الأخلاق منها ما هو من الفطرة ، ومما يدل على ذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم لأشج بن عبدالقيس: "إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة" فلما سأل ـ رضي الله عنه ـ عن هاتين الخصلتين، هل هما مما اكتسبه أو مما جبله الله عليه؛ قال له ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "بل جبلك الله عليهما".
ومن الأخلاق ما يكتسب ، ومما يدل على ذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم ومن يتصبر يصبره الله.." الحديث. ويقول الإمام الماوردي رحمه الله: "الأدب مكتسب بالتجربة أو مستحسن بالعبادة.. ولا ينال بتوفيق العقل ولا بالانقياد للطبع".
لذا بإمكان الوالدين غرس فضائل الأخلاق في نفس صغيرهما إذا أحسنا استغلال مرحلة الطفولة المبكرة، فيستطيعان توجيه الطفل وغرس الأخلاق فيه، وبعد ذلك يقوى ساعده ويصلب عوده ويصعب تغيير ما اعتاده إلا أن يشاء الله تعالى .
وفيما يلي جملة من الأخلاق التي ينبغي للأبوين أن يحرصا على غرسها في نفس طفلهما:
يميل كثير من الآباء والأمهات إلى تربية أطفالهم على الرفاهية والتدليل الزائد، الأمر الذي يخرج إلى المجتمع شباباً لاهين عابثين لا يتحملون المسؤولية ولا يهتمون بالقيم. والإسلام يرفض هذا النوع من التربية ويحرص على تعويد أبنائه الشعور بالمسؤولية. فالإنسان اللاهي العابث لن تستفيد منه أمته، بل لن يفيد حتى نفسه، فهو عالة على نفسه وأسرته ومجتمعه وأمته.
ومن هنا يتفق المربون على أهمية تنمية الشعور بالمسؤولية لدى الطفل بما يغرس لديه الثقة بنفسه.. فكثير من الآباء والأمهات يتعاملون مع أطفالهم وكأنهم من الممتلكات الشخصية، فإذا بهم يخرجون بلا كيان بعيدين عن الثقة والإقدام، ذوي شخصيات مهزوزة لا تحسن اتخاذ أي قرار. فتعويد الطفل الطاعة ينبغي أن يقترن بإقناع الطفل بما يجب أن يطيعهم فيه؛ إذ إن التحكم من الأبوين حري أن ينتهي بالطفل إلى أحد أمرين: أما التمرد أو الاستكانة والانطواء، وكلاهما مما لا يسعى إليه المربون.. كما أن النفس تنشط لامتثال ما تدركه وتبصر فوائده، خصوصاً في الأمور الدنيوية..
وينبغي التدرج في تحميل الطفل المسؤولية شيئاً فشيئاً، بدءاً بتحمل أعباء خلع الملابس وارتدائها، إلى قضاء الحاجة إلى الأدب في المجلس والتحكم في العواطف والانفعالات، ومن الأمثلة على ذلك:
- أن يعطى الطفل فرصة للتحكم في مصروفه الشخصي فيما يشتري وما يترك مع توجيه هذه الحرية دون إلزام .
- أن يسمح له بشراء بعض حاجات المنزل إن كان يحسن التصرف..
- يوكل إلى البنت بعض أعمال المنزل التي تتناسب مع سنها وقدراتها لتتعود ذلك.
ومن صور تحميل الطفل المسؤولية: أن لا ينبري الأبوان لحل مشاكل طفلهما مباشرة، بل يعطيانه فرصة ليبرز قدراته في حل مشكلاته ثم يوجهانه أن رأياه أخطأ..
