أ. إفتخار جاد الله .
الامومة هي تلك المشاعر الانسانية التي تستطيع أن تسمو بنا فوق حب الذات فنتمنى لبشر أفضل مم نتمناه لأنفسنا ونغدق عليه بالحب والحنان لنكون له عونا على مواجهة الصعاب فلا نبخل عليه بعطاء ولا برعاية لنساعده على صعود سلم المجد ، فإذا ما وصل إلى النجاح صنعت تلك المشاعر لقلوبنا أجنحة لتطير سعادة وفرحا ودفعت رؤوسنا إلى الشموخ فخرا واعتزازا ، أنها تلك العواطف التي تستطيع أن توفر للأم السعادة في أدائها لوظيفتها عمرا كاملا دون كلل أو ملل يدفعها إلى تمني الخلاص منها .
وظيفة الأم ليست كغيرها من الوظائف التي تتطلب تقديم الإثباتات من الشهادات والخبرات فما أن تبلغ الفتاة سن الزواج فتتزوج حتى تصبح في نظر المجتمع انسانة مؤهلة لاستلام مهام الوظيفة . وهذا تسليم من المجتمع بأن كل ما تحتاجه الأم لتنجح في مهمتها هو سيل من المشاعر والعواطف وهبها الله لها .
لا شك أننا جميعا ندرك بأن الأم مدرسة ومن نوع مميز للغاية حيث أنها المدرسة الأهم في حياة الإنسان ، طلابها من مختلف الأعمار وأهدافها هي أن تعدهم جميعا على اختلاف أعمارهم وأجناسهم بأفضل طريقة ممكنة تضمن للمجتمع أفرادا فعالين . ورغم أن المشاعر الفياضة التي أنعم الله بها على الأم هي الأساس إلا أنها ، من وجهة نظري ، غير كافية للحصول على أفضل نتائج التربية . فالأم تحتاج في تربيتها لأبنائها إلى قدرات ثلاث: (1) العلم والمعرفة (2) تفهم المشاعر وتوصيل العاطفة للأبناء (3) بناء الصداقة القوية معهم .
أولا :العلم والمعرفة: من المسلم به هنا هو أنني لا أعني العلم الأكاديمي المجرد مثل الكيمياء والرياضيات وغيرها بل إننا نهدف إلى العلم الذي يوضح للام مراحل نمو الأطفال ، فيعرفها على قدراتهم الفيزيائية والنفسية ويوضح لها طرق التعامل مع هذه القدرات بل ويدلها على الطرق الممكنة لتنميتها . فحين يصل الطفل مثلا إلى سن الستة أشهر يصبح قادرا على التقاط الأشياء وتفحصها وحينها تستطيع الأم تنمية هذه القدرات الفيزيائية بصورة ممتعة وفعالة للغاية .
فمن خلال مداعبتها له تستطيع توفير الأشياء له لالتقاطها وتفحصها مثنية عليه بضمه إلى الصدر وابتسامة في كل مرة يحاول فيها الالتقاط وبهذا تساعد الأم طفلها على تنمية قدراته الفيزيائية والنفسية حيث يشعر الطفل بالدفء والحنان وهما من أهم عوامل الصحة النفسية للفرد .
وحين يتم الطفل عامه الأول ويصبح قادرا على تقليد الأصوات وتكرار بعض الكلمات تستطيع الأم وبصورة ممتعة أيضا المساهمة في الإسراع في تعليمه اللغة وكذلك في تنمية ذكائه ومقدرته على التعبير وذلك بالعزوف عن استخدام الكلمات المختصرة التي يتحدث بها الناس مع الأطفال مثل "ننا" و "امبو " والتحدث إليه باللغة المتداولة والمفهومة من قبل الكبار مثل " هذا هو الحليب" " هيا حبيبي اشرب الحليب" " ممتاز ، رائع ، شربت الحليب كله " .
كما وأنها تستطيع أن تصف له العمل أثناء أدائه للمداعبة وتشجيع اللغة " أتحب أن تلعب في حديقة المنزل " " هيا نستعد للخروج" " أعطيني يدك لتلبس البلورة الجميلة" " هيا ارفع قدمك حبيبي لألبسك البنطلون " " هيا نلبس الحذاء" " رائع هيا لنقول لبابا مع السلامة " . أما مسألة تدريب الطفل على استخدام الحمام فقد يجعل العلم منها تجربة سهلة إذا علمت الأم
أن للطفل مقدرة فيزيائية على التحكم في الإخراج لا تكتمل قبل عمر السنتين . وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض الأطفال يبدون استعدادا مبكرا قد تنجح معه بعض الأمهات في تدريب أطفالهن قبل عمر السنتين ولكن الانتظار يجعل من هذه التجربة تجربة سهلة بعيدة عن المتاعب النفسية للطرفين .
