الدولة التى لها مكانة ولها مستقبل هى الدولة التى تتمتع باقتصاد قوى وسياسة خارجية تتبع استراتيجية علمية مستقبلية واضحة، وفوق ذلك جيش قوى يحمى الدولة من العدوان الخارجى.
الاقتصاد المصرى حقق نمواً معقولاً فى بعض السنوات، لكن هذا النمو لم يشعر به المواطن المصرى لعدة أسباب، أولها الفساد الرهيب الذى أكل الأخضر واليابس والذى يعيش وينمو ويترعرع تحت جناح الحزب الحاكم ورجاله وأصهاره وأقاربه، والذى طال الجميع بدرجة لم يسبق لها مثيل فى تاريخ مصر الحديث، وأصبح الفساد والنهب عينى عينك بدون أى خشية، لأنه يبدو أن النظام والفساد أصبحا جسداً واحداً لا يستطيع أن يتخلى أحدهما عن الآخر، وحوادث النهب من بعض الوزراء والرشوة والتهريب من كبار رجال الحزب فى البرلمان ومجلس الشورى أصبحت معلنة ومعروفة ومسجلة ولا أحد يهتم، لأن التغطية على السارق والفاسد والمهرب والراشى أصبحت هى رمز مصر فى العصر الحالى.
وفقدت مصر أراضيها الزراعية بالتدريج بسبب الفساد المتفشى على أعلى مستوى، وبسبب عدم تطبيق القانون بمنع البناء على الأراضى الزراعية، التى أجرى لها مشروع تصوير جوى وقانون صارم وقرار من الحاكم العسكرى، وكل ذلك لم يفلح أمام فساد الحزب الوطنى. هذه الأراضى كانت تعتبر خزينة للإنتاج الزراعى المصرى.
والنقطة الثانية هى الانفجار السكانى، الذى يتحدث عنه النظام كل فترة ولكن لا يتخذ أى قرار إيجابى لحل هذه المشكلة، التى - مع الفساد - تجعل الحلول مستحيلة.
أما الأمر الثالث فهو أن الدولة اعتمدت على القطاع الخاص لتطوير صناعى كبير يؤسس لركيزة صناعية كبيرة، ولكن الجزء الأكبر من القطاع الخاص يعمل فى الخدمات والتجارة، وبالرغم من أهميتها فإنها لا يمكن أن تكون الركيزة الأساسية لوطن تعداده ٨٠ مليوناً.
أما السياسة الاستراتيجية الخارجية المصرية فأدت إلى سحب السلطة من الدبلوماسيين المتمرسين، وسحب السلطة من مؤسسة المخابرات العريقة التى حافظت على مصالح مصر فى البلاد العربية والأفريقية سنوات فى الزمن الغابر، وتسلم هذه الاستراتيجية أشخاص لا يعرفهم أحد ولا يعرف أحد كفاءتهم وهم فقط مرتبطون بالقصر الجمهورى حتى وقع الانهيار والمخاطر على شريان الحياة «نهر النيل»، وعلى مصالحنا فى الدول العربية. دعنا نبدأ بالدول العربية.
تلقيت دعوة لأرأس مؤتمراً طبياً فى لبنان وألقى محاضرتين، وخلال حفلتى عشاء وما بعدهما فى بيوت الأطباء اللبنانيين شعرت بالأسى والحزن على الانهيار الشديد لمكانة مصر، التى لم يعد يحافظ عليها غير مجموعة من الراحلين من أمثال أم كلثوم وعبدالحليم حافظ والشيخ إمام وقلة من المصريين الذين تخطوا جميعاً الستين بين أطباء وخبراء وأساتذة جامعات يدعون إلى لبنان لحضور مؤتمرات وإلقاء محاضرات، أما مصر التى نعيشها فليس لها وضع ولا أهمية ولا كيان.
فى آخر عشاء كان الزملاء الأطباء يتحدثون عن الأوضاع السياسية فى لبنان، وكيف أن السعودية وفرنسا وأمريكا وإيران كل منها له كيان واحترام ووضع متميز للحفاظ على مصالح بلده، ثم قالوا لى «كانت هناك أيام لا يعرفها الشباب حين كانت مصر لها مكانة»، وأجمعوا كلهم على أن العرب سوف ينصلح حالهم إذا عادت مصر كما كانت بلداً له وزن على الأقل علمياً وثقافياً بجامعات متميزة لا يحكمها ضباط أمن الدولة وتنتج علماء وأساتذة حقيقيين، وليس دكاترة مرتعشين، يخافون من خيالهم، ومسؤولى ثقافة وإعلام لا يبيعون ثروة مصر بحفنة من الدولارات بسبب تفشى الفساد.
أما مشكلة نهر النيل فهى الكارثة الكبرى التى تشير بوضوح إلى أن الدولة فعلاً قد شاخت وأصبحت غير قادرة على المحافظة على شريان الحياة. الأمر ليس وليد اليوم، وإنما هو أمر مخطط له منذ زمن بعيد ودولتنا نائمة فى العسل وهذا الموضوع يجمع الكل على أنه مسؤولية رئيس الجمهورية مباشرة.
لقد رفضت الأمم المتحدة تمويل سدود إثيوبيا لمخالفتها القانون الدولى فمولها الصندوق العربى. هل هذا يصدقه عقل؟ لا أحد يطالب بإلغاء كامب ديفيد، ولا أحد ينادى بافتعال مشاكل مع إسرائيل ولكن إسرائيل تريد ماء النيل وهى تحاول عن طريق تعديل المعاهدات الدولية ليصبح لها نصيب فى ماء النهر وهى تساعد دول منابع النيل على بدء المشاكل وبناء السدود والكل يعلم ذلك.
ومع ذلك تكافئها مصر بإعطائها الغاز بثمن بخس يضر بمصالح مصر الحيوية والمستقبلية. لا بد أن تعلم إسرائيل بوضوح أن تدخلها ضد مصر فى نهر النيل هو مخالفة صريحة لحالة السمن على العسل التى تعيشها مع مصر، ويجب أن تعرف أن المعاملة الخاصة والرعاية الفائقة لها من النظام على حساب الاقتصاد المصرى والعلاقات العربية لهما سقف، وعلى إسرائيل التوقف فوراً عن اللعب فى أمور هذا الشريان الحيوى ويجب أن تضغط مصر على الولايات المتحدة مقابل كل ما تقدمه لها من خدمات فى المنطقة للمساعدة فى وقف الكارثة، أما الحل الحقيقى فهو أن تقوم لمصر قائمة وأن يأخذ شعبها الأمر بيده لإنقاذ مستقبله.
«قوم يا مصرى مصر دايماً بتناديك».