حتى الإخوان الذين يرفضون تولى المرأة والأقباط المناصب العليا، والأحزاب القديمة البليدة التى ترفض عمل الإخوان ومشاركتهم السياسية، والتى استنفدت مرات الرسوب عشرات السنين رغم مقاعد ودرجات الرأفة والصدقة التى منحتها لهم الحكومة يقولون إن ما يقول به البرادعى قالوه قبله مراراً وتكراراً. والبرادعى قال بثقة وتواضع إنه لا يخترع العجلة وإن سبل الحل معروفة، وطلبها قبله كثيرون. لكنى أقول لكم إن هذا ليس دقيقاً، فالرجل كرر بعض ما قالوه فعلاً، لكنه قال أيضاً ما لم يقله أحد قبله، وربما كان هذا هو ما جعل الحس الشعبى يدرك أنه لا يلعب مع النظام مثل الأحزاب «الشرعية» أو مثل الإخوان «المحظورة»، وبالتالى حظى بشعبية جارفة، والأمر ليس مدحاً فيه ولا ذماً فى آخرين قدموا وفقاً لقدراتهم ونظراتهم أعمالاً وأفكاراً جليلة، ولولاها ولولاهم ما ظهر البرادعى، ولا ظهر بأفكار جريئة وجوهرية تكشف عن وضوح فكر وشجاعة وترتيب منطقه. ويشبه أمره مع المعارضة كغائب من الأهل عاد للبيت فوجد رائحته سيئة لا يشمها ساكنوه بفعل المعايشة والاعتياد، فيستنكرون. تلك الرائحة هى الجديد الذى تحدث به البرادعى كسياسى دون التفاف، ماضياً إلى صلب الهدف النبيل وهو السلطة بالتغيير عن طريق الحصول على أصوات الشعب بنزاهة وأمانة وهذه الأفكار والأعمال الجديدة هى: أولاً: رأى أن الدستور (غير مشروع)، ليس فقط لأنه (يحرم أكثر من تسعين بالمائة من الشعب من الترشح لانتخابات الرئاسة) بل أيضاً لأن (بعض مواده يناقض بعضها)، كما أنه (لا يحمى أحداً ولا يكفل الحرية لأحد) لوجود (عشرين قانونا تعطل عمله) وبه (١٥ خطأ مطبعياً) وخلص إلى أن الدستور عبارة عن (قصاصات ورق). مثل هذا التفكير المبتكر الذى يعتبر مدخلاً صائباً للعمل لم يسبق إليه أحد من السياسيين الذين تحدثوا عن سوءات وعورات بالدستور فى مواد محددة، وصف الدستور بأنه غير شرعى ومتناقض وقصاصات ورق لم يرد إلا على لسان البرادعى، وهو ما يكشف عن بصيرة ثاقبة نافذة فى جذور الاستبداد والفساد والخراب والقمع، وعن نية حقيقية فى تغيير جوهرى وشامل، ظهر فى أحاديثه الأولى، التى ظلت تؤكد على ضرورة دستور جديد (ما أطالب به يتجاوز مصطلح تعديلات.. يجب أن نتوقف عن الحديث عن تعديلات. إنها تبقى مجرد عملية ترقيع). (إذا أردنا بداية حقيقية يجب أن نضع دستوراً جديدا) (لن يكون هناك ديمقراطية ولا حرية ولا عدالة اجتماعية دون دستور جديد) لكنه اضطر وتحت ضغط الأسئلة والإلحاح، وتجاهل المفكرين والكتاب والساسة المعارضين لدعوته بضرورة إقامة دستور جديد، لأن الجميع فى عجلة من أمرهم للخلاص من الجماعة الحاكمين ومن التوريث بأسرع وقت، وبأقرب طريقة، اضطر للتحدث عن تعديلات كهدف قصير الأمد. وبالعودة إلى خطاب البرادعى الأول بأن الدستور غير مشروع وما يبنى عليه يصبح مثله تماماً غير مشروع، ويلزم بالتالى دستور جديد، ولكن من الذى سيؤسسه؟ نجد أنه لا يمكن لهذا النظام ولا حتى للملائكة الذين عاشروه أربعين يوماً أن ينتجوا دستوراً سليماً. وأظن البرادعى كان مدركاً لهذه المعضلة، ولذا كان الحل الجديد الذى أتى به. ثانياً: التوجه مباشرة وتكراراً ودون مواربة للشعب، يطالبه بالتغيير بنفسه فى تحريض واضح على الحركة -كحل لأزمة صياغة إنشاء أو تعديل دستور- بينما السابقون عليه لم يدعوا الشعب بهذه الصراحة والوضوح، وكان خطابهم بالطلبات موجهاً بالأساس إلى السلطات صاحبة المصلحة فى الاستبداد والفساد، فى تناقض واضح للأسف! ولذا ضاع منهم كثير جداً من الوقت، وكثير جداً من الناس. ثالثاً: اتخذ البرادعى موقفاً عملياً متسقاً تماماً مع أفكاره السابقة، فلم يتوجه -بعد- بطلب التغيير للحاكمين لأنه لا جدوى من ذلك ألبتة، وكذلك اعتبر أن الوقوف أمام لجنة الأحزاب مسرحية ومهانة له وشرف لها لن يمنحها إياه، مما يؤكد فكرته عن عدم المشروعية، بينما ظل عشرات السياسيين الذين نكن لهم كل المحبة والتقدير يقفون على أبواب اللجنة سنوات، ويجلسون أمامها كالتلاميذ يعرضون مشروعاتهم آملين أن تقبلهم حزباً، تشرف عليه، وتشقه فيما بعد! ثم يذهبون بعد رفضهم منها إلى محكمة تضم شخصيات (معروفة توجهاتها) لتحكم عليهم بالرفض أيضاً.. الآن عليهم احترام ذواتهم وشعبهم وسحب أنفسهم من أمام تلك اللجنة، وتلك المحكمة. رابعاً: اعتبر البرادعى أن الإصلاح السياسى وتأسيس ديمقراطية نجتمع عليها أولاً ودون نفى أى تيار يلتزم بها هو السبيل لأى إصلاح آخر اقتصادى أو اجتماعى، بل خلق مواطن جديد. على العكس منه كان السابقون عليه يرون أن الرأى والتوجه السياسى عامل فاصل فى العمل المشترك مع التيارات الأخرى، وكمثال الموقف من أمريكا فى حالة (كفاية - عبدالحليم قنديل) أو الموقف من الإسلاميين فى حالة (بعض اليسار). ولذا جمع البرادعى بفكرة المساواة هذه كل القوى السياسية المتناقضة على مائدة واحدة فيما فشل السابقون، وظهرت نتائج ذلك فى تأكيد الإخوان قبولهم دولة مدنية ديمقراطية، وذهابهم بأرجلهم للأحزاب، وترحيب المخلصين من هذه الأحزاب بهم. إن أفكار البرادعى الجديدة هى خطوة وقيمة مهمة على الطريق من أجل التقدم، وتدرك السلطة الآن خطورتها وبدأت فى اتخاذ إجراءات وأدها، ولن تكف أبداً عن إقامة العراقيل أمام الشعب لمنع تعديلات تذهب بسلطتها- إن لم يكن دستورا جديدا- مما سيضطر الشعب والبرادعى إلى مطالبتها هى بالرحيل أولاً كحل، أو بتعديلات مناسبة، وإنشاء دستور حديث إنقاذاً لوطن يسقط، ومواطن يئن.