لقد نأيت بنفسى منذ عودتى لأرض الوطن العام الماضى، عن المشاركة فى برامج الإعلام المرئى والمكتوب عن الطاقة النووية ومستقبلها فى مصر، إحساسا منى بأن مصر قد تجاوزت الإخفاقات السابقة فى تنفيذ البرنامج النووى المصرى لتوليد الكهرباء وبدأت خطواتها فى الاتجاه الصحيح للتنفيذ الجاد والمخطط لمشروع المحطة النووية الأولى فى مصر، وذلك انطلاقا من إعلان السيد رئيس الجمهورية فى ٢٩ أكتوبر ٢٠٠٧ البدء فى إجراءات تنفيذ المحطة النووية الأولى فى مصر.
ولكن استشعارى الآن بأن مشروع المحطة النووية الأولى فى مصر يمر بمنعطف خطير، إن لم يؤد إلى إجهاضه قبل أن يظهر إلى حيز الوجود، فقد يؤدى إلى التأخير فى تنفيذه لعدد من السنوات لا يعلمه إلا الله، فقد رأيت أنه من واجبى التنويه إلى مخاطر هذا المنعطف الذى يتمثل فى اتخاذ قرار بتحديد موقع المحطة النووية الأولى وعواقب التأخير فى اتخاذ هذا القرار وكيفية عبوره بأمان.
ففى أوائل الثمانينيات تم اختيار موقع الضبعة، الذى يقع على بعد حوالى ١٥٠ كيلومتراً غرب الإسكندرية بطول حوالى ١٥ كيلومتراً بمحاذاة الساحل وبعمق حوالى ٤ كيلومترات لإقامة المشروع المصرى لإنتاج الكهرباء باستخدام الطاقة النووية، وذلك بعد عمليات مسح للعديد من المواقع بالساحل الشمالى، والدلتا، وبطول مجرى النيل حتى بحيرة السد العالى، وفى شمال سيناء وبمحاذاة البحر الأحمر، وقامت شركة فرنسية عالمية فى ذلك الوقت بعمل الدراسات التفصيلية للموقع،
وأكدت صلاحيته وملاءمته لإنشاء المحطة النووية وتبع ذلك إعداد البنية الأساسية للموقع، والتى تشمل إنشاء شبكات رصد للزلازل الدقيقة ومحطات رصد إشعاعى ومد شبكات المياه والصرف الصحى وإنشاء طرق ومبانٍ ومنشآت، كما تم تحديث الدراسات الخاصة بالموقع عام ٢٠٠٩ فى مجالات الأرصاد الجوية والظواهر البحرية والمياه الجوفية والسطحية وتحديد حرم المحطة النووية الخالية من السكان وتحديد المنطقة المراقبة إشعاعياً حول المحطة النووية وما إلى ذلك من دراسات أخرى.
وعلى الرغم من الدراسات التفصيلية الخاصة بالموقع، والتى تؤكد أفضليته لإقامة المشروع النووى المصرى، فإنه ظهر من ينادى باستثمار الموقع للمشروعات السياحية والاستثمارية فقط، ومن عائد استثماراتها يتم تمويل مشروع المحطة النووية وإقامتها فى موقع بديل عن الضبعة..
وهذه مقولة غير منطقية، حيث إن عائد المشروعات السياحية والاستثمارية فى المنطقة لن يعوض التكاليف الإضافية التى تنتج عن تنفيذ البرنامج النووى المصرى فى موقع بديل للضبعة، خاصة أن أول المواقع المرشحة كبديل لموقع الضبعة هو موقع النجيلة، الذى يبعد حوالى ٢٠٠ كيلو متر غرب موقع الضبعة، وفى حالة استخدام هذا الموقع كبديل لموقع الضبعة فإنه سيؤدى إلى تأخير تنفيذ إنشاء المحطة النووية الأولى فترة لا تقل عن ٣ سنوات لاستكمال دراسات الموقع طبقا لمعايير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولاستكمال إجراءات التخصيص والترخيص وإعداد البنية الأساسية، والذى يترتب عليه ما يلى:
١- تحمّل تكلفة إضافية تبلغ حوالى ٢ مليار دولار لتوفير البنية الأساسية فى الموقع البديل.
٢- تحمّل تكلفة إضافية لبناء وحدة نووية واحدة بقدرة ١٠٠٠ ميجاوات، مقدارها من ١ إلى ٢ مليار دولار، نظراً لتصاعد الأسعار المرتبطة بإنشاء المحطات النووية، وتتضاعف هذه التكلفة بزيادة عدد الوحدات النووية.. والمخطط أن تبلغ ٤ وحدات نووية بقدرة ١٠٠٠ ميجاوات لكل منها.