التربية على القيم والأخلاق منذ نعومة الأظفار تبقى بصماتها قوية لا تغيرها الأيام، وإن أضعفتها لا تلبث أن تعود كما كانت، وإذا نشأ الطفل في أسرة تحترم الحق وتلتزم بالصدق والأمانة، فمن الطبيعي أن يلتزم بدوره تلك القيم، وقد دعا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الصدق في معاملة الأطفال، فعن عبدالله بن عامر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: دعتني أمي ـ ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا ـ فقالت: تعال أعطك، فقال لها رسول الله: "وما أردت أن تعطيه؟" قالت: تمراً، قال: "أما إنك لو لم تعطه لكتبت عليك كذبة" (رواه أبو داود).
هذا هو الخلق الرفيع الذي دعا إليه الإسلام ليشب الطفل عليه.. والطفل يكتسب السلوكيات من خبرته الاجتماعية وهو لا يعلم صوابها من خطئها، فالطفل الذي يأمره أبوه أن يجيب في الهاتف أنه غير موجود والأم التي تفعل ذلك يغرسان في طفلهما عادة الكذب، ويصعب عليه بعد ذلك أن يلتزم الصدق، فلا بد أن يشعر الطفل بقبح الكذب ويعاقب عليه كأن يحرم من شيء يحبه، أو يقاطع من قبل أهله عقوبة له.. غير أنه لا ينبغي إهانة الطفل بشدة لكذبه؛ إذا إنه غير مكلف، وقد يكون سبب كذبه ثراء خياله الذي يتصف به عادة أو أسباب أخرى، فلابد من الصبر والحلم في معالجة أخطاء الطفل، ويمكن الاستعانة بأسلوب القصص للتخلص من صفة الكذب، وخصوصاً تلك التي تبين عاقبة الكذاب وأنه لو صدق لا يصدقه الناس؛ لأنهم اعتادوا منه الكذب..
وجدير بالذكر أن الكذب الذي يخاف على الطفل منه هو ما يكون بعد الخامسة من العمر إذ إن الطفل قبل ذلك يسيطر عليه خيال واسع فيكون كذبه عموماً غير مقصود، ويسميه علماء النفس الكذب التخيلي ويزول مع نمو الطفل وكبر سنه..
من المشاكل السلوكية التي تواجه الأبوين لدى الأطفال عدم الأمانة؛ ربما لأنهم لا يعرفون معنى الملكية، ومن ثم لا يعرفون معنى السرقة، فيأخذون أشياء الآخرين. ويمكن تلافي هذه الخصلة السيئة عند الطفل بتركيز خشية الله في نفسه، وتعويده عدم الاعتداء على ممتلكات الآخرين واحترام خصوصياتهم، ويدرب الأولاد على أن يستأذن بعضهم من بعض عند رغبة أحدهم الاطلاع على قصة أخيه أو اللعب بدراجته وما أشبه ذلك، فإن أخطأ ولم يستأذن نبهه الأبوان وأرشداه إلى الاعتذار لأخيه وعدم العودة.
غير أنه تجدر الإشارة إلى ضرورة تعريف الطفل بأن السرقة حرام، وأنها فعل يغضب الرب ويجلب احتقار الناس؛ لذا ينبغي إعادة الحق إلى صاحبه. وهكذا يربى الطفل على مراقبة الله عز وجل، واحترام حاجات الغير، وهذا هو هدي السلف الصالح فقد ورد عن حماد بن زيد أنه قال: سرت أنا وأبي فمررنا بجدار فأخذت منه عود تبن فقال لي أبي: لم أخذته؟ فقلت: إنه عود تبن، فقال: لو أن الناس كلهم مروا من هاهنا فأخذوا عود تبن هل كان يبقى في الجدار تبن يا بني؟!
ومن ناحية أخرى ينبغي ألاَّ يربى الطفل على البخل والذاتية وحب التملك، وإنما لابد من تعويده البذل والعطاء والإحساس بغيره من المحتاجين والفقراء؛ وذلك بأن يعطى شيئاً من المال ويؤمر بالتصدق ببعضه، أو يجعل له مصروف شخصي في حصالته فيتصدق بجزء منه على المحتاجين، أو يعطي طفلاً فقيراً لعبة من ألعابه.
