الثورة المطلوبة فى مصر

الناقل : elmasry | الكاتب الأصلى : د. عمرو الزنط | المصدر : www.almasry-alyoum.com

ربما يتذكر بعض القراء حلقات الرجل الأخضر التليفزيونية، التى كانت تطل علينا فى الثمانينيات. وربما يتذكرون أنه، فى حالته الطبيعية، كان يمثل مواطناً مسالماً وودوداً، لكنه للأسف كان يقابل تكراريا مواقف تفرضها عليه قوى عدوانية، تحوله إلى وحش مخيف.. أتصور أن شيئاً مماثلاً يحدث للإنسان المصرى المسالم عندما يواجه يوميا استفزازات متكررة، تفرضها عليه قوى تعتدى على كرامته وحريته وخصوصيته.
هذه القوى قد تكون حكومية تسلطية، أو قطاعاً خاصاً استغلالياً، أو مجرد أفراد يحاولون «تسليك أنفسهم» على حسابه، دون مراعاة أدنى معايير الذوق أو المدنية، وكلها تؤدى لانتفاض الإنسان الطيب مثل الرجل الأخضر فى ثورته..
هذه ثورة يائسة، خصوصا فى حالة المصرى الطيب الذى يواجه منظومة من عراقيل أكبر منه بكثير، تكبله وتعجزه، فيضطر لكبت كم هائل من الغضب، يصاحبه بين فقرات الثورة العبثية، ليمضى فى حياته مهزوما، لا يفهم ما يحدث ولا يعرف كيف يهرب من الدوامة التى تحاصره.
فالرجل الأخضر كان دائما، فى نهاية كل حلقة، بعد أن عاد إلى شخصيته الوديعة، يبحث عن مكان جديد للعيش فيه.. وفى الولايات المتحدة- بمساحاتها المتسعة، وبالقدر الكبير من الحرية الشخصية المتاحة للفرد فيها- يمكن تصور أن يجدد الإنسان حياته هكذا، هربا من القوى القمعية التى تكبله. لكن الوضع فى مصر مختلف، فالقيود الاجتماعية نابعة إلى حد كبير عن التكدس فى مساحة ضيقة؛ فمعظم البلد إما أرض فضاء صحراوية أو مناطق متكدسة يتصارع فيها المرء على الموارد المحدودة المتاحة.
فى ظل هذه الظروف، ليس من العجيب أن ينتشر الكبت المعنوى وتسود العصبية فى التعامل اليومى فى سبيل التنفيس عنه. لكن اللافت للنظر فعلا أن هذه الفوضى يصاحبها كم أكبر بكثير من النمطية فى التفكير، فالضغط الاجتماعى يعمل فى عدة اتجاهات لمحو الابتكار والتعددية والاختلاف؛ فهناك فوضى عامة لا شك، لكنها كلها فى حيز محسوم تحكمه النمطية والتظاهر بالتمسك بالتقاليد والقيم ورفض ما هو مختلف وفرض ما هو سائد، وهذه بالفعل أداة يستخدمها المرء فى صراعه اليومى مع الآخر: أى أنه يقول «أنا أحسن منك لأنى عندى أخلاق وقيم ودين».. إلخ.
لكن، لأن الهدف هنا ليس التشبث بالقيم أو الدين لأنهم لهم قيمة فى حد ذاتهم، تنعدم الأخلاق وتتدنى قيمتها الحقيقية بالنسبة لقيمتها الظاهرية.. وفى ظل مناخ المزايدة الذى ينتج عن ذلك، تتحجر المفاهيم ويتغيب الجدل عن معناها وقيمتها، ويتهم أى شخص يشكك فى الأساليب السائدة بالكفر أو الخيانة، أو مجرد أنه «مش مننا».
هذه التيارات تتآمر ضمنيا مع الوضع السياسى الخانق، المتمثل فى قوانين استثنائية تم تجديدها مرات تكاد لا تحصى وبأسماء وصيغ مختلفة عبر العقود، ونظام مراقبة ضاغط يسيطر على حركة الإنسان المصرى ويكبلها، حتى يشعر هذا الإنسان فى معظم لحظات حياته أنه مراقب أمنيا واجتماعيا وفكريا.
وهذه ظروف لا يمكن أن ينمو فيها بسهولة الفكر الحر المبتكر- أى أساس الحضارة الحديثة. ولا يتأثر بذلك فقط الفكر السياسى أو الابتكار فى مجال الفنون إنما أيضا الفكر العلمى والابتكار التكنولوجى، فمن أهم أساسيات العلم النظرى هو الحرية فى التساؤل (بلا حدود) فى طبيعة ونظام كل شىء فى الكون،
وهذه النوعية من الجسارة الفكرية يصعب تواجدها لدى عقل إنسان نشأ «مطحون» فى صراعات يومية تستخدم فيها النمطية والتحجر الذهنى كأسلحة لإخضاع الآخر. ونفس الشئ ينطبق فى مجالات الابتكار التكنولوجى، فالأخير يعتمد بشكل جذرى على الاستقلالية والجرأة فى التفكير والمبادرة والتجديد، وهذه أشياء لا تنمو هى الأخرى فى ظل ظروف نمطية خانقة..
انظروا مثلا إلى آخر منتجات شركات مثل «أبل» فى مجال الحاسبات الآلية، كم فيها من تجديد وتحد.. وليس من قبل المصادفة أن هذا الإبداع معقله دائما كامن فى مجتمعات ديناميكية مثل الولايات المتحدة، رغم وجود تطور تقنى ملموس فى مجتمعات «مكبوتة» نسبيا مثل الصين، لكنه عادة لا يلمس حتى الآن جوهر التقدم إنما فقط نتائجه.
لا نستطيع محو تراكمات الوضع السياسى أو الاجتماعى أو البيئى فى مصر فى لحظة، لكن فى إمكاننا البدء فى تحريك الركود. وأول خطوة فى هذا الاتجاه تأتى عن طريق رفض «الإنسان الطيب» الخضوع للنمطية المفروضة عليه من قبل الوضع السياسى الخانق وأيضا من قبل من يتذرع بالقيم والدين فى سبيل إخضاع الآخر والسيطرة عليه، الوضع الذى نتج عنه مجتمع غارق فى الصراعات الصورية، فاقد للجسارة الفكرية، لا ينتج ولا يبتكر الكثير،
ويستمر لذلك فى الانزلاق الثقافى والعلمى والاقتصادى. فليكن تمرد الإنسان المصرى ليس عبثيا ويائسا، على نمط ثورة الرجل الأخضر، إنما مبنياً على يقينه باستقلاليته وحريته فى التحرك والتفكير والتأمل والابتكار، والمبادرة خارج نمط القطيع؛ على رفض الخضوع لأى سلطة باستثناء عقله، الذى قد يقوده من وضع بائس إلى حالة الإنسان الحر، الذى يتمتع بالكرامة والمصداقية والاستقلالية.. كل ذلك له ثمن بالطبع، فالحرية لها ثمن.