أعلم أن هذا التعبير «أعراض مصرية» هو عنوان لكتاب متميز للدكتور حسين الشرقاوى، صدر منذ حوالى ثلاث سنوات، يتحدث فيه عن بعض الجوانب الثقافية والاجتماعية فى الشخصية المصرية المعاصرة، غير أننى أشير هنا بتلك العبارة إلى أعراض أخرى، فى الحياة السياسية المصرية المعاصرة، تتعلق تحديدا بالأحزاب والقوى السياسية المختلفة. لقد توقفت عن الكتابة فى الأسابيع الخمسة الماضية، بسبب ثلاث سفريات متوالية إلى الكويت، ثم ألمانيا، ثم الولايات المتحدة، وكنت أنوى العودة بأكثر من مقال تعكس بعض الانطباعات التى خرجت بها من تلك الزيارات، من منظور المقارنة مع أوضاع مصر الحالية، ومستقبلها، خاصة من زاوية احتمالات وآفاق التطور الديمقراطى، غير أن ما حدث - من رد فعل من بعض رفاق «المعارضة» المصرية لزيارة الولايات المتحدة، والتى زاملت فيها شخصيات مصرية مرموقة: (د. يحيى الجمل، ود. حسن نافعة، والمستشار محمود الخضيرى... إلخ) بدعوة من «تحالف المصريين الأمريكيين» فى نيويورك، وما تضمنه من اتهامات «بالاستقواء بأمريكا» جعلنى أؤجل مؤقتا ما كنت أنوى أن أكتبه عن قضية التحول الديمقراطى، لأتأمل ظاهرة مصرية فريدة، أعتقد أنها جديرة بأن نوليها قدرا كبيرا من الاهتمام الجاد، وهى بصراحة، وبلا أى مواربة، العجز عن العمل الجماعى المؤسسى، والميل الحاد إلى الانقسام والتشرذم عقب أى مبادرة للتآلف والتجمع! إن الاتهامات التى وجهت إلى الشخصيات «المعارضة» التى ذهبت إلى الولايات المتحدة، أتت فى القاهرة من قوى معارضة أيضا، ولم تأت من جهات حكومية (وإن كانت الصحافة الحكومية قد أفردت لها بالطبع الصفحات لتعبر باستفاضة عن آرائها «الوطنية» المعارضة للاستقواء بالولايات المتحدة)، ووصل الأمر إلى ذروته بالقرار الذى اتخذته حركة «كفاية» بتجميد عضوية مؤسسها «جورج إسحاق» عقاباً له، على ذهابه إلى الولايات المتحدة للالتقاء بالمصريين الأمريكيين! ولن أسترسل كثيرا فى تحليل الواقعة، فقد سبقنى إلى ذلك الزميل والصديق العزيز عمرو الشوبكى فى مقاله الرائع بـ«المصرى اليوم» (٢٧ مايو ٢٠١٠)، ولكن ما أحب أن أشير إليه - مرة أخرى- هو تلك الظاهرة المرضية فى الحياة السياسية المصرية، أى الميل إلى التشرذم والانقسام، والانزلاق إلى تبادل الاتهامات بالتخوين والعمالة والاستقواء بالخارج! وعندما أصف ما حدث ويحدث بأنه ظاهرة، فإننى أقصد ذلك تماما، فللأسف، وطوال السنوات العشرين الماضية - وتحديدا منذ عام ١٩٩٠- فشل ما لا يقل عن عشر محاولات لتأليف وتجميع القوى الوطنية المعارضة، سواء فيما بين الأحزاب والقوى والحركات وبعضها البعض، أو فى داخلها هى نفسها! والأمثلة هنا عديدة ودامغة! وللأسف أيضا، فإن تلك الظاهرة تبدو - فى الحقيقة- امتدادا لتقاليد وممارسات السياسة المصرية منذ الاستقلال عام ١٩٢٢. وعلى سبيل المثال، فإن حالات الانقسام والتشرذم التى عرفتها الأحزاب والحركات الشيوعية المصرية بشكل فريد ومثير طوال القرن الماضى، نافستها أيضا انقسامات فى الأحزاب والتنظيمات الليبرالية أو الاشتراكية! وإذا كانت الفترة منذ قيام ثورة يوليو وحتى أواخر الثمانينيات من القرن الماضى لم تشهد مثل هذا التشرذم داخل القوى السياسية، فهذا فقط لأنها كانت محرومة من حق الوجود المستقل أصلا، واعتمد النظام الناصرى على الدمج القسرى للقوى السياسية، وليس على تبلورها فى كيانات مستقلة! الآن، ومع عودة الحق القانونى (أو الفعلى) للقوى السياسية فى التبلور والتنظيم الذاتى المستقل، عادت مخاطر التشرذم والانقسام معها! ولا يقتصر الأمر - فى الواقع السياسى الراهن - على حركة كفاية أبدا، ولكن يهدد الكثير غيرها. وليس سرا هنا مثلا الخلافات التى أخذت تظهر داخل «الجمعية الوطنية للتغيير» بالرغم من الحماس والزخم الهائل الذى صاحب ظهورها التلقائى، متواكبا مع دعوة د. البرادعى للإصلاح السياسى! وليس سرا أيضا الاختلافات الحادة داخل الأحزاب المصرية، التى تحد من فاعليتها فى القيام بدورها السياسى على النحو المأمول منها، والتى تظهر عادة فى أوقات الانتخابات الداخلية. ولذلك فإن نجاح أحزاب مثل التجمع ثم الوفد فى المرور باختيار الانتخابات الداخلية، التى تنطوى على منافسات وتوترات حادة والخروج منها سالمة ومتماسكة هو إسهام وإثراء لا شك فيه فى التطور الديمقراطى فى مصر. إن إحدى اللحظات الحرجة، التى مر بها حزب الجبهة الديمقراطية فى الأسابيع الماضية، كانت هى لحظة التصويت الذى شهدته الهيئة العليا للحزب - يوم ١١ مايو الماضى- على مسألة المشاركة فى الانتخابات المقبلة فى مصر أو مقاطعتها.. ولا شك أنه مما يشرّف الحزب ويدعوه للفخر، أن الخلاف الحاد الذى شهده ذلك اليوم كان حول «قضية سياسية مهمة» وليس خلافا بين أشخاص أو مراكز للقوى، وأن الوصول إلى قرار المقاطعة كان بأغلبية صوت واحد للحاضرين، وأن الجميع خرج ملتزما بنتيجة التصويت وبقواعد اللائحة! وبعبارة موجزة، فإن على جميع القيادات والكوادر السياسية المسؤولة، وعلى جميع عناصر القوى السياسية المختلفة، أن تضع نصب أعينها إرساء وترسيخ تقاليد المنافسة الديمقراطية الحقة، التى تنطوى - فى جوهرها - على الحفاظ على كيانات أحزابها ومنظماتها، وتقنين الآليات المؤسسة فيها. وهو أمر يستلزم - فى ظروف المجتمع المصرى- مكافحة ظاهرتين «موروثتين»، إذا جاز هذا التعبير: الظاهرة الأولى، مرتبطة بالموروث الثقافى المصرى، الموغل فى القِدم، والمتمثلة فى الميل إلى الفردية والعجز عن العمل الجماعى والمؤسسى، والتى رصدها أغلب من درسوا التاريخ المصرى والشخصية المصرية! إن أغلب هؤلاء أشاروا إلى تلك الظاهرة التى تعد فى مقدمة معايير التفرقة بين المجتمعات المتقدمة والمتخلفة، أى عدم القدرة على العمل الجماعى! الظاهرة الثانية، انقطاع تقاليد الممارسة الديمقراطية التعددية، منذ خمسينيات القرن الماضى. إن الديمقراطية، وبناء الأحزاب والمؤسسات السياسية، والحفاظ على كياناتها من الانقسام والتشرذم، هى ممارسات وتقاليد تنشأ وتترسخ عبر الوقت، وتصقلها التجارب والإنجازات والإخفاقات. ولقد عرفت مصر تجربة الأحزاب السياسية فى مناخ ديمقراطى بدءا من دستور ١٩٢٣، وشهدت ولادة وممارسات أحزاب سياسية عديدة، على رأسها حزب الوفد، ولكن قيام ثورة يوليو ١٩٥٢ أحدث انقطاعا كاملا فى تلك التجربة، مع إلغاء الأحزاب عام ١٩٥٣. ولقد عادت الأحزاب إلى الحياة السياسية المصرية، منذ بدء التعددية المقيدة عام ١٩٧٦، والتى لم تشهد بداية فعلية إلا مع منتصف الثمانينيات، وإذا كان على هذه الأحزاب اليوم أن تستفيد من التجربة الحزبية السابقة فى مصر، فلا شك أن فى مقدمة تلك الدروس ضرورة حماية كياناتها من الانقسام والتشرذم، والتصدى بوعى ونضج لتلك العناصر والاتجاهات التى تؤدى - سواء بحسن نية أو بسوء نية - إلى تفتيت كياناتها، وبعثرة قوتها تحت مسميات وشعارات واهية وخادعة!