات كثيرة رصدتها وتحدثت عنها الصحف والفضائيات وتقارير منظمات المجتمع المدنى.. ولابد هنا من وقفة.. فالناس لا تُقبل على الانتخابات لمجرد دعوة تصدر من هنا أو هناك للمشاركة.. ولكن الناس تشارك حينما تشعر بأن المشاركة ذات قيمة..
فلا أحد لديه الاستعداد الآن للعب دور الكومبارس.. ولا يمكن أن يتوجه الناس للإدلاء بأصواتهم إذا كانت النتائج شبه محسومة مقدماً.. فلم يكن هناك من يتوقع سقوط الحزب الوطنى فى انتخابات الشورى، أو حتى فقدان سيطرته على نسبة مقبولة من المقاعد رغم شكوى المواطنين المستمرة من الحكومات التى تحمل اسمه.. ولا يمكن أن يتوجه الناس للمشاركة فى انتخابات مشكوك فى نزاهتها.
والمضحك أن عناوين الصحف الحكومية حاولت أن توهم المواطنين بأن اختلافاً قد حدث، فمنها من قال إن المعارضة حققت المفاجأة وفازت بأربعة مقاعد فى الشورى من بين ٧٤ مقعداً، وكأن الطبيعى ألا تحصل المعارضة على أى مقاعد!! ومنها من قال إن المعارضة حققت إنجازاً تاريخياً رغم اكتساح الحزب الوطنى!!.
يا سادة.. الانتخابات لها شأن مختلف عما يحدث فى الانتخابات المصرية التى يكون الحزب الوطنى طرفا فيها.. فمجرد وجود الحزب الوطنى كطرف يعنى للناخب أنها تفتقر للنزاهة، ويعنى أن النتيجة ستكون محسومة مسبقاً لصالح مرشح الحزب الوطنى مهما كان هذا المرشح مرفوضاً جماهيرياً.. ولا يمكن أن يضحك علينا أحد بأن انتخابات الشورى كانت محايدة ونزيهة بدليل أن الحزب الوطنى فقد ٤ مقاعد فى الانتخابات.. فكيف يقبل المواطن على انتخابات كهذه؟
الزمن تغير.. ومن لا يدرك ذلك أعمى القلب والنظر.. فما كان ممكناً منذ سنوات أصبح مستحيلاً الآن.. وليس صحيحاً أن المصريين ليسوا ناضجين بقدر كاف للدخول فى عملية ديمقراطية كاملة وحقيقية.. فالوفديون مصريون ودخلوا فى انتخابات حقيقية نالت احترام غير الوفديين قبل الوفديين..
وأعضاء النقابات مصريون يقبلون على انتخابات رؤساء ومجالس هذه النقابات ويختارون من يمثلهم.. وكذلك أعضاء النوادى.. فلماذا تُقبل شرائح المصريين المختلفة على انتخابات فئوية داخل مصر، ويمتنعون عن المشاركة فى انتخابات سياسية عامة يشارك فيها ويشرف عليها ويضع قوانينها الحزب الوطنى؟
لو أصرّ الحزب الوطنى على الاستمرار فى نفس هذا النهج الذى قطعه على نفسه منذ ولادته خلال الانتخابات البرلمانية المقبلة، وخلال انتخابات الرئاسة العام المقبل، فستخسر مصر الكثير من صورتها وقيمتها.. فالديمقراطية ترفع شأن الشعوب.. وعلى قدر نزاهة الانتخابات والقدرة على التغيير ترتفع قيمة الدولة ووضعها الدولى والإقليمى.. والاعتماد على التاريخ والموقع فقط ليس له قيمة فى هذا الزمن دون ديمقراطية.. والديمقراطية الحقيقية فقط.