الكتابة فى الشؤون السياسية وقضايا الحريات مرهقة وشائكة، ولذلك قررت أن أريحكم وأريح نفسى منها هذا الأسبوع لأكتب فى أمور صحية، فأنا من أشد المتحمسين لدعوة الارتقاء بمستوى حياة الإنسان التى وصلتنا بالإنجليزية (QUALITY OF LIFE)، هذه الدعوة الطموحة التى لا تَرْضَى للإنسان أن يصبح أقصى أمنياته أن يرتوى ويشبع وينام محتميًا من برد الشتاء. المهتمون بمستوى الحياة يتجاوزون احتياجات الإنسان الحيوانية إلى الاهتمام بالبيئة التى يعيش فيها، والفنون التى يستقبلها، والخدمات التى تقدم له، وحالته الصحية التى تحدد قدرته على الاستمتاع بحياته بعيدًا عن الأمراض والآلام وقوائم الممنوعات المترتبة عليها. ولما قررتُ الاتجاه إلى الموضوعات الصحية فى مصر، وسألت الأطباء والمتخصصين عن أهمها وأكثرها انتشارًا، علمت أن هناك مجموعة أمراض أصبحت تصيب ثلث المصريين، إنها ارتفاع ضغط الدم والسكر والكوليسترول، وكلها تؤدى إلى أمراض القلب وتصلب الشرايين وغيرها الكثير. عن أسبابها ذكروا الشراهة فى أكل السكريات والنشويات والدهون والوجبات السريعة والتدخين وقلة الحركة والسهر الطويل والتوتر الشديد. ولما تساءلت مستوضحًا أكثر عن التوتر اكتشفت مرة أخرى أنه لا مفر من السياسة فى كل شؤون حياتنا. كيف؟ ألم تلاحظوا العلاقة بين صيدليات الطوارئ وعيادات الطوارئ وسيارات الطوارئ وقانون الطوارئ؟ فى ظل قانون الطوارئ نعيش جميعًا فى توتر شديد، ويسقط كل يوم العشرات، وَيُنْقَلُون محمولين إلى وحدات الطوارئ لِيُعَالَجُوا من آثار قانون الطوارئ، على عكس ما يتصوره حَسَنُو النية الذين يطالبون به لحماية البلاد من المخاطر الجسيمة التى تتعرض لها. يزعم أصحاب قانون الطوارئ أنهم نجحوا فى حمايتنا طوال عقوده الثلاثة من كوارث مخيفة، ولكنهم تناسوا أنهم حَوَّلُونَا جميعًا إلى مرضى أو واقفين فى الطابور انتظارًا لدورنا. بعيدًا عن الفلسفة اللغوية التى لا تُقِرُّ استخدام كلمة طارئ وجمعها طوارئ لحالة تستمر أكثر من نصف عمر الإنسان، وبعيدًا عن حديث الحريات وأهميتها فى تشجيع الإبداع والتقدم الإنسانى، أحاول الآن وقد تجاوزت نصف المقال أن أسوق حديثَ ولغةَ الحكمة. لقد تعلمت من محاضرة لأحد علماء مناهج التفكير أن هناك تفكيرًا مباشرًا وتفكيرًا موازيًا أو غير مباشر يطلق عليه ( LATERAL THINKING). الدكتور دى بونو –الذى أعجبت به كثيرًا- بهرنى حين شرح نظريته بمثال بسيط جدًّا: سَأَلَنَا عن حل أزمة المرور فى قلب المدينة، ليبادر معظمنا بذكر الجراجات متعددة الطوابق، ابتسم البروفيسور بهدوء الحكماء وقال: هذا هو الخطأ الذى وقعت فيه مدن عديدة وهو يعود للتفكير المباشر، أما التفكير المركب أو غير المباشر فيقودنا إلى اكتشاف أن توفير أماكن كثيرة للانتظار ما هو إلا عنصر جذب لدخول المزيد من السيارات إلى قلب المدينة وإصابتها بالشلل التام، والحل الصحيح فى هذه الحالة هو توفير أماكن الانتظار خارج مركز المدينة مع حظر دخول السيارات الخاصة، والإكثار من وسائل المواصلات العامة (الآدمية) وتشجيع ركوب الدراجات والأحذية. إرهاب الناس جميعًا بقانون الطوارئ ليس هو الحل لمنع الإرهاب، كما أن بناء الأسوار العالية سياسة قديمة أثبتت فشلها: حين ارتكب جمهور كرة القدم الإنجليزى جريمته الشهيرة فى بلجيكا عام ١٩٨٥ قبل مباراة ليفربول الإنجليزى ويوفينتوس الإيطالى وراح ضحيتها ٣٩ مشجعًا بالإضافة إلى ٦٠٠ مصاب، بعد انتهاء فترة العقوبة التى فرضها الاتحاد الدولى لكرة القدم على إنجلترا، فاجأ الإنجليز العالم باستقبال أول بطولة كرة قدم أوروبية تقام فى ملاعبهم بلا أسوار تمامًا. الجمهور يجلس على بعد أمتار من خطوط التماس ولم يقع حادث واحد. جربتم الأسوار والطوارئ والنتيجة المؤكدة هى ارتفاع ضغط الدم. لماذا لا تجربون إشراكنا جميعًا فى حماية بلدنا؟ فهو واجبنا وحقنا، واحتكاره لن يؤدى إلا إلى ظهور طفح جلدى يمكن تبريره فى الصيف فقط.