من أوائل الإشارات الموجودة فى التراث الإنسانى للصراع الأزلى بين عدالة القانون ونزعات الثأر العشائرى تلك التى أتت فى الثلاثية المسرحية التى كتبها اليونانى العظيم إسخيلوس قبل نحو ألفى وخمسمائة سنة.. هذه هى الثلاثية الكاملة الوحيدة التى وصلت إلينا من التراث التراجيدى اليونانى القديم، وتحكى قصة أب أقدم على قتل ابنته، مما أدى إلى ثأر زوجته منه.. ويستمر سيل الدماء وسط مناخ بدائى كئيب، فيثأر الابن «أورستس»، بتحريض من قبل أخته والـ«كورث» الممثل للجماعة، من أمه، ويعلق الـ«كورث» قائلاً إن حلقة الثأر والدماء لن تنتهى...
لكن المفاجأة هى أن فى المسرحية الثالثة يحدث صراع بين آلهة اليونان البدائية القديمة، التى تطالب باستمرار العقاب والثأر العشائرى، ومع الآلهة الجديدة، على رأسها أثينا - رمز المدنية وسيادة القانون والديمقراطية - التى تطالب بمحاكمة عادلة شفافة، تنتهى فى النهاية بالإفراج عن أورستس والاكتفاء بالعذاب الذى تلقاه على يد أشباح أمه.
يعتقد المعلقون أن ثلاثية الــ«أورستيا» تعبر، فى إطار أسطورى رمزى، عن نقلة نوعية فى الحضارة الإنسانية، التى انعكست فى تحولات كانت تحدث بمدن اليونان، وأثينا بالذات، حين كتب إسخيلوس مسرحياته؛ اى التحول نحو الانفتاح والعدالة والتقدم الاجتماعى، وتغلب العقلانية على جور الميراث العشائرى الدموى.. فى هذا السياق تتحول الجماعة، ويتحول المجتمع، من قوى ضغط مطالبة بالثأر الدموى إلى قوى تدعم النظام والعدالة، والاستناد فى الحكم إلى الأدلة والمنطق والحيلة والحكمة والرحمة، بدلا من الغرائز والنزعات البدائية، والشائعات التى يتم همسها وتداولها فى الظلام. لكن إذا كان الاسلوب البدائى فى التعامل مع الجرائم انقطع لفترة فى أثينا القديمة، فإنه ظل موجودا وبقوة فى أماكن أخرى. بل إن عقلية التأر أخذت أشكالاً جماعية مخيفة حتى فى عصور وأماكن تم فيها رفع شعارات التنوير والحرية والتآخى والمساواة.
ومن أهم الدلائل على عمق وقوة نزعة الجماعة فى الثأر الأعمى، التى تفوق بمراحل فى كثير من الأحيان قسوة الاستبداد الفردى للحاكم، تلك المناظر التى شهدتها «عاصمة النور» باريس فى عقب الثورة الفرنسية، حيث تم ذبح الناس على المقصلة التى شيدت خلال حكم إرهاب «روبسبيير»، ووسط تهليل وانبهاج القطيع الثائر. وكانت تلك المناظر الوحشية من أهم أسباب نظرة الكاتب الإنجليزى تشارلز ديكنز السلبية تجاه الثورة الفرنسية، والتى عبر عنها فى «قصة مدينتين».. وديكنز كان قد شاهد بنفسه عملية إعدام علنية فى لندن عام ١٨٤٩، وكتب عنها فى خطاب أرسله إلى جريدة «التامز»، قال فيه إن الشر الذى كان كامنا فى منظر وتصرفات الجمهور الذى تجمع لمتابعة عملية الشنق لا يمكن تخيله حتى فى أراضى تتبع الديانات الوثنية تحت هذه الشمس.. وقال الكاتب الكبير إن منظر هذا الجمهور، باحتفالاته بالموت وأناشيده الشيطانية، قد أنساه بشاعة الجريمة الأصلية التى ارتكبها المجرمون المشنوقون (زوج وزوجته فى هذه الحالة).. واختتم ديكنز رسالته كالآتى: «وعندما تم تدوير هذه المخلوقات البائسة التى اجتذبت هذا المشهد المروع، حين ارتعشت أجسادها فى الهواء، لم يكن هناك مزيد من العاطفة ولا الشفقة... لا مزيد من ضبط النفس فيما سبق من بذاءات، وكأن اسم المسيح لم يكن معلوما فى هذا العالم... حتى يمكن أن يلقى الإنسان حتفه هكذا مثل البهائم». تذكرت هذه الكلمات عند متابعة الصور المخيفة التى أتت إلينا من قرية كترمايا اللبنانية، وتذكرت الصراع الكامن فى جوهر الـ«أورستيا»، بين الوثنية البدائية والتحول الحضارى، وتذكرت كلمات ديكنز المتطرقة للطبيعة الوثنية للمناظر المرتبطة بالانتقام والثأر الجماعى، وكلامه عن نسيان جريمة القاتل تحت تأثير بشاعة منظر الانتقام الجماعى... ففى زمن قد وصل فيه التدين الشكلى إلى ذروته بين العرب، يبدو، فى نفس الوقت، أن الثأر الوثنى قد صارالسبيل الأمثل عند البعض، وكأن اسم الله، الذى من المفروض أنه رمز للتشريع والعدالة والرحمة، لم يكن معروفا عندهم. لا يمكن إلقاء مسؤولية ما حدث فى لبنان بالكامل على عاتق شماعة «ضعف الدولة» هناك، فبريطانيا فى القرن التاسع عشر كانت أقوى دول العالم، ومع ذلك حدثت مثل هذه المناظر نتيجة التحريض من قبل الصحف وسكوت الدولة.. ولا أدرى إذا كان ما حدث للشاب المصرى له علاقة بجنسيته، لكن إذا كان الحال فعلاً كذلك فإن أقرب تشبيه لما حدث يمكن جلبه من تاريخ الجنوب الأمريكى، حيث أدى تواطؤ بعض أجهزة الدولة مع القطيع العنصرى إلى الحوادث المماثلة، تم خلالها سحل السود وتعليقهم من الاشجار والعواميد.. إذا كان الحال فعلا كذلك - وهناك دلائل كثيرة على وجود مثل هذا التواطؤ فى حادثة كترمايا، ليس أقلها رفض كتلة جنبلاط فى البرلمان حتى إدانة الحادث - يصبح الكلام عن ضعف الدولة اللبنانية (أو المصرية) منقوصا.. ليتضح، على العكس، أن ما حدث فى كترمايا له تداعيات أعمق بكثير، فبعد ألفين ونصف من السنين لا يبدو أن أجزاء من الإنسانية قد فهمت درس إسخيلوس فى الأورستيا عن دور المجتمع.