٣- تحمل تكلفة إضافية ناتجة عن استخدام الغاز الطبيعى أو المازوت كبديل لتوفير الطاقة الكهربائية خلال هذه الفترة والتى تبلغ حوالى ٣ مليارات دولار، وكذلك تتضاعف هذه التكلفة بزيادة عدد الوحدات النووية المقرر تنفيذها.
٤- تحمّل تكاليف إضافية بسبب زيادة أطوال خطوط الربط الكهربى بحوالى ٢٠٠ كيلو متر، وهى المسافة بين النجيلة والضبعة وما يترتب عليه من تكاليف أخرى لتعويض زيادة فَقْد الطاقة الكهربائية.
٥- إهدار المال العام الذى تم استثماره بالفعل فى دراسات موقع الضبعة وإقامة البنية الأساسية بها.
٦- فقدان التميز فى التعاقد مع الشركات الموردة للمحطة النووية نظرا لتزايد الطلب حاليا على إنشاء المحطات النووية فى العديد من أنحاء العالم، مما يعطى هذه الشركات الموردة ميزة زيادة التعاقدات المعروضة عليها لبناء المحطات النووية، خاصة مع محدودية هذه الشركات.
٧- فقدان التميز فى التعاقد طويل المدى على الوقود النووى نظرا لزيادة الطلب فى السوق العالمية على الوقود.
٨- فقدان الريادة المصرية فى المنطقة العربية فى مجال الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، نظرا لتسابق العديد من الدول العربية فى تنفيذ برامجها النووية، رغم أن مصر كانت الأولى فى أفريقيا والشرق الأوسط التى تمتلك برامج نووية سلمية للأبحاث والتطبيقات فى المجالات النووية المختلفة، حيث بدأت مع الهند، واليابان، والأرجنتين، وكوريا.. وكلها تمتلك العديد من المحطات النووية حاليا.
٩- فقدان الشركات الموردة للمحطات النووية الثقة فى جدية متخذى القرار فى مصر لتنفيذ المحطات النووية، حيث سبق هذه المرحلة توقف مراحل سابقة فى منتصف الستينيات ثم فى منتصف السبعينيات ثم فى أوائل الثمانينيات.. وفى جميع هذه المراحل تم طرح مناقصات مع عدم إتمام التعاقدات.
ولتلافى الآثار السلبية السابقة، فقد رأى البعض أن يتم تخصيص موقع الضبعة للمحطة النووية الأولى بالتوازى مع إقامة مشروعات سياحية واستثمارية بالمنطقة، وهذا الاختيار رغم وجاهته فإنه يخشى أن يؤخذ كوسيلة مؤقتة لإزاحة إقامة المحطة النووية من الضبعة نهائيا نظرا للزيادة المطردة والمتوقعة فى تنفيذ المشروعات السياحية والاستثمارية، والمطالبات المستمرة بنقل المحطة النووية لمكان بديل،
ولذلك فإن هذا الاختيار يظل قائما بشرط تأجيل المشروعات السياحية والاستثمارية إلى ما بعد قرب الانتهاء من بناء المحطة النووية، خاصة أنه حتى مع الاستمرار فى بناء ٤ وحدات نووية بقدرة إجمالية ٤٠٠٠ ميجاوات فى منطقة الضبعة، فإنه يظل للمشروعات السياحية ما يقرب من ثلثى الشريط الساحلى.
وبناءً على خبراتى السابقة فى جميع مراحل المشروع النووى فى مصر منذ السبعينيات، ومن واقع خبراتى فى العمل بالوكالة الدولية للطاقة الذرية ما يقرب من عقدين كاملين من الزمان ككبير مفتشين للضمانات النووية، فإنى أؤكد أنه ليس هناك ما يمنع من إقامة محطات نووية بالقرب من المناطق السكنية والصناعية والمشروعات السياحية..
وذلك فى إطار تنفيذ معايير الأمن والأمان للوكالة الدولية للطاقة الذرية فى إنشاء المحطات النووية، وهو ما تأكدت منه من خلال زياراتى لمئات من المنشآت النووية فى جميع أنحاء العالم، مثل: اليابان وكوريا والصين وتايوان والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبلجيكا وهولندا وفنلندا والسويد وفرنسا.
* خبير الشؤون النووية والطاقة
كبير مفتشين بالوكالة الدولية للطاقة الذرية سابقا