ثانيا : تفهم مشاعر الأبناء وتوصيل هذا التفهم إليهم : إن الشعور بالحب والأمان هو من أهم عوامل نجاح الإنسان في الحياة . ويصبح هذا الشعور غاية الأهمية في حياة الأبناء في مراحل نموهم حيث ينظرون إلى أمهاتهم خاصة كمصدر للعطاء ومركز للامان . وقد يبدو هذا سطحيا للبعض فمن منا لا يعلم أنه محبوب من قبل والدته ولكن الهدف هنا يتعدى التسليم بفكرة الحب إلى توصيل ذلك الشعور بالحب إلى الأبناء . وتهدف هذه الخطوة إلى قتل المسافات بين الأم والأبناء والتقرب منهم إلى أقرب درجة ممكنة وكذلك تنمية الثقة بالنفس والفطنة و المقدرة على التعبير عن الذات فكيف يكون هذا التفهم وكيف يمكن توصيله إلى الأبناء؟ تفهم المشاعر لا يتطلب عمرا معينا أو حالة خاصة بل يجب أن يكون أسلوبا في الحياة وطريقة في التعامل مع الأبناء في كل الأعمار والمراحل . ويتطلب هذا التفهم الوصول إلى مشاعر الأبناء بجمل مثل : " أتشعرين بالحزن حبيبتي ، أنا أيضا أشعر بالحزن لأنك حزينة " "ما هذه الابتسامة الجميلة أنها تصل إلى قلبي فتتدفق فيه السعادة " ، وبذلك يدرك الابن أو الابنة وبصورة لفظية وعاطفية صادقة دون شك بأنه ليس وحيدا في مشاعره وان هناك من يشاركه حزنه وفرحه .
وفي حالات كثيرة نحتاج إلى خطوة أخرى لتفسير أسباب الحزن الذي يشعر به الابن أو الابنة والذي قد يكون ناتجا عن اتخاذ الأم لقرار بعقاب الطفل لذنب اقترفه أو بعدم السماح له بالقيام بعمل يرغب كثيرا القيام به وعلى سبيل المثال ، قد يجلس الطفل في غرفته وحيدا حزينا بعد أن تم منعه من الخروج للعب بسبب ضربه لشقيقته ، مطلقا العنان لنفسه للشعور بالظلم والإجحاف وعدم الحب من قبل والدته مم قد ينسيه حتى التفكير بأسباب العقاب . وقد تجلس الابنة في زاوية الغرفة باكية بألم وحرقة لعدم سماح والدتها لها بالخروج مع صديقتها فتفكر كيف أن والدتها لا تحبها مثل والدة صديقتها التي تسمح لها بالخروج . ودور الأم هنا يأتي على خطوات : 1- الوصول إلى مشاعر الطفل : عليها الاقتراب من الطفل والتحدث إليه بجمل تعتمد على الوضع والحالة التي أدت إلى حزن الطفل أو حتى فرحه : " هل أنت حزين لأنك تشعر أنني لا أحبك " " أتعرف لماذا عاقبتك " " هل تشعرين بالغضب وخيبة الأمل" " أتظنين أنني ظالمة قاسية " "أتشعرين وكأن صديقتك محظوظة لآن والدتها تحبها أكثر من حبي لك " 2- توصيل مشاعر الحب إلى الطفل : " أنا أيضا حزينة لأنك لا تلعب في الخارج مع الأطفال فأنا لا أحب أن أراك حزينا " " دموعك هذه تؤلم قلبي وتعذبه فأنا لا أحب إلا أن أرى بسمتك تشرق كالشمس " 3- شرح الأسباب وربطها بإطار عاطفي جذاب : " دعني أخبرك بالحقيقة يا ولدي ، أحبك كثيرا جدا حبا يدفعني إلى أن أتمنى أن أراك رجلا أعتز به ويعتز بنفسه، ألا تحب أنت أيضا أن تكون بطلا من الأبطال حسن الخلق ورائع في عمله ( انتظري الإجابة ) (حسنا حبيبي إذن تستطيع أن تدرك ولأنني أحبك كل هذا الحب يجب علي أن أعلمك الصواب وأبعدك عن الخطأ ، لقد ضربت شقيقتك دون وجه حق
فهل تحب أن يضربك أحد كما فعلت بشقيقتك ؟ ( انتظري الإجابة ) " لا بد وأنك تكره أن تعامل هكذا وأنا أيضا لا أحب أن يعاملك أحد بهذا الأسلوب لذلك ومن شدة حبي لك وجب علي أن أعلمك أن لا تخطيء في حق الناس حتى لا يخطئوا في حقك " وفي المثال الأخر " أترضين بتعريض نفسك للمخاطر " ( انتظري الإجابة ) " أنا أحبك كثيرا وأحب أن أراك مبتسمة سعيدة ولكني لن أعرضك للمخاطر في مكان غريب وبين أناس لا أعرفهم " . 4- الحزم والإصرار على القرار : إن عدم التراجع عن العقاب أو القرار الذي تم اتخاذه من قبل الوالدين هو من أهم أصول التربية إذ انه يعلم الطفل إن العقاب آت لا محال إذا ارتكب هذا الخطأ مرة أخرى " أريد لك أن تفهم أن حبي لك لن يتغير وسأبقى أحاول جهدي أن أعلمك الصواب لتكون أفضل ما يكون فان أخطأت مجددا سأعاقبك لآن حبي لك يدفعني إلى تعليمك " وفي المثال الأخر " لتعلمي حبيبتي أنني لن أرمي بك في المجهول ولن أسمح لك بالخروج إن شعرت أن في الخروج أذى لك أتعلمين لماذا ؟ لآن واجبي نحوك وحبي لك يجبرانني على حمايتك.