من المؤسف أن نرى كثيراً من أبناء المسلمين لا يعرفون لكبير قدراً ولا لمجلس حقاً ولا لأب أو أم احتراماً. ترشق ألسنتهم نبالاً من الألفاظ السيئة التي يجب أن ينزه عنها المسلم سمعه قبل فيه، وقد لا يخجل بعضهم من تصرفاته تلك أمام من هم أكبر منه، والله عز وجل قد كرم الإنسان وفضله على سائر مخلوقاته ونهى عن همزه ولمزه والسخرية منه، أو وصفه بما لا يليق به، أو نبزه بأسماء الحيوانات. وقد قرر الفقهاء رحمهم الله تعالى أن من وصف أحداً بهذه الأوصاف فهو متعد عليه يستحق التعزير على ذلك بعشرة أسواط، ولم يصف الله تعالى أحداً من خلقه بهذين الوصفين في كتابه الكريم إلاّ اليهود في قوله تعالى: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً}، وقال تعالى عن عابد بني إسرائيل الذي كفر بعد إيمانه: {فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث..}.
فليتق الله الآباء والأمهات في حسن التوجيه والقدوة الطيبة. والأبوان خير من يقتدي بهما الطفل إذا كانا متفاهمين في تربية الأطفال لا يبدو بينهما التناقض.
والأم المربية هي التي تساعد أطفالها على احترام والدهم والبر به، وأن تجعل له أمامهم مكانة جليلة، والأم الجاهلة قد تستغل طيبة الأب فتساعد أبناءها على التمرد عليه، وإن كان قاسياً أخفت عليه أمرهم، وتظهر ذلك لأولادها فيستخفون به ويستهينون بتوجيهاته. فعلى الأبوين أن يحترم أحدهما الآخر، خصوصاً أمام أطفالهما، وأن يتعاونا على مهمة التربية سوياً.
وعلينا أن نعود الطفل حسن الكلام، وأن نمنعه من ترديد الألفاظ السيئة، ونبين له شناعة ذلك، وأن نأمره بتطهير فمه بالاستغفار، كوسيلة لإحساسه بقبحها، وعلينا أن نعوده احترام الكبير وتوقيره فلا يرفع صوته عنده، ولا يتقدمه في مجلس ولا مشي، وأن يرعى للنائم شعوره ولا يزعجه أو يوقظه بلا سبب، وأن نعوده آداب الدخول والخروج والاستئذان والسلام والتحية، وأن يحترم منازل الآخرين ويحفظ عورات بيوتهم، وأن لا يطلق بصره فيما ليس له. ومن الخطأ أن تعود الأم ابنها الفضول، فإذا أرسلته إلى أحد وجاء إليها سألته: ماذا كانت تفعل فلانة؟ ونحو ذلك مما يجعل الطفل ينتبه مرة أخرى إلى أمور لا تعنيه فيطلق بصره ويتجسس على الآخرين..
ومما يُعَوَّده الطفل: الرأفة بالصغار والحيوانات، وأن يشمت العاطس ويرد السلام، وأن لا يؤذي أحدا،ً ولا يسخر من أحد، خصوصاً الفقراء وأصحاب العاهات ممن ابتلاهم الله تعالى، وأن يحمد الله عند رؤية المبتلى ويقول الذكر الوارد في ذلك وهو: "الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً".
وكذلك ينبغي تعويد الطفل أن يراعي النظافة في نفسه وملبسه وأدواته ومكانه، وأن لا يتعمد إلقاء القاذورات في الطريق ومن نوافذ السيارات، وأن يحفظ حديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – "إماطة الأذى عن الطريق صدقة".