و لا نقصد هنا إعادة الجمل نفسها فمثل هذه الجمل والكلمات تعتمد على عمر الطفل ومقدرته على فهم الأمور فان كان صغير السن وجب علينا أن نبسطها بصورة توصلنا إلى الهدف وهو إحساس الطفل بالحب والرعاية والأمان . ونشير هنا إلى أن إتباع مثل هذا الأسلوب يصبح ذو فعالية وخاصة في حالة العقاب حيث لا يعرف الكثير من الأطفال أسباب العقاب مم يفقد العقاب قيمته كوسيلة تربوية . ثالثا : صداقة الأم للأبناء :
إن الصداقة بين الأم والأبناء هي من أكثر الأسلحة التربوية فعالية فالصداقة هي المنفذ الأمن إلى قلب الأبناء ومشاكلهم وبمساعدتها لا تحتاج الأم إلى الخطط لمعرفة أسرار الأبناء ومشاكلهم خاصة في سن المراهقة لآن إحساس الابن أو الابنة بالصداقة وشعوره بالأمان يدفعه إلى اللجوء إلى أقرب الناس إليه وأكثرهم تفهما. والصداقة بالطبع لا تأتي بشكل مفاجىء بل تأتي حصيلة جهود سنوات من سعة الصدر وتوصيل الحب ومنح الثقة وكسب الاحترام . فكيف تستطيع الأم أو الأب بناء الصداقة مع الأبناء ؟ 1- من أهم عوامل الصداقة الشعور بالاحترام . ومن البديهي إن تبدأ صداقتنا مع أبنائنا حتى في السنوات الأولى من العمر بتوصيل هذا الاحترام لهم عن طريق الفعل والقول . إذ يجب إن يعامل الطفل كإنسان يحمل من المشاعر والأحاسيس ما يحمله الكبار فلا يصفع على وجهه ولا يوبخ أمام الناس أو يسخر منه وان حدث عن طريق الخطأ أو المزاح فلوحظ أن الطفل قد شعر بالإهانة فيجب الاعتذار له .
إن اعتذار الوالدين للطفل إذا شعروا بأنهم اخطأوا في حق من حقوقه هو عنصر فعال جدا إذ انه يوصلنا إلى هدفين أولهما أننا نعلم الطفل أن الاعتذار عن الخطأ فضيلة مهما كبر الإنسان في مكانته وعلمه وثانيهما انه يوصل للطفل احترامنا لذاته فيعلمه احترام ذاته وتقديره لنفسه دون غرور أو تباهي .
وإذا حدث ولجأ الطفل إلى أمه للتحدث إليها بأمر ما فعلى الأم أن تعطيه اهتمامها التام فلا تقل له مثلا: "تحدث أسمعك وأنا أطبخ " بل يجب عليها التوقف عن العمل إن استطاعت والجلوس مع طفلها لتسمع له كما تستمع لمشاكل صديقة لها . وان لم تستطع ترك العمل لفترة طويلة بسبب ضيق الوقت مثلا فيجب عليها التوقف للحظات والاهتمام بالطفل لتحديد موعد للحديث .
يمكنها مثلا إن تعتذر للطفل بطريقة لبقة بقولها : " كم أود حبيبتي أن أستمع لما تقولين ولكنني مضطرة في هذه اللحظة إلى إنهاء الطبخ لآن لدينا زائر قد دعاه والدك للغداء ، ولكنني متشوقة لسماعك ولا أريدك أن تتحدثي فلا أسمعك ، فهلا أعطيتني مهلة بسيطة حتى أفرغ من الاهتمام بالضيف ونستطيع بعدها أن نذهب معا في نزهة إن شئت فتحدثيني بما ترغبين ".
2- إن الثقة بالحب والشعور بالأمان هما من أهم عناصر هذا النوع من الصداقة حيث تلغي حاجة الأبناء إلى الكذب للحصول على مزيد من الحب والرضا . فإذا شعر الطفل بأن حب والدته أو والده مرتبط بنجاحه وحسن أدائه شعر بالقلق والخوف من فقدان هذا الحب إذا أخطأ في تصرف ما وقد يدفعه هذا إلى الكذب ومحاولة إخفاء الخطأ . من هنا كان مهما جدا أن يشعر الأبناء بالحب المطلق باستمرار لذلك يجب الابتعاد عن مدح الطفل بجمل مثل :
" كيف لا أحبك وأنت الأول على الفصل" " أحبك كثيرا لأنك مطيع لا تخطيء" واستبدالها بجمل مثل : " كم أحبك يا حبيبي وأفتخر بك وسعيدة أنا بكونك الأول على فصلك ولكني أحبك دوما مهما كنت " " أحبك بأخطائك وطاعتك وإنسانيتك لأنك جزء من روحي " فمتى شعر الأبناء بالأمان وعدم الخوف من تغيير المشاعر أدركوا أنهم يستطيعون اللجوء إلى ذلك الصدر الحنون والحب الذي لن يتغير أبدا مهما حدث .
3- الصداقة بين الأم والأبناء لا تعني التساهل والتهاون لكسب المودة . على العكس تماما , إن ما نصبو إليه هنا هو ثقة الأبناء بسداد رأي الوالدين وحزمهم حين يستوجب الحزم . لذلك كان ضروريا أن يكون العقاب مثلا مدروسا وليس عشوائيا يعتمد على حالة الأب أو الأم النفسية . فان استحق الطفل العقاب اليوم لبكائه في السوق مثلا فيجب أن يعاقب في كل مرة يبكي فيها في السوق .
وان وعد الطفل بعقاب مثلا كفرد من مجموعة ( إن أحسنتم التصرف جميعا سأشتري لكم الايس كريم ومن يسيء التصرف لن أشتري له ) فان أحسن اثنين التصرف ولم يحسن الثالث ، يجب تنفيذ العقاب في ذلك اليوم مهما شعر الوالد أو الوالدة بالضيق لحرمان الطفل من الايس كريم مع إعادة النظر في هذا النوع من العقاب مستقبلا .
الغرض من العقاب هو تعليم الطفل فان كان عشوائيا ، لم يفهم الطفل متى يكون البكاء في السوق مثلا مقبولا ومتى يكون غير مقبول . وان تم اتخاذ القرار بأمر ما يجب عدم العودة عنه مهما توسل الأبناء وحاولوا تغييره حيث نطمع هنا بالوصول إلى احترام الأولاد لقرارات الأم وثقتهم بسداد رأيها . إن الوصول إلى المثالية هو لاشك أمر مستحيل ، فمهما حاولنا الإضافة إلى جعبة العلم والمعرفة ومهما حاولنا الالتزام بكل تعليمات علم النفس وخبراء التربية نجد أننا معرضين للخطأ أحيانا فلا يوجد بشر على وجه الأرض يملك المقدرة على ادعاء المثالية . إن ما ندعو إليه هنا هو محاولة جادة للنظر في طريقة تعاملنا مع أبنائنا ومن ثم محاولة تحسين طرقنا في التربية مدركين بالطبع أن المحاولة قد تعني ارتكاب الأخطاء أحيانا .
فلا تشعري أيتها الأم بالإحباط من ارتكاب الأخطاء وتذكري إن ارتكاب الخطأ شيء إنساني ويمكن استغلاله كوسيلة تعليمية جيدة . فمن خلال الخطأ نستطيع أن نقترب من أبناءنا بالاعتراف به والاعتذار عنه فنجعل منه درسا لنا كما هو لا بناءنا فلا تخجلي من الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه للأبناء فأنت تعلمينهم النظر إلى الذات بواقعية والسمو بالذات من خلال التعلم من الخطأ وتجنب ارتكابه مجددا .
وكذلك فأنت أيضا تساعدينهم على رؤيتك كأم بواقعية أكثر فلا تصدمهم إحدى أخطائك بسبب صورة مثاليه قد تكون رسمت لك . كوني طبيعية ومحبة ومعطاءة ، عبري عن الحب وعبري عن الحزم فلا تبتذلي ولا تمثلي فكل ما ندعو إليه هو رسم الطريق وليس حفرها . إن حب الأم للأبناء لا يشك به عاقل فهم فلذات الأكباد التي تسير على الأرض ولكننا إن رسمنا الطريق وصلنا إلى غايتنا فاقتربنا بأمومتنا إلى أقرب نقطة ممكنه من المثالية وان تخبطنا فيه قد نضل الطريق .
المصدر : موقع نفساني .