يتعرض الإنسان بطبيعته لانفعالات كثيرة من الغضب والحزن والغيرة ونحوها، وهذا الصفات الانفعالية ليست محمودة كلها ولا مذمومة كلها، فما كان منها في طاعة الله فهو محمود، غير أنه ينبغي تعويد الطفل منذ صغره ضبط نفسه والتعبير عن عواطفه بصورة معتدلة، خصوصاً أن الغضب عند الأطفال يظهر بصور مختلفة حسب السن، ابتداء من البكاء عند الصغار إلى الضرب بالأرجل على الأرض ورمي الأشياء، وعند الكبار بالانزواء والامتناع عن الطعام، إلى جانب أعراض الغضب الأخرى.
ولا ينبغي للأبوين أن ينصاعا لرغبات طفلهما تحت ضغط البكاء؛ لئلا يعتاد ذلك، فلا يعرف إلا الصراخ والعويل إذا أراد شيئا،ً ويتعود تلبية رغباته، ويصعب عليه الحرمان منها عند الكبر فيصطدم بمشاكل الحياة فيما بعد.
وعلى الأبوين أن يكونا قدوة في الثبات الانفعالي وضبط النفس أمام أطفالهما ومن مراحل علاج الغضب التي ينبغي تعريف الطفل بها:
* أن يؤمر بالسكوت، وقد روي: "إذا غضب أحدكم فليسكت".
* أن يؤمر بالاستعاذة إذا سكت.
* أن يؤمر بالجلوس إن كان قائماً، أو الاضطجاع إن كان قاعداً، فإن ذلك أدعى لسكونه.
* أن يبين له بشاعة منظره حينما كان غاضباً، وأن عمله هذا يرضي الشيطان ويغضب الرحمن؛ ليحاول عدم العودة إليه مستقبلاً.
وهكذا يتدرج الأبوان في تعويد الطفل الانضباط السلوكي، الأمر الذي يخدمه مستقبلاً في تحمل أعباء الحياة.
لا بد أن يفهم الطفل قيمة الزمن فهو عمره الذي يحياه، فيقال له مثلاً: خلال ربع ساعة تعمل كذا أو تلعب مع كذا، أو يقال له: منذ زمن طويل وأنت جالس في غرفتك، أرني ماذا أنجزت؟
أما أن يتعلم الطفل الثرثرة وإضاعة الوقت فذلك أمر خطير على أجيال الأمة، ومما يزيد الأمر سوءاً أن يرى الطفل أبويه يضيعان أوقاتهما بلا طائل، وهو ما يغرس في نفسه ألفة اللهو والبطالة، كما ينبغي أن يحدد للطفل وقت معين للنوم لا يتجاوزه إلا في ظروف خاصة؛ ليأخذ قسطه من الراحة، وليرتاح الأبوان أيضاً وبخاصة الأب.
والأم العاقلة هي التي تحرص على راحة زوجها في نومه ليصحو نشيطاً لصلاة الفجر، وللأسف فإن بعض الصغار يظل مستيقظاً حتى منتصف الليل فيزعج أمه وأباه ومن حوله، وسبب ذلك كله هو عدم تنظيم وقت الطفل، وعدم احترام الوقت من الكبار قبل الصغار.
ومما ينبغي التنبيه إليه: تعويد الطفل حفظ العهد وكتمان السر، فإذا أسر أحد الأبوين إلى الطفل شيئاً فلا ينبغي للآخر مراودته للتعرف على ما عنده، بل يجب تشجيعه على حفظ السر وإن يكون محل ثقة الناس به. عن ثابت عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: "أتى علي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنا ألعب مع الغلمان فسلم علينا، وبعثني إلى حاجة، فأبطأت على أمي، فلما جئت قالت: ما حبسك؟ قلت: بعثني رسول الله لحاجة، قالت: وما حاجة رسول الله ؟ قلت: إنها سر، قالت: فلا تفشين سر رسول الله لأحد. قال أنس: والله لو حدثت به أحداً لحدثتك يا ثابت".